202

الموجبة له، فإنّ قضاءهم (عليه السلام) بالبيّنة والأيمان كثير جداً، واحتمال مطابقتها جميعاً للواقع بعيد، كما يدفعه أيضاً قوله (صلى الله عليه و آله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان، ولعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له قطعة من النار»(1). هذا مضافاً إلى أخبار كثيرة في أنّ القضاء بمثل هذا العلم إنّما هو للقائم (عليه السلام) كرواية عبيدة بن الحذاء عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: «إذا قام قائم آل محمد  حكم بحكم داود (عليه السلام) لا يسأل بيّنة»(2)...(3).

أقول: المفهوم عرفاً من هذا الحديث التامّ سنداً هو أنّ الحكم قبل الإمام القائم ؟عج؟ إنّما هو بالبيّنة لا بالعلوم الغيبيّة من سنخ المكاشفة والإلهام، وذلك إمّا من باب أنّ مَن قبل القائم ؟عج؟ لا يحصل له علم من هذا القبيل في مورد القضاء، أو من باب أنّه ليس له أن يحكم بذلك. وعلى أيّة حال فهذا البحث أيضاً _ عادةً _ خارج عن محل الابتلاء.

وقد تركّز بهذا العرض موضوع بحثنا في علم القاضي غير المعصوم بالحكم عن الطرق الاعتيادية دون الكشف والإلهام.

والآن نشرع في ذكر عمدة الأدلّة التي يمكن الاستدلال بها على أحد الطرفين:

أدلّة الحجّية

أمّا حجّية علم القاضي فيمكن الاستدلال عليها بعدّة أمور، بعد وضوح أنّ حجّية علم القاضي أو نفيها بحاجة إلى دليل؛ إذ العلم هنا نسبته إلى عدم جواز القضاء به _ لو قيل بذلك _ نسبة الموضوع إلى الحكم، وليس علماً طريقيّاً كي تكون حجّيته


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص169، الباب 2 من كيفيّة الحكم، ح 1.

(2) نفس المصدر، ص168، الباب الأول من كيفيّة الحكم، ح 4.

(3) راجع كتاب القضاء للمولى علي الكني، ص 255 _ 256.

203

واضحةً وذاتيّةً لا تقبل النفي مثلاً:

الدليل الأول _ دعوى الإجماع كما استدلّ به في الجواهر.

ومن الواضح عدم حجّية الإجماع في المقام بعد صلاحيّة الوجوه الأُخرى للمدركيّة.

الدليل الثاني _ ما جاء في الجواهر أيضاً من كون العلم أقوى من البيّنة المعلوم إرادة الكشف منها.

والظاهر أنّ المقصود هو التمسّك بالأولويّة. ولعلّه يتم الاستدلال بالنسبة لغير موارد حجّية البيّنة _ كما لو قيل بذلك بشأن المنكر _ بعدم احتمال الفصل فقهيّاً، أو يقال بأولويّة العلم من اليمين أيضاً.

وفيه: أنّه لم يثبت كون نكتة القضاء وفق اليمين نكتة الكشف محضاً؛ كي يقال بأولويّة العلم لكونه أقوى كشفاً.

والمنقول عن السيد الگلبايگاني في تقرير بحثه الذي كتبه السيد علي الميلاني بيان المطلب بصياغة أُخرى تختلف شيئاً ما عن صياغة صاحب الجواهر: وهي أنّه لئن ثبت في علم الأصول قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الكاشفيّة _ دون الصفتيّة _ فقيام القطع مقام الأمارة _ وهي الظن المأخوذ على وجه الكاشفيّة _ بطريق أولى؛ إذاً فقطع القاضي يقوم مقام البيّنة.

والحاصل أنّ البيّنة لئن كانت تقوم مقام العلم فقيام العلم الذي هو أقوى من البيّنة مقامها أولى.

إلا أنّ هذا التقريب غير مقبول لدينا مبنىً؛ لما حقّقناه في علم الأصول من عدم قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الكاشفيّة؛ إلا بمعنىً يرجع إلى القضيّة بشرط المحمول بأن يقصد بأخذ القطع موضوعاً على وجه الكاشفيّة أخذ

204

مطلق الكاشف الأعمّ من التكويني والتعبّدي موضوعاً.

وعلى أيّ حال فسواء أُخذ بهذا التقريب، أو بالتقريب الذي نقلناه عن صاحب الجواهر(رحمه الله) _ من التمسّك ابتداءً بدعوى أولويّة العلم من البيّنة لكونه أقوى منها _ يرد عليه: أنّ أقوائيّة علم القاضي من البيّنة قد تؤثّر في استظهار حجّيته لو كان المشرِّع هو القاضي نفسه، فيقال: إنّ علمه أقوى لديه من البيّنة، فإذا جعلَ البيّنةَ حجّةً فعلمه بطريق أولى، ولكن المشرّع هو شخص ثالث نسبته إلى القاضي والبيّنة على حدّ سواء وعلم البيّنة أقوى كشفاً(1) لديه من علم القاضي غير المعصوم؛ لأنّ علم عدلين أبعد عن الخطأ من علم عدل واحد.

ورأيت في كتاب «فدك» لأُستاذنا الشهيد رضوان اللّه عليه الذي ألّفه في عنفوان شبابه الالتفات إلى ما يرجع بروحه إلى هذه النكتة؛ حيث أورد على الاستدلال لحجّية علم القاضي بأقوائيّة العلم من البيّنة بقوله:

«وأُلاحظ أنّ في هذا الدليل ضعْفاً مادّيّاً؛ لأنّ المقارنة لم تقم فيه بين البيّنة وعلم الحاكم بالإضافة إلى صلب الواقع، وإنّما لوحظ مدى تأثير كلّ منهما في نفس الحاكم، وكانت النتيجة حينئذٍ أنّ العلم أقوى من البيّنة؛ لأنّ اليقين أشدّ من الظنّ، وكان حقّ المقارنة أن يلاحظ الأقرب منهما إلى الحقيقة المطلوب مبدئيّاً الأخذ بها في كلّ مخاصمة ولا يَفْضُل علم الحاكم في هذا الطور من المقايسة على البيّنة؛ لأنّ الحاكم قد يخطأ كما أن البينة قد تخطأ، فهما في شرع الواقع سواء كلاهما مظنّة للزلل والاشتباه»(2).


(1) وبتعبير أدقّ: ما يفهمه القاضي من شهادة عدلين أقوى عند المشرع من علم القاضي رغم وجود احتمال ضئيل لخطأ فهم القاضي لما هو مقصود البيّنة، بينما لا يحتمل خطأ فهمه لعلمه.

(2) فدك في التاريخ، ص 161.

205

أقول: إذا كان علم القاضي بالقضيّة علماً حسيّاً لا يبعد دعوى تعدّي العرف من نفوذ البيّنة إلى نفوذ علم القاضي؛ لأنّ علم القاضي الحسّي أقرب إلى الحقيقة والواقع _ أو قل: أقوى في نظر المشرّع _ من علم القاضي بالبيّنة، فلا إشكال في أنّ القاضي حينما يقضي بالبيّنة يقضي بعلمه بثبوت البيّنة، ولولا علمه بها لما رتّب أثراً عليها كما هو واضح، وعلمه بالبيّنة القائمة على الواقع أبعد من الواقع من علم القاضي الحسّي بالواقع مباشرةً _ بعد فرض ابعاد إحتمال خيانة القاضي _؛ لأنّ خطأ الأول له منفذان: أحدهما خطأ علمه بالبيّنة، والثاني خطأ علم البيّنة بالواقع، وخطأ الثاني له منفذ واحد وهو خطأ القاضي في علمه بالواقع.

