557

أوّلاً _ أنّ المدّعي له طريقان لإثبات مدّعاه: البيّنة وتهيئة خمسين قسامة. ولعلّ شرط رسول الله (صلى الله عليه و آله) عليهم كون البيّنة عدلين من غيرهم كان بنكتة أنّ المقصود بالطالبين في قوله: «فقال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) للطالبين» هم أولياء الدم، أو بنكتة أنّ كلّ من يطالب بالدم _ ولو لغيره بأن لم يكن هو الولي الشرعي _ يعتبر خصماً، فيجب أن يكون الشهود غيره. والاحتمال الأول هو الموافق للقاعدة.

وثانياً _ أنّ المتّهم بإمكانه أن يبرّى‏ء نفسه بالقسم خمسين مرّة إن لم يمتلك المدّعي أحد الطريقين المثبتين لدعواه، فإذا أضفنا هذا إلى قبول البيّنة من المنكر كما يستفاد من الحديثين الأوّلين، كان للمتّهم أيضاً طريقان للتبرئة: البيّنة والقسم خمسين مرّة.

وثالثاً _ أنّه لو لم يمتلك المدّعي شيئاً من الطريقين لإثبات مدّعاه، ولم يستعدّ المتّهم الفاقد للبيّنة للقسم خمسين مرّة، ثبت عليه الجُرم ولو بمستوى الإلزام بالدية. فهذه نقاط ثلاث لا ينبغي الإشكال فيها في الجملة، إلا أنّه ما زالت حدود هذه الأحكام الثلاثة مكتنفة بالغموض وبحاجة إلى استئناف البحث.

البينة والقسامة من المدّعي

ولنبدأ بالنقطة الأُولى _ وهي أنّ المدّعي بإمكانه إثبات الدعوى بأحد طريقين: البيّنة وخمسين قسامة، وهذا في الجملة ممّا لا إشكال فيه، ولكن ينبغي البحث في حدوده من عدّة نواحٍ:

اشتراط اللوث في القسامة

الأُولى _ أنّ إثبات الدعوى بخمسين قسامة هل يختص بفرض اللّوث، وهو فرض وجود أمارات الاتّهام بالنسبة للمدّعى عليه، أو لا يوجد شِبْهُ إجماع بين الأصحاب

558

_ رضوان اللّه عليهم _ على شرط اللّوث، ولم ينسب التأمّل أو الخلاف إلا إلى الأردبيلي (رحمه الله)، ولا إشكال في أنّ ثبوت القتل بخمسين قسامة خلاف الأصل، ولابدّ فيه من الاقتصار على القدر المتيقّن. إذاً لا سبيل إلى التأمّل في شرط اللّوث إلا دعوى الإطلاق في بعض الأدلّة، كما لو ادّعي الإطلاق فيما مضى من حديث أبي بصير: «... وحكم في دمائكم أنّ البيّنة على من ادّعي عليه واليمين على من ادّعى...» بعد تفسير اليمين على من ادّعى بقسامة خمسين بقرينة باقي الروايات.

وذكر السيد الخوئي: أنّ قيد اللّوث يستفاد من عدّه‏ من روايات الباب:

منها _ ما عن زرارة عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إنّما جعلت القسامة ليغلّظ بها في الرجل المعروف بالشرّ المتّهم، فإن شهدوا عليه جازت شهادتهم»(1).

وقد عبّر السيد الخوئي عن هذا الحديث بمعتبرة زرارة، وسنده كما يلي: رواه الشيخ والصدوق بإسنادهما عن موسى بن بكر عن زرارة، وسند الصدوق إلى موسى بن بكر لا نعرفه، أما سند الشيخ إلى موسى بن بكر فهو عبارة عن ابن أبي جيد عن ابن الوليد عن الصفّار عن إبراهيم بن هاشم عن ابن أبي عُمير عنه قال: «ورواه صفوان ابن يحيى عنه وابن أبي جيد»، وإن بنى السيد الخوئي على وثاقته لكونه من مشايخ النجاشي، لكنّنا لا نبني على ذلك. وهذا لا يضرّنا في المقام؛ إذ يكفينا أنّ للشيخ سندين تامّين إلى ابن أبي عُمير لجميع كتبه ورواياته، وله أيضاً سند تام إلى ابن الوليد لجميع كتبه ورواياته، ومنه إلى الصفّار لجميع رواياته عدا كتاب بصائر الدرجات. إذاً فالسند من هذه الناحية يتمّ بالتعويض. ويبقى الكلام في موسى بن بكر الذي لم يوثّق في كتب الرجال، والسيد الخوئي وثّقه على أساس أمرين:


(1) وسائل الشيعة، ج19، ص116، الباب 9 من دعوى القتل وما يثبت به، ح7.

559

أحدهما _ وروده في تفسير علي بن إبراهيم. وهذا الوجه غير تام عندنا.

والثاني _ ما ورد في الكافي حيث روى الكليني (رحمه الله) عن حميد بن زياد عن الحسن ابن محمد بن سماعة قال: «دفع إلي صفوان كتاباً لموسى بن بكر، فقال لي: هذا سماعي من موسى بن بكر، وقرأته عليه، فإذا فيه موسى بن بكر عن علي بن سعيد عن زرارة قال: هذا ممّا ليس فيه اختلاف عند أصحابنا عن أبي عبداللّه وعن أبي جعفر (عليهماالسلام) أنّهما سألا عن امرأة تركت زوجها وأُمّها وابنتيها؟ فقال للزوج الربع وللأُمّ السدس وللابنتين ما بقي؛ لأنّهما لو كانا رجلين لم يكن لهما شيء إلا ما بقي، ولا تزاد المرأة أبداً عن نصيب الرجل، لو كان مكانها»(1). فالسيد الخوئي فهم من قوله: «قال: هذا ممّا ليس فيه اختلاف عند أصحابنا»: أنّ صفوان قال: هذا الكتاب _ وهو كتاب موسى بن بكير _ ممّا ليس فيه اختلاف عند أصحابنا، ولكن لا ظهور لهذه العبارة في هذا المعنى، بل لعلّ ظاهرها أنّ صفوان يقول: إنّ صدور نصّ من هذا القبيل _ أي من قبيل هذه الرواية بالذات _ عن الإمام ممّا ليس فيه اختلاف عند أصحابنا، ولا أقلّ من الإجمال. إذاً فهذا ليس دليلاً على الوثاقة.

نعم، الصحيح عندنا وثاقة الرجل؛ لرواية بعض الثلاثة عنه، فالنتيجة أنّ سند الحديث تام في المقام.

ومنها: ما مضى من حديث بريد بن معاوية، حيث جاء في ذيله: «إنّما حقن دماء المسلمين بالقسامة؛ لكي إذا رآى الفاجر الفاسق فرصة (من عدوه) حجزه مخافة القسامة أن يقتل به، فكفّ عن قتله، وإلا حلف المدّعى عليه قسامة خمسين رجلاً ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً، وإلا أُغرموا الدية إذا وجدوا قتيلاً بين أظهرهم إذا لم يقسم


(1) الكافي، ج7، ص97، كتاب الميراث، الباب 19 ميراث الولد مع الزوج و المرأة والأبوين، ح3.

