93

عن حجّيّة الظهور مثلاً؛ لأنّ حقّ المولويّة المدرك بالعقل العمليّ في باب الظهور معلّق على عدم ردع المولى عنه، بينما في باب القطع لم يكن معلّقاً على ذلك.

وعلى أيّ حال، فهذا مسلك آخر لإثبات حجّيّة مثل الظهور في قبال مسلك السيرة بكلا قسميها. ويفترق عن مسلك السيرة بأنّ الحجّيّة بناءً على هذا المسلك لا تحتاج إلى الجعل، ويكفي فيها نفس عدم الردع بخلافها على مسلك السيرة.

هذا، وسيظهر فيما يأتي ـ إن شاء الله ـ أنّ هذا المسلك لا مجال له بالنسبة لخبر الواحد، وأنّه بالنسبة لمثل الظهور أيضاً ليس قطعيّ الصحّة.

وعلى أيّ حال، فلنشرع الآن في بيان المدرك لحجّيّة السيرة.

فنقول: إنّ استكشاف الحكم الشرعيّ من السيرة يكون بطيّ مرحلتين:

1 ـ إثبات السيرة المعاصرة للنبيّ(صلى الله عليه وآله)، أو الأئمّة(عليهم السلام).

2 ـ استلزام ذلك لجعل الشارع الحكم على طبق تلك السيرة، فنستكشف من ذلك جعل الشارع لما يناسب تلك السيرة، على تفصيل في كيفيّة أخذ هذه النتيجة يأتي إن شاء الله. فيقع الكلام أوّلاً في هاتين المرحلتين، ثُمّ في كيفيّة استنتاج النتيجة.

 

إثبات السيرة المعاصرة للشارع:

أمّا المرحلة الاُولى: فهي عبارة عن إثبات السيرة المعاصرة للشارع، والوجه في التقييد بالمعاصرة ما يظهر عند الكلام في المرحلة الثانية: من أنّ الملازمة إن تمّت فإنّما تتمّ بلحاظ السيرة المعاصرة(1)، وبما أنّنا لم نعاصر الشارع الأقدس


(1) لا يخفى أنّ المقصود في المقام هو البحث عن السيرة التي نثبت بها حكماً كلّيّاً إلهيّاً، وهذه السيرة تتوقّف الاستفادة منها على كونها معاصرة للمعصوم(عليه السلام).

94


وهناك سيرتان اُخريتان خارجتان عن محلّ البحث، وقد ذكرهما اُستاذنا(رحمه الله)في دورته الأخيرة التي لم أحضرها على نقل الأخ السيّد علي أكبر حفظه الله:

الاُولى: سيرة تنقّح موضوع الحكم الشرعيّ. إمّا ثبوتاً كالسيرة على الإنفاق على الزوجة بمستوى معيّن بحيث لو أنفق عليها بمستوى أقلّ من ذلك عدّ إمساكاً ومعاشرة بغير معروف، فهذه السيرة تنقّح موضوع الإمساك والمعاشرة بالمعروف للزوجة الواجب شرعاً. وإمّا إثباتاً كالسيرة القائمة على خيار الغبن ـ مثلاً ـ التي تشكّل ظهوراً عرفيّاً لكلام المتعاقدين في عدم قبول البيع الغبنيّ إلّا مع الخيار، وهذا ينقّح موضوع الشرط في دليل (إنّ المؤمنين عند شروطهم). وفرق السيرة التي تنقّح الموضوع ثبوتاً عن التي تنقّحه إثباتاً هو: أنّ من شذّ عن السيرة العقلائيّة الموجدة للموضوع فشذوذه لا يؤثّر في فاعليّة السيرة التي تحقّق الموضوع ثبوتاً بشأنه، فمن لم ير للزوجة احتراماً وتقديراً تستحقّ معه ذاك المستوى من الإنفاق يجب عليه أن يلتزم بذاك المستوى من الإنفاق، أمّا من شذّ عن السيرة العقلائيّة الكاشفة عن الموضوع كما في المثال الثاني فالسيرة لا تكشف عن الموضوع بالنسبة إليه.

وهذا القسم من السيرة حجّيّتها ثابتة على القاعدة، وتكفي فيها السيرة المعاصرة لزماننا. بل لو ثبتت سيرة معاصرة لزمان المعصوم ثُمّ انتفت في زماننا انتهى مفعولها بانتهائها.

الثانية: السيرة التي تنقّح فهمنا للدليل، فإنّ البناءات والارتكازات تشكّل قرائن لبّيّة متّصلة دخيلة في تكوين الظهور للدليل، فلو تمّ الدليل على حجّيّة الظهور فلابدّ من أخذ هذه السيرة بعين الاعتبار. فمثلاً لو دلّ الدليل على أنّه (لو جاء بالثمن خلال ثلاثة أيّام، وإلّا فلا بيع بينهما) فإن جمدنا على حاقّ اللفظ فهمنا من ذلك بطلان البيع، وأنّه لا بيع

95

نحتاج في إثبات السيرة المعاصرة إلى طريق، ولذلك عدّة طرق:

الطريق الأوّل: ما يبدو في أوّل وهلة للنظر، وهو إثبات السيرة المعاصرة للشارع عن طريق السيرة المعاصرة لنا بروحيّة الاستصحاب القهقرائيّ، سواء كانت سيرة عقلائيّة، أو سيرة المتشرّعة. وتقريب ذلك في السيرة العقلائيّة هو الحدس بأنّ هذه السيرة إنّما نشأت من القريحة العامّة المشتركة في العقلاء الماضين منهم، والمتسلسلة إلى الموجودين، فيثبت بذلك وجود السيرة في ذلك الزمان. وفي سيرة المتشرّعة(1) أنّ من البعيد جدّاً افتراض أنّ السيرة الموجودة في زماننا حصلت دفعة بنحو الانقلاب من دون تلقّيها من زمن الشارع الأقدس، وهذا الاستبعاد واصل إلى حدّ الاطمئنان بالعدم، فالظاهر أنّها سيرة موروثة يداً بيد متّصلة إلى زمان الشارع، وإلّا لكان انقلاب السيرة السابقة إلى السيرة الموجودة يعدّ من الأعاجيب، وهذا ما يطمئنّ بخلافه. إمّا بنفسه، أو باعتبار أنّه لو كان لكان ينقل للناس على حدّ نقل الاُمور الغريبة، وكان يصلنا نقل ذلك. فمثلاً لو


لازماً ولا متزلزلاً، بينما بناءً على أخذ المرتكزات العقلائيّة بعين الاعتبار قد يقال: إنّ المفهوم من ذلك هو نفي البيع اللازم وثبوت خيار التأخير.

وهذا القسم من السيرة لابدّ من ثبوتها في زمن صدور النصّ، كي تؤثّر على الظهور وقتئذ، فإنّ الحجّيّة إنّما هي لظهور النصّ في وقت صدوره.

إلّا أنّنا إذا أحرزنا ثبوت هذا الارتكاز في عصرنا واحتملنا ثبوته في عصر صدور الدليل كفى ذلك للتأثير على ذاك الدليل، لا باعتبار أنّه يشكّل احتمال وجود القرينة المتّصلة ولا نافي لهذا الاحتمال. أقول: لا بهذا الاعتبار فحسب بل باعتبار أنّ المسألة تدخل تحت كبرى أصالة عدم النقل التي هي حجّة في باب دلالات الألفاظ.

(1) وهذا التقريب يأتي في السيرة العقلائيّة أيضاً مع جوابه، وسنشرح ذلك.

96

رأينا سيرة المتشرّعة اليوم على الإخفات في صلاة ظهر الجمعة نعلم أنّها مأخوذة من الأجيال السابقة إلى زمان الإمام(عليه السلام)، ولو كانت السيرة في زمانهم على الجهر ثُمّ انقلبت إلى ضدّها لكان ذلك من الغرائب، ولكان ممّا يتناقل بين الناس.

