314

 

الكلام فيما اتّفق عليه المحقّق النائينيّ(رحمه الله) والسيّد الاُستاذ:

ثُمّ إنّ تحقيق ما توافق عليه هذان المحقّقان ـ من أنّ العدم إذا اُخذ نعتيّاً لم يجر استصحاب العدم الأزليّ ـ يتوقّف على تعمّق في حقيقة النعتيّة، وحقيقة النعتيّة لدى السيّد الاُستاذ ـ بحسب تصريحه في رسالته في اللباس المشكوك ـ هو الوجود الرابط(1) (والذي يقال عنه: إنّه أخسّ أقسام الوجود، حيث يقال: إنّ أقوى الوجودات هو الوجود لنفسه بنفسه في نفسه وهو واجب الوجود، وبعده وجود العرض، وبعده الوجود الرابط(2)).

وذكر السيّد الاُستاذ: أنّه لابدّ من إرجاع العدم النعتيّ إلى أمر وجوديّ، بأن يفرض مثلاً في مثال عدم الاُمويّة أنّ جزء الموضوع هو الكَرَم الملازم لعدم الاُمويّة وليس نفس عدم الاُمويّة، والوجه في ذلك: أنّ الوجود الرابط ـ وهو أمر وجوديّ ـ ليس ثابتاً في نفسه بل هو ثابت في غيره، نظير قيام العرض بمحلّه،



(1) لعلّه إشارة إلى قول السيّد الخوئيّ(رحمه الله): «أمّا في المركّب من العرض ومحلّه فلا مناص فيه من اعتبار العرض نعتيّاً، ضرورة أنّ العرض وجوده في الخارج لا ينفكّ عن وجود نسبة بينه وبين موضوعه، فإنّ وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه، فإذا اُخذ في الموضوع فإمّا أن يؤخذ بنحو النعتيّة ـ أعني بها: وجوده بما هو عرض وقائم بالغير ـ أو بما هو شيء في نفسه مع إلغاء جهة النسبة والنعتيّة: فعلى الأوّل لا مناص عن أخذ الموضوع متّصفاً به، فإنّه معنى النعتيّة». رسالة في اللباس المشكوك للسيّد الخوئيّ(رحمه الله)،ص 49 بحسب طبعة المطبعة العلميّة في النجف الأشرف.

(2) المفروض أن يقال: إنّ أقوى الوجودات هو الوجود لنفسه بنفسه في نفسه وهو واجب الوجود، وبعده وجود الجوهر، وبعده وجود العرض، وبعده الوجود الرابط.

315

فلابدّ من أن يكون طرفاه وجوديّين؛ لعدم معقوليّة قيام وجود بعدم(1).

وبناءً على ما أفاده ـ دامت بركاته ـ من كون النعتيّة عبارة عن الارتباط بالوجود الرابط وإرجاع جزء الموضوع إلى أمر وجوديّ يصبح من الواضح عدم إمكان إحرازه باستصحاب العدم الأزليّ؛ لعدم ثبوت هذا الأمر الوجوديّ في الأزل.

لكن يرد عليه:

أوّلاً: ما حقّقناه في بحث المعاني الحرفيّة وهو مختاره ـ دامت بركاته ـ هناك: من إنكار الوجود الرابط رأساً.

وثانياً: أنّه لو سلّمناه فإنّما نسلّمه في الأعراض المقوليّة الحقيقيّة، ولكن ربّما يكون موضوع الحكم الشرعيّ مركّباً من المحلّ والعرض غير الحقيقيّ بأن يكون اعتباريّاً أو انتزاعيّاً، كما لو جعل موضوع الحكم المرأة مع كونها مطلّقة وجوداً، بأن كان الشرط عبارة عن كونها مطلّقة، أو عدماً، بأن كان الشرط عبارة عن عدم كونها مطلّقة.

وثالثاً: أنّ السيّد الاُستاذ وافق المحقّق النائينيّ في أنّه لو اُخذ وجود العرض جزءاً للموضوع وكان الجزء الآخر محلّه لابدّ من أخذه على نحو النعتيّة لا المحموليّة، لكنّه خالف في كيفيّة الاستدلال على ذلك، فالشيخ النائينيّ ساق الدليل بشكل لو تمّ لأتى حتّى في جانب العدم، ولذا التزم بالنعتيّة في جانب العدم،



(1) لعلّه إشارة إلى قول السيّد الخوئيّ(رحمه الله) في نفس المصدر في الصفحة 56 ـ 57: «لا معنى لارتباط العدم بشيء إلّا بأخذ خصوصيّة فيه ملازمة لعدم العرض، وإلّا فلا معنى لانتساب العدم وارتباطه، فإنّهما من شؤون الوجود».

316

والسيّد الاُستاذ استدلّ بما يكون مختصّاً بجانب الوجود، ولكن لو تمّ تفسير النعتيّة بمعنى الوجود الرابط بين العرض ومحلّه لم يبق مجال لدعوى ضرورة النعتيّة في العرض الوجوديّ؛ إذ بالإمكان عدم أخذ هذا الوجود الرابط دخيلاً في موضوع الحكم.