560

المدّعون»، فقدفهم السيد الخوئي من هذا الكلام قيد اللّوث، فإن كان نظره إلى قوله: «إذا وجدوا قتيلاً بين أظهرهم»، فهذا وإن كان دالّاً على قيد اللّوث لكنّه راجع إلى حكم قسم المدّعى عليه، أمّا رجوعه إلى ما يفهم ضمناً أيضاً من الجملة السابقة من قسامة خمسين من قبل المدّعي، فغير معلوم.

نعم، إن كان نظره إلى كلمة «الفاجر الفاسق»فقد يكون لذلك وجه بناء على كون هذا التعبير إشارة إلى الاستهتار بالفسق الذي من الواضح عدم دخله في الحكم من غير ناحية اللّوث.

ومنها _ ما عن زرارة _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إنّما جعلت القسامة احتياطاً للناس لكي ما إذا أراد الفاسق أن يقتل رجلاً أو يغتال رجلاً حيث لا يراه أحد، خاف ذلك، فامتنع من القتل»(2). فإن كان نظره في الاستدلال بهذا الحديث التمسّك بقوله: «احتياطاً للناس»، فهذا وجه للاستدلال بعدّة روايات سيذكره مستقلّاً عن هذا الوجه، وإن كان نظره إلى كلمة «الفاسق» فدلالتها على المشتهر بالفسق الموجب للوث غير واضحة.

ومنها _ ما ورد _ بسند تام _ عن ابن سنان قال: «سمعت أبا عبداللّه (عليه السلام) يقول: إنّما وضعت القسامة لعلّة الحوط، يحتاط على الناس لكي إذا رآى الفاجر عدوّه، فرّ منه مخافة القصاص»(3). فاستفاد السيد الخوئي من كلمة الفاجر اللّوث والاتّهام بالشرّ.

وهناك وجه آخر ذكره السيد الخوئي لإثبات شرط اللّوث من الروايات يدخل فيه هذا الحديث والأحاديث السابقة وروايات أُخرى _ كالحديث الثاني والثامن من


(1) وسائل الشيعة، ج19، ص114، الباب 9 من دعوى القتل وما يثبت به، ح1.

(2) نفس المصدر، ص116، ح9.

561

الباب (9) من دعوى القتل وما يثبت به من الوسائل _ وهو أنّ المستفاد من هذه الروايات أنّ حكم القسامة جعل حقناً للدماء واحتياطاً فيه، وهذا يناسب شرط اللّوث؛ إذ لو لا هذا الشرط لأوجب هدر الدماء؛ حيث إنّ للفاسق والفاجر أن يدّعي القتل على أحدٍ ويأتي بالقسامة، فيقتصّ منه، فيذهب دم المسلم هدراً(1).

كما استشهد أيضاً السيد الخوئي على شرط اللّوث بكونه أمراً متسالماً عليه.

وبما أنّ الإجماع الصحيح لدينا هو الإجماع الحدسي فقد يتمّ الحدس رغم وجود المدرك للإجماع.

اشتراط اللوث في البيّنة

الثانية _ أنّ نفوذ بيّنة المدّعي هل يكون مشروطاً باللّوث كما كان نفوذ خمسين قسامة مشروطاً به، أو لا؟ لا أظنّ أنّ هناك خلافاً من حيث الفتوى في نفوذ البيّنة ولو لم يكن هناك لوث، ولكن هناك شبهة يمكن طرحها هنا بلحاظ الروايات، وهي أن يقال: أنّ رواية أبي بصير الماضية دلّت على أنّ البيّنة في باب الدم على المنكر واليمين على المدّعي، وهذا يعني فرضاً عدم قبول البيّنة من المدّعي في باب الدم، وهو مطلق لفرض اللّوث وعدمه، خرج من إطلاقه فرض اللّوث وذلك بقرينة رواية بريد الماضية؛ حيث خاطب فيها رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) المدّعين بقوله: «أقيموا رجلين عدلين من غيركم»، ولكن هذا وارد في مورد اللّوث، وليس له إطلاق لمورد عدم اللّوث. إذاً فالقدر المتيقّن من التقييد لإطلاق رواية أبي بصير هو فرض اللّوث، ويبقى فرض عدم اللّوث تحت إطلاق الرواية الدالّ فرضاً على عدم قبول البيّنة من المدّعي.


(1) راجع مباني تكملة المنهاج، ص105، ج2.

562

وكذلك دلّ حديث مسعدة بن زياد على قبول البيّنة من مدّعي الدم، وهو ما ورد عن مسعدة _ بسند تام _ عن جعفر (عليه السلام) قال: «كان أبي (رضي الله عنه) إذا لم يقم القوم المدّعون البيّنة على قتل قتيلهم ولم يقسموا بأنّ المتّهمين قتلوه، حلّف المتّهمين بالقتل خمسين يميناً باللّه ما قتلناه ولا علمنا له قاتلاً، ثم يؤدّي الدية إلى أولياء المقتول. ذلك إذا قتل في حي واحد، فأمّا إذا قتل في عسكر أو سوق مدينة، فديته تدفع إلى أوليائه من بيت المال»(1). وهذا أيضاً _ كما ترى _ لا إطلاق له لفرض عدم اللّوث. إذاً فرض عدم اللّوث بقي تحت إطلاق رواية أبي بصير.

وقد يقال: إنّ رواية أبي بصير إنّما دلّت على أنّ البيّنة على المنكر، أي أنّ المنكر هو الذي يطالب بالبيّنة وأنّه لو لم يمتلك بيّنة ولا حَلَفَ خمسين مرّة _ على ما ظهر من الروايات الأُخرى _ ثبت الحقّ إلى جانب المدّعي. وهذا لا ينافي نفوذ بيّنة المدّعي لو أقامها، فيتمسّك هنا بإطلاق دليل نفوذ البيّنة.

ولكنّ الظاهر أنّنا لا نمتلك إطلاقاً تامّاً لنفوذ البيّنة من غير نفس روايات أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر، فإذا خرج من إطلاقها الدم، لم يكن دليل على قبول البيّنة فيه من المدّعي.

ويمكن التخلص عن هذه الشبهة بوجوه:

الأول _ أنّ رواية أبي بصير نصّت على أنّ البيّنة في الدماء على المدّعى عليه واليمين على من ادّعى، والجملة الثانية قيّدت ببعض الروايات _ على ما مضى _ بفرض اللّوث. وهذا يوجب الإجمال في الجملة الأولى بحكم وحدة السياق؛ أي: أنّ إطلاق الجملة الأُولى لفرض عدم اللّوث والظهور في وحدة السياق يتعارضان؛ لأنّ


(1) وسائل الشيعة، ج19، ص115، الباب 9 من دعوى القتل وما يثبت به، ح3.

563

المقيّد المنفصل للجملة الثانية دلّ على كذب أحدهما إجمالاً، فتصبح الجملة الأُولى بحكم المجمل، فنرجع في غير فرض اللّوث إلى القاعدة العامّة التي تقتضي أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر المستفادة ممّا ورد _ بسند تام _ عن جميل وهشام عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى الله عليه و آله): البيّنة على من ادّعى واليمين على من ادّعي عليه»(1). هذا بناءً على أنّ المقيّد منفصل. وهو بعض الروايات الدالّة على اشتراط قسامة خمسين من طرف المدّعي باللّوث.