فهذا الوجه قد يدلّ على نفوذ علم القاضي الحسّي لا مطلق علم القاضي.

والتحقيق أنّ هذه الدلالة أيضاً لا تخلو من مناقشة؛ لعدم وضوح كون هذه الأولوية بمستوىً نجزم بنفوذ علم القاضي الحسّي، أو نستظهر ذلك من دليل نفوذ البيّنة، خصوصاً وأنّ من المحتمل كون احتمال خيانة القاضي _ ولو نادراً _ داخلاً في حساب المشرّع.

الدليل الثالث _ ما جاء في الجواهر في سياق إثباته لحجّية علم الإمام في القضاء من الاستدلال بالآيات الدالّة على وجوب الحكم بالعدل: كقوله تعالى: ﴿يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ﴾(1).

وقوله تعالى: ﴿وَإِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾(2).

وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾(3).


(1) ص: 26.

(2) النساء: 58.

(3) المائده: 42.

206

هذه هي الآيات التي استشهد بها في الجواهر، ويمكن إضافة آيات أُخرى إليها، كالآية التي جاء ذكرها بهذا الصدد في كتاب «فدك» لأُستاذنا الشهيد _ أعلى اللّه مقامه _ من قوله تعالى: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنٰا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾(1) أي يحكمون، وكقوله تعالى: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾(2). وكما جاء ذكره بهذا الصدد في كتاب المولى الكني (رحمه الله) من قوله تعالى: ﴿إِنّٰا أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّٰاسِ بِمٰا أَرٰاكَ اللّٰهُ﴾(3)، واستشهد (رحمه الله) أيضاً بالآيات الثلاث: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ...*فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ...*أي: في سلام أو سالمين.فَأُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ﴾(4).

ومن قبيل هذه الآيات الروايات الناهية عن الحكم بغير ما أنزل اللّه(5)، ومرفوعة البرقي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «القضاة أربعة: ثلاثة في النار وواحد في الجنّة: رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة» ورواه في الخصال عن محمد بن موسى بن المتوكل، عن السعد آبادي، عن أحمد بن أبي عبداللّه، عن أبيه، عن ابن أبي عمير رفعه إلى أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «القضاة أربعة...» الحديث(6).


(1) الأعراف: 181.

(2) الأعراف: 159.

(3) النساء: 105.

(4) المائده: 44 _ 45 _ 47 .

(5) راجع وسائل الشيعة، ج 18، الباب 5 من صفات القاضي.

(6) نفس المصدر، الباب 4 من صفات القاضي، ح6 و7.

207

وتقريب الاستدلال بهذه الآيات والروايات هو أنّ موضوع جواز القضاء حسب ما يفهم من هذه الآيات والروايات هو العدل والحق والقسط وما أنزل اللّه وما شابه ذلك من العناوين، فالعلم بذلك يكون علماً بموضوع الحكم، ومؤدّياً إلى العلم بالحكم _ أي العلم بجواز القضاء _ فكم فرق بين أن نفترض أنّ موضوع جواز القضاء هو البيّنات والأيمان، فيقال: «لم تثبت حجّيةٌ للعلم؛ لأنّ قيام العلم مقام البيّنات والقضاء _ يعني كونه موضوعاً لجواز القضاء والعلم الموضوعي _ لا حجّية ذاتية فيه، بل لابدّ من ثبوت موضوعيّته بدليل»، وأن نفترض أنّ موضوع جواز القضاء هو نفس الحقّ والواقع، وعندئذٍ فالعلم به علم بموضوع جواز القضاء، وهذا علم طريقي بالنسبة لموضوع جواز القضاء، ويؤدّي إلى العلم بجواز القضاء، ولا يمكن الردع عن حجّيته.

لا يقال: إنّ دليل وجوب القضاء بالحقّ إنّما دلّ على أنّ متعلّق القضاء هو الحقّ؛ أمّا أنّ الحقّ هو تمام الموضوع للقضاء فلم يدل عليه، فمن المحتمل أن يكون الحقّ جزء الموضوع للقضاء، والحجّة عليه هي الجزء الآخر له؛ أي: أنّ من قضى بالحقّ بلا حجّة فهو عاصٍ وليس متجرياً، ولعلّ هذا هو المرتكز عقلائيّاً، فإذا فرضت الحجّة جزءاً للموضوع جاء احتمال أن يكون جزء الموضوع عبارة عن خصوص البيّنة واليمين، دون علم القاضي.

فإنّه يقال: إنّ القاضي لو علم بالحقّ وكانت البيّنة أو اليمين تشير إلى شيء آخر يعلم أنّه ليس بحقّ فلا يخلو الأمر من أحد فروض ثلاثة: أن تكون وظيفة القاضي القضاء بعلمه، أو القضاء بالبيّنة أو اليمين على خلاف علمه، أو أن لا يقضي أصلاً. والاحتمال الثالث غير موجود فقهيّاً، والثاني خلاف وجوب القضاء بالحقّ، فيتعيّن الأول، وهو القضاء وفق علمه. وبهذا يثبت أنّه إذا كانت الحجّة جزءاً للموضوع فليس جزء الموضوع خصوص البيّنات والأيمان، بل يكفي أيضاً علم القاضي.

208

ويمكن الاعتراض على هذا التقريب بوجهين رئيسيّين:

الوجه الأول _ ما جاءت الإشارة إليه في كلمات المحقّق العراقي (رحمه الله) من أنّه قد يكون المراد بمثل الحقّ والعدل هو الحقّ والعدل وفق مقاييس القضاء، لا الحق والعدل وفق الواقع، وكون علم القاضي من مقاييس القضاء أوّل الكلام(1).

يبقى أنّ هذا الاحتمال هل هو بحسب ذاته احتمال يقابل احتمال كون الحقّ والعدل بلحاظ الواقع، أو أنّ هذا الاحتمال _ لولا شاهد يشهد له _ خلاف الظاهر، ولكن الشاهد عليه موجود؟ يحتمل من عبارة المحقّق العراقي (رحمه الله) أن لا يرى هذا الاحتمال بحدّ ذاته قابلاً لمقابلة الاحتمال الآخر إلا بلحاظ وجود شاهد عليه، وقد جعل (رحمه الله) الشاهد على ذلك رواية «رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم...» بتقريب أنّه لو كان موضوع القضاء هو الحقّ الواقعي، لا الحقّ وفق مقاييس القضاء؛ إذاً فقضاء من قضى بالحقّ وهو لا يعلم صحيح وضعاً وتكليفاً، ولا عقاب عليه إلا بملاك التجرّي، فيجب أن نحمل هذا الحديث على عقاب التجرّي، أو على كون المقصود بالعلم هو الاجتهاد؛ فالحديث هو من أحاديث شرط الاجتهاد في القضاء، وكلّ هذا خلاف الظاهر. وحمل الحقّ والعدل في الأدلّة الأُولى على الحقّ والعدل وفق مقاييس القضاء إنْ لم يكن أولى فلا أقلّ من تساوي الاحتمالات، فيسقط الاستدلال.

