289

وقد أصبح هذا الاستدلال على المدّعى في زماننا من المسلّمات، ولكن لو بقي هذا الاستدلال على بساطته كان إشكاله أنّنا نسلّم تركّب الموضوع من جزءين، ونسلّم وقوع الشكّ في الجزء الثاني، ونسلّم عدم معقوليّة إحراز الحكم بدليل لم يحرز موضوعه، لكن يدّعى أنّ الموضوع نحرزه فيما نحن فيه بدليل العامّ وهو: (أكرم كلّ عالم) بعد فرض عدم انثلام ظهوره واحتمال صدقه، وكون صدقه متوقّفاً على عدالة الفرد المشكوك، فذلك من قبيل ما لو صرّح المولى بوجوب إكرام زيد وعلمنا من الخارج أنّه لا يجب إكرام أحد سوى العالم العادل، فإنّه يكشف هذا الكلام ـ لا محالة ـ عن كون زيد عالماً عادلاً، فليكن ما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ العامّ دلّ بعمومه على وجوب إكرام زيد، وهذه الدلالة لم تنثلم؛ لفرض كون المخصّص منفصلاً، ولم تقم حجّة أقوى على خلافها؛ لأنّ الخاصّ ليس حجّة في الفرد المشكوك، فنأخذ بها ونقول: إنّ المولى حكم بوجوب إكرام زيد، ونحن نعلم أنّ زيداً لا يجب إكرامه إلّا إذا كان عادلاً، فيثبت أنّ زيداً عادل ويجب إكرامه.

نعم، لا يمكن التمسّك بالعامّ بروح النظر إلى الشبهة الحكميّة؛ إذ لا شكّ لنا في الحكم بهذا اللحاظ، فإنّا نعلم أنّ ظهور العامّ في وجوب إكرام كلّ عالم انقسم إلى قسمين: أحدهما: وجوب إكرام العلماء العدول، وهذا القسم لا شكّ في حجّيّته، وثانيهما: وجوب إكرام العلماء الفسّاق، وهذا القسم لا شكّ في عدم حجّيّته، وليست هنا حصّة اُخرى للظهور بلحاظ الشبهة الحكميّة كما كان الأمر كذلك في الشبهة المفهوميّة، وإنّما شككنا في أنّ زيداً داخل في الحصّة الاُولى أو في الحصّة الثانية.

لكنّا نتمسّك بالعامّ بروح النظر إلى الشبهة الموضوعيّة؛ إذ للعامّ ظهور فعليّ في وجوب إكرام زيد، ووجوب إكرامه يمكن بنحوين: أحدهما: وجوب إكرامه ولو

290

كان في الواقع فاسقاً، وثانيهما: وجوب إكرامه لكونه غير فاسق أو لكونه عادلاً.

والنحو الأوّل لا يمكن إثباته؛ لما عرفت من أنّه ليس في البين شبهة حكميّة، بل إنّ قسماً من الظهور حجّة يقيناً وقسماً آخر منه غير حجّة يقيناً، لكنّ النحو الثاني يمكن إثباته، والشكّ في خروج زيد من العموم شكّ في التخصيص الزائد فنرجع إلى أصالة العموم، فإنّ الحكم لم يكن منصبّاً من أوّل الأمر على الطبيعة. وليس قوله: (لا تكرم الفسّاق من العلماء) ـ على ما هو المفروض ـ تقييداً للمطلق حتّى يقال: إنّ الثابت هو قيد واحد وبازدياد الفسّاق لا يزداد القيد، بل الحكم منصبّ على الأفراد والتخصيص مُخرِج للأفراد، فبازدياد الفسّاق يزداد التخصيص، فالشكّ في فسق زيد شكّ في تخصيص زائد فندفعه بأصالة العموم ونثبت بذلك عدالة زيد.

وهذه المغالطة ـ كما ترى ـ لا تنحلّ بما أفاده المحقّق النائينيّ(قدس سره)، إلّا أن يرجع كلامه إلى ما مرّ من اختيار مبنيين من بحثين: أحدهما: كون الحكم بمقتضى العموم ثابتاً للأفراد بما هي فرد لعنوان العامّ، وهذا أحد المبنيين من المبحث الأوّل، وثانيهما: كون التخصيص موجباً لتعنون الباقي، وهذا أحد المبنيين من المبحث الثاني. وبالجمع بين هذين المبنيين يتبرهن عدم حجّيّة العامّ في الشبهة المصداقيّة، فإنّ العامّ لا يدلّ إلّا على وجوب إكرام زيد بما هو عالم وهذا مقطوع الكذب، لكنّا لم نقبل المبنى الأوّل، فلابدّ من استيناف البحث.

والتحقيق في إثبات عدم حجّيّة العامّ في الشبهة المصداقيّة أن يقال: إنّه لو اُريد التمسّك بالعامّ فيها بروح النظر إلى الشبهة الحكميّة فقد ظهر من كلماتنا السابقة بما لا مزيد عليه أنّ هذا خلف فرض كون الشبهة مصداقيّة لا مفهوميّة.

ولو اُريد التمسّك بروح النظر إلى الشبهة الموضوعيّة فمعناه إثبات وجوب

291

إكرام زيد من حيث إنّه عادل، بحيث يثبت بذلك ـ بناءً على حجّيّة مثبتات الأمارة ـ أنّ زيداً عادل، وهذا يمكن تقريبه بثلاثة أنحاء:

الأوّل: أنّ قول المولى: (أكرم كلّ عالم) تكون دلالته المطابقيّة إنشاء وجوب إكرام زيد مثلاً، ودلالته الالتزاميّة إخباراً عن عدالة زيد؛ لما نعلم من أنّ زيداً لو لم يكن عادلاً لم يجب إكرامه.

ويرد عليه: أنّ الشارع عند بيانه للأحكام بنحو القضايا الحقيقيّة ليس في مقام الإخبار عن مثل عدالة زيد، فإنّه لا يعلم بعدالة زيد حتّى يخبر عنه إلّا من باب علم الغيب، وليس البناء على إعمال علم الغيب في مقام بيان الأحكام.

وبكلمة اُخرى: إنّ المولى بما هو متكلّم بهذا الكلام لا يمتاز عنّا في تشخيص الموضوعات حتّى يكون كلامه ظاهراً في الإخبار عن الموضوعات.

والخلاصة: أنّ وجوب إكرام زيد يتصوّر بنحوين: أحدهما: وجوب إكرامه حتّى على فرض فسقه، وهذا مقطوع العدم، وثانيهما: وجوب إكرامه لكونه عادلاً، وهذا الوجوب لا يمكن للشارع بيانه إلّا من باب الإخبار عن الموضوعات الخارجيّة بعلم الغيب(1)، وليس هذا من شغله عند بيان الأحكام.

 


(1) على أنّ هذا غير محتمل حينما تكون القضيّة حقيقيّة لا خارجيّة.

ثُمّ إنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) نقل عن المحقّق العراقيّ وجهاً لإبطال التمسّك بالعامّ لإثبات عدم العنوان الخاصّ في الفرد المشكوك بالملازمة، أي: إثبات عدم الفسق في المثال الذي فرضناه، وهو: أنّه كما يكون الفرد المشكوك فسقه مثلاً محتمل الخروج عن دائرة الحكم لأجل الفسق من باب الشبهة الموضوعيّة، كذلك من المحتمل عدم وجوب إكرامه ولو كان عادلاً. فهنا شبهتان: شبهة حكميّة بسبب احتمال عدم وجوب إكرامه حتّى لو كان عادلاً،

292


وشبهة موضوعيّة بسبب احتمال فسقه.