ويرد عليه: إنّ ما ذكر: من الحدس بأنّ هذه السيرة العقلائيّة ناشئة من القريحة العامّة في تمام العقلاء، غير تامّ؛ وذلك لأنّه كما تكون بين الأجيال الحاضرة والأجيال الماضية جهة اشتراك كذلك تكون بينهما جهة امتياز في ظروفهم ومعايشهم وحاجاتهم وخصوصيّاتهم الاجتماعيّة، فكما يحتمل أن تكون السيرة ناشئة من جهة الاشتراك كذلك يحتمل كونها ناشئة من جهة الامتياز(1).

وأمّا ما ذكر: من استبعاد انقلاب السيرة خصوصاً مع عدم وصول أيّ نقل إلينا لذلك رغم غرابته، فيرد عليه:

أوّلاً: إنّ هذا الانقلاب إنّما يكون غريباً لو حصل بين عشيّة وضحاها، أمّا إذا


(1) لا يخفى أنّ السيرة العقلائيّة كثيراً مّا يمكن لنا بما نحن عقلاء أن نحدس منشأها وأساسها، فإذا حدسنا المنشأ والأساس ورأيناه من الجهات المشتركة، أي: ممّا لا يحتمل وقوع تغيّر فيه بلحاظ الفوارق الحاصلة بين الأجيال بسبب مرور الزمان، ثبت أنّ السيرة العقلائيّة كانت محقّقة في زمان الإمام(عليه السلام)، مثلاً بالنسبة للعمل بخبر الثقة: إن ثبتت في زماننا سيرة عقلائيّة عليه فهي بسبب أنّ درجة كشفه النوعيّ عن الواقع إذا قيست بدرجة اهتمام العقلاء في الغالب بأغراضهم ناسبت الالتزام بالعمل بخبر الثقة. ونحن لا نحتمل اختلاف زمان الأئمّة(عليهم السلام) عن زماننا في ذلك، وكذلك بالنسبة لقيام السيرة العقلائيّة على العمل بالظهور القائمة على أساس عدم وجود طريق آخر أفضل منه لتنظيم التفاهمات وتناسب الالتزام به لدرجة الاهتمام بالأغراض لا نحتمل الفرق في ذلك بين زماننا وزمان المعصوم(عليه السلام)، وهذا في الحقيقة طريق سادس لكشف السيرة في زمان المعصوم غير الطرق الخمسة التي بيّنها رضوان الله عليه.

97

حصل بالتدريج فهو من الاُمور الاعتياديّة المتعارفة. مثلاً قد نفرض أنّ السيرة في زمن الإمام(عليه السلام) كانت على الجهر في صلاة ظهر الجمعة لوجوبه مثلاً، ولكن ورد من الإمام(عليه السلام)خبر ظاهر في عدم الوجوب ولم يكن ظاهره مراداً، وبعد مضيّ مدّة على تلك السيرة رأى أحد العلماء الخبر الدالّ على عدم الوجوب، وقال: إنّ السيرة القائمة على الجهر لا تدلّ على الوجوب لملائمتها للاستحباب، فأفتى بجواز الإخفات، وتبعه مقلّدوه في ذلك، واختار كثير منهم الإخفات عملاً لسهولته مثلاً، أو من باب اختيار أحد فردي التخيير، أو لأيّ داع من الدواعي الاتّفاقيّة وغيرها. ثُمّ كثر المخفتون اجتهاداً وتقليداً بالتدريج، وبعد مضيّ فترة من الزمن استفاد أحد العلماء من الجمع بين الأخبار عدم استحباب الجهر ومساواته للإخفات، فسبّب ذلك زيادة المخفتين، وكانوا يزدادون يوماً بعد يوم إلى أن جاء من العلماء من استفاد من الجمع بين الأخبار وعلاج المعارضة الموجودة فيما بينها وجوب الإخفات، وأوجب هذا إقبال الناس إلى الإخفات إلى أن استقرّت سيرة المتشرّعة طرّاً على الإخفات. فهذه السيرة لا تدلّ على ثبوت مثلها في زمن الإمام، وبالتالي على جواز الإخفات أصلاً. ولا غرابة في مثل هذا الانقلاب التدريجيّ وتبدّل السيرة بالتدريج إلى سيرة اُخرى نقيضها، بل قد اطّلعنا على وقوع مثل ذلك في الفقه، وذلك في مسألة نزح ماء البئر؛ إذ كانت السيرة على ذلك عند القدماء، وانقلبت السيرة بالتدريج إلى السيرة على نقيض ذلك، فليكن مثل الإخفات في صلاة ظهر الجمعة من هذا القبيل.

وثانياً: إنّه لو سلّمنا غرابة انقلاب السيرة إلى ضدّها قلنا: من الممكن أنّه لم تكن في زمن الإمام(عليه السلام)سيرة قائمة على أحد الطرفين، بل كان الحكم مختلفاً فيه، وبعد ذلك استظهر العلماء من الأخبار أحد الطرفين، وتبعهم الناس وحصلت السيرة كما هو الواقع في الإخفات في صلاة ظهر الجمعة على ما يظهر من بعض الأخبار، حيث يقول فيه السائل للإمام(عليه السلام): (إنّ بعض أصحابنا يقول بالجهر

98

وبعضهم بالإخفات، فما ترى في ذلك)(1).

وثالثاً: إنّه قد لا تكون ما نراها من سيرة المتشرّعة سيرة لهم في الأصل بما هم متشرّعة(2)، بل اتّفقوا عليها لاُمور اُخرى غير الشرع بعد أن كان الشرع على


(1) لم أرَ حديثاً بهذا الشكل، ولعلّه(رحمه الله) يشير إلى ما عن محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله(عليه السلام) «قال: قال لنا: صلّوا في السفر صلاة الجمعة جماعة بغير خطبة، واجهروا بالقراءة. فقلت: إنّه ينكر علينا الجهر بها في السفر. فقال: اجهروا بها». الوسائل، ج 4،ب 73 من القراءة في الصلاة، ح 6، ص 820.

(2) كأنّ هذا الوجه ليس إشكالاً على أصل اكتشاف ثبوت السيرة في زمن المعصوم، وإنّما هو إشكال على اكتشاف كونها سيرة لهم بما هم متشرّعة، كي تكشف عن حكم الشرع من باب اكتشاف العلّة عن طريق المعلول الذي هو ميزة سيرة المتشرّعة ـ على ما سيأتي إن شاء الله في بحث المرحلة الثانية ـ فتكون قوّة هذه السيرة كقوّة السيرة العقلائيّة لا المتشرّعة.

ولكن لا يخفى أنّ سيرة المتشرّعة لو ثبتت ولو لم تكن بما هم متشرّعة فهي تمتاز عن سيرة العقلاء بما هم عقلاء بأنّنا لسنا في مقام إثبات إمضائها شرعاً بحاجة إلى مقدّمة أنّه لو ردع عنها لوصل الردع إلينا، بل نفس ثبوتها واستمرارها في زمن الشرع دليل على عدم الردع؛ إذ لو ردعت لانهدمت.

ثمّ إنّ ما ذكره(رحمه الله) كنكتة لاكتشاف السيرة المعاصرة لزمن المعصوم عن طريق السيرة المعاصرة لزمننا بالنسبة لسيرة المتشرّعة يمكن ذكره أيضاً بالنسبة للسيرة العقلائيّة، فيقال أيضاً: إنّ تحوّل السيرة العقلائيّة من النقيض إلى النقيض غريب، وعدم نقل ذلك لنا أيضاً غريب. ويأتي هنا الجوابان الأوّلان من الأجوبة التي ذكرها (رضوان الله عليه) فيقال: أوّلاً: إنّ التحوّل إنّما يكون غريباً لو كان تدريجيّاً ولم يكن دفعيّاً. وثانياً: لئن كان التحوّل في السيرة من النقيض إلى النقيض غريباً فليس من الغريب افتراض أنّ سيرة مّا لم تكن منعقدة بين عقلاء صدر التأريخ ثُمّ تكوّنت بالتدريج.