وأورد عليه أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في كتاب «فدك»(2) بأنّ حديث «رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم» لا يقتضي عدم موضوعيّة الواقع للحكم، غاية ما هناك أنّه يقيّد الأدلّة الأُولى بالعلم، فيصبح الواقع جزء موضوع، والعلم به جزءاً آخر للموضوع، ولا بأس بذلك.


(1) كتاب القضاء، ص 22.

(2) ص 164 تحت الخط.

209

أقول: هذا مضافاً إلى ضعف سند الحديث.

وعلى أيّ حال فبالإمكان أن يُغضّ النظر عن الشاهد الذي ذكره المحقّق العراقي (رحمه الله)، ويقال ابتداءً: إنّنا نحتمل كون المقصود بالحقّ والعدل في المقام هو الحقّ والعدل وفق مقاييس القضاء لا وفق الواقع، فما لم يثبت ظهور الأدلّة في إرادة الحقّ والعدل وفق الواقع لا يتم الاستدلال بهذه الأدلّة، وقد أشار إلى ذلك أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في كتابه المذكور، وأجاب عنه:

أوّلاً بأنّ المتبادر من كلمة الحقّ والعدل _ وخاصّةً كلمة (الحقّ) _ هو الحقّ والعدل بحسب الواقع، لا الحق والعدل بحسب مقاييس القضاء.

وثانياً بأنّ حمل الأمر في قوله تعالى: ﴿أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾على الأمر بالحكم بما هو عدل بمقاييس القضاء، يعني حمله على الأمر الإرشادي؛ إذ هذا يعني الأمر بالعمل بمقاييس القضاء وقوانينه فى حين أنّ نفس وضعها قانوناً للقضاء يعني لزوم تطبيقها؛ فالأمر بالتزام القانون أمر إرشادي نظير الأمر بالطاعة، فظهور الأمر في المولويّة يقتضي حمل العدل على العدل بحسب الواقع(1).

أقول: لو آمنّا بأنّ كلمة (العدل) بحدّ ذاتها مجملة مردّدة بين المعنيين دخل اتصالها ݣݣبالأمر في اتّصال ما يصلح للقرينيّة على إرشاديّة الأمر، وهذا يوجب الإجمال، على أنّ إرشاداً من هذا القبيل _ أي من قبيل الأمر بالطاعة والتخويف بالنار ونحو ذلك _ داخل أيضاً في شؤون المولى سبحانه كمولويّته، فلا نقبل ظهور الأمر في المولويّة في قبال الإرشاديّة بهذا المعنى. وببالي _ على ما أتذكّر أنّه _ تغمّده اللّه برحمته نبّه على هذه النكتة في بعض أبحاثه الأصوليّة التي أدلى بها بعد كتابه (فدك) بسنين كثيرة.


(1) راجع كتاب فدك، ص 163 _ 164.

210

وعلى أيّ حال فالجواب الأول _ وهو دعوى تبادر إرادة الحقّ والعدل بحسب الواقع _ صحيح. وبتعبير آخر يفهم من كلمة ( الحقّ والعدل) ما هو حقّ وعدل في ذاته، لا الحقّ والعدل النسبيّان، أي بالنسبة لمقاييس القضاء.

فإن قلت: إنّ هناك قرينة ارتكازيّة كالمتّصلة تدل على أنّ المراد هو الحقّ والعدل بلحاظ خصوص مقاييس القضاء وهي وضوح أنّ القضاء ليس دائماً بالحقّ الواقعي، بل في كثير من الأحيان يكون وفق البيّنات والأيمان وغيرهما من مقاييس القضاء ممّا لا يُثبت إلا الحقّ بمقاييس القضاء، لا الحقّ في ذاته.

قلت: إنّ الآيات والروايات بحدّ أنفسها تدل على القضاء بالحق الواقعي كما عرفت، وليس وضوح حجّية مقاييس القضاء بمعنى وضوح حجّيتها لإثبات أنّ الحكم الواقعي بشأن القاضي هو القضاء وفقها، بل من المحتمل أن تكون حجّيتها حجّيةً ظاهريّةً تحكم الواقع حكومة ظاهرية سنخ حكومة دليل الأمارات والأصول على الواقع، والحكومة الظاهريّة لا تمتدّ إلى فرض العلم بالخلاف.

ولو استظهر من دليل مقاييس القضاء أنّها أحكام واقعيّة بشأن قضاء القاضي لا يجوز له تخطّيها حتى مع العلم بالخلاف، فهذا يعني الحصول على دليل منفصل على عدم حجّية علم القاضي، والمفروض بنا أن نبحثه بعد ذلك ضمن أدلّة عدم حجّية علم القاضي، وليس قرينةً ارتكازيّةً كالمتّصلة تُبطِل دلالة هذا الدليل على حجّية علم القاضي.

إن قلت: إنّ كلمة (الحقّ) مثلاً في الأمر بالقضاء بالحقّ إن حملت على معنى المفعول به دلّت على وجوب القضاء بالحقّ الواقعي لما افترضناه من ظهور الحقّ في الحقّ في ذاته، لا الحقّ وفق مقاييس القضاء، ولكن من المحتمل حملها على معنى المفعول المطلق من قبيل قولنا: (مشى زيد بسرعة) أي: (مشى مشياً سريعاً)، وهذا

211

يعني الأمر بالقضاء قضاءً حقّاً، ومن الواضح أنّ القضاء الحقّ في ذاته يعني القضاء وفق المقاييس القضائيّة.

قلت: حمل ذلك على مفاد المفعول المطلق واستعمال جملة (مشى زيد بسرعة) بهذا المعنى لا أعرف مدى صحّته في اللغة العربية.

نعم، لا شكّ في صحّة هذا التعبير: (مشى زيد بسرعة) بمعنى الظرفية والحال أي في سرعة أو مُسرِعاً، كقوله تعالى: ﴿اُدْخُلُوهٰا بِسَلاٰمٍ آمِنِينَ﴾(1) أي: في سلام أو سالمين.

نعم، ورد في الحديث: «لَسيرةُ علي (عليه السلام) في أهل البصرة كانت خَيراً لشيعته ممّا طلعت عليه الشمس؛ أنّه علم أنّ للقوم دولة فلو سباهم لسبيت شيعته. قلت: فأخبرني عن القائم (عليه السلام) يسير بسيرته؟ قال: لا، إنّ عليّاً سار فيهم بالمنّ لما علم من دولتهم، وإنّ القائم يسير فيهم بخلاف تلك السيرة؛ لأنّه لا دولة لهم»(2). وفي حديث آخر: «إنّ القائم إذا قام بأيّ سيرة يسير في الناس؟...»(3) ونحوهما غيرهما(4).