وحجّيّة العامّ في قبال الشبهة الموضوعيّة تكون متأخّرة رتبة عن حجّيّته في قبال الشبهة الحكميّة؛ إذ لابدّ أن يعيّن أوّلاً مَن يجب إكرامه بالعامّ حتّى تصل النوبة إلى إثبات وجوب إكرام مشكوك الحال، في حين أنّ دليل حجّيّة العامّ لا يتكفّل بالنسبة لكلّ فرد إلّا حجّيّة واحدة، فلا يمكن أن يتمسّك بالعامّ لهذا الفرد مرّتين: مرّة بلحاظ الشبهة الحكميّة، واُخرى بلحاظ الشبهة الموضوعيّة، بل لابدّ من التمسّك به مرّة واحدة، فلو اختير التمسّك به في مقابل الشبهة الحكميّة لم يبق مجال لرفع الشبهة الموضوعيّة بإثبات عدالته. ولو اختير التمسّك به في مقابل الشبهة الموضوعيّة من دون التمسّك به في مقابل الشبهة الحكميّة لم يكن ذلك معقولاً؛ لما قلناه: من أنّ التمسّك به بلحاظ الشبهة الموضوعيّة يكون في طول التمسّك به بلحاظ الشبهة الحكميّة.

قال اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): وذكر الشيخ العراقيّ في مقالاته: أنّ هذا الكلام إنّما يتمّ بناءً على تفسير الحجّيّة بجعل الحكم المماثل، وأمّا لو فسّرناها بتتميم الكشف وإلغاء احتمال الخلاف فلا يتمّ هذا الكلام، فإنّ لنا احتمالين طوليّين: أحدهما: احتمال عدم وجوب إكرامه لما نعلم به من أنّه نحويّ، وهذا ما نلغيه أوّلاً بدليل حجّيّة العامّ، ثُمّ تصل النوبة إلى احتمال فسقه المانع عن وجوب إكرامه، وهذا ما نلغيه ثانياً بدليل حجّيّة العامّ. وهذا من قبيل ما يقال في باب الإخبار مع الواسطة: من أنّنا نثبت إخبار فلان بحجّيّة خبر مَن أخبر عنه، فيتمّ لنا موضوع ثان لحجّيّة خبر الثقة وهو إخبار فلان، ولا مانع من كون التمسّك بمقتضى الحجّيّة موجداً لفرد آخر لدليل الحجّيّة والتمسّك به ثانياً.

قال اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): لا فرق في المقام بين أن نفسّر الحجّيّة بمعنى جعل الحكم

293

الثاني: أنّ الشارع وإن لم يكن ـ بما هو متكلّم بهذا الكلام ـ مطّلعاً على عدالة زيد حتّى يخبر عنها، لكن يمكنه جعل أمارة تعبّديّة على عدالته، وجعل أمارة تعبّديّة على الموضوعات يكون من شغله كجعل اليد أمارة على الملكيّة والسوق أمارة على التذكية، فنقول: إنّ الشارع جعل ظهور كلامه في وجوب إكرام زيد أمارة تعبّديّة على كونه عادلاً.

ولايرد على هذا الوجه ما ورد على الوجه السابق، فإنّ إعمال علم الغيب لم يكن من شأنه في مقام بيان الأحكام ولكن من شأنه جعل أمارة على الموضوعات.

 


المماثل أو بمعنى تتميم الكشف، فعلى كلا التقديرين نقول: إنّ التمسّك بعموم العامّ بلحاظ الأفراد لا يثبت إلّا أمراً واحداً، فعلى مبنى إلغاء احتمال الخلاف نقول: لا يوجد إلّا احتمال واحد نلغيه، وهو احتمال عدم وجوب إكرام هذا الفرد، غاية الأمر أنّ لهذا الاحتمال منشأين: أحدهما: احتمال عدم وجوب إكرامه ولو كان عادلاً، والآخر: احتمال الفسق، ونحن نلغي احتمال عدم وجوب إكرام هذا الفرد بمقتضى دليل حجّيّة العامّ. وعلى مبنى جعل الحكم المماثل نقول أيضاً: لا نثبت بالعامّ إلّا جعل وجوب إكرام هذا الفرد الذي كان يحتمل عدم وجوب إكرامه، وكان لهذا الاحتمال منشآن.

فظهر ممّا ذكرناه: أنّ الجواب الذي ذكره المحقّق العراقيّ(رحمه الله) عن هذا الكلام ـ بناءً على كون الحجّيّة بمعنى تتميم الكشف وإلغاء احتمال الخلاف ـ غير صحيح، وأنّ أصل هذا الكلام غير صحيح.

أقول: وبإمكانك مراجعة كلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في المقالات، ج 1، المقالة: 31،ص 442 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم.

294

ويرد عليه: أنّ ظهور كلامه في وجوب إكرام زيد لا يعقل أن يثبت أماريّته على عدالة زيد بنفسه، بل لابدّ من قيام دليل آخر على أماريّته عليها، ولم ترد آية ولا رواية تدلّ على ذلك، ولا تدلّ السيرة العقلائيّة في حجّيّة الظهورات على ذلك، فإنّ السيرة العقلائيّة إنّما قامت على حجّيّة الظهورات بالنسبة لما تقتضي الكشف عنه لا بالنسبة لما لا تقتضي الكشف عنه.

وليس ظهور كلام المولى في وجوب إكرام زيد كاشفاً عن عدالته، وإلّا لتمّ التقريب الأوّل، وقد قلنا بعدم تماميّته لعدم بناء الشارع على إعمال العلم بالغيب.

الثالث: أن يقال أيضاً: إنّ للشارع جعل أمارة على عدالة زيد، لكن لا نقول بكون ظهور كلامه في وجوب إكرام زيد أمارة على ذلك حتّى يرد عليه ما عرفت، بل نقول بأنّ الشارع جعل علمه أمارة على عدالته، وهذا الجعل أيضاً يحتاج إلى دليل، لكن قد ورد الدليل عليه وهو نفس ظهور كلام الشارع في وجوب إكرام زيد.

توضيحه: أنّه لا إشكال في أنّ كلام الشارع ظاهر في وجوب إكرام زيد بالفعل، فلو كان مراده هو الوجوب الواقعيّ بالفعل لزم من ذلك إعماله للعلم بالغيب، وقد مضى أنّ هذا خلاف دأبه وديدنه، ولكنّنا نقول: إنّ مراده هو الوجوب الظاهريّ، وهذا يكشف بالملازمة عن أنّ الشارع جعل في الرتبة السابقة العلم أمارة على العدالة، وإلّا لم يكن له الحكم بوجوب الإكرام وجوباً ظاهريّاً.

ويرد عليه: أنّه لو قيل بدلالة كلام الشارع على الوجوب الظاهريّ فإمّا أن يقال بدلالة كلامه على وجوبين طوليّين: الأوّل وجوب واقعيّ ثابت على فرض كونه عادلاً، والثاني وجوب ظاهريّ ثابت في فرض الشكّ، فلو اتّفق كونه في الواقع عادلاً كان إكرامه واجباً بوجوبين: واقعيّ وظاهريّ. أو يقال بعدم دلالته على الوجوب الواقعيّ ولوكان في الواقع عادلاً.