99

خلاف ذلك، فكان عمل بعضهم لأجل الغفلة، وبعضهم لأجل النسيان، وبعضهمجرياً على ذوق العقلاء، والبعض الآخر تقصيراً وهكذا. ثُمّ جاء أبناء هؤلاء ورأوا سيرة آبائهم على ذلك فتخيّلوا صحّة هذا الأمر، فعملوا على طبقه واستمرّت السيرة على ذلك. وذلك كما في مسألة معاملة الصبيان بناءً على بطلانها، فإنّه في ذوق العقلاء لايفرّق في المعاملة بين البالغ والصبي والعاقل. واتّفقت سيرة المسلمين على معاملته لا بما هم متشرّعة، كيف ومشهور العلماء يرون البطلان؟ بل لاُمور متفرّقة من الجري على طبق الذوق، والجهل بالمسألة، والغفلة، والنسيان، وعدم المبالاة بالدين، والقصور، والتقصير، ثُمّ جاء أولادهم ورأوا أنّ السيرة قائمة على معاملة الصبيان فجروا عليها.

ولا ينكر ما ذكرناه باعتبار كون فتوى المشهور البطلان، فإنّ الكلام في السيرة العمليّة للمتشرّعة لا في إجماع العلماء.

الطريق الثاني: هو التأريخ الناقل لسيرة المعاصرين للشارع الأقدس، كما هو الحال في مسألة جواز المعاملة بالنقد الأجنبي؛ إذ ثبتت سيرة المتشرّعة في زمان الإمام(عليه السلام) على ذلك بالوجه التأريخي للأخبار الواردة في باب الزكاة، حيث يسأل فيها عن ثبوت الزكاة في النقد الأجنبي وعدمه، وثبوتها في الدرهم المغشوش وعدمه(1)، فإنّ هذا يدلّ على أنّهم كانوا يتعاملون بالنقد الأجنبي. ونحوه أيضاً التأريخ الدالّ على ثبوت السيرة على استخراج الفرد لبعض أقسام المعادن كالعقيق والملح، وتملّكه إيّاه.

ولنا في هذا الطريق كلامان:

الأوّل: إنّ هذا التأريخ يجب أن يكون بأحد نحوين كي يفيدنا في إثبات السيرة:


(1) الظاهر أنّ هذا إشارة إلى ما ورد: من حديث زيد الصائغ في الوسائل، ج 6، ب 7 من زكاة الذهب والفضّة.

100

إمّا أن يكون كمّاً وكيفاً بنحو يوجب الاطمئنان من كثرة نقله واستفاضته، ومن كيفيّة اقترانه بخصوصيّات وشواهد للصدق، وعدم اقترانه بما يكسره. فلو نقل التأريخ مثلاً استخراج الفرد للنفط وتملّكه في زمن النبيّ(صلى الله عليه وآله) لم نصدّقه؛ لدلالة تأريخ أدقّ على أنّ معرفة الناس بعين النفط كانت متأخّرة عن ذلك.

وإمّا أن يكون جامعاً لشرائط الحجّيّة التعبّدية كخبر الواحد الثقة بناءً على حجّيّته في الموضوعات(1)، فيدلّ ذلك الخبر بالمطابقة على السيرة المعاصرة


(1) الخبر في الموضوعات الذي يكون من قبيل ما نحن فيه ينبغي أن نكون فارغين عن حجّيّته في مقام إثبات الحكم الشرعيّ الملازم لذاك الموضوع سواء آمنّا بحجّيّة الخبر في الموضوعات، أو لا.

توضيح ذلك: أنّ الخبر في الموضوعات على ثلاثة أقسام:

1 ـ الخبر عن موضوع هو مصداق لموضوع الحكم الكلّيّ، ويترتّب عليه حكم جزئيّ كالإخبار عن خمريّة المانع أو طهارته.

2 ـ الخبر عن موضوع هو مصداق لموضوع الحكم الكلّيّ، ويترتّب عليه حكم جزئيّ لكن تنتهي حجّيّته إلى إثبات حكم كلّيّ، كالإخبار عن وثاقة الراوي الذي روى حكماً شرعيّاً الذي هو موضوع لحجّيّة خبر الثقة، ولو ثبتت حجّيّة هذا الخبر ثبت بالتالي ظاهراً الحكم الشرعيّ الذي رواه ذاك الراوي، وهو حكم كلّيّ.

3 ـ الخبر عن موضوع يلازم الحكم الكلّيّ، وذلك من قبيل الإخبار عن السيرة في زمن المعصوم الملازمة للحكم الكلّيّ.

فإن افترضنا ثبوت إطلاق لدليل حجّيّة خبر الثقة يشمل الإخبار عن الموضوعات، أو سيرة تدلّ على ذلك، فقد ثبتت حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات مطلقاً. وإلّا فإن كان لدليل حجّيّة خبر الثقة في الأحكام إطلاق يشمل الخبر في الموضوعات الذي يؤدّي إلى

101

للمعصوم، وبالالتزام على ما يلازمها من الحكم الشرعيّ.

 


حكم كلّيّ، ثبتت حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات في القسم الثاني والثالث، وكذلك لو كانت السيرة قائمة على ذلك.

وإلّا فلا يبقى دليل على حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات، أي: لا يمكن ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة على الموضوع الذي أخبرنا به الثقة، فلا يبقى مجال لحجّيّة القسم الأوّل والثاني. وأمّا القسم الثالث فلا أثر شرعيّ يترتّب فيه على الموضوع حتّى يكون معنى لحجّيّة خبر الثقة في الموضوع. ولكن العرف لا يحتمل الفرق بين نقل الحكم الشرعيّ الكلّيّ بالمطابقة، ونقله بالملازمة على حدّ عدم احتماله للفرق في الحجّيّة بين الدلالة المطابقيّة للأمارات والدلالة الالتزاميّة، وهذا يعني حجّيّة خبر الثقة في القسم الثالث لا لإثبات الموضوع بل لإثبات الحكم الملازم له. وما نقوله: من أنّ الدلالة الالتزاميّة تتبع المطابقيّة في الحجّيّة، لا يشمل فرض ما إذا كان مقتضى الحجّيّة مختصّاً بالدلالة الالتزاميّة.

والحاصل: أنّ حجّيّة خبر الثقة الدالّ على السيرة لا علاقة لها بحجّيّة الخبر في الموضوعات؛ إذ الأثر الشرعيّ ليس مترتّباً على هذا الموضوع كي نحتاج إلى حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات، وإنّما الأثر الشرعيّ من لوازم هذا الموضوع، فلعلّ افتراض كون المسألة مرتبطة ببحث حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات مبنيّ على تخيّل اندراج المقام تحت قاعدة تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة في الحجّيّة، فيقال:

لو لم نبن على حجّيّة الدلالة المطابقيّة في الكلام وهي الدلالة على الموضوع (لو كان هناك أثر شرعيّ يترتّب عليه) لما أصبحت الدلالة الالتزاميّة التي هي مورد حاجتنا حجّة. بينما الصحيح ما ذكرناه: من أنّ هذه التبعيّة لا تجري فيما لو كان دليل الحجّيّة ابتداءً مختصّاً بالدلالة الالتزاميّة لا من باب سقوط كشف الدلالة المطابقيّة بالمعارض، أو العلم بالكذب، أو نحو ذلك.

102

الثاني: إنّ ما عرفته من النحو الثاني إنّما يفيدنا لو كانت الملازمة ثابتة بين نفس السيرة والحكم الشرعيّ، عقليّة أو عاديّة، لا بين العلم بها والعلم به وهي المسمّـاة ـ بحسب الظاهر ـ في كلمات الشيخ الأعظم(قدس سره) بالملازمة الاتّفاقيّة. أمّا أنّه ما هو الصحيح من هذين الفرضين؟ فسيظهر ـ إن شاء الله ـ عند البحث عن المرحلة الثانية، فإنّه يختلف الأمر في ذلك باختلاف التقريبات فيها، وإنّما المقصود هنا التنبيه على أنّه على الفرض الثاني ليس الناقل للسيرة ناقلاً لجعل الشارع ولو بالملازمة لفرض عدم الملازمة بينهما، وإنّما يحصل العلم بأحد الأمرين إذا حصل العلم بالأمر الآخر من دون ملازمة بينهما بقانون خاصّ يبحث في بحث المنطق الذاتيّ، والمفروض أنّه لم يحصل لنا العلم بذاك الأمر الآخر وهو السيرة(1)، فلا يثبت الحكم.