أما إذا افترضنا المقيِّد متّصلاً، وهو قوله في آخر حديث أبي بصير: «لئلا يبطل دم امرى‏ءٍ مسلم» بأن استظهرنا من هذا الاختصاص بفرض اللّوث فلا يأتي تقريب التعارض بين الإطلاق ووحدة السياق؛ لأنّ المقيِّد المتّصل لو اختصّ بإحدى الجملتين لا نثلمت وحدة السياق، ولكن لو كان هذا الذيل وهو قوله: «لئلّا يبطل دم امرى‏ءٍ مسلم» دالاً على قيد اللّوث فهذا يكون مقيِّداً لكلتا الجملتين، وهما قوله: «البيّنة على من ادّعي عليه، واليمين على من ادّعى»، فالمشكلة محلولة من أساسها، ونرجع في فرض عدم اللّوث إلى القاعدة الأصليّة، وهي أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر.

والثاني _ أن يقال: إنّ ما ورد من أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر، وكذلك ما ورد في خصوص الدم من أنّ البيّنة على من أنكر واليمين على المدّعي يدل _ بإيحاء من كلمة البيّنة وارتكازيّة كفاية البيّنة في الاحتجاج مع الخصم وغيره _ على أنّ شهادة العدلين بيّنة كافية على الواقع في حدود المرتكزات العقلائيّة، ولا شكّ أنّ نفوذ بيّنة مدّعي الدم بلا لوث داخل في الارتكاز العقلائي.


.نفس المصدر، ج18، ص170، الباب 3 من كيفيّة الحكم، ح1.

564

الثالث _ أن يقال: إننّا لا نحتمل فقهياً أن تكفي يمين واحدة من المنكر، ولا تكون البيّنة على المدّعي؛ فإمّا إنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر، وهذا يعني كفاية يمين واحدة من المنكر، أو إنّ البيّنة على المنكر واليمين على من ادّعى، وفي هذه الحال لا تكفي يمين واحدة من المنكر، فإذا ضممنا هذه المقدمة إلى ما دلّ عليه ذيل رواية بريد من عدم حاجة المنكر في التبرئة إلى أن يحلف خمسين مرّة إذا لم يكن لوث، كانت النتيجة أنّ البيّنة عند عدم اللّوث على المدّعي، وذيل رواية بريد هو هذا: «وإلا حلف المدّعى عليه قَسَامة خمسين رجلاً ما قتلنا، وإلا أُغرموا الدية إذا وجدوا قتيلاً بين أظهرهم إذا لم يقسم المدّعون». فتخصيص الحكم بما إذا وجدوا قتيلاً بين أظهرهم يدل على تخصيصه بفرض اللوث.

وهذا الوجه الثالث مع الوجه الأول يمتازان عن الوجه الثاني بأنّهما يثبتان أنّ البيّنة عند عدم اللّوث على المدّعي لا على المنكر، فلو لم يأتِ المدّعي ببيّنة كفى المنكَر في البراءة مجرّدُ أن يحلف مرّةً واحدةً، بينما الوجه الثاني لا يثبت إلا نفوذ بيّنة المدّعي لو أقامها، أمّا أنّ عليه البيّنة بحيث لو لم يأتِ بها كفى المنكر أن يحلف مرّةً واحدةً، فلا يثبت بهذا الوجه.

كيفية قسامة خمسين

الثالثة _ أنّ قَسَامة خمسين من قبل المدّعي هل ينحصر شكلها في إحضار خمسين نفراً _ ولو بأن يكون أحدهم نفس المدّعي _ كلّهم يحلفون باللّه على أنّ فلاناً قتل فلاناً أو بالإمكان الاقتصار على عدد أقلّ مع تكثير عدد القسم إلى أن يتمّ خمسون قسماً، ولو بقي المدّعي وحده حلف خمسين مرّة؟

اُدُّعي الإجماع على الثاني، وذكر أنّه لم يُرَ مخالف في ذلك، ولكن الأمر بالقياس

565

إلى الروايات مشكل، فهناك عدّة روايات صوّرت قَسَامة خمسين بخمسين شخصاً يحلفون على القتل، من قبيل: ما عن عبداللّه بن سنان _ بسند تام _ قال: «قال أبو عبداللّه (عليه السلام): في القَسَامة خمسون رجلاً في العمد، وفي الخطأ خمسة وعشرون رجلاً، وعليهم أن يحلفوا باللّه»(1). وما عن ابن فضّال ويونس عن الرضا (عليه السلام) فيما أفتى به أمير المؤمنين (عليه السلام) «... والقَسَامة جعل في النفس على العمد خمسين رجلاً، وجعل في النفس على الخطأ خمسة وعشرين رجلاً...»(2) وما عن أبي بصير _ بسند فيه البطائني _ قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن القسامة أين كان بدوها؟ فقال: كان من قبل رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) لمّا كان بعد فتح خيبر تخلّف رجل من الأنصار عن أصحابه، فرجعوا في طلبه فوجدوه متشحّطاً في دمه قتيلاً، فجاءت الأنصار إلى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) فقالوا: يا رسول اللّه قتلت اليهود صاحبنا. فقال: ليقسم منكم خمسون رجلاً على أنّهم قتلوه...»(3).

فهذه الرواية قد تدل على عدم كفاية أقلّ من خمسين رجلاً مع تكثير الحلف عليهم.

وبالإمكان أن يقال في قبال ذلك: إنّ هذه الروايات لا تدل على عدم كفاية ذلك، غاية ما هناك أنّها لا تدل على الكفاية أيضاً، فلو حصلنا على ما دلّ على كفاية ذلك لم يكن تعارض بينه وبين هذه الروايات، وذلك لأنّ هذه الروايات أمرت بإحضار خمسين رجلاً للحلف، وهذا الأمر كما يناسب عدم كفاية ماهو أقلّ إطلاقاً، كذلك يناسب كون كفاية الأقلّ عدداً مع تكثير عدد الحلف عليهم في طول العجز عن


(1) وسائل الشيعة، ج19، ص119، الباب 11 من دعوى القتل وما يثبت به، ح1.

(2) نفس المصدر، ص120، ح2.

(3) نفس المصدر، ص118، الباب 10 من دعوى القتل وما يثبت به، ح5.

566

تحصيل العدد المطلوب.

ولا يمكن تتميم دلالة هذه الروايات على عدم كفاية العدد الأقلّ مع تكثير الحلف عليهم حتى بعد العجز عن تحصيل العدد المطلوب بأن يقال: إنّه لو جاز الاكتفاء بالعدد الأقلّ لدى حلفهم تمام الخمسين، فجواز ذلك إمّا يفترض على سبيل التخيير بأن يكون المدّعي مخيّراً بين إحضار خمسين رجلاً يحلفون وإحضار ما هو أقلّ من ذلك مع تكميل عدد الحلف أو يحلف هو خمسين مرّة، وإمّا أن يفترض على سبيل الترتيب والطوليّة؛ أي لو عجز عن تحصيل العدد المطلوب قسّم الحلف خمسين مرّة على ما هو أقلّ من ذلك ولو انحصر الأمر به حلف خمسين مرّة. أمّا التخيير فهو خلاف ظاهر الروايات المتقدّمة الآمرة بحلف خمسين رجلاً. وأمّا الترتب فهو بعيد غاية البعد؛ إذ يلزم من ذلك أنّ مدّعي القتل لو لم يملك خمسين رجلاً يحلفون له فحلف هو خمسين مرّةً نفذ حلفه، ولو ملك خمسين رجلاً يحلفون له ولكن تكاسل عن إحضارهم واستعدّ هو للحلف خمسين مرّةً لم يقبل منه ذلك ولم ينفذ حلفه، بينما احتمال صدقه في الثاني أقوى منه في الأوّل.