295

فإن قيل بالأوّل ورد عليه: أنّ قوله: (أكرم كلّ عالم) لا يحتمل إلّا بيان وجوب واحد لكلّ فرد لا وجوبين. وإن قيل بالثاني انهدم موضوع الوجوب الظاهريّ، فإنّه إنّما يثبت وجوب إكرام زيد ظاهراً بقيام الأمارة على عدالته لو فرض أنّه على تقدير العدالة يجب إكرامه واقعاً، وأمّا لو فرض عدم وجوب إكرامه واقعاً حتّى على تقدير العدالة فلا معنى لوجوب إكرامه ظاهراً عند الشكّ في العدالة(1).

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال لا يرد على التقريب الثاني، فإنّ العامّ على التقريب الثاني لا يدلّ على حكمين وإنّما يدلّ على الحكم الواقعيّ، وإنّما يستفاد الحكم الظاهريّ من دليل جعل ظهور العامّ أمارة على العدالة لو كان.

وقد تحقّق بكلّ ما ذكرناه عدم حجّيّة العامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص المنفصل المردّد بين الأقلّ والأكثر.

 

موارد الاستثناء من عدم الحجّيّة في المقام:

نستثني من عدم الحجّيّة في المقام موردين:

الأوّل: ما إذا كان العامّ قضيّة خارجيّة وكانت الأفراد محدودة بنحو لا يكون علم المولى بحالها خلاف المتعارف، كما لو قال: (أكرم كلّ علماء البلد)، وعلمنا من الخارج أنّه لا يجب إكرام عالم فاسق، وكان علماء البلد محدودين بمقدار



(1) ويرد أيضاً على هذا الوجه: أنّ الظاهر من دليل حكم وجوب الإكرام مثلاً هو إرادة الحكم الواقعيّ فحسب، كما هو الأصل في جميع أدلّة الأحكام ما لم ينصّ على أخذ الشكّ في الحكم الواقعيّ في موضوعها، فلا دلالة للكلام على حكم ظاهريّ كي نكتشف من ذلك جعل العلم أمارة على العدالة أو عدم الفسق.

296

يحتمل بحسب المتعارف فحص المولى عن حالهم وثبوت عدالتهم عنده، فإنّه لا إشكال عندئذ في أنّ قوله: (أكرم كلّ علماء البلد) يدلّ على عدالتهم ويتمّ فيه التقريب الأوّل من التقريبات الثلاثة للتمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

الثاني: ما إذا كانت الشبهة في نفسها حكميّة وإن كان العامّ قضيّة حقيقيّة، توضيح ذلك: أنّه ربّما تكون الشبهة بلحاظ العموم والخصوص مصداقيّة لا مفهوميّة، أي: أنّها ناشئة من الشكّ في مصداق الخاصّ لا مفهومه، لكنّها بلحاظ نفسها تكون شبهة حكميّة لا موضوعيّة، مثاله: ما لو قال المولى: (توضّأ بأيّ ماء شئت)، ونحن نعلم أنّ الوضوء بالماء النجس غير صحيح، وشككنا في أنّ الماء الخارج من المعدن نجس أو لا؟ فهذه بلحاظ العموم والخصوص شبهة مصداقيّة لا مفهوميّة؛ إذ شبهة خروج ماء المعدن عن تحت العامّ بالتخصيص وعدمه ناشئة من الشكّ في مصداق النجس لا مفهومه، لكنّه بلحاظ نفسه شبهة حكميّة لا موضوعيّة، فإنّ النجاسة حكم من أحكام الشارع وقد شككنا في أنّه هل حكم الشارع بنجاسة المعدن أو لا؟

ونحوه ما لو قال: (صلّ في اللباس المساور لأيّ شخص)، وعلمنا أنّه لا تصحّ الصلاة في اللباس النجس، لكن شككنا في أنّه هل الكافر الكتابيّ نجس حتّى يكون الثوب المساور له نجساً أو لا؟

وهكذا أيضاً لو قال: (صلّ في اللباس المتّخذ من أيّ حيوان)، وعلمنا أنّه لا تجوز الصلاة في اللباس المتّخذ ممّا لا يقبل التذكية أو ممّا يحرم أكله، وشككنا في أنّ الحيوان الفلانيّ هل يقبل التذكية أو هل يحلّ أكله أو لا؟ فإنّ الشكّ في ذلك يكون بلحاظ المخصّص شكّاً في مصداقه لا مفهومه، لكنّه في نفسه شبهة حكميّة لا موضوعيّة، فإنّ حرمة الأكل وحلّيّته وكذا قبول التذكية وعدمه يكون من أحكام

297

الشارع وقد وقع الشكّ فيما جعله من الحكم في هذا القسم من الحيوان.

ونحوه ما لو قال المولى: (حجّ على أيّ حال)، وعلمنا أنّه لا يجب الحجّ مع الابتلاء بمزاحم أهمّ، وشككنا في أنّ أداء الدين المزاحم له أهمّ أو لا، فإنّ هذا شكّ في مصداق المخصّص لا مفهومه، لكنّه في نفسه شبهة حكميّة لا موضوعيّة، فإنّ الشكّ في أصل كون أداء الدين أهمّ شبهة حكميّة.

والخلاصة: مهما كان الشكّ ذا اعتبارين، أي: أنّه باعتبار المخصّص شبهة مصداقيّة وباعتبار نفسه شبهة حكميّة، يجوز التمسّك بالعامّ بالتقريب الأوّل من التقريبات الثلاثة لجواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة؛ لأنّ بيان الحكم في الشبهة الحكميّة من وظيفة الشارع ومن دأبه وديدنه وليس خلاف ما هو المتعارف بشأنه، فبمجرّد احتمال كونه في مقام بيان ذلك نأخذ بالعموم.

وممّا يمكن أن يدخل في هذا المورد ما ورد في صحيح زرارة في مَن جهر فيما ينبغي فيه الإخفات وبالعكس: من أنّه إن كان ذلك عن علم وعمد فعليه الإعادة، فإنّ هذا مخصَّص عقلاً بخروج فرض كون الانبغاء استحبابيّاً لا وجوبيّاً، فإذا ورد الدليل في مورد على انبغاء الجهر أو الإخفات وشككنا في أنّه انبغاء وجوبيّ أو استحبابيّ تمسّكنا بهذا العموم ـ بناءً على عدم عدّ هذا التخصيص متّصلاً ـ وثبت كونه وجوبيّاً؛ لأنّ الشبهة في نفسها حكميّة وإن كانت بالقياس إلى التمسّك بالعامّ في شبهة المخصّص مصداقيّة.

وأمّا على مبنى المحقّق النائينيّ(قدس سره) مثلاً الذي لا يقول بهذا الاستثناء فلا يجوز هنا التمسّك بالعامّ لإثبات كون الانبغاء وجوبيّاً.

هذا. ولكن يحتمل أنّه كان مقصود زرارة هو السؤال عن أنّ الموارد التي ينبغي فيها الجهر أو الإخفات هل ذلك فيه وجوبيّ أو استحبابيّ، وعلى هذا ففي مورد

298

الشكّ يثبت الوجوب بهذا الحديث على جميع المباني بلا إشكال، ويخرج هذا الحديث عمّا نحن فيه.