إن قلت: إذا فرض ثبوت هذا الكشف حتّى عند الناقل، أي: أنّه كان يحصل له العلم بالجعل الشرعيّ لو علم بالسيرة، فكأنّه حكى لنا الجعل الشرعيّ مادام قد حكى لنا عن السيرة وعلّمه بها، فإنّا نقطع بأنّه لو سألناه عن وجود الجعل الشرعيّ وعدمه لأخبرَنا بوجوده.

قلنا: هذا النحو من الإخبار غير كاف ولو تصريحاً؛ لأنّه إخبار عن حدس(2).

الطريق الثالث: أن يكون خلاف ما يراد إثباته بالسيرة على خلاف الطبع،


(1) الظاهر على ما أذكر أنّه (رضوان الله عليه) عدل في وقت متأخّر عن اُمور من هذا القبيل؛ لأنّ المنطق الذاتي كما يوجب العلم بالأمر الثاني إذا علم بالأمر الأوّل كذلك يوجب العلم بقضيّة شرطيّة، وهي: إن كان الأمر الأوّل موجوداً فالأمر الثاني موجود، وبضمّ ذلك إلى ما دلّ تعبّداً على ثبوت الشرط يثبت الجزاء تعبّداً.

(2) ولكنّه قريب من الحسّ أو قل إنّه حدس عامّ بمعنى: أنّ أيّ عاقل آخر يكون محلّ هذا الحادس يحدس بعين حدسه، وحدسيّة الخبر بهذا الشكل لا تضرّ بالحجّيّة.

103

فيقال: لولا انعقاد السيرة وقتئذ على المقصود لكثر السؤال وكثر الجواب ولوصل إلينا ذلك.

وتوضيح الكلام في هذا الطريق هو: أنّ هذا الطريق يتقوّم بشروط أربعة عامّة في تمام موارده، ويمكن فرض شروط خاصّة لبعض موارده لخصوصيّة في ذاك المورد ولكن لا يمكن ضبط تلك الشروط. وتوفّر الشروط العامّة الأربعة يكفي في الغالب في حصول العلم بالسيرة، وهي كما يلي:

الشرط الأوّل: أن يكون ذلك الحكم حكماً فرديّاً لا اجتماعيّاً راجعاً إلى وليّ الأمر؛ وإلّا لم تلزم كثرة السؤال عنه. فلو شكّ ـ مثلاً ـ في وجوب الإحسان إلى الفقراء على الوالي لم يصحّ القول بأنّ بناء المتشرّعة في زمان الإمام(عليه السلام) كان على عدم التزام الشخص بالإحسان إلى الفقراء لو صار والياً، وإلّا لكانوا يحتملون الوجوب، ولكثر السؤال والجواب، وكان يصل ذلك إلينا.

إذ ليس المفروض كثرة السؤال في مثل هذه المسألة التي لم تكن محلّ ابتلاء الأفراد، ونحن نعلم أنّ أسئلتهم كانت تنشأ غالباً من الحاجة إلى فهم الحكم والابتلاء به.

هذا إضافة إلى أنّه لو ثبتت هذه السيرة لم تكن سيرة عمليّة بالفعل، وإنّما كانت سيرة تقديريّة بدون أن يكون المقدّر عليها ـ وهو فرض صيرورته والياً ـ ثابتاً بالفعل. وهذا يولّد إشكالاً بلحاظ ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في بحث المرحلة الثانية: من أنّ ما يلازم الحكم الشرعيّ إنّما هو السيرة الفعليّة.

الشرط الثاني: أن يكون ذلك الحكم الفرديّ ممّا يكثر ابتلاء الأفراد به. وأمّا في مثل تملّك المعدن باستخراجه ـ مثلاً ـ فلا يمكن سلوك هذا الطريق لإثبات المقصود؛ لأنّه لم يكن ممّا يكثر الابتلاء به كي تلزم كثرة السؤال والجواب.

الشرط الثالث: أن لا يكون العمل على خلاف ما قصد إثباته موافقاً لطبع

104

المجتمع وقتئذ ولو طبعاً مكتسباً من ناحية العادة، فمثلاً لا يمكن إثبات طهارة أبوال الدواب الثلاث المأكول لحمها بهذا الطريق؛ إذ نحتمل أنّ مقتضى الطبع كان هو الاجتناب عنه، ولو اكتساباً من العادة الناشئة من قول العامّة الذين هم الكثرة الكاثرة في ذلك اليوم بالنجاسة مثلاً، فإذا كان ذلك وفق الطبع لم تلزم كثرة السؤال عن النجاسة والجواب.

الشرط الرابع: أن لا يكون خلاف ما قصد إثباته ممّا أفتى به كثير من فقهائنا القدامى، أو دلّت عليه روايات عديدة. وإلّا ـ كما هو الحال في وجوب السورة في الصلاة ـ احتملنا أنّ هذا نتيجة كثرة السؤال والجواب، فلا يصحّ إعمال هذا الطريق لنفي وجوب السورة، (مضافاً إلى إمكان دعوى انتفاء الشرط الثالث أيضاً بالنسبة لهذا المثال).

وكلّ هذه الشرائط مجتمعة في مسألة المسح في الوضوء بتمام الكفّ على ظهر القدم، فننفي وجوب ذلك بقيام السيرة على عدم الالتزام به؛ إذ يقال: لولا قيام السيرة على عدم الالتزام به لكان يكثر السؤال عن وجوبه ويكثر الجواب، وكان يصلنا ذلك في عدّة روايات. وهذا حكم فرديّ مبتلى به من قبل تمام الأفراد دائماً، ويكون الالتزام بالمسح بتمام الكفّ على خلاف مقتضى الطبع، ولم يفت أحد من الفقهاء بوجوبه، ولم ترد أخبار عديدة دالّة على وجوبه، وإن فرض ورود حديث واحد بذلك فهو لا يضرّنا.

وهل يشترط أيضاً عدم ورود روايات عديدة على طبق ما نريد إثباته بالسيرة بأن يكون ورود روايات عديدة على عدم وجوب المسح بتمام الكفّ ـ مثلاً ـ مضرّاً بالاستدلال بالسيرة بالطريق الذي بيّنّاه، أو لا؟

التحقيق في ذلك: أنّه تارةً نريد الاستدلال بالسيرة محضاً كما كان ذلك ظاهر عبارتنا حتّى الآن، واُخرى نقصد جعل السيرة جزءاً للدليل: فعلى الأوّل يكون

105

ورود روايات مطابقة للحكم المقصود إثباته مضرّاً بالاستدلال بهذا الطريق. وعلى الثاني لا يضرّ ذلك.

فتقريب الأوّل: أن يقال: إنّه لولا قيام السيرة للجميع أو الغالب على عدم الالتزام بالمسح بتمام الكفّ لسئل الإمام(عليه السلام) عن ذلك كثيراً حتّى ولو فرضت السيرة على الالتزام بالمسح بتمام الكفّ؛ إذ السيرة لا تدلّ على الوجوب لملائمتها للاستحباب، وكثير من الأصحاب يعرفون مثل هذه النكتة. والمفروض أنّ الالتزام بالمسح بتمام الكفّ خلاف الطبع، فكان يكثر السؤال والجواب عن ذلك، وكان يصلنا ذلك ضمن روايات عديدة، فعدم ذلك دليل على قيام السيرة على عدم الالتزام بالمسح بتمام الكفّ. نعم، لو فرض أنّ وجوب المسح بتمام الكفّ من قطعيّات الإسلام على حدّ قطعيّة عدد ركعات صلاة الظهر مثلاً، كان ذلك مغنياً لهم عن السؤال، لكن هذا واضح البطلان. وبناء على هذا التقريب يكون ورود روايات عديدة دالّة على عدم الوجوب مضرّاً بالاستدلال بالسيرة، فإنّ عدم السيرة على عدم الالتزام بالمسح بتمام الكفّ إنّما يلازم كثرة السؤال وكثرة الجواب، ولا يلازم كون الجواب خصوص الحكم بالوجوب، فقد يكون الجواب هو الحكم بعدم الوجوب. فمجرّد كثرة السؤال والجواب يمنعنا عن إثبات السيرة سواء كان الجواب بالإثبات أو النفي.