ويمكن الجواب على ذلك بأنّه من المعقول أن يكون السبب في إلزامه بإحضار الخمسين بالدرجة الأُولى كون هذا أكثر إثباتاً للجرم على المجرم وأكبر إقناعاً لأولياء المجرم وأخمد للفتنة، فإن لم يحصل ذلك جاء التنزّل إلى ما هو أقلّ ولو بأن يحلف المدّعي وحده خمسين مرّة.

نعم، يبقى الكلام في أنّ غاية ما ثبت حتى الآن هي أنّ هذه الروايات لم تدل على عدم كفاية العدد الأقلّ من الرجال مع التحفّظ على عدد الخمسين يميناً، ولكن لم يثبت بها شيء إلا القَسَامة بمعنى خمسين رجلاً يحلفون، وكفاية ما عدا ذلك بحاجة إلى دليل، ولم يصرّح بها في شيء من الروايات، فكيف يمكن إثبات ذلك

567

بالروايات؟

وقد يستدلّ على ذلك _ أي تكثير عدد الحلف على العدد الأقلّ إلى أن يتمّ الخمسون يميناً _ إضافة إلى الإجماع المدّعى بعدّة وجوه:

الأول _ ما ذكره السيد الخوئي من أنّه ورد في غير واحد من الروايات: أنّ القَسَامة إنّما جعلت احتياطاً للناس؛ لئلّا يغتال الفاسق رجلاً فيقتله حيث لا يراه أحد، فإذا كانت علّة جعل القسامة ذلك، فكيف يمكن تعليق القود على حلف خمسين رجلاً؟ فإنّه أمر لا يتحقق إلا نادراً، فكيف يمكن أن يكون ذلك موجباً لخوف الفاسق من الاغتيال(1)؟!

أقول: إن كان الحلف مشروطاً بالعلم الحسّي أو ما يقرب من الحسّ صحّ هذا الكلام، ولكن الحلف يكفي فيه مجرّد العلم ولو الحدسي، وهذا كثيراً ما يحصل لأقرباء المدّعي وأصدقائه ببعض القرائن الحدسية المدعمة عندهم بنفس دعوى المدّعي، بل قد يحلفون كاذبين لمجرّد تعاطفهم مع المقتول والمدّعي، والقاضي يحكم وفق حلفهم لعدم علمه بالكذب؛ لأنّه لا تشترط فيهم العدالة كما كانت تشترط في البيّنة كي لا يقبل حلف من يحتمل بشأنهم الكذب لعدم إحراز العدالة، فالفاسق سيخشى من تحقق شيء من هذا القبيل ويمنعه ذلك عن القتل.

أمّا الوجه في نفوذ الحلف _ وإن لم يكن عن علم حسّي _ فلأنّ وجوه اشتراط الحسّ في الشهادة لا تأتي هنا، فالوجه في اشتراط الحسّ في باب البيّنة: إمّا هو عدم الإطلاق في دليل نفوذ البيّنة، أو الروايات الخاصّة، أو انصراف دليل نفوذ البيّنة عن نفي احتمال الخطأ في الحدس كما هو الحال في دليل حجّية خبر الواحد. وكلّ هذا


(1) مباني تكملة المنهاج، ص109، ج2.

568

لا يأتي في المقام، فدليل نفوذ القَسَامة مطلق، ولم يقيَّد بما إذا كان الحلف عن علم حسّي، وروايات شرط الحسّ خاصّة بباب الشهادة، ولو فرض إطلاقها لباب الحلف باعتبار اقتران الحلف بالشهادة كفانا ما مضى من ضعف تلك الروايات سنداً . والانصراف المدّعى في دليل نفوذ الشهادة وخبر الواحد لا يأتي في المقام، بل المفهوم عرفاً أنّ تكثير عدد الحالفين هنا تعويض عن شروط الشهادة من العدالة والحسّ وغيرهما، بل إنّ مطالبة الرسول (صلى الله عليه و آله) في قصّة من قتل بخيبر بخمسين رجلاً يحلفون مع وضوح عدم الحسّ في تلك القصّة دليل على عدم اشتراط الحسّ، ومن المستبعد أنّه لم يكن يوجد في كلّ الخمسين المفترض حلفهم على قتل اليهود للرجل المسلم شخصان عادلان ولو بحسن الظاهر، فما هو شرط البيّنة المفقود في المقام حتى طلب الرسول (صلى الله عليه و آله) حلف خمسين رجل؟! من الواضح أنّه لا يوجد شرط مفقود عدا كون الشهادة عن حسّ.

الثاني _ ذيل رواية ابن فضّال ويونس التي مضى صدرها؛ حيث جاء في ذيلها التصريح في باب الدية في الجروح بمضاعفة اليمين على المدّعي إذا فقد من يحلف معه وذلك إلى ستّ مرّات؛ حيث إنّ أكبر عدد للقَسَامة في الجرح قَسَامة ستة رجال(1).

وقد أورد السيد الخوئي على الاستدلال بهذا الحديث بأنّه مختصّ بباب الدية في الجروح، ولا يمكن التعدّي منه إلى القصاص في النفس(2)، وهذا الإيراد في محلّه.

الثالث _ التمسّك بما مضى في رواية بريد من قوله (صلى الله عليه و آله): «أقيموا قسامة خمسين


(1) راجع‏ وسائل الشيعة، ج19، ص120، الباب 11 من دعوى القتل وما يثبت به، ح2.

(2) راجع مباني تكملة المنهاج، ص109، ح2.

569

رجلاً أقيده برمّته»؛ حيث ذكر في الجواهر(1): أنّه يمكن استفادة كفاية الأقلّ مع الحفاظ على عدد الخمسين في القسم من هذه الجملة بناءً على قراءتها بإضافة (قسامة) إلى (خمسين) لا بالتنوين.

أقول: إن سُلّم ظهور: «أقيموا قَسَامة خمسين رجلاً» في كفاية القسم خمسين مرّةً من دون تقيّد بعدد الحالفين، وفرض الوثوق بأنّ كلمة «قَسَامة» مضافة إلى «خمسين»، وليست منوّنةً، إذ لو كانت منوّنةً؛ لكانت كلمة «خمسين رجلاً» عطف بيان أو بدلاً من كلمة «قسامة»، فكأنّما قال: أقيموا خمسين رجلاً يقسمون، مع أنّ هذا الاستعمال يعدّ ركيكاً، فالإقامة بمعنى الأداء تتعدّى إلى القَسم لا إلى المُقسِم، إن سُلّم هذان الأمران فمع ذلك هذا الوجه لا يتمّ؛ لأنّ هذه القصّة ذكرت في عدّة روايات وجاء التعبير في بعضها بعبارة: «ليقسم منكم خمسون رجلاً»(2) وهذا ظاهر في خمسين رجلاً حالفين كما هو واضح، فبناءً على الاطمئنان بوحدة القصّة لا يتمّ الاستدلال بهذا الوجه.