والشاهد على ما ذكرناه من الاحتمال هو: أنّ زرارة إن كان نظره إلى فرض العمد فوجوب الإعادة بترك الواجب في الصلاة عمداً من الواضحات ولا يحتاج إلى سؤال. وإن كان نظره إلى فرض غير العمد لم يناسب جواب الإمام(عليه السلام)عن فرض العمد. إذن فلعلّ المراد ما ذكرناه.

وأمّا احتمال كون سؤاله عن أنّ الجهر أو الإخفات هل هو قيد الصلاة أو واجب في واجب فبعيد جدّاً(1).

ثُمّ إنّ ما قلناه: من جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة في هذين الموردين إنّما هو مع فرض عدم نصب المولى قرينة على أنّه ليس في مقام الإخبار عن الموضوع، وإلّا فلا مجال للتمسّك به كما هو واضح.



(1) لا يخفى أنّ صحيح زرارة هذا هو ما رواه في الوسائل، ب 26 من القراءة في الصلاة، ح 1 نقلاً عن الصدوق في الفقيه بإسناده عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر(عليه السلام)في رجل جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه وأخفى فيما لا ينبغي الإخفاء فيه فقال: «أيّ ذلك فعل متعمّداً فقد نقض صلاته وعليه الإعادة، فإن فعل ذلك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شيء عليه وقد تمّت صلاته».

والتعبير في هذا الحديث جاء بلسان (لا ينبغي) وليس بلسان (ينبغي) والفرق بينهما كبير، فإنّ (ينبغي) لا يدلّ على الوجوب ولكن (لا ينبغي) يدلّ على الامتناع إمّا تكويناً كما في قوله تعالى: (لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أنْ تُدرِكَ القَمَر﴾ أو تشريعاً كما في الأحكام، فالتمسّك بالحديث في مورد الشكّ في وجوب الجهر أو الإخفات يكون تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة لنفس العامّ وهو غير جائز يقيناً.

299

ونصب القرينة على ذلك تارةً يكون بالتصريح بذلك، واُخرى يكون بما يدلّ على ذلك من دون تصريح به، ومنه بيانه للمخصّص بعنوان التخصيص.

توضيح ذلك: أنّ المخصّص تارةً: يكون لبّيّاً، أي: أنّ الدالّ على التخصيص هو العقل، كما لو قال: (أكرم كلّ عالم من علماء هذا البلد)، وعلمنا أنّ المولى سنخ مولىً لا يحكم بإكرام الفسّاق، ويلحق بذلك الإجماع على بعض المباني في الإجماع. وهذا القسم من التخصيص لا يكون قرينة على عدم كون المولى في مقام بيان الموضوع.

واُخرى: يكون لفظيّاً، أي: أنّ المولى بنفسه صرّح بالمخصّص، وهذا على قسمين:

فإنّه تارةً: يصرّح بالمخصّص لكن لا بعنوان التخصيص، كما لو قال: (أكرم كلّ عالم من علماء هذا البلد)، وقال أيضاً: (أنا لا أرضى بإكرام فاسق قطّ)، بحيث لم نحتمل كون مقصوده عدم الرضا بإكرام الفاسق الجاهل فقط. وهذا القسم من التخصيص أيضاً ليس قرينة على عدم كونه في مقام بيان الموضوع.

واُخرى: يصرّح بالمخصّص بعنوان التخصيص، كما لو قال: (أكرم كلّ عالم من علماء هذا البلد)، وقال أيضاً: (لا تكرم فسّاق علماء هذا البلد). وهذا القسم من التخصيص يكون عرفاً قرينة على عدم كونه في مقام بيان الموضوع والإخبار عن عدالة علماء البلد، والوجه في ذلك بعض اُمور ثلاثة:

الأوّل: أن يقال: لو كان المولى بقوله: (أكرم كلّ علماء البلد) مخبراً عن عدالة الجميع لكان قوله: (لا تكرم فسّاق علماء البلد) لغواً.

وهذا إنّما يتمّ بضمّ ظهور عرفيّ يكمل دعوى اللغويّة، وإلّا أمكن أن يقال: إنّ اللغويّة غير ثابتة؛ إذ لعلّ قوله: (لا تكرم فسّاق علماء البلد) صدر منه بداعي بيان

300

مناط الحكم، وأنّه لا يرضى بإكرام الفاسق ولو كان عالم هذا البلد مثلاً، وهذالا يصبح لغواً بعلم المولى بعدالة جميعهم.

نعم، لو ضممنا مثلاً إلى مسألة اللغويّة ظهور المخصّص أحياناً ـ كما لو كان في مقام بيان حكم إلزاميّ ـ في كونه صادراً بداع مقدّميّ ناظراً إلى حكم خصوص الفرض في الخارج، لا لمجرّد بيان مناط الحكم تمّ هذا الوجه؛ إذ من الواضح أنّه مع فرض عدالة جميعهم في نظر المولى لا تعقل هذه المقدّميّة.

الثاني: أن يقال ابتداءً: إنّ قوله: (لا تكرم فسّاق علماء البلد) ظاهر عرفاً في أنّ المولى إن لم يكن عالماً بفسق بعضهم فلا أقلّ من أنّه ليس عالماً بعدالة جميعهم، فلا يحتمل كون قوله: (أكرم كلّ علماء البلد) إخباراً عن عدالة جميعهم. وهذا الوجه موافق للذوق العرفيّ ولا إشكال فيه.

الثالث: أن يقال: إنّ قوله: (لا تكرم فسّاق علماء البلد) مع قطع النظر عمّا مضى ـ من ظهوره في عدم علم المولى بعدالة الجميع ـ يكون بنفسه ظاهراً عرفاً في أنّ المولى بصدد بيان كبريات المطلب، وجعل تشخيص الموضوع على عاتق العبد. وهذا الوجه أيضاً موافق للذوق العرفيّ ولا إشكال فيه.

ثُمّ لو ثبت فسق بعض علماء البلد بالخصوص فبناءً على تماميّة الوجه الثالث لا يمكن أيضاً إثبات عدالة تمام الباقي بالعامّ. لكن لو اعتمدنا على الوجه الأوّل أو الثاني فحسب دون الثالث، فمع فرض ثبوت فسق بعضهم بالخصوص يمكن إثبات عدالة الباقي بالعامّ؛ لعدم جريان ذينك الوجهين في هذا الفرض كما هو واضح(1).

 


(1) لا يخفى أنّه إذا تمّ البناء ـ بعد أن ورد المخصّص بعنوان التخصيص ـ على عدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص قبل معرفة فاسق فيهم مثلاً، فعدم

301

هذا تمام الكلام فيما هو المختار في التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص المنفصل.

 

الكلام في تفصيل الشيخ الأعظم في المقام:

وقد نقل عن الشيخ الأعظم(قدس سره) في ذلك تفصيل(1)، وهو: أنّ المخصّص إن كان لفظيّاً لم يجز التمسّك بالعامّ وإن كان لبّيّاً جاز التمسّك به.