ولكن الظاهر أنّ المقصود بالسيرة العمل الذي سار عليه علي (عليه السلام)، لا السيرة بالمعنى المصدري، وإن شئت فعبّر عن ذلك بـ (اسم المصدر)؛ فالفعل قد تعدّى إليه بالباء وليس مفعولاً مطلقاً. وعلى أيّ حال فلا شكّ أنّ حمل كلمة (بالحقّ) و(بالعدل) ونحو ذلك فيما نحن فيه على معنى المفعول المطلق لو كان صحيحاً فهو عند إمكانيّة الحمل على المفعول به خلاف الظاهر جدّاً.


(1) الحجر: 46.

(2) وسائل الشيعة، ج 11، ص57، الباب 25 من جهاد العدو، ح 1 و2.

(3) نفس المصدر.

(4) راجع نفس المصدر، ص57 _ 59.

212

ثم إنّ المحقّق العراقي (رحمه الله) بعد إبدائه لاحتمال كون المراد بمثل (الحقّ) و(العدل) هو الحقّ والعدل وفق المقاييس الواقعية، لا في ذاته أبرز قرينة في خصوص رواية: «رجل قضى بالحقّ وهو يعلم» على أنّ المقصود بذلك هو الحقّ في ذاته لا الحقّ وفق مقاييس القضاء، وذلك بقرينة الفقرة الأُخرى وهي: «رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم»؛ إذ المقصود بالحقّ في هذه الفقرة هو الحقّ في ذاته، لا الحقّ وفق مقاييس القضاء؛ فإنّ من قضى بالحقّ وهو لا يعلم لم يقض وفق مقاييس القضاء؛ لأنّ من جملة مقاييس القضاء كما تدل عليه هذه الرواية هو أن لا يقضي بلاعلم، فبقرينة هذه الفقرة نعرف: أنّ المقصود بالحقّ في الفقرة الأُخرى أيضاً _ وهي قوله: «رجل قضى بالحقّ وهو يعلم» _ هو الحقّ في ذاته، وقد حكم بأنّه في الجنّة، وإطلاقه يشمل من قضى بالحقّ في ذاته بعلمه، لا ببيّنة أو يمين.

أقول: لا إشكال في أنّ المقصود بالحقّ في قوله: «قضى بالحقّ وهو لا يعلم» ليس الحقّ وفق مقاييس القضاء بما فيها نفس المقياس المعطى في هذا الحديث، وإلا لما كان قاضياً بالحقّ؛ لأنّه خالف المقياس المعطى في هذا الحديث، لكن يبقى الأمر دائراً بين أن يكون المقصود هو الحقّ في ذاته أو الحقّ وفق المقاييس العامّة للقضاء غير المقياس المعطى بهذا الحديث كمقاييس البيّنة والأيمان بأن يكون المقصود: مَنْ قضى وفق المقاييس العامّة _ من البيّنة والأيمان ونحوهما بالشكل الثابت في باب القضاء _ ولكنّه لم يكن يعلم بذلك، فهو في النار.

وعلى أيّ حال فقد أشرنا إلى أنّ الحديث ضعيف السند.

الوجه الثاني _ ما ذكره أيضاً المحقّق العراقي (رحمه الله) وهذا الإشكال يرجع إلى علم القاضي غير المعصوم: وهو أنّه بعد تماميّة دلالة تلك الآيات والروايات، أو خصوص رواية «قضى بالحقّ وهو يعلم» على كون الواقع موضوعاً للقضاء، فهذا وإن كان

213

لازمه حجّية علم القاضي لنفسه لإثبات جواز القضاء بما علم بحقّانيته، ولكن هذا المقدار لا يُثبت ما هو الظاهر من كلمات مَنْ جَعَل العلم ميزاناً في قبال البيّنة واليمين؛ من أنّ العلم _ كالبيّنة واليمين _ يوجب فصل الخصومة بحيث لا تُقبل إقامة الدعوى والبيّنة مرّةً أُخرى على خلاف ما قضى به القاضي.

توضيح ذلك: أنّ البيّنة حجّة تُثبت المدّعى لدى الشكّ لكلّ أحد، وحجّيّتها تعبّديّة، لا وجدانيّة خاصّة بشخص دون آخر، فلو حكم القاضي وفقها فقد قامت الحجة وانتهت الخصومة، وليس لشخص آخر يشكّ في مطابقة حكم القاضي الأول للواقع أن ينظر مرّةً أُخرى في الدعوى، يطالب ببيّنة أو يمين. أمّا العلم فحجّيّته خاصّة بالعالم، أمّا الشخص الآخر الذي يشكّ في مطابقة علم القاضي للواقع فقد شكّ في موضوع القضاء الذي قضى به ذاك الحاكم وهو الواقع، ولا حجّة له تثبت الواقع تعبّداً؛ إذاً من حقّه أن ينظر مرّةً أُخرى في دعوى من يدّعي عدم مطابقة حكم الحاكم الأول للواقع وعدم تماميّة موضوع جواز القضاء وهو الواقع، ويسمع البيّنات والأيمان، فصحّ القول بأنّ العلم ليس ميزاناً للقضاء كالبيّنة واليمين، فالبيّنة واليمين يخصمان النزاع وينهيانه بخلاف العلم.

صحيحٌ أنّه مع الشكّ في مطابقة علم القاضي للواقع وبالتالي في صحّة قضائه تجري أصالة الصحّة، كما أنّه مع الشكّ _ في كون القاضي قد قضى حقّاً وفق نظام البيّنات والأيمان أو لا _ تجري أصاله الصحّة، لكن أصالة الصحّة لا تمنع عن سماع دعوى من يخالف الأصل والنظر لمعرفة أنّ لديه دليلاً على خلاف الأصل أو لا.

نعم، لو ادّعي الإجماع على الملازمة بين جواز القضاء وبين نفوذه وضعاً في حقّ غيره، وقد فرض في المقام جواز القضاء بالعلم لحجّيّته للقاضي، ثبت نفوذه وعدم بقاء مجال لسماع الدعوى من قبل قاضٍ آخر، إلا أنّ عهدة إثبات هذا الإجماع على مدّعيه.

214

فتحصّل أنّ تلك الآيات والروايات إن أثبتت جواز القضاء بالعلم فلا تثبت إنهاء النزاع بحيث لا يحقّ لقاضٍ آخر النظر في الدعوى، كما هو الحال في البيّنات والأيمان.

وعليه فلا يبقى في البين عدا دعوى الإجماعات المتكرّرة في الكلمات، أو دعوى تنقيح المناط في ميزانيّة البيّنة واليمين بالنسبة للعلم مطلقاً، والعهدة في إثبات الجهتين على مدّعيهما(1).

أقول: إنّ هذا الكلام إنّما يتمّ لو كان دليلنا على نفوذ القضاء _ وعدم جواز نقضه من قبل قاضٍ آخر شاكٍّ في صحّة القضاء الأول _ هو حجّية البيّنة عليه، ولكن كما لا يجوز للقاضي الآخر نقض حكم القاضي الأول والنظر في الدعوى مرّةً ثانيةً لدى شكّه في صحّة حكم القاضي الأول، كذلك لا ينبغي الإشكال في أنّه لا يجوز للمحكوم عليه مخالفة حكم القاضي بمثل سرقة مال المحكوم له قصاصاً حتى مع قطعه بخطأ القاضي، وهذا لا يمكن تفسيره بحجّيّة البيّنة؛ إذ البيّنة لا تكون حجّةً مع القطع بالخلاف، فلابدّ من وجه آخر يدل على نفوذ الحكم وحجّيته حتى في هذا الفرض، ولعلّ ذاك الوجه يدل أيضاً على نفوذه بالنسبة للقاضي الثاني لدى الشكّ بحيث لا يجوز له تجديد النظر ونقض الحكم على تحقيق وتفصيل في مسألة مدى نفوذ حكم القاضي يبحث عنه في محلّه.