وأمّا ما يظهر من المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في رسالته في اللباس المشكوك فهو عبارة عن أنّ النعتيّة عبارة عن نفس توصيف المحلّ بعرضه، فهو لا يقول بأنّ الوصف يرتبط بالموصوف بواسطة الوجود الرابط حتّى يرد عليه استحالة الوجود الرابط، بل يقول بأنّ الوصف يرتبط بنفسه بالمحلّ، وهو تارةً: يلحظ بحيال ذاته مع قطع النظر عن قيامه بغيره وارتباطه به فيكون محموليّاً، واُخرى: يلحظ بما هو مرتبط بغيره وحاصلٌ في محلّه فيكون نعتيّاً(1).

إلّا أنّ هذا الكلام ـ كما ترى ـ لو تمّ في جانب وجود الوصف لا يتمّ في جانب العدم؛ لأنّ العدم غير محتاج إلى المحلّ، بل وكذلك لا يتمّ في جانب وجود الوصف على الإطلاق؛ لأنّ الوصف الاعتباريّ أو الانتزاعيّ لا يقوم بالمحلّ.

هذا كلّه بناءً على أن يراد بالنعتيّة الارتباط بالمحلّ إمّا بالوجود الرابط وإمّا بنفسه.

وهناك فرضان آخران في تفسير النعتيّة:

أحدهما: أن يكون المراد بنعتيّة الوصف أو عدمه كون جزء الموضوع خصوص الوصف المقارن أو عدمه المقارن لوجود الجزء الآخر.



(1) راجع رسالة اللباس المشكوك للشيخ النائينيّ(رحمه الله)، ص 284 بحسب طبعة المطبعة الرضويّة في النجف الأشرف.

317

ومن الواضح على هذا المعنى عدم جريان استصحاب العدم الأزليّ؛ لأنّ العدم المقارن لم يكن ثابتاً في الأزل ولا يثبت بالاستصحاب إلّا بالملازمة.

ولكن هذا المعنى خلاف المفروض عندهم؛ إذ مفروضهم أنّ النعتيّة تكون بمعنى لا تتصوّر إلّا في العرض ومحلّه، وهذا المعنى ـ كما ترى ـ يتصوّر في باقي الأقسام أيضاً، فبالإمكان مثلاً أن يجعل جزء الموضوع وجود زيد أو عدمه المقارن لوجود الجزء الآخر.

ثانيهما: أن يكون المراد بالنعتيّة التضييق الحاصل للوصف من جانب نفس الجزء الآخر في الرتبة السابقة على الوجود، وذلك بأن يضيّق الوصف ويخصّص بموصوفه ثُمّ يضاف الوجود إلى الحصّة فيقال مثلاً: إنّ العدالة على قسمين: عدالة العالم، وعدالة غير العالم، والوجود يطرأ على الحصّة وهي عدالة العالم المفروض كونها جزءاً للموضوع، فجزء الموضوع تارةً: يفرض مطلق العدالة، بأن يجب إكرام العالم إذا وجدت عدالة في الخارج وإن كانت وصفاً للجاهل، وهذا يكون محموليّاً. واُخرى: يفرض خصوص عدالة العالم، وهذا يكون نعتيّاً.

وهذا المعنى ـ كما ترى ـ يختصّ بباب العرض ومحلّه ولا يتعقّل في غير ذلك؛ لعدم إمكان تخصيص جوهر مثلاً بجوهر آخر أو عرض بعرض آخر ونحو ذلك إلّا بواسطة لحاظ مثل نسبة المقارنة، والمفروض عدم لحاظها وإلّا رجعنا إلى الوجه السابق.

ولا يخفى أنّ التخصيص بهذا المعنى وإن كان ممكناً في جانب الوصف لكنّه غير ممكن في ذات العدم إلّا بلحاظ متعلّقه، فإنّ ذات عدم العدالة لا يحصّص إلى حصّتين: حصّة للعالم وحصّة للجاهل، وإنّما يتمّ التحصيص من ناحية متعلّق العدم فيقال: إنّ عدم العدالة على قسمين: عدم عدالة العالم، وعدم عدالة الجاهل، فتارةً:

318

يكون جزء الموضوع مطلق عدم العدالة، واُخرى: يكون جزء الموضوع خصوص عدم عدالة العالم، فعدم عدالة العالم ليس صفة بهذا المعنى بل عدمٌ لصفته، وأنت ترى أنّه كما يكون مطلق عدم العدالة ثابتاً في الأزل كذلك يكون عدم عدالة العالم ثابتاً في الأزل قبل وجود العالم، فلا معنى لعدم إمكان إحرازه باستصحاب العدم الأزليّ.