 


جواز التمسّك فيه بعد معرفة فاسق فيهم أوضح، من دون فرق بين أن يقرّب عدم جواز التمسّك بالوجه الأوّل أو الثاني أو الثالث. فالظاهر أنّ مقصود اُستاذنا(رحمه الله)هو الكلام عمّا إذا لم يرد مخصّص من هذا القبيل ولكن مع ذلك علمنا بتخصيص لبّيّ أو بتخصيص بغير لسان التخصيص أخرج الفاسق مثلاً عن الحكم، فبنينا على حجّيّة العامّ في الشبهة المصداقيّة، فترقَّبْنا أن يكون الكلّ عدولاً، ثُمّ اتّفق أنّنا علمنا بفسق أحدهم فقطعنا بخروجه من العامّ وشككنا في فسق آخر، فهل يبقى العامّ حجّة في الآخر وتثبت بالملازمة عدم فسقه أو لا؟

والجواب: إن وافقنا على الوجه الثالث من ظهور حال المخصّص في إلقاء تشخيص الموضوع على عاتق العبد، فنفس ظهور الحال هذا موجود في نفس العامّ بعد فرض علمه بوجود فاسق فيهم، فينغلق باب التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة في الشخص الثاني. أمّا لو لم نؤمن بالوجه الثالث وإنّما آمنّا بمسألة اللغويّة فمن الواضح أنّه لا لغويّة في المقام، أو آمنّا بمسألة ظهور المخصّص في جهل المولى فليس هنا مخصّص يكون ظاهراً في جهل المولى، فيبقى الباب مفتوحاً للتمسّك بالعامّ بشأن الشخص الثاني.

(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 474 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 536 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

302

وأحسن ما يقال في وجه ذلك: هو أنّ المخصّص إن كان لفظيّاً فالحجّة على التخصيص هو الظهور الذي ثبتت حجّيّته تعبّداً ببناء العقلاء، وإذا احتملنا فسق زيد العالم مع أنّ المولى قال: (لا تكرم فسّاق العلماء) فلا محالة نحتمل دخوله فيما هو الحجّة على التخصيص وهو ظهور الخاصّ، فلا يمكننا التمسّك بالعامّ المفروض عدم حجّيّته فيما يكون داخلاً في الحجّة على التخصيص؛ لمزاحمته مع الحجّة الأقوى.

وأمّا إن كان المخصّص هو حكم العقل أو الإجماع الحاكم بأنّ المولى لا يريد إكرام فسّاق العلماء فهذا ليس بنفسه حجّة تعبّداً، وإنّما يكون ملاك حجّيّته حصول القطع والحجّة في الحقيقة هو القطع، وعلى هذا فلو شككنا في فسق زيد وعدمه نقطع بأنّه غير داخل تحت الحجّة على التخصيص؛ إذ الحجّة على التخصيص إنّما هو القطع بالخروج، ومن الواضح أنّنا لا نقطع بخروج زيد. ففرقٌ واضح بين ما لو كانت الحجّة على التخصيص هو الظهور أو كانت الحجّة عليه هو القطع، فإنّ الظهور في خروج الفسّاق ينحلّ إلى ظهورات متعدّدة بعدد أفراد الفاسق الواقعيّ، وأمّا القطع والعلم بخروج الفسّاق فلا ينحلّ إلّا إلى علوم متعدّدة بعدد الأفراد المعلومة الفسق. وأمّا الفرد غير المعلوم الفسق فلا يسري إليه القطع بالخروج ولو كان في الواقع فاسقاً(1).



(1) إن قصد بالحجّيّة التنجيز والتعذير فالحجّيّة مخصوصة بالقدر المتيقّن سواءً في المخصّص اللفظيّ أو اللبّيّ. وإن قصد بها كاشفيّة المخصّص عن الحكم المخالف للعامّ كشفاً كبرويّاً بغضّ النظر عن التطبيق على الصغرى فالحجّيّة ثابتة بلحاظ تمام دائرة التخصيص الواقعيّ سواءً في المخصّص اللفظيّ أو اللبّيّ، وافتراض أنّ الكشف أو الحجّيّة تعبّديّة تارةً وعقليّة اُخرى لا يؤثّر في الحساب. وإن قصد بها الكشف عن الحكم المخالف صغرويّاً وبعد التطبيق فأيضاً الحجّيّة مخصوصة بالقدر المتيقّن بلا فرق بين القسمين.

303

ولكنّ التحقيق: أنّه لا يتمّ هذا التقريب سواءً سلكنا في مقام إثبات عدم حجّيّة العامّ في الشبهة المصداقيّة المسلك المختار أو سلكنا في ذلك المسلك المشهور، وبلا فرق بين القضايا الحقيقيّة والقضايا الخارجيّة:

أمّا في القضايا الحقيقيّة: فلا يجوز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة في غير ما استثنيناه ولو كان المخصّص لبّيّاً، ولا يتمّ فيها التقريب المذكور بلا فرق بين مسلكنا ومسلك المشهور:

أمّا بناءً على مسلكنا الذي كانت خلاصته أنّه لو اُريد التمسّك بالعامّ بلحاظ الشبهة الحكميّة كان معناه إثبات أنّه يجب إكرام زيد ولو كان فاسقاً وهذا مقطوع العدم، ولو اُريد التمسّك به بلحاظ الشبهة الموضوعيّة وإثبات أنّه يجب إكرام زيد لكونه عادلاً أو غير فاسق كان ذلك متوقّفاً على إعمال المولى علمه بالغيب في مقام الإخبار وليس هذا شأنه عند بيان الأحكام، فأنت ترى أنّ هذا الوجه يجري حتّى في المخصّص اللبّيّ، فإنّ المفروض حصول القطع بخروج الفاسق، وهذا القطع وإن لم يكن منحلاًّ على الأفراد المشكوكة الفسق، فزيد المشكوك فسقه غير داخل في القطع بالخروج، لكن مع ذلك لا يمكن إثبات وجوب إكرامه؛ لأنّ أصل الكبرى ـ وهي عدم وجوب إكرام الفاسق ـ مقطوع بها، فإن اُريد التمسّك بالعامّ بلحاظ الشبهة الحكميّة كان معناه إثبات وجوب إكرامه ولو كان فاسقاً وهذا مقطوع العدم. وإن اُريد التمسّك به بلحاظ الشبهة الموضوعيّة وإثبات وجوب إكرامه لعدالته أو عدم فسقه كان ذلك متوقّفاً على إعمال علم الغيب المفروض خلافه(1).



(1) خصوصاً في القضايا الحقيقيّة.

304

وأمّا بناءً على مسلك المشهور، وهو: أنّ موضوع الحكم أصبح مركّباً من جزءين والجزء الثاني مشكوك فيه، ومع الشكّ في الموضوع لا يمكن ثبوت الحكم، فأيضاً لا يجوز التمسّك به في المخصّص اللبّيّ؛ لجريان عين هذا الوجه فيه، فزيد المشكوك فسقه وإن لم يكن داخلاً في القطع بالخروج لكن لا يمكن مع ذلك إثبات وجوب إكرامه؛ لأنّ القطع بأصل الكبرى ـ وهي عدم وجوب إكرام الفاسق ـ ثابت، فقد علمنا لا محالة بتركّب الموضوع من جزءين والجزء الثاني مشكوك فيه على الفرض، فلا يمكن إثبات الحكم. وأيّ فرق بين أن يثبت جزءٌ مشكوك الحصول للموضوع بخبر الثقة أو يثبت ذلك بحكم العقل؟ هذا كلّه في القضايا الحقيقيّة.