والواقع أنّ هنا دليلين آخرين على نفوذ القضاء وعدم جواز نقضه:

أحدهما _ الارتكاز المتشرّعي، وكذلك العقلائي الممضى بعدم الردع، الدالّ على أنّ القضاء جعل لفصل الخصومة وإنهائها، وهذا يدل على عدم جواز نقض الحكم من قبل المحكوم عليه القاطع بالخلاف، ومن قبل القاضي الثاني الشاكّ في صحّة


(1) راجع كتاب القضاء للمحقق العراقي، ص 23 _ 24.

215

القضاء إذا كان الحكم وفق مقاييس القضاء من دون فرق بين أن يكون ذاك المقياس عبارةً عن البيّنة أو اليمين، أو يكون عبارةً عن علم القاضي.

وثانيهما _ قوله في مقبولة عمر بن حنظلة: «إذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه، وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على اللّه، وهو على حدّ الشرك باللّه»(1)، فمن الواضح جدّاً أنّ هذا الخطاب لا أقلّ من أنّه يريد تحريم نقض الحكم على الخصمين حتى المدّعي منهما للقطع بخطأ الحكم أو احتماله، وهذا لا يمكن أن يكون إلا بأن يكون المراد في خصوص هذا الحديث من كلمة: (حكمنا) هو الحكم وفق مقاييس القضاء لا الحكم في الواقع، وإلا فلا يمكن إسكات الخصم بذلك؛ إذ هو يدّعي القطع بانتفاء الموضوع أو احتماله؛ إذاً فهذا الحديث يحرّم بإطلاقه على القاضي الثاني نقض قضاء قاضٍ يحكم وفق مقاييس القضاء من دون فرق بين البيّنة واليمين، أو العلم الثابت مقياسيّته بغير هذا الحديث ممّا مضت الإشارة إليه من الروايات والآيات.

الدليل الرابع _ ما جاء في الجواهر أيضاً من أنّه لو لم نقل بجواز القضاء وفق العلم لزم فسق الحاكم، أو إيقاف الحكم، وهما معاً باطلان؛ وذلك لأنّه إذا طلّق زوجته ثلاثاً مثلاً بحضرته ثم جحد كان القول قوله مع يمينه، فإن حكم بغير علمه وهو استحلافه وتسليمها إليه لزم فسقه، وإلا لزم إيقاف الحكم.

أقول: تارةً يفرض الفسق في أصل الحكم، وأُخرى يفرض الفسق في تنفيذه، فإن فرض الفسق في أصل الحكم كان هذا مصادرة على المطلوب؛ إذ لو كان العلم غير داخل في مقاييس الحكم وكان يجب الحكم وفق البيّنات والأيمان فلا فسق في ذلك.


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص99، الباب 11 من صفات القاضي، ح 1.

216

وقد يقال: إنّ المقصود بهذا الوجه هو دعوى أنّ من المرتكز فقهيّاً ومتشرّعيّاً _ بحيث لا يمكن التشكيك فيه _ كون الحكم بالزوجيّة في هذا الفرض مع القطع بالزنا فسقاً، كما أنّ من المرتكز أنّ إيقاف الحكم غير صحيح، فينحصر الأمر في الحكم على وفق العلم. وهذا الكلام يعني في روحه دعوى قيام الارتكاز الفقهي والمتشرّعي على نفوذ علم القاضي فيما إذا كان حكمه بغير علمه يؤدّي إلى الحكم بالحرام على المحكوم عليه، ثم يجعل هذا دليلاً على نفوذ علم القاضي مطلقاً بالإجماع المركّب.

ولكن قلنا في ما سبق: إنّ الإجماع في هذه المسألة لا قيمة له؛ لاحتمال مدركيّته على أقلّ تقدير.

فإذاً يجب استبدال الإجماع المركّب في المقام بدعوى ارتكاز فقهي ومتشرّعي آخر وهو ارتكاز عدم الفصل في نفوذ علم القاضي بين مورد ومورد.

وهذا يعني في واقعه دعوى الارتكاز المتشرّعي والفقهي ابتداءً على نفوذ علم القاضي، فليس هذا الوجه على أفضل تقدير إلا إلفاتاً للنظر إلى هذا الارتكاز، لا دليلاً في ذاته على المطلوب.

وإن فرض الفسق في التنفيذ فنظير هذا الإشكال وارد بالنسبة للمحكوم عليه حتى إذا حكم الحاكم بعلمه، أو حكم بالبيّنات والأيمان عند عدم علمه لو نفّذه المحكوم عليه على نفسه، كما لو حكم الحاكم بعلمه أو بالبيّنة على امرأة بأنّها زوجة فلان وهي تعلم بالخطأ، فلو نَفَّذَت الحكم بالتمكين من ذاك الرجل فقد وقعت _ حسب علمها _ في الزنا، وهذه مسألة يجب أن نبحثها في المستقبل إن شاء اللّه تحت عنوان: (مدى نفوذ حكم القاضي) كي نرى أنّ حكم الحاكم بالنسبة لمن ينفذ عليه حتى مع علمه بالخلاف هل ينفذ حتى مع علمه بحرمة ما يقع فيه بالعنوان الأوّلي؛ أي إنّ قضاء الحاكم يرفع الحرمة واقعاً أو لا؟ فإن قلنا بالأوّل ارتفع الإشكال

217

في المقام أيضاً؛ إذ إجبار القاضي للزوجة على التسليم للمطلِّق ليس إجباراً لها على الفسق كي يكون فسقاً. وإن قلنا بالثاني أشكل في المقام التفصيل بين حقّ القضاء وحق التنفيذ _ بأن يكون للقاضي حقّ القضاء، ولا يكون له حقّ التنفيذ _ فإنّ هذا بعيد عن الفهم المتشرّعي.

وهذا يرجع في روحه إلى التمسّك بالدلالة الالتزامية _ الثابتة في العرف المتشرّعي لدليل حرمة الإجبار على الحرام _ على جواز القضاء بالعلم، وبعد هذا نحتاج إلى التعدّي إلى غير موارد استلزام الإجبار على الحرام بالإجماع المركّب، أو ارتكاز عدم الفصل.

الدليل الخامس _ ما جاء في الجواهر أيضاً من أنّ عدم القضاء بالعلم يؤدّي إلى عدم وجوب إنكار المنكر، وعدم وجوب إظهار الحقّ مع إمكانه.

أقول: مجرّد الإنكار باللسان وإظهار الحقّ باللسان يمكن للقاضي أن يصنعه بنصح الخصم الذي يدّعي الباطل بالاعتراف والتنازل للحقّ والإقرار به. أمّا الإنكار باليد وإجبار المبطل على رفع اليد عن باطله، فإن قلنا بقيام دليل لفظي على وجوب ذلك دلّ ذاك الدليل بالالتزام على نفوذ علم القاضي في القضاء، أمّا إذا كان الدليل على ذلك هو الارتكاز المنضمّ إلى ارتكاز عدم معقوليّة قضاء القاضي بشيء وتنفيذه لشيء آخر، فهذا الدليل يصبح منبّهاً للارتكاز، لا دليلاً في ذاته على المطلوب.