وتقريب الثاني: أن يقال: إنّه إمّا أن تكون السيرة على عدم الالتزام بالمسح بتمام الكفّ أو لا: فعلى الأوّل لا يجب المسح بتمام الكفّ؛ لما سيأتي في بحث المرحلة الثانية: من الملازمة بين السيرة والحكم الشرعيّ. وعلى الثاني يكثر السؤال عن وجوب المسح بتمام الكفّ وعدمه، وعندئذ إمّا أن يكون الحكم في الواقع هو الوجوب، أو عدم الوجوب. والثاني هو المقصود. والأوّل لو كان لكثر الجواب بالوجوب، ولوصل ذلك إلينا ضمن أخبار عديدة، فمجرّد عدم وصول

106

أخبار دالّة على الوجوب يكفي في هذا التقريب، ولا يضرّ وصول أخبار دالّة على عدم الوجوب.

وقد ظهر بهذا العرض: أنّه إن أردنا بهذا الطريق نفي حكم ليس في معرض النفي من قبل الإمام تقيّة يكفينا عدم ورود روايات مثبتة لذلك الحكم، ولا يضرّنا ورود روايات نافية له، فإنّ ورودها وإن كان مضرّاً بالتقريب الأوّل ولكن يكفينا التقريب الثاني. فهذه الروايات لا تضرّنا بل تفيدنا؛ لأنّها مؤيّدة للمطلوب.

وأمّا إن أردنا به نفي حكم يكون في هذا المعرض فيشترط فيه عدم ورود روايات وفق المطلوب؛ إذ هذه الروايات تبطل التقريب الأوّل. والتقريب الثاني بنفسه باطل هنا؛ إذ من المحتمل أنّه لم تكن سيرة وفق المطلوب وكثر السؤال وجاء الجواب وفق المطلوب تقيّة، فينحصر الدليل على المطلوب عندئذ بنفس تلك الروايات، فإن كانت حجّة تعبّداً، ولم يكن لها معارض ثبت المطلوب بالتعبّد. فورود روايات وفق المطلوب هنا لا ينفعنا بل عدمه أفضل؛ إذ على تقدير عدم ورودها تثبت السيرة، ويثبت المطلوب بالوجدان، بينما على تقدير ورودها لا يثبت المطلوب في أفضل التقادير إلّا بالتعبّد(1).

 


(1) لا يخفى أنّه لو ضمّ ما مضى منه(رحمه الله) في الشرط الرابع: من إلحاق إفتاء كثير من فقهائنا القدامى بورود الروايات في اشتراط العدم بأن يقال: (لو كثر الجواب لوصل الجواب إلينا، إمّا ضمن روايات، أو ضمن فتاوى) إلى ما ذكره هنا: من أنّ ورود روايات موافقة للمطلوب يضرّ بالتقريب الأوّل، وهو الاستدلال بالسيرة محضاً، لكانت نتيجة ذلك: أنّ التقريب الأوّل باطل في مثال المسح؛ إذ حتّى لو لم ترد أيّ رواية في المقام ففتاوى الفقهاء القدامى هي مطابقة للحكم المقصود إثباته. فنحن نحتمل كثرة السؤال والجواب ووصول الأمر إلينا ضمن الفتاوى.

107


وعلى أيّ حال، ففي مثال المسح صحيح أنّ الالتزام بالمسح بتمام الكفّ فيه شيء من الكلفة، لكن بلوغ الكلفة إلى حدّ نجزم بكثرة السؤال عنه حتّى فيما لو كانت عادة الشيعة الموروثة من قبل عصر الاهتمام الكامل بتدوين النصوص هي المسح بتمام الكفّ بحجّة أنّ هذه السيرة تلائم الاستحباب غير واضح عندي(1). نعم، رغم هذا لا يبعد الإفتاء بعدم وجوب المسح بتمام الكفّ، إمّا لما ورد من إجزاء المسح بشيء من ظهر الرجل فيما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع(2)، بناءً على أنّ حمله في مقام الجمع على المسح بتمام الكفّ الذي هو غير مستوعب لتمام ظهر الرجل غير عرفيّ، فلو تعارض مع ما دلّ على وجوب المسح بتمام الكفّ، ولم يمكن حمل الثاني على الاستحباب وتساقطا، فالأصل عدم وجوب أكثر من المسمّى، وإمّا لأنّ ما قام من إجماع الإماميّة أو ما يشبه الإجماع من قِبَل قدماء الأصحاب على عدم وجوب المسح بتمام الكفّ يسقط خبر المسح بتمام الكفّ الظاهر في الوجوب عن الحجّيّة. وذلك لا لمجرّد التمسّك بالإجماع كي يقال: إنّه مدركي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بل هو واضح لو فرضت السيرة غير توأم لارتكاز الوجوب، أمّا لو كانت توأماً لارتكاز الوجوب كان معنى ذلك وضوح الوجوب لدى المتشرّعة في زمان المعصوم، وهذا غير محتمل؛ إذ لو كان الحال كذلك فمن البعيد افتراض اختفاء القول بالوجوب بين الفقهاء من أوّل عصر الغيبة بنحو يكاد يكون عدم الوجوب إجماعيّاً.

(2) الوسائل، ج 1، الحديث 1022 و1076. ولو جعل ما فيه من قوله: «ما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع» تفسيراً لقوله: «بشيء من قدميك» لا تفسيراً لـ «قدميك» بطل الاستدلال به في هذه الناحية، ويبقى الاستدلال به وبغيره من الروايات بلحاظ ما ورد فيها من عدم استبطان الشراك أو الشراكين.

108

الطريق الرابع: مختصّ بالسيرة العقلائيّة، وهو إثبات السيرة المعاصرة لزمان الشارع بالاستقراء الناقص، بأن تستقرء مجتمعات كثيرة في أمكنة مختلفة وأزمنة متغايرة، فيرى ثبوت هذه السيرة لجميعهم، فيستكشف من ذلك ثبوتها في زمن الشارع على حدّ الاستكشاف الثابت في تمام موارد التجربة، فكما نحكم بمحرقيّة النار مع أنّ تجاربنا لم تكن إلّا على أفراد محدودة من النار، وكما نستقرء كمّيّة كبيرة من أفراد الدجاج ـ مثلاً ـ ونرى فيها حالة خاصّة ونحكم بأنّ كلّ فرد من أفراد الدجاج فيه اقتضاء هذه الحالة، كذلك نرى عدّة مجتمعات غير مجتمع المعصوم ونرى فيها ثبوت السيرة، فنستكشف ثبوتها في مجتمع المعصوم.

وهذا الطريق يختلف عن الطريق الأوّل الذي كان مبتنياً على روحيّة الاستصحاب القهقرائيّ وافتراض توارث السيرة يداً بيد، فإنّ هذا الطريق ليس مبتنياً على ذلك، وإنّما هو مبتن على روح التمسّك بالاستقراء، واستنتاج النتيجة الكلّيّة من الاستقراء الناقص كما هو الحال دائماً في باب التجربة.

وتحقيق هذا المطلب بالنحو المفصّل مربوط ببحث قوانين التجربة والمنطق الذاتيّ، وليس هنا موضع تفصيلها.