وأمّا في القضايا الخارجيّة ـ كقوله: (أكرم كلّ عالم البلد) وقوله: (لا تكرم فسّاق علماء البلد) ـ: فإن كان المسلك في عدم حجّيّة العامّ في الشبهات المصداقيّة هو المسلك المختار فلا يأتي على التمسّك بالعامّ فيها هنا ـ مع فرض محدوديّة الأفراد بحيث يمكن عادةً إطّلاع المولى على حالهم ـ ما مضى من إشكال عدم كون بناء الشارع على إعمال علم الغيب، فيصحّ فيه التمسّك بالعامّ مع عدم نصب القرينة على عدم الإخبار عن حال الأفراد، لكن ملاك ذلك كون العامّ قضيّة خارجيّة فيمكن للمولى الالتفات إلى الأفراد، لا كون المخصّص لبّيّاً ويصحّ فيه التمسّك بالعامّ ولو كان المخصّص لفظيّاً ما لم تكن قرينة على عدم الإخبار عن حال الأفراد.

وأمّا إن كان المسلك في ذلك ما سلكه المشهور من أنّ الموضوع صار ذا جزء مشكوك التحقّق، فإن برهنّا على صيرورته ذا جزء وأنّ العامّ تعنون بعد التخصيص بعنوان وجوديّ أو عدميّ بما مضى منّا ـ من كون تبعيّة الأحكام للملاكات

305

مستلزمة لذلك ـ فيأتي عين الكلام في فرض كون المخصّص لبّيّاً، فإنّه بعد أن فرض القطع بخروج الفاسق، وأنّ خروجه يكون لاختصاص ملاك الإكرام بالعالم العادل أو العالم غير الفاسق يثبت ـ لا محالة ـ تعنون العامّ بعنوان وجوديّ أو عدميّ وثبوت جزء للموضوع مشكوك تحقّقه، فلا يمكن إثبات الحكم لفرض الشكّ في الموضوع.

وأمّا إن برهنّا على ذلك بما أفاده المحقّق النائينيّ(قدس سره) ـ من أنّ الإهمال غير معقول، والإطلاق يستلزم ثبوت الحكم بالنسبة لمَن هو فاسق وهو خلف، فتعيّن التقييد ـ فعندئذ نفصّل في القضيّة الخارجيّة بين ما لو علم بفسق بعض الأفراد أو احتمل عدالة الجميع:

فإنّه على الأوّل يأتي عين البرهان، وهو: أنّ الإهمال غير معقول، والإطلاق يستلزم ثبوت الحكم بالنسبة لمَن هو فاسق، فيثبت بهذا البرهان جزء للموضوع وهو مشكوك الحدوث، فلا يثبت الحكم سواءً كان المخصّص لفظيّاً أو لبّيّاً.

وأمّا إن احتملنا عدالة الجميع فيجوز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، لا لما مضى من البرهان على التفصيل بين المخصّص اللبّيّ واللفظيّ، بل يجوز التمسّك حتّى لو كان المخصّص لفظيّاً؛ وذلك لأنّه وإن ثبت عدم جواز إكرام العالم الفاسق وسمّينا ذلك بالتخصيص، مع أنّه من المحتمل كون جميع علماء البلد عدولاً، لكن لم يثبت جزء للموضوع ولم يثبت تعنون العامّ بعنوان؛ لأنّ البرهان على ذلك لم يكن إلّا أنّ الإهمال محال، والإطلاق مستلزم لوجوب إكرام الفرد الفاسق، وهذا التقريب ـ كما ترى ـ لا يأتي هنا؛ لأنّه لم يثبت كون الإطلاق مستلزماً لوجوب إكرام الفاسق؛ لأنّه من المحتمل أن لا يكون فيهم فرد فاسق.

ثُمّ إنّه تعارف التمثيل للمخصّص اللبّيّ بما ورد عن الإمام(عليه السلام)من قوله: «لعن

306

الله بني اُميّة قاطبة» مع جزم العقل بأنّ الإمام(عليه السلام) لا يلعن المؤمن، فيقال: إنّه يجوز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، أي: عند الشكّ في إيمان بعض أفراد بني اُميّة؛ لكون المخصّص لبّيّاً.

وأقول: إنّ الوجه في جواز التمسّك بالعامّ هنا هو كون العامّ قضيّة خارجيّة لا كون المخصّص لبّيّاً؛ فإنّ الظاهر أنّ لعنه(عليه السلام) كان لكلّ مَن وجد في ذلك الزمان من بني اُميّة، لا أنّه يفهم من ذلك الكلام لعن كلّ مَن سبق من بني اُميّة وكلّ مَن يوجد بعد ذلك وكلّ فرد مقدّر الوجود، فإنّ المفهوم عرفاً من ذاك الكلام ما ذكرناه.

 

الكلام في تفصيل المحقّق النائينيّ في التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص اللبّيّ:

ثمّ إنّ المحقق النائينيّ(قدس سره) ذهب في المخصّص اللبّيّ إلى تفصيل فقال بجواز التمسّك فيه بالعامّ في الشبهة المصداقيّة في بعض الموارد وعدم جوازه في بعض الموارد(1)، وتوضيح مقصوده يتوقّف على ذكر مقدّمة وهي:

أنّه لا إشكال في أنّ الحكم يكون مرتبطاً بأمرين: أحدهما: الموضوع بجميع خصوصيّاته، وثانيهما: الملاك، فكلاهما مشتركان في أنّ الحكم ينتفي بانتفائه، فمهما انتفى الملاك أو الموضوع ـ ولو ببعض خصوصيّاته ـ انتفى الحكم، ولكن بينهما فرق من جهة، وهي: أنّ الموضوع يؤخذ قيداً للحكم، فإذا كان موضوع



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 475 ـ 488 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 536 ـ 539 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

307

الحكم مثلاً هو العالم العادل يقول المولى مثلاً: (أكرم كلّ عالم عادل)، وهذا بخلاف الملاك، فإنّه لا يؤخذ قيداً للحكم بأن يقول المولى: (أكرم كلّ عالم عادل إن كان فيه ملاك)، فإنّ هذا رفع لليد عن مولويّته، فإنّ شغل المولى إحرازه بنفسه للملاك والحكم على طبق الملاك.

ويترتّب على هذا الفرق فرق آخر، وهو: أنّ الموضوع يكون ملقىً إلى المكلّف ويكون تشخيصه على عاتق المكلّف، ولا يمكن إحراز العلم أو العدالة بقول المولى: (أكرم كلّ عالم عادل). وأمّا الملاك فليس ملقىً إلى المكلّف وليس تشخيصه على عاتقه، بل نفس الحكم كاشف عن ثبوت الملاك.