الدليل السادس _ ما جاء في الجواهر أيضاً من أنّ أدلّة الحدود توجب على الحاكم إجراء الحدّ على المرتكب الواقعي لما فيه الحدّ؛ لأنّ تلك الأدلّة منصبّة على عنوان فاعل الفعل كالسارق والزاني، فمتى ما علم الحاكم بتحقّق العنوان فقد علم بضرورة إجراء الحدّ ولو لم تَقُمْ بيّنةً؛ إذاً فللحاكم أن يعمل بعلمه في باب الحدود، ثم نتعدّى إلى غير باب الحدود بالأولويّة.

218

أقول: الحدّ الراجع إلى حقّ اللّه تعالى كما في حدّ الزنا لا يمكن التعدّي منه إلى حقوق الناس؛ إذ من المحتمل كون علم القاضي حجّة فيه وغير حجّة في حقوق الناس، كما يحتمل العكس أيضاً. أمّا بناءً على كون حدّ السرقة أو حدّ القذف مثلاً من حقوق الناس فيمكن التعدّي من ذلك إلى غير باب الحدود.

الدليل السابع _ أن يقال: إنّ الأدلّة التي جعلت البيّنات والأيمان ونحوهما مقياساً للقضاء مقتضى إطلاقها كون واقع تلك الأمور مقاييس تامّة؛ أي إنّ القاضي سيقضي وفق علمه بها ولو أنكرها أحد الخصمين، ولا يحتمل العرف الفرق بين علم القاضي بالبيّنة أو اليمين أو علمه بالواقع رأساً، فاذا كان علمه بمثل البيّنة أو اليمين حجّة، ولا يطالَب بالإثبات، كذلك علمه بالواقع يكون حجّة بالدلالة الالتزامية العرفية لدليل حجّية علمه بالبيّنة واليمين.

إلا أنّ هذه الدلالة الالتزامية العرفية التي يمكن دعواها في المقام ليست بذاك المستوى من الوضوح؛ إذ لابدّ _ في نهاية الأمر _ من الرجوع إلى علم القاضي ولو في خصوص الكشف عن تحقّق مقاييس القضاء كي تستقرّ الأمور، فلعلّه اقتصرت الشريعة في مقام الاستناد إلى علم القاضي على أقلّ مقدار ممكن في نظرها، وهو الاستناد إلى علم القاضي بتحقّق المقاييس والتي تقلّ نسبة وقوع الخلاف فيه بالقياس إلى نفس الواقع الذي كان المفروض عادةً الخلاف بين الخصمين بلحاظه، فلعلّه لم تُعطِ للقاضي صلاحيّة الاستناد إلى علمه في الدائرة الواسعة، وأعطتها في الدائرة الضيقة كي تنتظم الأمور وتستقرّ.

الدليل الثامن _ ما رواه الكليني عن علي بن محمد، عن محمد بن أحمد المحمودي، عن أبيه، عن يونس، عن الحسين بن خالد، عن أبي عبداللّه (عليه السلام)، قال: «سمعته يقول: الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن

219

يقيم عليه الحدّ، ولا يحتاج بيّنة مع نظره؛ لأنّه أمين اللّه في خلقه. وإذا نظر إلى رجل يسرق أن يزجره وينهاه ويمضي ويدعه. قلت: وكيف ذلك؟ قال: لأنّ الحقّ إذا كان للّه فالواجب على الإمام إقامته، وإذا كان للناس فهو للناس»(1).

والكلام يقع في هذا الحديث تارةً في السند، وأُخرى في الدلالة:

أمّا السند _ فعلي بن محمد من مشايخ الكليني (رحمه الله) وقد روى عنه روايات كثيرة جدّاً من دون ذكر لقب له أو جدّ.

واسم علي بن محمد قد ورد في الكافي راوياً عنه الكليني مباشرةً بعدّة أشكال:

أوّلها _ ما ذكرناه من اسم علي بن محمد من دون ذكر لقب أو جدّ، وهذا هو الغالب في الكافي، والراوي عنه الكليني كثيراً.

والثاني _ علي بن محمد بن بندار، وقد روى عنه الكليني (رحمه الله) في الكافي كثيراً، إلا أنّها لا تصل في الكثرة إلى رواياته عن علي بن محمد بقول مطلق.

والثالث _ علي بن محمد بن عبداللّه، وقد روى الكليني (رحمه الله) عنه كثيراً أيضاً في الكافي، إلا أنّ رواياته عن علي بن محمد بن بندار أكثر ويقرب من ضعف رواياته عن علي بن محمد بن عبداللّه.

والرابع _ علي بن محمد بن عبداللّه القمّي، وقد روى عنه الكليني (رحمه الله) روايتين في الكافي، في باب الإجمال في الطلب من كتاب المعيشة(2).

وقد ذكر الشيخ الحرّ العاملي (رحمه الله) في خاتمة الوسائل ما نصّه:

«واعلم أنّه قال في كتاب العتق من الكافي في جملة من النسخ هكذا:


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص344، الباب 32 من مقدّمات الحدود، ح3.

(2) الكافي، ج 5، ص81، كتاب المعيشة، باب الاجمال في الطلب، ح7 و8.

220

عدّة من أصحابنا(1): علي بن إبراهيم، ومحمد بن جعفر، ومحمد بن يحيى، وعلي ابن محمد بن عبداللّه القمّي، وأحمد بن عبداللّه، وعلي بن الحسن(2)جميعاً عن أحمد ابن محمد بن خالد»(3). ونقل الأردبيلي (رحمه الله) نحو ذلك عن الكافي (باب المملوك بين الشركاء يعتق أحدهم نصيبه)(4).

ولكن لم أرَ هذا التعبير في النسخة الموجودة عندي من الكافي وهي طبعة الآخوندي، وإنّما الموجود في هذه النسخة قوله في الحديث الخامس من ذاك الباب: عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد....

وقد ورد أيضاً عن الكليني (رحمه الله) تعبير خامس وهو التعبير بعلي بن محمد بن أُذينة، وهذا غير وارد في الكافي صريحاً؛ إلا أنّ العلّامة (رحمه الله) ذكر في الخلاصة نقلاً عن الكليني (رحمه الله) _ وكأنّه أخذه من فهرستٍ معروفٍ في زمانه أو نحو ذلك _ أنّه قال: وكلّ ما ذكرته في كتابي المشار إليه: عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد ابن خالد البرقي فهم: علي ابن إبراهيم وعلي بن محمد بن عبداللّه بن أُذينة وأحمد بن عبد اللّه ابن أبيه(5) وعلي ابن الحسن(6).

وهذا النقل من قبل العلّامة (رحمه الله) عن الكليني يؤيّد كون المقصود بعلي بن محمد ابن عبداللّه القمي هو علي بن محمد بن عبداللّه بن أُذينة.


(1) في وسائل الشيعة، الطبعة الجديدة: عن علي بن إبراهيم وكلمة (عن) زائدة وخطأ من الناسخ.