 


ولا لمجرّد إعراض الأصحاب عن الحديث كي يقال بعدم ثبوت الإعراض عن سنده؛ لاحتمال حملهم له على الاستحباب، على أنّ الإعراض لا يسقط السند، بل لوضوح أنّ المسح على الرجل كان محلّ ابتلاء كلّ الشيعة في كلّ يوم عدّة مرّات، فافتراض أنّ الحكم بقي غامضاً لديهم إلى آخر زمان الأئمّة(عليهم السلام)غير وارد. ولو كان وجوب المسح بتمام الكفّ هو الواضح لديهم فاحتمال أن ينقلب الأمر من أوّل عصر الغيبة إلى إجماع الفقهاء على عدم الوجوب غير وارد. ومثل هذا البيان قد يوجب القطع أو الاطمئنان بعدم وجوب المسح بتمام الكفّ.

109

إلّا أنّنا نقول إجمالاً: إنّه إن كان المقصود بذلك إثبات وجود قريحة مشتركة بين المجتمعات هي السبب لتحقّق هذه السيرة، ولم نعرف هذا الشيء المشترك سابقاً، وإنّما أردنا اكتشافه من نفس السيرة، فهذا غير صحيح؛ لأنّ قانون التجربة إنّما ينطبق فيما لو علم بوجود شيء مشترك في تمام موارد التجربة، فتستكشف من ذلك علّيّة ذاك الشيء المشترك مثلاً. وأمّا إذا لم يعلم بذلك واحتملناه فهذه التجربة لا توجب القطع بعلّيّة ذلك الأمر المحتمل. مثلاً لو رأينا آلاف الأشخاص أكلوا قرصاً معيّناً فماتوا علمنا أنّ ذاك القرص سمّ قاتل، أمّا لو رأينا آلاف الأشخاص ماتوا، واحتملنا أنّهم أكلوا ذاك القرص فهذا لا يكون كاشفاً عن كون ذاك القرص سمّاً قاتلاً. وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّنا إذا لم نعرف عنصراً مشتركاً فيما بين المجتمعات يحتمل كونه هو سبب السيرة، فليس من الصحيح أن نكتشف بواسطة وجود السيرة في جملة من المجتمعات علّيّة عنصر يفترض اشتراكه فيما بينها(1).

 


(1) على أنّه لو صحّ ذلك لم يكن لنا طريق إلى معرفة أنّ ذاك العنصر المشترك كان موجوداً في مجتمع المعصوم أيضاً. هذا.

وكأنّه علاجاً لهذا النقص فرض اُستاذنا(رحمه الله) في الحلقة الثانية من (دروس في علم الاُصول) أن تكون للإنسان ملاحظة تحليليّة وجدانيّة بحيث يرى في وجدانه ومرتكزاته العقلائيّة أنّه منساق إلى اتّخاذ موقف معيّن، ويلاحظ بتحليله الوجدانيّ عدم ارتباط ذلك بالخصوصيّات المتغيّرة من حال إلى حال ومن عاقل إلى عاقل، وقد يدعم ذلك باستقراء حالة العقلاء في مجتمعات عقلائيّة مختلفة للتأكّد من هذه الحالة العامّة.

قال(رحمه الله): «وهذا طريق قد يحصل للإنسان الوثوق بسببه، ولكنّه ليس طريقاً استدلاليّاً موضوعيّاً إلّا بقدر ما يتاح للملاحظ من استقراء للمجتمعات العقلائيّة المختلفة». الحلقة الثانية، ص 183.

110

نعم، لو علمنا قبل الاستدلال بالسيرة بوجود أمر مشترك نفسانيّ أو موضوعيّ خارجيّ، ورأينا بالاستقراء أنّ هذا الأمر المشترك لا ينفكّ عن تلك السيرة علمنا بحكم التجربة كون ذلك الشيء علّة لتلك السيرة؛ لأنّها توجد متى وجد، وتنعدم ـ مثلاً ـ متى انعدم. فإذا كنّا نعلم بوجود ذلك الشيء في زمان الشارع علمنا بوجود تلك السيرة في ذلك الزمان بشرط أن نرى أنّ سائر المقارنات لتلك السيرة لا يحتمل علّيّتها لها، فإذا وجد في كلّ مجتمع من تلك المجتمعات المشتملة على تلك السيرة مقارن آخر يحتمل علّيّته لها لم يثبت المطلوب.

فمثلاً نفترض أ نّا رأينا بحسب التجربة التلازم بين درجة خاصّة للقدرة والتسلّط للحكومة، وقيام السيرة على ملكيّة الفرد ورفض الاشتراكيّة مع عدم مقارن آخر يحتمل علّيّته لهذه السيرة، فإذا رأينا أنّ تلك الدرجة كانت ثابتة في زمان المعصوم ثبتت هذه السيرة لأهل ذاك الزمان.

ويمكننا أن ندرج في هذا الباب حجّيّة الظهور بدعوى أ نّا رأينا الملازمة بين كون ميزان التفهيم والتفهّم هو اللغة، وقيام السيرة على حجّيّة الظهور(1).

 


أقول: بما أنّ السير العقلائيّة ليست غالباً غامضة السبب كلّ الغموض، قد يمكن للإنسان الحاسّ بالسيرة العقلائيّة في زمانه أن يدرك علّتها، لا مجرّد أن ينفي ارتباطها بالخصوصيّات المتغيّرة من حال إلى حال، كي يخرج عن كونه طريقاً استدلاليّاً موضوعيّاً. فإذا كانت تلك العلّة ثابتة في مجتمع زمان المعصوم ثبت المقصود بلا دخل لمسألة استقراء عدّة مجتمعات. وهذا ما شرحناه في تعليقتنا على بحث الطريق الأوّل فراجع.

(1) لا يخفى أنّنا لم نرَ مجتمعاً ليس ميزان التفاهم عندهم هو اللغة، كي نرى أنّه هل تنتفي عندهم السيرة على العمل بالظهور أو لا. فالمقارنة التي نراها بين كون الميزان في التفاهم هو اللغة والسيرة على حجّيّة الظهور تكون من قبيل ما لو رأينا النار في كلّ مكان والاحتراق في كلّ مكان، ومن الواضح أنّه عندئذ لا نستطيع أن نفهم علّيّة النار للاحتراق أو تلازمهما.

111

فيعلم أنّ الأوّل علّة للثاني(1)، فنستكشف من ذلك ثبوت هذه السيرة في زمن الشارع. نعم، هذا الاستكشاف مشروط بدفع احتمال وجود مانع في زمان الشارع عن تأثير المقتضي في تحقّق هذه السيرة؛ وذلك لأنّ تجربة المقارنة بين (أ) و (ب) إنّما تثبت أنّ (أ) مقتض لــ (ب) ولا تثبت عدم وجود مانع صدفة يمنع عن تأثير فرد خاصّ من (أ). ويمكن إحراز عدم مانعيّة سائر المقارنات في زمان الشارع فيما نحن فيه باعتبار أنّ المانعيّة في باب السير العقلائيّة مانعيّة مفهومة، فلا تحتمل مانعيّة أيّ شيء عنها، وليست كالمانعيّة في الاُمور التكوينيّة من قبيل مانعيّة الرطوبة عن إحراق النار ـ مثلاً ـ التي لا يمكن إثباتها أو نفيها إلّا بالتجربة، فإنّ المانعيّة في باب السير العقلائيّة مرتبطة بوعي البشر واختياره(2)، فقد تنفى بحكم العقل بلاحاجة إلى التجربة. وبهذا الطريق ننفي مانعيّة المقارنات في زمان الشارع عن تحقّق السيرة على حجّيّة الظهور.


(1) أو هما معلولان لشيء ثالث.

(2) لا يخفى أنّه كما أنّ المانعيّة في باب السير العقلائيّة مانعيّة مفهومة، فكثيراً مّا يمكن القطع بانتفائها في زمان الشارع رغم أنّنا لم نعش ذاك الزمان، كذلك أصل الاقتضاء والعلّيّة في السير العقلائيّة أمر مفهوم، فكثيراً مّا يمكن القطع بثبوت السيرة الموجودة في زماننا في زمان المعصوم أيضاً بلاحاجة إلى هذه البيانات، وهذا ما أشرنا إليه في تعليقتين سابقتين.