وبعد هذه المقدّمة نقول: إنّ المحقّق النائينيّ(قدس سره) ذهب إلى التفصيل في المخصّص اللبّيّ بين ما لو علمنا بالتخصيص من ناحية العلم بثبوت جزء زائد للموضوع لم يذكر في كلام المولى، فكلّ ما لا يوجد فيه ذلك الجزء لا يوجد فيه الحكم، وما لو علمنا بالتخصيص بخروج بعض من جهة عدم وجدانه للملاك لا من جهة فقدانه لجزء الموضوع، فإن كان من قبيل الأوّل لا يمكن التمسّك بالعامّ عند الشكّ؛ للشكّ في الموضوع، وإحراز الموضوع يكون على عاتق العبد ولا يُحرَز بنفس الحكم. وإن كان من قبيل الثاني فعند الشكّ نتمسّك بالعامّ؛ لأنّ شكّنا إنّما هو في الملاك لا الموضوع، ونفس الحكم كاشف عن الملاك.

وقد مثّل(رحمه الله) لذلك بما ورد عن الإمام(عليه السلام) من قوله: «لعن الله بني اُميّة قاطبة»، بدعوى أ نّا نقطع بخروج الاُمويّ المؤمن لا من باب العلم بثبوت جزء للموضوع غير متحقّق في الاُمويّ المؤمن، بل من باب العلم بأنّ ملاك لعنه(عليه السلام) ـ وهو بغضهم لأهل البيت(عليهم السلام) ـ غير موجود في الاُمويّ المؤمن، ومَن شككنا منهم في بغضه وعدمه نتمسّك في حقّه بالعامّ ونثبت بذلك ثبوت الملاك فيه وهو البغض.

308

أقول: إنّ هذا التفصيل لولا أنّه صدر من المحقّق النائينيّ(قدس سره) لم يكن مستحقّاً للذكر. والإنصاف أنّه من غرائبه(قدس سره)؛ وذلك لأنّ ثبوت الملاك في بعض أفراد الموضوع دون بعض لا يعقل إلّا بأن يكون للموضوع جزء لم يتحقّق في ذلك الفرد، فالشكّ في الملاك دائماً يرجع إلى الشكّ في الموضوع.

وأغرب من هذا تمثيله(قدس سره) لذلك بمثال اللعن وجعل بغضهم لأهل البيت(عليهم السلام)ملاكاً للّعن، فإنّ البغض يكون من حالاتهم لا ملاكاً للعنهم، كيف! مع أنّ الملاك عبارة عن العلّة الغائيّة التي هي مؤخّرة في الوجود الخارجيّ ومقدّمة بحسب عالم الذهن، وهي الغرض من جعل الحكم، فملاك اللعن هو ترويج أهل البيت مثلاً لا بغضهم لأهل البيت، فإنّ بغضهم لأهل البيت ليس مؤخّراً عن اللعن في الوجود الخارجيّ بل مقدّم عليه، ومعنى كون بغضهم لأهل البيت ملاكاً للّعن أن يكون الغرض من اللعن حصول البغض، وهذا لا معنى له.

 

الكلام في التمسّك باستصحاب العدم الأزليّ لإثبات حكم العامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص:

بقي الكلام في التعويض عن العامّ باستصحاب العدم الأزليّ.

فقد وقع الكلام بين المحقّقين ـ قدّس الله أسرارهم ـ في أنّه بعد أن لم يجز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة هل يجوز التمسّك باستصحاب العدم الأزليّ لإثبات حكم العامّ أو لا؟

وتوضيح الكلام: أنّ عدم الوصف لشيء تارةً يعلم ثبوته في السابق في زمان وجود الموصوف، كما لو قال: (أكرم كلّ عالم)، وقال: (لا تكرم فسّاق العلماء)، واُريد استصحاب عدم فسق زيد الثابت ولو في حال صغره، وهذا لا يسمّى

309

باستصحاب العدم الأزليّ. واُخرى لا يكون هذا العدم معلوماً إلّا بلحاظ ما قبل وجود الموصوف كعدم القرشيّة، وهذا هو المسمّى باستصحاب العدم الأزليّ.

وعمدة البحث بعد عدم صحّة التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة إنّما هي في إمكان التمسّك باستصحاب العدم الأزليّ وعدمه. وأمّا التمسّك باستصحاب العدم غير الأزليّ ـ كما في مثال إخراج الفسّاق بالتخصيص ـ فلا تكون فيه عمدة بحث، وإن كان هو بحاجة إلى بحث في الجملة ويعلم حاله من طيّ كلماتنا إن شاء الله. هذا.

وقد ذهب المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) إلى صحّة التمسّك باستصحاب العدم الأزليّ لإثبات حكم العامّ(1)، ووافقه على ذلك السيّد الاُستاذ(2) دامت بركاته، وخالفه المحقّق النائينيّ(3)(قدس سره) والمحقّق العراقيّ(رحمه الله)(4) على تقدير.

وهناك فرق بين إشكال المحقّق النائينيّ على استصحاب العدم الأزليّ وإشكال



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 346 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 464 ـ 471 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، والمحاضرات للفيّاض، ج 5، ص 207 ـ 232 بحسب طبعة مطبعة صدر بقم.

(3) راجع فوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 530 ـ 536 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، الطبعة التي أشرنا إليها، ص 464 ـ 474.

(4) راجع المقالات، ج 1، ص 445 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ، ونهاية الأفكار، ج 1 ـ 2، ص 528 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وفوائد الاُصول، ج 4 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، ص 506 ـ 507 تحت الخطّ.

310

المحقّق العراقيّ عليه على تقدير، وهو: أنّ إشكال المحقّق النائينيّ إنّما يأتي علىالاستصحاب في خصوص ما نحن فيه، أعني: استصحاب عدم عنوان الخاصّ لإثبات حكم العامّ، ونحوه استصحاب عدم عنوان المقيّد لإثبات حكم المطلق. وأمّا لو اُريد استصحاب عدم عنوان الخاصّ لا لإثبات حكم العامّ بل لنفي حكم الخاصّ، أو لم يكن لنا عامّ وخاصّ، كما لو قال: (يحرم إكرام العالم الاُمويّ) واُريد استصحاب عدم اُمويّة هذا العالم لنفي الحرمة من دون وجود عامّ في المقام، فإشكال المحقّق النائينيّ(قدس سره) لا يأتي عليه، لكن إشكال المحقّق العراقيّ(قدس سره)على التقدير الخاصّ ثابت في جميع الصور الثلاث.

نعم، للمحقّق النائينيّ(قدس سره) إشكال آخر في استصحاب العدم الأزليّ غير مربوط بما نحن فيه، وهو مختصّ بالصورتين الأخيرتين، وهو الذي ذكره هو(قدس سره) في رسالة اللباس المشكوك في مقام دفع القول باستصحاب العدم الأزليّ لوصف من الأوصاف لنفي حكمه، وسنذكره ـ إن شاء الله ـ بعد انتهاء كلامنا مع المحقّق النائينيّ(قدس سره) فيما نحن فيه.

ثُمّ لا إشكال في أنّ الاستصحاب إنّما يجري فيما يكون حكماً شرعيّاً أو موضوعاً لحكم شرعيّ، وعلى هذا فلو بنينا على مبنى المحقّق العراقيّ(قدس سره) ـ من عدم تعنون العامّ بعد التخصيص بعنوان ـ لا معنى لاستصحاب عدم عنوان الخاصّ لإثبات حكم العامّ ولو كان عدماً غير أزليّ؛ لأنّ المستصحب ليس بنفسه حكم العامّ ولا موضوعه.