الرابع _ التمسّك برواية أبي بصير الماضية؛ حيث جاء فيها: «أنّ اللّه حكم في دمائكم بغير ما حكم به في أموالكم، حكم في أموالكم أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه، وحكم في دمائكم أنّ البيّنة على المدّعى عليه واليمين على من ادّعى». فتفسير قوله: «اليمين على من ادّعى» بمعنى أنّ عليه أن يحقّق اليمين _ ولو بأن يكون عليه أن يحضر آخرين يحلفون _ خلاف الظاهر، وإنّما ظاهره _ خاصّة بالمقابلة مع قاعدة أنّ اليمين على من ادّعي عليه _ هو أنّ اليمين بنفسه يكون ثابتاً


(1) ج42، ص246.

(2) جاء ذلك في رواية أبي بصير، وهي الرواية الخامسة من وسائل الشيعة، ج19، ص118، الباب 10 من دعوى القتل وما يثبت به، وفي رواية زرارة التامّة سنداً، وهي الرواية الثالثة من نفس الباب، ص117.

570

عليه، وأنّ حلف الآخرين يوجب تخفيف عب‏ء القسم عنه، لا أنّ الحلف بذاته متوجّه إلى غيره. فالنتيجة هي أنّ حلف المدّعي خمسين مرّة أو تقسيم الخمسين على عدد من الرجال أقلّ من خمسين مرّة يكفي عن خمسين رجلاً يحلفون، كما يؤيِّد ذلك الإجماع المّدعى في المقام.

يبقى الكلام في أنّه هل الصحيح هو التخيير من أوّل الأمر بين أن يحلف المدّعي خمسين مرّة أو يستعين بآخرين في تخفيف عب‏ء القسم عن نفسه، أو أنّ عليه أوّلاً إحضار خمسين حالفاً وإن كان هو أحدهم، فإن عجز عن ذلك، انتقل إلى ما هو أقلّ عدداً مع تكثير الحلف بنحوٍ يفي بخمسين مرّة؟

ظاهر الروايات التي مضى ذكرها المصرّحة بحلف خمسين رجلاً هو الثاني، وظاهر رواية أبي بصير التي تقول: «إنّ اليمين على المدّعي»، وكذلك رواية بريد بناءً على دلالة قوله: «أقيموا قَسَامة خمسين رجلاً» على إمكان الاكتفاء بأقلّ من خمسين حالفاً مع تكميل الخمسين حلفاً هو الأول، ولا يبعد أن يكون ظهور روايات لزوم إحضار خمسين رجلاً عند الإمكان أقوى، ومع فرض التعارض والتساقط يكون القدر المتيقّن من النفوذ هو إحضار خمسين حالفاً مع الإمكان.

وإذا كان عدد الحالفين أقلّ من الخمسين، فهل يجب تقسيم الخمسين حلفاً عليهم بالسويّة بقدر ما يمكن، أو لا؟ فإذا كان الحالفون خمسة، فهل على كلّ واحد أن يحلف عشر مرات أو بالإمكان أن يحلف أحدُهم ستاً وأربعين مرّة، ويحلف الآخرون كلّ منهم مرّة واحدة؟

ذهب السيد الخوئي إلى الأول. والوجه في ذلك أنّ دليل جواز الاقتصار على حلف أقلّ من الخمسين لا إطلاق له في نظر السيد الخوئي؛ لأنّ الدليل عنده منحصر بالإجماع وبما عرفنا من الروايات من أنّ حكمة جعل القَسَامة هي حجز الفاسق عن

571

القتل، وهذا لا يتم إن قلنا بضرورة وجود خمسين حالفاً، فإذا لم يكن هناك إطلاق في الدليل لزم الاقتصار في نفوذ الحلف وثبوت القتل على القدر المتيّقن، وهو فرض التسوية في تقسيم الحلف.

أمّا إذا كان دليلنا على ذلك رواية أبي بصير التي تقول: «إنّ اليمين على من ادّعى»، أو رواية بريد التي تقول: «أقيموا قَسَامة خمسين رجلاً» فالظاهر تماميّة الإطلاق وعدم وجوب التسوية.

وذكر السيد الخوئي (رحمه الله) بعد اشتراطه للتسوية من باب الاحتياط ما نصّه: «هذا إذا لم يكن المدّعون مختلفين بحسب حصص الإرث، وأمّا إذا كانوا مختلفين في ذلك فعن الشيخ في المبسوط أنّ التقسيم بحسب الحصص، فلو فرض أنّ الولي ابن وبنت حلف الابن أربعاً وثلاثين، والبنت سبع عشرة، وفي القواعد احتماله.

أقول: إن تمّ الإجماع على خلاف ذلك فهو، وإلا فالأحوط رعاية كلا الأمرين، بأن تحلف البنت خمساً وعشرين يميناً ويحلف الابن أربعاً وثلاثين، وذلك لعدم الدليل على ثبوت الدعوى بغير ذلك»(1). وانتهى كلام السيد الخوئي (رحمه الله) أقول: ولا أدري ماذا يصنع السيد الخوئي فيما إذا كان الحالفون الذين هم أقلّ من خمسين بعضهم ورثة مع اختلاف مقادير الإرث، وبعضهم غير ورثة.

وعلى أيّ حال فلا موضوع لهذا الكلام فيما لو آمنّا بإطلاق من قبيل رواية أبي بصير، أو رواية بريد.

ولا يبعد أن يشترط في الحالفين غير الورثة الرجولة على ما يظهر من روايات خمسين رجلاً، فمقتضى الجمع بين هذه الروايات ورواية أنّ اليمين على المدّعي التي


(1) مباني تكملة المنهاج، ج2، ص110.

572

تشمل بإطلاقها ما إذا كان المدّعي امرأةً هو أنّ لدينا في المقام قاعدتين: قاعدة الاعتماد على عدد الحالفين، وقاعدة تحليف المدّعي، وفي القاعدة الأُولى تشترط الرجولة، وفي القاعدة الثانية لا تشترط الرجولة.

كما لا يبعد أن يشترط في ما إذا كان الحالفون أقلّ من الخمسين أن يكون أحدهم من أولياء الدم، سواء كان دليلنا على كفاية الأقلّ من الخمسين عبارةً عن الإجماع، أو كون حكمة القَسَامة ردع القاتل عن القتل، أو رواية أبي بصير، أو رواية بريد. أمّا الأول والثاني فلعدم الإطلاق فيهما، ولابدّ من الاقتصار على القدر المتيقّن. وأمّا رواية أبي بصير فلأنّ مصبّها بالأصل هو المدّعي، حيث قال: «اليمين على من ادّعى». وأمّا رواية بريد التي تقول: «أقيموا قَسَامة خمسين رجلاً» فلأنّ المتيقّن من المخاطب بهذا الخطاب هم المدّعون، أي: أولياء الدم.

هذا تمام ما أردنا بيانه بلحاظ النقطة الأُولى، أعني وجود طريقين لمدّعي الدم لإثبات دعواه.

البيّنة والقسامة من المنكر

وأمّا النقطة الثانية _ وهي أنّ المنكر بإمكانه تبرئة نفسه بالبيّنة أو بقَسَامة خمسين، فيقع الكلام في ذلك في كيفيّة القَسَامة. وهنا تصوُّران فقهيّان:

أحدهما: أن يكون على المتّهمين القسم خمسين مرّةً على براءتهم، فلو زاد عددهم على ذلك كفى أن يقسم خمسون منهم، ولو نقص عددهم عنه أكثروا من الحلف إلى أن يتمّ عدد الخمسين.

والثاني: أنّ عليهم أن يحضروا خمسين شخصاً يحلفون على براءة المتّهمين، ولو كان الحالفون غير متّهمين، فإن نقص العدد أكثروا من الحلف إلى أن يتمّ العدد.