وبالنسبة لحجّيّة الظهور ليست العلّة في قيام السيرة عليها مجرّد كون اللغة هي أساس التفهيم والتفهّم، بل العلّة هي كون حجّيّة الظهور بلحاظ ما فيه من الكشف النوعيّ تطابق عادة نتيجة التزاحمات بين الأغراض العقلائيّة عند الشكّ. ولا نشكّ أنّ نفس هذه الحالة كانت موجودة في زمن المعصوم؛ لأنّها نابعة عن الأغراض العقلائيّة المتعلّقة لنا التي لا تختلف حساباتها بالفوارق الحاصلة باختلاف الزمان والمكان، تلك الفوارق التي هي أيضاً مفهومة لنا.

112

الطريق الخامس: أن يكون لما يراد إثبات وجود السيرة على طبقه في زمان الإمام(عليه السلام) بديل بحيث لابدّ من أن تكون السيرة قائمة إمّا على هذا أو على ذاك، ويكون ذلك البديل بحيث لو كانت السيرة قائمة عليه في زمن المعصوم لنقل ذلك إلينا؛ لتشكيله ظاهرة اجتماعيّة كبيرة مع كونه في نفسه ممّا يبحث عنه ويهتمّ به اهتماماً كبيراً، كما هو الحال في باب حجّيّة الظهور، فإنّه لو لم تكن السيرة في ذلك الزمان على العمل بالظهور لكان هناك طريق آخر لتلقّي الأحكام؛ لأنّهم كانوا ملزمين بالعمل بالأحكام مثلنا، فحتماً كانوا يتّخذون مسلكاً لتلقّي الأحكام. فلو لم يكن ذاك المسلك هو الأخذ بالظهور وكان مسلكاً آخر بدلاً عن العمل بالظهور لشكّل ذلك ظاهرة اجتماعيّة واسعة، وكان ذلك في غاية الأهمّيّة يهتمّ به منذ البدء كلّ من باحث أو كتب في الفقه أو الاُصول، ولوصل ذلك إلينا حتماً، بينما لم يصلنا شيء من هذا القبيل إطلاقاً.

لايقال: إنّ العمل بالظهور أيضاً يشكّل ظاهرة اجتماعيّة مهمّة، ولم يصلنا نقل عن أنّهم فيما سبق كانوا يعملون بالظهور.

فإنّه يقال: صحيح أنّ هذا أيضاً سلوك اجتماعيّ مهمّ، ولكن قد يكون عدم نقله لأجل الاعتماد في وصوله إلى نفس استمرار السيرة، أو لأجل كون استقرار السيرة عليه بالفعل مانعاً عن الالتفات التفصيليّ إلى أهمّيّته(1).

وبالإمكان أن نمثّل أيضاً بتملّك الفرد للمعدن؛ إذ لو لم تكن عليه السيرة في


(1) كأنّ المقصود إثبات سيرة المتشرّعة بالمعنى الأعمّ بعد فرض ثبوت سيرة العقلاء أو احتمالها على الأقلّ من دون احتمالها بالنسبة للبديل، فيقال: إنّ سيرة المتشرّعة لو كانت هي عين سيرة العقلاء لم تجلب انتباهاً كي تنقل، أو أنّها قد لا تنقل اعتماداً على نفس السيرة العقلائيّة، ولو كانت غيرها لنقلت.

113

زمان الإمام(عليه السلام) لانعقدت السيرة على طريق آخر للاستفادة من المعدن، وكان ذلك يشكّل ظاهرة اجتماعيّة كبيرة؛ لكثرة حاجة الناس إلى الاستفادة من المعدن، ولكان يصل ذلك إلينا. فقيام السيرة على تملّك المستخرج للمعدن في زمان الشارع الذي لم يمكننا إثباته بالطريق الثالث أمكننا إثباته بهذا الطريق(1).

هذا تمام الكلام في المرحلة الاُولى(2).

وهذه المرحلة كنّا بحاجة إليها في باب الأمارات لو فرضنا السيرة فيها سيرة عقلائيّة بما هم عقلاء، ولم نفترض حجّيّتها ذاتيّة كذاتيّة حجّيّة القطع عندنا، بمعنى أنّ من طبّق تمام أعماله عليها لم يكن مقصّراً في مقام العبوديّة بحكم العقل العمليّ.

أمّا بناءً على هذا الوجه الذي مضت الإشارة إليه فليس الحكم حكماً عقلائيّاً يجب إثبات تحقّق سيرة العقلاء عليه في زمن المعصوم، وإنّما قامت سيرة العقلاء على ذلك من باب حكم العقل بذلك، فهو بنفسه أمر واقعيّ يدركه العقل العمليّ كالوجوب والإمكان اللذين يدركهما العقل النظريّ. فالعقل العمليّ أدرك ـ بحسب


(1) هذه هي الطرق الخمسة لإثبات السيرة بحسب ما أفاده(رحمه الله) في الدورة التي حضرتها، وقد مضى منّا طريق سادس لإثبات السيرة العقلائيّة.

(2) نقل الأخ السيّد علي أكبر ـ حفظه الله ـ عن الدورة الأخيرة لدرس اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): أنّ هذه الوجوه الخمسة التي ذكرناها لإثبات المرحلة الاُولى ـ وهي أصل تحقّق السيرة في زمن المعصوم ـ إنّما هي الوجوه العامّة التي يمكن التمسّك بها والتي تنضبط بالضوابط. وهنا وجوه اُخرى صغيرة متناثرة ليست لها ضوابط، فمثلاً ألسنة الروايات والجواب من قبل الإمام تكشف عن السيرة والارتكاز في كثير من الأحايين إثباتاً ونفياً، ولهذا نحن استفدنا من الأدلّة التي يتمسّك بها على نجاسة أهل الكتاب أنّ السيرة وقتئذ لم تكن قائمة على نجاسة أهل الكتاب، إلى غير ذلك من الخصوصيّات الحديثيّة والتأريخيّة التي يترك أمر تفصيلاتها إلى الفقه. انتهى.

114

الفرض ـ أنّ دائرة حقّ المولويّة لا تكون واسعة بحيث تشمل لزوم إطاعة المولى فيما قامت الأمارة على نفيه، فإن تمّ ذلك ثبت جواز الاعتماد على الأمارة بلاحاجة إلى إثبات السيرة في زمن المعصوم، كما هو الحال في حجّيّة القطع مع فارق واحد، وهو: أنّ حكم العقل بحجّيّة القطع تنجيزيّ، وحكمه بحجّيّة الأمارات وإن كان ذاتيّاً بمعنى عدم الحاجة إلى جعل المولى لكنّه معلّق على عدم وصول ردع الشارع عنها إلينا، فلو وصلنا من المولى المنع عن العمل بالظهور أو تجويز مخالفة الظهور سقطت حجّيّته. ولا نحتاج أيضاً في إثبات الحجّيّة بناءً على هذا الفرض إلى المرحلة الثانية وهي إثبات إمضاء الشارع؛ وذلك لكفاية عدم وصول الردع إلينا في حكم العقل بالحجّيّة.

ولا بأس بأن نشير قبل الدخول في بحث المرحلة الثانية إلى مدى إمكان الاعتماد في حجّيّة الأمارات على هذه الدعوى، أعني: دعوى إرجاع السيرة في باب الأمارات إلى حكم العقل العمليّ، فنقول:

إن تمّت هذه الدعوى وخلت عمّا سيأتي ـ إن شاء الله ـ من شائبة الإشكال يبقى الكلام في كفايتها لإثبات المقصود؛ وذلك لأنّنا لو سلّمنا أنّ العقل العمليّ أدرك أنّ من حقّ المولى على العبد أن يعمل بمقاصده التي تظهر للعبد من ظاهر كلام المولى، أو من خبر الثقة ـ مثلاً ـ ما لم يردع المولى عن ذلك، فهذا الحكم من قِبَل العقل لا يصلح أن يكون حاكماً على أدلّة الاُصول أو مخصّصاً لها؛ إذ ليس حكماً مجعولاً من قِبَل الشارع كما لو جعل المولى خبر الواحد أو الظهور حجّة، كي يقال: إنّه حاكم أو مخصّص لمثل (رفع ما لا يعملون) أو «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام»، وإنّما هذا حكم من قِبَل العقل المدرك لحجّيّة الظهور أو خبر الواحد. وإطلاق مثل حديث الرفع بنفسه ظهور مشمول لهذا الحكم، وهو يدلّ على عدم اعتناء المولى بأغراضه المشكوكة المدلول عليها بالظهور أو خبر الواحد، أي:

115

أنّه يدلّ على نفي حجّيّة تلك الظهورات والأخبار الآحاد.