فكلامنا في استصحاب العدم الأزليّ بالنسبة لباب العامّ والخاصّ إنّما هو بعد فرض البناء على تعنون العامّ؛ لما عرفت من أنّه بناءً على مبنى المحقّق العراقيّ لا مجال لهذا البحث بالنسبة لهذا الباب. نعم، له مجال واسع بالنسبة لباب المطلق والمقيّد؛ لأنّه لا إشكال في أنّ المطلق يعنون بعنوان خاصّ بعد التقييد.

311

ولكن للمحقّق الخراسانيّ(قدس سره) في الكفاية كلام يظهر منه جريان البحث بالنسبة لباب العامّ والخاصّ حتّى بناءً على عدم تعنون العامّ بعد التخصيص بعنوان، حيث قال ما لفظه:

«لا يخفى أنّ الباقي تحت العامّ بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتّصل لمّا كان غير معنون بعنوان خاصّ بل بكلّ عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاصّ كان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعيّ في غالب الموارد إلّا ما شذّ ممكناً، فبذلك يحكم عليه بحكم العامّ...».

ومقصوده(قدس سره) بهذا الكلام: أنّه لو كان العامّ معنوناً بسبب التخصيص بعنوان كان إثبات ذلك العنوان باستصحاب العدم الأزليّ محتاجاً إلى بحث في أنّ ذاك العنوان ما هو؟ وربّما لا يثبت بذلك البحث كونه عنواناً قابلاً لإحرازه باستصحاب العدم الأزليّ، لكن العامّ لم يعنون بسبب التخصيص بعنوان خاصّ حتّى نقع في هذا الإشكال، بل جميع العناوين كانت داخلة فيه، فإنّ العامّ يدلّ على استيعاب الحكم لتمام ما تحته بأيّ عنوان من العناوين.

فقوله: (أكرم كلّ عالم) دلّ على وجوب إكرام كلّ عالم موصوف بكونه قرشيّاً، وعلى وجوب إكرام كلّ عالم موصوف بكونه غير اُمويّ، وعلى وجوب إكرام كلّ عالم غير موصوف بكونه اُمويّاً، وعلى وجوب إكرام كلّ عالم موصوف بكونه اُمويّاً وغير ذلك من العناوين. وإذا ورد: (لا تكرم العلماء الاُمويّين) فقد خرج بالتخصيص العنوان الأخير وبقيت العناوين الثلاثة السابقة؛ لكون بعضها ضدّ عنوان الخاصّ وبعضها نقيضه، فلا معنى لخروجها بهذا التخصيص، وإذا كان كذلك قلنا: إنّ العنوان الأوّل والثاني وإن لم يمكن إحرازه باستصحاب العدم الأزليّ لكنّ العنوان الثالث ـ أعني: عدم اتّصافه بالاُمويّة ـ يحرز باستصحاب العدم الأزليّ.

312

أقول: يرد على ما أفاده(قدس سره): أنّ العامّ إنّما يدلّ على ثبوت الحكم للأفراد ولا يدلّ على دخل العناوين الخاصّة في ذلك وكونها الجزء المتمّم للموضوع، بل ذهب بعض إلى أنّه يدلّ على خلاف ذلك، أي: أنّه يدلّ على أنّ الحكم ثابت للأفراد بما هي فرد لعنوان العامّ دون غير ذلك.

 

تحقيق الكلام في المسألة:

وأمّا تحقيق أصل المطلب فنقول:

إنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله) والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ اختلفا في جواز التمسّك باستصحاب العدم الأزليّ لإثبات حكم العامّ وعدمه، لكنّهما متّفقان في الكبريات وإنّما اختلافهما في الصغرى، فإنّ كليهما متّفقان في تعنون العامّ بعد التخصيص بعنوان خاصّ، وفي أنّ العدم الذي صار جزءاً للموضوع إن كان عدماً محموليّاً جاز استصحاب العدم الأزليّ، وإن كان عدماً نعتيّاً لم يجز، ومقصودهما من العدم المحموليّ ما لو كان عدم الاُمويّة مثلاً ملحوظاً بحدّ ذاته بدون نظر إلى صيرورته وصفاً للعالم، ومن العدم النعتيّ ما لو كان ملحوظاً بما هو نعت. وبكلمة اُخرى: تارةً يكون الموضوع العالم غير المتّصف بالاُمويّة، واُخرى يكون الموضوع العالم المتّصف بعدم الاُمويّة، فالأوّل يسمّى عدماً محموليّاً والثاني عدماً نعتيّاً. وبحسب الاصطلاح المنطقيّ يكون العدم المحموليّ من باب السلب التحصيليّ، والعدم النعتيّ من باب الإيجاب المعدول المحمول.

فإن كان من قبيل الأوّل جاز استصحاب العدم الأزليّ؛ لأنّ العدم كان ثابتاً ولو من باب السالبة بانتفاء الموضوع، وإن كان من قبيل الثاني لم يجز؛ لأنّ اتّصافه بعدم الاُمويّة قبل وجوده غير معقول، وإثبات العدم النعتيّ باستصحاب العدم المحموليّ تعويل على الأصل المثبت.

313

هذا كلّه ما اتّفق عليه المحقّق النائينيّ(قدس سره) والسيّد الاُستاذ، ووقع الخلاف بينهما في أنّ المحقّق النائينيّ أثبت بالبرهان كون العدم المأخوذ نعتيّاً، والسيّد الاُستاذ أبطل ذلك البرهان وأثبت كونه محموليّاً بالاستظهار العرفيّ.

وقال المحقّق النائينيّ(قدس سره): إنّه مهما كان الموضوع مركّباً من جزءين فتارةً: يكون الجزءان عبارة عن عَرَض ومحلّه، واُخرى: لا يكون كذلك، كما لو كان عبارة عن جوهرين أو عَرَضين لمحلّين أو لمحلّ واحد أو جوهر وعرض لمحلّ آخر:

فإن كان من قبيل الثاني: فالنعتيّة غير معقولة؛ لعدم إمكان صيرورة جوهر وصفاً لجوهر آخر، أو صيرورة عرض وصفاً لعرض آخر، أو صيرورة عرض لمحلّ وصفاً لجوهر آخر، فلابدّ من أن يكون كلّ من الجزءين بالنسبة للآخر محموليّاً، فإذا كان أحدهما عدميّاً أمكن إثباته باستصحاب عدمه الثابت قبل الجزء الآخر إلّا مع فرض التقيّد بمثل عنوان المقارنة.

(ونؤجّل بيان ما ذهب إليه(قدس سره) في هذا القسم من كيفيّة تصوير كون الموضوع مركّباً من هذين الأمرين وجريان استصحاب العدم السابق على الجزء الآخر في ذلك وعدمه إلى محلّه وهو أحد تنبيهات الاستصحاب. والسيّد الاُستاذ وافق شيخه النائينيّ في عدم تصوّر النعتيّة في هذا القسم).

وإن كان من قبيل الأوّل: فمن المتصوّر أن يلحظ العرض نعتيّاً كما أنّه من المتصوّر أن يلحظ بحيال ذاته.

وهنا يقيم الشيخ النائينيّ(رحمه الله) برهاناً على النعتيّة من دون تفريق بين جانب الوجود من العرض وجانب العدم، ويبطل السيّد الاُستاذ ذاك البرهان ويقيم برهاناً آخر على النعتيّة في خصوص فرض كون الجزء الثاني وجود العرض لا عدمه.