573

وكأنّ المشهور هو الثاني، بينما الروايات تدل على الأول، فرواية بريد تقول: «حلف المدّعى عليه قَسَامة خمسين رجلاً ما قلنا، ولا علمنا قاتلاً»(1). والمدّعى عليه هو المتّهم، ورواية مسعدة بن زياد تقول: «حلّف المتّهمين بالقتل خمسين يميناً باللّه ما قتلنا، ولا علمنا له قاتلاً»(2). ورواية أبي بصير تقول: «فإنّ على الذين ادُّعِيَ عليهم أن يحلف منهم خمسون ما قتلنا، ولا علمنا له قاتلاً»(3). وسند الروايتين الأُوليين تام، وسند الأخيرة فيه علي بن أبي حمزة البطائني الذي وثّقة الشيخ في العدّة وروى عنه الثلاثة، إلا أنّ الكشّي ينقل عن ابن مسعود عن علي ابن الحسن بن فضّال أنّه كذّاب متّهم، ومقتضى الاعتماد على هذا النقل أن نحمل رواية الثلاثة عنه على ما قبل انحرافه، ونقول: إنّ اتّصافه بصفة الكذب كان من بعد انحرافه عن خطّ أهل البيت (عليهم السلام)، فمتى ما نقل أحد الثلاثة عنه اعتمدنا على روايته، وإلا لم نعتمد على روايته؛ لأنّنا لا نعرف تاريخ نقله لها. وعليه فالرواية التي وردت عنه هنا لا يمكن الاعتماد عليها.

والذي يمكن الاستدلال به على جواز الاعتماد على حلف غير المتّهمين على براءة المتّهم هو ما ورد من قصّة الأنصاري الذي وجد قتيلاً بين أظهر اليهود؛ حيث جاء في جملة من روايات هذه القصّة اتّهام اليهود من قبل أصحاب الرسول (صلى الله عليه و آله) بقتله، واقترح الرسول (صلى الله عليه و آله) عليهم تحليف اليهود(4)، ولكن جاء في رواية بريد(5): «قالت الأنصار: إنّ فلان اليهودي قتل صاحبنا». وبعد فرض وحدة القصّة يقال: إنّ رواية


(1) وسائل الشيعة، ج19، ص115، الباب 9 من دعوى القتل وما يثبت به، ح3.

(2) نفس المصدر، ح6.

(3) نفس المصدر، ص118، الباب 10 من دعوى القتل وما يثبت به، ح5.

(4) راجع بهذا الصدد: نفس المصدر، ج19، الباب 10 من دعوى القتل، ح1 و2 و5 و7.

(5) وهي الرواية الثالثة من الباب 9 من تلك الأبواب، ص114 .

574

بريد دلّت على أنّ المتّهم كان واحداً، فنحمل ما جاء في بعض الروايات من نسبة الاتّهام إلى اليهود على ما تعارف من نسبة جرم الواحد من قبيلة إلى تلك القبيلة. وعليه فاقتراح الرسول (صلى الله عليه و آله) تحليف اليهود؛ يعني: تحليف أُناس غير متّهمين بالقتل؛ إذ المتّهم منهم واحد فحسب.

والجواب: أنّ من المحتمل اختلاف درجات الاتّهام. فكان اليهود متّهمين بالقتل، وكان فلان اليهودي أشدّ اتّهاماً، أو أنّ بعض الصحابة اتّهم اليهود، وبعضهم اتّهم فلان اليهودي، فلو لم يكن هذا أقرب في مقام الجمع بين تلك الروايات فلا أقلّ من تساوي احتماله لاحتمال كون المتّهم واحداً.

فالظاهر أنّ الصحيح هو اختصاص القسم بالمتّهمين، فلو كانوا أقلّ من الخمسين حلفوا بقدر الخمسين، ولو كانوا خمسين حلفوا جميعاً، ولو كانوا أكثر من الخمسين، حلف خمسون منهم.

نعم، لو قصد بهذا حلف خمسين منهم على براءة أنفسهم فحسب دون براءة باقي المتّهمين، فهذا ممنوع؛ فإنّ الظاهر من الروايات حاجة كلّ منهم في تبرئته إلى حلف خمسين، فالمفروض بالخمسين أن يحلفوا على براءة الكلّ.

وقد يقال: إنّ حلف قسم من المتّهمين على براءة قسم آخر ليس إلا كحلف غير المتّهمين على براءة المتّهمين، فإذا جاز الأول جاز الثاني إلا أنّ هذا إنّما يتمّ لو قطعنا بعدم الفرق، وإلا فالنتيجة هي ما ذكرناه من أنّه يجب توجيه الحلف إلى المتّهمين.

ومقتضى إطلاق الروايات أنّه لا حاجة إلى تقسيم الحلف عليهم بالسويّة.

ويحتمل أن يقال فيما إذا كان المتّهمون أكثر من خمسين: إنّ عليهم جميعاً أن يحلفوا وإن استلزم ذلك زيادة عدد الحلف على الخمسين؛ وذلك لرواية علي بن الفضيل عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا وجد رجل مقتول في قبيلة قوم، حلفوا جميعاً ما قتلوه، ولا يعلمون

575

له قاتلاً، فإن أبوا أن يحلفوا، أُغرموا الدية فيما بينهم سواء بين جميع القبيلة من الرجال المدركين»(1)؛ فمقتضى إطلاق هذا الحديث أنّه حتى لو كانوا أكثر من خمسين وجب أن يحلفوا جميعاً، ورواية أبي بصير الماضية لو تمّت سنداً لكانت صالحةً لتقييد هذا الإطلاق؛ إذ تقول: «فإنّ على الذين ادُّعِي عليهم أن يحلف منهم خمسون...».

وهناك روايتان أُخريان يعارض إطلاقهما إطلاق رواية علي بن الفضيل، وهما ما مضى من رواية بريد؛ حيث ورد فيها: «وإلا حلف المدّعى عليه قَسَامة خمسين رجلاً ما قتلنا، ولا علمنا قاتلاً»، ورواية مسعدة حيث ورد فيها: «حلّف المتّهمين بالقتل خمسين يميناً باللّه ما قتلناه، ولا علمنا له قاتلاً»، فمقتضى إطلاقهما كفاية خمسين قسماً. ولو كان المتّهمون أكثر من خمسين، فإمّا أن تحمل رواية علي بن الفضيل على ما إذا لم يكونوا أكثر من خمسين، أو تحمل هاتان الروايتان على ما إذا يكونوا أكثر من خمسين، ومع عدم الترجيح لا يبقى دليل على لزوم الحلف أكثر من خمسين. والذي يهوّن الخطب أنّ رواية علي بن الفضيل غير تامّة سنداً؛ لعدم ثبوت وثاقة علي بن الفضيل؛ إذاً فالصحيح كفاية حلف خمسين من المتّهمين على براءة الكلّ ولو كان المتهمون أكثر من خمسين.

الترتيب بين البينة والقسامة منهما

يبقى الكلام في أنّه ما هي النسبة بين ما يثبت دعوى المدّعي من البيّنة وقَسَامة خمسين، وما يثبت براءة المتّهم من البيّنة وقَسَامة خمسين؟ هل هناك تقدّم لأحدهما على الآخر؟ وهل هناك تقدّم للبيّنة على القسامة أو العكس، أو لا؟ وهذا البحث


(1) وسائل الشيعة، ج19، ص115، الباب 9 من دعوى القتل، ح5.