(2) ورد في بعض النسخ: علي بن الحسين.

(3) وسائل الشيعة، ج 20، ص 34.

(4) جامع الرواة، ج 2، ص 466.

(5) ورد في بعض النسخ: ابن أميّة.

(6) ورد في بعض النسخ: علي بن الحسين.

221

كما ورد أيضاً التعبير بعلي بن محمد بن علان في عدّة الشيخ الكليني الذي ينقل بواسطتهم عن سهل بن زياد، والظاهر أنّه علي بن محمد بن إبراهيم بن أبان الرازي الكليني، الذي وثّقه النجاشي.

وعلى أيّ حال فالكلام يقع في أنّه هل هناك طريق لتوثيق علي بن محمد الذي أكثر الكليني الحديث عنه في الكافي أو لا؟

الذي شاهدناه في كتب الرجال ممّا يمكن إرجاعه إلى هذا الصدد هو ما جاء في رجال النجاشي في ترجمة علي بن أبي القاسم، حيث قال: «علي بن أبي القاسم عبداللّه بن عمران البرقي المعروف أبوه بماجيلويه، يكنّى أبا الحسن، ثقة فاضل أديب، رأى أحمد بن محمد البرقي، تأدّب عليه، وهو ابن بنته»(1).

أقول: الظاهر _ كما ذكر السيد الخوئي في رجاله _ أنّ المقصود بعلي بن أبي القاسم هو علي بن محمد بن أبي القاسم(2) نسب إلى جدّه _ إن لم يحمل على الخطأ في النسخة _، والدليل على ذلك كلام النجاشي نفسه في ترجمته لمحمد بن أبي القاسم عبيداللّه بن عمران الجنابي حيث قال: محمد بن أبي القاسم عبيداللّه بن عمران الجنابي البرقي أبو عبداللّه الملقّب ماجيلويه، وأبو القاسم يلقّب بندار سيّد من أصحابنا القمّيين، ثقة عالم فقيه عارف بالأدب والشعر والغريب، وهو صهر أحمد بن أبي عبداللّه البرقي على ابنته وابنه علي بن محمد منها، وكان أخذ عنه العلم والأدب(3).


(1) رجال النجاشي، طبعة الداوري، ص184.

(2) قد يؤيّد هذا الفهم فهم العلّامة (رحمه الله) في الخلاصة، حيث جاء فيه (علي بن محمد بن أبي القاسم عبداللّه بن عمران البرقي المعروف أبوه ماجيلويه أبو الحسن ثقة فاضل فقيه أديب).

(3) رجال النجاشي، طبعة الداوري، ص 250.

222

أقول: الظاهر أنّ عبيداللّه هو عبداللّه، فإمّا إنّ هذا محمول على اختلاف النسخ، أو تعدّد الاسم ونحو ذلك، ويؤيّد هذا كلام النجاشي نفسُه في عمران البرقي الجنابي حيث قال: عمران البرقي الجنابي (أو الجبابي أو الجبائي) أبو محمد جدّ محمد بن أبي القاسم عبداللّه بن عمران...(1).

هذا ويظهر من مجموع هذه النصوص: أنّ هناك شخصاً واحداً هو علي بن محمد بن بندار وهو علي بن محمد بن عبداللّه؛ إذ عرفت أنّ النجاشي لقّب جدّ علي بن محمد وهو عبداللّه والمكنّى بأبي القاسم ببندار، فإذا افترضنا أنّ علي بن محمد الذي ينقل عنه الكليني كثيراً وروى عنه الحديث الذي نحن بصدده هنا هو نفسه علي بن محمد بن بندار الذي روى عنه كثيراً أيضاً وهو علي بن محمد بن عبداللّه الذي روى عنه كثيراً أيضاً، فقد ثبتت بذلك وثاقته؛ لما مضى من تصريح النجاشي بوثاقة علي بن أبي القاسم عبداللّه بن عمران البرقي المقصود به علي بن محمد بن عبداللّه بن عمران البرقي، والذي هو متّحد مع علي بن محمد بن بندار، وبهذا تثبت وثاقة المعنون بكلّ هذه العناوين الثلاثة الواردة في الكافي، وهذا ما استظهره السيد الخوئي في رجاله؛ حيث استظهر وحدة أسماء الثلاثة المروي عنهم في الكافي من قبل الكليني مباشرةً.

نعم، استظهر مغايرة العنوان الرابع _ وهو علي بن محمد بن عبداللّه القمّي _ الوارد في روايتين في الكافي للعناوين السابقة.

وشاهده على المغايرة أنّه روى في الكافي في باب الإجمال في الطلب من كتاب المعيشة قبل الروايتين مباشرة رواية علي بن محمد عن سهل، ثم ذكر رواية علي بن محمد بن عبداللّه القمّي عن أحمد بن أبي عبداللّه، ثم ذكر الرواية الثانية عنه (والضمير


(1) نفس المصدر، ص 207

223

راجع إلى أحمد بن أبي عبداللّه يعني أنّ الراوي هو علي ابن محمد بن عبداللّه القمّي، عن أحمد بن أبي عبداللّه) عن ابن فضّال، ثم ذكر مباشرةً رواية أُخرى عن علي بن محمد، عن ابن جمهور يقول السيد الخوئي: «والظاهر من هذه العبارة أنّ علي بن محمد بن عبداللّه القمي مغاير لمن ذكر قبله وبعده، واللّه العالم»(1).

أقول: الرواية عن علي بن محمد بعد الروايتين ليست قرينة على التعدّد؛ لأنّ الرواية الثانية من الروايتين ابتدأت بكلمة (عنه)، والضمير راجع إلى أحمد بن أبي عبداللّه، فهو (رحمه الله) مضطرّ بعد ذلك إذا أراد الحديث عن علي بن محمد إلى تكرار الاسم، وإذا كرّر الاسم جاز حذف الجدّ واللقب اعتماداً على ما سبق.

وعلى أي حال فالقرينة التي نحن أشرنا إليها أقوى، فإنّها تشير إلى أنّ المقصود بعلي ابن محمد بن عبداللّه القمّي هو علي بن محمد بن عبداللّه بن أُذينة، وهذا يعني أنّه غير علي بن محمد بن عبداللّه بن عمران.

أمّا ما استظهره السيد الخوئي من وحدة العناوين الثلاثة في عبارة الكافي فلا يبعد صحّة استظهار الوحدة بين علي بن محمد وعلي بن محمد بن بندار حتى لو كان علي بن محمد بن عبداللّه شخصاً آخر، وذلك لأنّ كثرة نقل الكليني عن علي بن محمد بن بندار تكون قرينةً على انصراف علي بن محمد في لسانه في الكافي إليه كما قاله السيد الخوئي (رحمه الله)، ونقلُهُ عن علي بن محمد بن عبداللّه وإن كان كثيراً أيضاً، ولكن نقله عن علي بن محمد بن بندار أكثر منه إلى حدّ الضعف تقريباً، وبهذا تثبت وثاقة علي بن محمد الوارد في حديثنا.