نعم، هذا الإشكال إنّما يكون فيما إذا لم يكن هناك مانع عن جريان البراءة من علم إجماليّ ونحوه، فلابدّ من فرض الكلام فيه بعد فرض انحلال العلم الإجماليّ بوجود الأحكام بوجه من الوجوه.

ويمكن دفع هذا الإشكال في خصوص باب الظواهر بدعوى أنّ ظاهر (رفع ما لا يعلمون) بحسب الفهم العرفيّ هو رفع ما لا يعلم من ظواهر خطاب المولى، فيكون وصول كلام المولى الظاهر في حكم إلزاميّ داخلاً في مصاديق الغاية عرفاً.

لكن هذه الدعوى لا مجال لها بالنسبة لخبر الثقة بأن يقال: إنّ الغاية تشمل عرفاً وصول خبر الثقة الدالّ على حكم إلزاميّ(1).

هذا مضافاً إلى أنّ أصل هذه الدعوى لا تخلو عن إشكال(2).

كما أنّ أصل دعوى حكم العقل العمليّ بالحجّيّة الذاتيّة لظهور كلام المولى مثلاً، لا تخلو عن إشكال أيضاً.


(1) لا يخفى أنّ وضوح بطلان هذه الدعوى في خبر الثقة ينبع من وضوح بطلان أصل دعوى الحجّيّة الذاتيّة في خبر الثقة. وبقدر ما يميل الإنسان إلى دعوى الحجّيّة الذاتيّة لطريق من طرق إيصال المقصود، أو دعوى شدّة رسوخ الحجّيّة العقلائيّة تقوّى في الذهن دعوى انصراف الغاية في (رفع ما لا يعلمون) إلى ما يشمل العلم بذاك الطريق، فإنّ نكتة الانصراف إنّما هي كون هذا طريقاً ذاتيّاً إلى مقاصد المولى، أو طريقاً عقلائيّاً راسخاً في غاية الرسوخ. إذن فالفرق الأصليّ بين باب الظهور وباب خبر الثقة ليس هو في دعوى كون وصوله مصداقاً للغاية وعدمه، وإنّما هو في أصل مدى وضوح دعوى الحجّيّة الذاتيّة.

(2) لو تمّت أصل دعوى الحجّيّة الذاتيّة تمّت دعوى انصراف الغاية في (رفع ما لا يعلمون) إلى ما يشمل وصول تلك الحجّة.

116

ووجه الإشكال في كلّ ما كان من قبيل هذه الدعاوى هو: أ نّا وإن كنّا ندرك مثل هذا الحكم ونحسّ به بشكل واضح، وهو: أنّ الإنسان الذي يخالف ظهور كلام المولى ولا يعمل به يستحقّ العقاب، والذي يعمل بظاهر كلام المولى يكون قد أدّى إليه حقّه، ولكن لا سبيل لنا إلى إثبات أنّ هذا مدرك للعقل العمليّ في المقام المجرّد عن الشوائب والخصوصيّات، فإنّنا نحتمل أنّ ما يشعرنا بقبح مخالفة ظاهر كلام المولى هو قوّة العقل العمليّ منضمّة إلى ارتكاز حجّيّة الظهور في أذهان العقلاء ارتكازاً عميقاً طويلاً في تأريخ البشريّة وقيام سيرتهم على ذلك.

نعم، هذه الدعوى ـ أعني: دعوى رجوع ذلك إلى حكم العقل العمليّ ـ تؤيّد وتؤكّد حجّيّة الظهور. وإن شئت فقل: إنّ هذا الحكم إمّا عقليّ صرف، أو لا: فإن كان الأوّل فقد ثبتت حجّيّة الظهور، وإلّا فهو من نتائج ارتكاز جعل الحجّيّة في أذهان العقلاء الذي أصبح بدرجة من الوضوح بحيث يتخيّل كونه عقليّاً صرفاً.

 

إثبات موافقة الشارع للسيرة:

وأمّا المرحلة الثانية: فهي عبارة عن إثبات موافقة الشارع للسيرة بعد فرض ثبوتها في زمانه، والكلام في ذلك تارةً يقع بلحاظ سيرة المتشرّعة، واُخرى بلحاظ سيرة العقلاء:

أمّا سيرة المتشرّعة: فمفروض الكلام إنّما هو سيرة أصحاب الأئمّة الذين كانوا متمكّنين من أخذ الحكم من الإمام(عليه السلام) بطريق الحسّ أو ما يقرب من الحسّ، وكان دأبهم على هذا الطريق بحيث يكون افتراض اتّفاقهم عملاً على شيء خطأ مساوقاً للغفلة، والخطأ في الحسّ، أو ما يقرب منه، بأن يكون غفلة عن الفحص عن الحكم الشرعيّ ولو من باب الذهول عن احتمال كون ما يفعله خلاف الشرع، أو غفلة عن فهم ظاهر كلام الإمام ونحو ذلك. أمّا الذين يعتمدون الاجتهاد والاستنباط عادة في فهم

117

الحكم فاتّفاقهم ليس عبارة عمّا هو محلّ الكلام من سيرة المتشرّعة، وإنّما هو عبارة عن الإجماع الذي سيأتي البحث عنه ـ إن شاء الله ـ في غير هذا المقام.

والشرط الذي ذكرناه لتحقيق سيرة المتشرّعة: من كونهم يأخذون عادة الحكم من الإمام عن طريق الحسّ أو ما يقرب من الحسّ، كان متوفّراً في كثير من أصحاب الأئمّة(عليهم السلام) المعاشرين لهم ولأصحابهم، والمتكلّمين معهم ومع أصحابهم في مختلف المسائل.

فإذا تحقّقت السيرة من قبل أمثال هؤلاء الذين يكون خطأُهم خطأً عن حسّ أو ما يقرب من الحسّ فلا إشكال في أنّ سيرتهم تكشف عن الحكم الشرعيّ؛ لأنّ اتّفاق هؤلاء الجماعة على الغفلة بعيد بحساب الاحتمالات الناتج من ضرب قيمة احتمال ثبوت عامل الغفلة في أيّ واحد منهم في قيمة احتمال ثبوته في الآخر، ومن الواضح أنّ الاحتمال يضعف بالتدريج بالضرب إلى أن يصبح موهوماً، وقد حقّقنا في بحث المنطق الذاتيّ أنّ الاحتمال الموهوم يزول من النفس تلقائيّاً وفق شروط معيّنة، فيحصل القطع بعدم اجتماعهم على الغفلة بعد أن كان احتمال اجتماعهم على الغفلة أوهن من أيّ احتمال آخر في المقام؛ لأنّ الغفلات المتعدّدة بحاجة إلى علل وعوامل متعدّدة، بينما الانتباه المتعدّد تكفيه علّة واحدة عامّة تقتضي التفات الجميع، فلا يجري فيه الحساب الذي أجريناه في جانب الغفلة. ولو فرضنا عدم زوال هذا الاحتمال الموهوم فلا شكّ في حصول الاطمئنان بخلافه، والاطمئنان حجّة(1).

لايقال: إنّ الاطمئنان ليس حجّة بدليل لفظيّ، وإنّما هو حجّة بالسيرة العقلائيّة.


(1) صحيح أنّه لو كان فرضنا لعدم زوال الاحتمال الموهوم من باب إنكار كونه أهون من الاحتمالات الاُخرى التي تكون في قباله، فكلّ واحد من هذه الاحتمالات يطمأنّ بخلافه، لكن لا حجّيّة لسائر الاطمئنانات؛ لعدم ترتّب أثر شرعيّ عليها كي يقع التعارض بينها.