576

يمكن تنقيحه ضمن عدّة بنود:

البند الأول _ هل هناك ترتّب بين بيّنة المدّعي وقسامته، أو أنّهما في عرض واحد، فهو مخيّر بينهما؟

قد يتصوّر أنّ رواية بريد تدل على أنّ البيّنة مقدّمة على القَسَامة؛ إذ جاء فيها: «فإن لم تجدوا شاهدين فأقيموا قَسَامة خمسين رجلاً»، ولكنّ الترتيب بينهما بعيد؛ إذ هذا يعني أنّ من لا يمتلك البيّنة ويأتي بالقسامة تثبت دعواه، ومن يمتلك البيّنة ولكن لا يقيمها لصعوبة في الحضور على البيّنة مثلاً وأسهليّة القَسَامة فيأتي بالقَسَامة لا تثبت دعواه، بينما الثاني أقرب إلى الصدق من الأول. هذا مضافاً إلى أنّ تعيّن إقامة البيّنة على المدّعي مع الإمكان، وعدم وصول النوبة إلى القَسَامة عند إمكانيّة إقامة البيّنة خلاف صريح ما ورد من أنّ المدّعي في باب الدم عليه القسم لا البيّنة. فالصحيح هو التخيير، وحمل رواية بريد على أنّ النبي (صلى الله عليه و آله) طالب المدّعين أوّلاً بأحد فردَيْ التخيير في مقام إثبات الدعوى، ثم بعِدله الآخر.

البند الثاني _ هل هناك ترتيب بين بيّنة المتّهمين وقسامتهم، فليس لهم الاكتفاء بالحلف مع إمكانيّة إقامة البيّنة، أو هم مخيّرون بينهما؟ المفهوم من الجمع بين روايات قَسَامة المتّهمين ورواية أنّ البيّنة في الدم على المتّهم هو أنّهما في عرض واحد، على أنّ الطولية مستبعدة بالنكتة التي شرحناها في البند الأول.

البند الثالث _ يفهم من الروايات أنّ حلف المتّهمين يكون في الرتبة المتأخّرة عن بيّنة وحلف المدّعي، كما هو واضح من رواية مسعدة: «كان أبي (عليه السلام) إذا لم يقم القوم المدّعون البيّنة على قتل قتيلهم، ولم يقسموا بأنّ المتهمين قتلوه حلّف المتهمين...».

577

ولا ينا في ذلك ما في بعض نُقول(1) قصّة الأنصاري الذي قتل بين أظهر اليهود من اقتراح الرسول (صلى الله عليه و آله) أوّلاً تحليف اليهود، وبعد امتناع الأصحاب عن ذلك _ لكونهم كفّاراً لا يتحرّزون عن الحلف الكاذب ضدّهم _ طالبهم بالحلف، فلو كان الصحيح هذا النقل وليس العكس الوارد في باقي النقول(2)، قلنا: إنّ هذا لا ينافي ما قلناه، بل يدعمه؛ إذ لولا كون حلف المدّعين _ لو استعدّوا _ رافعاً لحقّ الحلف للمتّهمين لما استجاب رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) لامتناعهم عن تحليف اليهود، ولما أعطاهم حقّ الحلف.

البند الرابع _ بيّنة المتّهم تقدّم على حلف المدّعي؛ فإنّ هذا هو المفهوم من قوله: «البيّنة على المدّعى عليه واليمين على المنكر»؛ فإنّ المرتكز عرفاً أنّ البيّنة هي التي تبيّن الواقع، والحلف فيه جنبة إيكال القضيّة إلى مسؤوليّة الحالف وإلى ضميره ووجدانه، فالذي يفهم من مثل هذا الكلام عرفاً بضميمة المناسبات الارتكازيّة هو تقديم بيّنة المنكر على يمين المدّعي.

البند الخامس _ لو تعارضت بيّنة المدّعي وبيّنة المنكر فقد يقال بتقديم بيّنة المنكر؛ لما دلّ على أنّ البيّنة على المنكر دون المدّعي، ولكن دليل كون البيّنة على المنكر إنّما دلّ على أنّ الذي يطالب بالبيّنة هو المنكر دون المدّعي، أمّا عدم قابليّة بيّنة المدّعي للمعارضة مع بيّنه المنكر، وأنّه لا يحقّ للمدّعي تقديم البيّنة ما لم يمتنع المنكر عن تقديمها فهذا مطلب زائد على مفاد ذاك الدليل.

وقد يقال بتقديم بيّنة المنكر من باب أنّه لا دليل على نفوذ بيّنة المدّعي عند وجود البيّنة للمنكر، فبيّنة المنكر تمتلك الدليل على النفوذ، وهو ما دلّ على أنّ البيّنة


(1) وسائل الشيعة، ج19، ص 114، الباب 10 من دعوى القتل، ح1 و2.

(2) نفس المصدر، ح3 و5 و7 .

578

على المنكر، أمّا بيّنة المدّعي فالذي يدل على نفوذها إنّما هو رواية بريد الدالّة على مطالبة الرسول (صلى الله عليه و آله) للأنصار بالبيّنة على قتل اليهود لصاحبهم، ولكنّها قضيّة في واقعة، ولا إطلاق لها لفرض امتلاك المنكر البيّنة.

ولكنّنا لو بنينا على وجود إطلاق لحجّية البيّنة بشكل عامّ، وهو نفس روايات البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر في سائر الموارد، وروايات البيّنة على المنكر واليمين على المدّعي في مورد الدم بتقريب أنّ كلمة البيّنة تشير إلى ما يبيّن الواقع في نظر العقلاء، وهذا يدل على إمضاء ما هو ثابت في مرتكز العقلاء من كونها بيّنةً على الواقع ومثبتةً له، فيتم الإطلاق المقامي لحجّية البيّنة بحدود ما يساعد عليه الارتكاز العقلائي. إذاً فالنتيجة في المقام حجّية بيّنة المدّعي أيضاً، فإنّ بيّنة مدّعي الدم لا شكّ أنّها مشمولة لارتكاز الحجّية عند العقلاء، غاية ما هناك أنّه ثبت بالنصّ في باب الدم دعم إضافي لجانب المدّعي، وهو قبول القَسَامة منه، ومحكوميّة المنكر بمجرّد أن لا يمتلك بيّنة ولا يستعدّ للقَسَامة. أمّا الحقّ الأصلي الثابت للمدّعي عقلائيّاً _ وهو إثبات مدّعاه بالبيّنة _ فلم يرد ما ينفيه؛ وعليه فعند تعارض البيّنتين تكون كلّ واحدة منهما بذاتها حجّةً، فتتعارضان وتتساقطان.