أمّا وحدة علي بن محمد بن عبداللّه وعلي بن محمد بن بندار بدعوى الانصراف


(1) معجم رجال الحديث، ج 12، ص 166

224

أيضاً لكثرة نقله عن علي بن محمد بن بندار فغير واضحة. صحيح أنّ شخصاً واحداً كان مسمّىً بعبداللّه وببندار، لكن احتمال أن يكون علي بن محمد _ الذي هو ابن لعبداللّه المسمّى ببندار _ معروفاً بعلي بن محمد بن بندار، ويكون علي بن محمد بن عبداللّه القمّي (أو قُل: علي بن محمد بن عبداللّه بن أُذينة) هو المعروف بعلي بن محمد بن عبداللّه وارد لا رافع له.

والحاصل أنّ عنوان (علي بن محمد) مطلق، بمعنى تجريده عن ذكر قيوده الواقعية (لا بمعنى المطلق الحَكَمي)، ومطلق من هذا القبيل منصرف إلى من يكثر ذكره في كلام المُطلِق، ولكن (علي بن محمد بن عبداللّه) و(علي بن محمد بن بندار) قيّد كلّ منهما بقيد غير قيد الآخر أي نسب أحدهما إلى عبداللّه، ونسب الآخر إلى بندار، واحتمال كون الدافع إلى ذلك التمييز بينهما _ رغم أنّ بنداراً مسمّىً بعبداللّه _ موجود؛ بأن يكون أحدهما مشهوراً بهذا الاسم والآخر بذاك الاسم.

وقد تحصّل من كل ما ذكرناه أنّه متى ما روى الكليني عن علي بن محمد بن بندار فهو عبارة عن علي بن محمد بن عبداللّه، الذي مضى عن النجاشي توثيقه، ومتى ما روى عن علي بن محمد بن عبداللّه، أو علي بن محمد بن عبداللّه القمّي فلا دليل على التوثيق، ومتى ما روى عن علي بن محمد فلا يبعد انصرافه إلى علي بن محمد ابن بندار الثقة.

هذا تمام الكلام في علي بن محمد الوارد في أوّل سند حديثنا.

وقد ورد بعده محمد بن أحمد المحمودي عن أبيه، ولا دليل على وثاقة محمد بن أحمد المحمودي عدا توقيع الإمام أبي محمد العسكري (عليه السلام) بنقل الكشي عن بعض الثقات، وقد جاء فيه: (واقرأه علی المحمودي فما أحمدناله لطاعته) كما لا دليل على حُسن حال أبيه عدا ما نقله الكشي عن ابن مسعود عن المحمودي أنّ أبا جعفر (عليه السلام)

225

كتب إليه بعد وفاة أبيه: (قد مضى أبوك رضي الله عنه وعنك وهو عندنا على حالة محمودة، ولن تبعد من تلك الحالة).

وأمّا يونس فلا إشكال في جلالته.

وأمّا الراوي المباشر وهو الحسين بن خالد فسواء كان المقصود به الحسين بن خالد الصيرفي، وهو المعروف بالحسين بن خالد، أوكان المقصود به الحسين بن أبي العلاء بقرينة روايته عن الصادق (عليه السلام) فهو ثقة؛ إذ روى عن الثاني الأزدي والبجلي، وروى عن الأول كلّ الثلاثة.

وعلى أيّ حال فقد اتّضح بهذا العرض أنّ سند الحديث لا يخلو من إشكال؛ لعدم ثبوت دليل واضح على وثاقة أبي المحمودي.

وأمّا الدلالة _ فقد يقال: إنّ الرواية إنّما دلّت على نفوذ علم الحاكم في حقوق اللّه؛ لأنّ الحقّ إذا كان للّه فالواجب على الإمام إقامته _ على حدّ تعبير الرواية _ أمّا حقوق الناس فليست مورداً لما في هذه الرواية من الحكم بنفوذ العلم، بل قد تدل على التفصيل بينهما.

ولكن قد يقال: إنّ الظاهر من التفصيل الوارد في الرواية بين حقوق اللّه وحقوق الناس وتعليله بكون الإمام أميناً للّه، أنّ الفرق بينهما إنّما هو أنّ الأول للّه فيجريه الحاكم بلا حاجة إلى مطالبة أحد إيّاه، وأمّا الثاني فبما أنّه للناس فإجراؤه إنّما يكون عند مطالبة ذي الحق به، والظاهر من ذلك أنّها من حيث نفوذ العلم سيّان.

هذا، ولكن الواقع أنّ هناك احتمالاً آخر في الحديث وهو أن يقصد به أنّ الإمام أمين اللّه في خلقه، فاللّه يعتمد على علمه في حقوقه من دون بيّنة ومن دون مطالبة أحد بإجراء الحقّ أمّا حقوق الناس فهي للناس ولم يكن هو أميناً للناس، فلابدّ من السير فيها وفق القوانين المعتبرة في حقوق الناس من رفع النزاع أو مطالبة الحقّ،

226

ولعلّ منها البيّنة وعدم الاكتراث بعلم القاضي. فالحديث دالّ على نفوذ العلم في حقوق اللّه، ومجمل بالنسبة لحقوق الناس.

هذا، ورغم الإجمال قد يصلح دليلاً لما قد ينسب إلى البعض من القول بالتفصيل بنفوذ العلم في حقوق اللّه دون حقوق الناس، وذلك بناءً على إثبات كون القاعدة الأوليّة عدم نفوذ العلم في باب القضاء، خرج منه العلم في حقوق اللّه بهذا الحديث. وقد يتعدّى منه إلى حقوق الناس بالأولويّة بدعوى أنّ حقوق اللّه مبنيّة على المسامحة والعفو، بخلاف حقوق الناس، وهذه الدعوى في ذاتها قد تكون دليلاً للتفصيل العكسي الذي قد ينسب إلى البعض.

والواقع أنّ كلا التفصيلين لا أساس صحيح لهما، فهذا الأخير لا يعدو أن يكون استحساناً، والحديث قد عرفت عدم تماميّته سنداً.

وقد يقال: إنّ هذه الرواية إنّما دلّت على نفوذ علم الإمام؛ إذ تقول: «الواجب على الإمام...»، ولم تدل على نفوذ علم القاضي مطلقاً، ولذا ذكرها صاحب الجواهر (رحمه الله) في عداد أدلّة نفوذ علم الإمام في القضاء، لا في عداد أدلّة نفوذ علم القاضي على الإطلاق، وهذا الكلام مبني على حمل كلمة (الإمام) على الإمام المعصوم دون مطلق ولي الأمر الشرعي للمجتع.

وإن تمّ هذا الحمل فبالإمكان التخلّص عن هذا الإشكال بالتعدّي إلى الفقيه، إمّا تمسّكاً بعموم التعليل بأنّه أمين اللّه في خلقه بناءً على صدق هذا العنوان على الفقيه بعد فرض الإيمان بولاية الفقيه، وإمّا تمسّكاً _ ابتداءً _ بأدلّة ولاية الفقيه بدعوى أنّها جعلت ما للإمام للفقيه ومنها الحكم بالعلم، بل ولعلّه يمكن التعدّي إلى غير الفقيه ممّن أعطاه الفقيه هذا المنصب ببيان: أنّه إذا كان للإمام حقّ إعطاء هذا المنصب بما فيه من الحكم بالعلم لغيره، فللفقيه أيضاً حقّ إعطائه لغيره؛ لأنّ ما