وقد يقال: إنّ قوله: «البيّنة على من ادّعى»، أو قوله: «البيّنة على من ادُّعي عليه» إنّما هو إشارة إلى ما هي بيّنة في حدّ ذاتها على الواقع، ويقول: إنّ تلك البيّنة التي هي في حدّ ذاتها بيّنة على الواقع وكاشفة عنه تكون على المدّعي، أو تكون على المدعى عليه، فهذا الكلام إنّما يدل _ بدلالة المقام _ على الحجّية الذاتية للبيّنة على الإطلاق لا الحجّية القضائية. إذاً فلا طريق لإثبات الحجّية القضائية لبيّنة المدّعي في باب اللّوث عندما يمتلك المنكر بيّنةً، فإنّ الدليل على حجّيتها القضائية إن كان هو رواية بريد فلا إطلاق لها لفرض امتلاك المنكر للبيّنة، وإن كان هو دلالة المقام

579

لرواية البيّنة على المدّعي أو البيّنة على المدّعى عليه فدلالة المقام لهما لا تدل على أكثر من الحجّية الذاتية دون القضائية، وإن كان هو ارتكاز العقلاء القائل بالحجّية القضائية لبيّنة المدّعي في اللّوث فهذا الارتكاز مردوع عنه بما دلّ في باب اللّوث من أنّ على المدّعي اليمين، فإنّ إطلاقه يشمل فرض امتلاكه للبيّنة. وهذا يعني أنّه حتى لو أقام بيّنةً فعليه اليمين. وهذا يدل على عدم حجّية بيّنته قضائيّاً، خرج من ذلك ما إذا لم تُعارَضْ بيّنتُه ببيّنة المنكر، وذلك برواية بريد، وبَقِيتْ بيّنته عند التعارض غير حجّة قضائياً، فتكون بيّنة المنكر هي الحجّة.

والجواب: أوّلاً _ أنّ رواية «البيّنة على من ادّعي عليه واليمين على المدّعي» لا تصلح للردع عن ذاك الارتكاز العقلائي؛ لأنّ المفهوم منها أنّها جاءت لتسهيل الأمر على المدّعي وإضافة طُرق له للوصول إلى مرامه، لا لسلب ما كان له من طريق في المرافعات الأُخرى.

وثانياً: أنّه لو فرضنا دلالة قوله: «اليمين على المدّعي» على عدم حجّية بيّنته حجّية قضائية، فقد عرفنا _ بضرورة الفقه _ أنّ الحكم هو خلاف ذلك؛ لقبول بيّنته فيما إذا لم تكن للمنكر بيّنة بلا إشكال، كما ورد ذلك في رواية بريد، وعندئذٍ فجعل هذا ردعاً عن بيّنة المدّعي في خصوص ما إذا كان المنكر يمتلك بيّنةً ليس أمراً مفهوماً عرفاً، فلا يصلح لرادعيّة من هذا القبيل.

وثالثاً: لو فرضنا الردع عن الحجّية القضائية لبيّنة المدّعي، كفتنا الحجّية الذاتية في معارضتها لبيّنة المنكر، وسقوط بيّنة المنكر معها _ بالتعارض _ عن الحجّية الذاتية، وبالتالي تسقط بيّنة المنكر عن الحجّية القضائية أيضاً؛ إذ المفهوم بدلالة المقام من دليل حجّية البيّنة قضائياً أنّها بما هي حجّة ذاتيّة صارت موضوعاً للحجّيه‏القضائية، فإذا تساقطت مع بيّنة المدّعي، فقد سقطت عن الحجّية القضائية أيضاً. وبعد التساقط

580

نرجع إلى قَسَامة المدّعي التي مضى في البند الرابع أنّها متأخّرة رتبةً عن بيّنة المنكر، فإن لم يمتلك قَسَامةً وصلت النوبة إلى قَسَامة المنكر التي مضى في البند الثالث أنّها متأخّرة رتبةً عن بيّنة المدّعي وقَسَامته.

لا يقال: إنّ دليل القسامة لا إطلاق له لفرض تعارض البيّنتين وتساقطهما، وإنّما ثبتت القسامة للمدّعي عند ما لا يمتلك المنكر البيّنة، والمفروض في المقام أنّ المنكر قد أقام البيّنة. وكذلك إنّما ثبتت القسامة للمنكر عند ما لا يمتلك المدّعي البيّنة، والمفروض في المقام أنّ المدّعي قد أقام البيّنة، ورواية علي بن الفضيل: _ «إذا وجد رجل مقتول في قبيلة قوم حلفوا جميعاً ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلاً»(1) التي قد يقال: إنّها تشمل بالإطلاق فرضَ تعارض البيّنتين وتساقطهما _ ساقطة سنداً؛ لعدم ثبوت وثاقة علي بن الفضيل.

فإنّه يقال: المفهوم عرفاً من أدلّة القَسَامة أنّه التجاء إلى تحكيم اليمين عند عدم تماميّة البيّنة التي تبيّن الواقع، ولا يحتمل العرف الفرق بين ما إذا كان عدم تماميّة البيّنة بعدم وجودها أو عدم اكتمال شرائطها أو بسبب التعارض والتساقط.

مدى ثبوت الدم بالنكول

وأمّا النقطة الثالثة _ وهي أنّ المنكر لو لم يمتلك البيّنة ولم يحلف قسامة خمسين، ثبت عليه الدم، فجهة الغموض فيها أنّه هل يثبت عليه الدم بذلك بمستوى الدية فحسب أو يثبت عليه القِصاص أيضاً؟

لعلّ المفهوم من الأصحاب القائلين بثبوت الدعوى عليه ثبوت القِصاص أيضاً


(1) وسائل الشيعة، ج19،ص115، الباب 9 من دعوى القتل، ح5.

581

في موارد القِصاص، ولكنّه روائيّاً مشكل؛ لأنّ جميع روايات الباب(1) إنّما أثبتت الدية بذلك لا القِصاص. نعم، موردها مورد عدم تعيّن القاتل في شخص معيّن، ومن الطبيعي في مثل ذلك الانتقال إلى الدِّيَة حتى لو آمنّا بأنّ النكول عن اليمين يثبت حقّ القِصاص، ولكنّي أقول: إنّه لم يرد في الروايات ما يثبت القِصاص عند نكول المنكر عن اليمين؛ لأنّها جميعاً إنّما تعرضت للدّية لا للقصاص.

وقد يُقال: إنّ نفس ما ورد من إثبات البيّنة والقَسَامة على المنكر تدل على أنّه لو لم يقدِّم شيئاً منهما ثبتت عليه الدعوى. وهذا يعني ثبوت الدِّيَة عندما لم نعلم بكون القتل عمديّاً، وثبوت القصاص عندما علمنا بكون القتل _ على تقدير وقوعه منه _ عمدياً.

ولكنّي أقول: إنّه يكفي مبرِّراً لمطالبة المنكر بالبيّنة أو القَسَامة أنّه لو لم يقدّم شيئاً منهما لثبتت عليه الدية، وعليه فلو ثبت إجماع كاشف في المقام فهو، وإلا فإثبات حقّ القصاص بمجرّد النكول مشكل.

نعم، لا إشكال في ثبوت القصاص بالبيّنة إذا قامت على العمد، كما لا ينبغي الإشكال أيضاً في ثبوت القصاص بالقَسَامة إذا حلفوا على العمد، كما يدل على ذلك ما ورد من أنّه جعلت القَسَامة كي يخاف القاتل أن يقتل بها، فيكفّ عن القتل، فلو لم تكن القسامة تثبت العمد لأمكن للقاتل أن يتخلّص من القتل بدعوى الخطأ، فيكتفي بدية العاقلة.

عدم اشتراط الجزم في دعوى القتل

وفي ختام البحث عن اللّوث في الدماء نقول: لا يشترط في ثبوت الدم بالبيّنة أو القَسَامة أو النكول كون ولي الدم مدّعياً للقتل على المتّهم دعوى جزميّة، وذلك


(1) راجع نفس المصدر، الباب 8 و9 و10 من دعوى القتل.