هذا مضافاً إلى أنّه لو سلّمنا تعقّل هذا التحصيص في نفس العدم وصيرورة العدم نعتاً بهذا المعنى لم يكن هذا كافياً في عدم جريان استصحاب العدم الأزليّ، بل لابدّ هنا من تفصيل بيانه: أنّ الوصف (وكذلك عدمه بناءً على إمكان صيرورة عدمه نعتاً بهذا المعنى) تارةً: يؤخذ نعتاً للشيء بعد فرض وجود ذلك الشيء ـ والغالب بيان ذلك بلسان النسبة التامة، بأن يقال مثلاً: (مهما وجد عالم وكان عادلاً وجب إكرامه) ـ واُخرى: يؤخذ نعتاً للشيء في الرتبة السابقة على وجود ذلك الشيء، ويطرأ الوجود على الشيء الموصوف بذلك الوصف، والغالب بيان ذلك بلسان النسبة الناقصة، بأن يقال مثلاً: (مهما وجد عالم عادل وجب إكرامه).

وبكلمة اُخرى: إنّ الوصف تارةً: يحصّص بالموصوف الموجود بعد الفراغ عن فرض وجوده، واُخرى: يحصّص بذات الموصوف مع قطع النظر عن وجوده ويطرأ الوجود على الذات الموصوف بالوصف الكذائيّ.

وما ذكرناه في جانب الوصف واضح، وأمّا في جانب عدمه فإنّما لا يأتي ذلك لما عرفت من عدم معقوليّة أصل تحصيص العدم مباشرة بالموصوف، وأمّا على فرض معقوليّته وصيرورته نعتاً له بهذا المعنى فيأتي فيه عين هذا الكلام ويقال: إنّه تارةً: يكون المتّصف بعدم العدالة العالم المفروض وجوده، واُخرى: يكون المتّصف به ذات العالم ويطرأ الوجود على العالم المتّصف بعدم العدالة.

319

فتحصّل: أنّ هذين القسمين يتصوّران في جانب الوصف وفي جانب عدمه أيضاً (ولا ثمرة بينهما في جانب الوصف، خلافاً للمحقّق العراقيّ(قدس سره) الذي سيأتي ـ إن شاء الله ـ كلامه مع جوابه)، وتثبت الثمرة بينهما في جانب العدم، فإنّ العدم المفروض كونه وصفاً للعالم بعد فرض وجوده لا يكون ثابتاً قبل وجود العالم حتّى يستصحب، وأمّا العدم المفروض كونه وصفاً لذات العالم في الرتبة السابقة على العالم فهو ثابت قبل وجود العالم فيستصحب.

إن قلت: اتّصاف ذات العالم قبل وجوده بعدم العدالة غير معقول، كما اشتهر: أنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له.

قلت: هذا الكلام المشتهر صحيح ومعناه: أنّ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له بالنحو المفروض في جانب ما يَثبُت له. مثلاً: لو كان ثبوت ما يَثبُت لذلك الشيء ويتّصف ذلك الشيء به ذهنيّاً لا خارجيّاً لم يكن من اللازم ثبوت المثبَت له خارجيّاً، بل من اللازم ثبوته ذهنيّاً. والخلاصة: أنّ ثبوت المنعوت لابدّ أن يكون من سنخ ثبوت النعت، فلو فرض أنّ النعت ليس له سنخ من الثبوت بل هو عدم محض ـ كما فيما نحن فيه ـ فلا مانع من كون المنعوت أيضاً عدماً محضاً، فالعالم قبل وجوده يكون متّصفاً بعدم العدالة كما يكون متّصفاً بعدم نفسه في لوح الواقع، ولو اُخبر عنه بعدمه أو عدم العدالة كان الخبر صادقاً.

وقد تحصّل من جميع ما ذكرناه: أنّ العدم النعتيّ بمعنى لا يصحّ إثباته باستصحاب العدم الأزليّ غير متصوّر بوجه من الوجوه، ومهما كان العدم جزءاً للموضوع فلابدّ أن يكون عدماً محموليّاً.

فالذي ينبغي هو تغيير عنوان النزاع بأن يقال: إذا ورد مثل قوله: (أكرم كلّ عالم) وخصّص بمثل قوله: (لا تكرم العالم الاُمويّ) فهل العامّ يتعنون بنقيض عنوان الخاصّ وهو عدم الاُمويّة الممكن إثباته بالاستصحاب، أو يتعنون بضدّه

320

كـ (الكَرَم) مثلاً المفروض كونه ملازماً لعدم الاُمويّة، ولا يمكن إثباته باستصحابالعدم الأزليّ؛ لأنّ عدم الاُمويّة وإن كان ملازماً عقلاً للكرم مثلاً لكن الأصل المثبت ليس حجّة. فالعدم ليس له قسمان بل هو دائماً محموليّ، ولكنّنا نسمّي ذلك الأمر الوجوديّ ـ الملازم لنقيض المخصّص ـ بالعدم النعتيّ وإن كان هذا اصطلاحاً غير مناسب، مشياً على تعبير القوم حتّى يسهل الأمر في تتمّة البحث، ولا يصبح غامضاً من ناحية غضّ النظر عن هذا التعبير المشهور واختيار تعبير آخر، ولا إشكال في أنّ العدم النعتيّ بهذا المعنى لا يمكن إثباته باستصحاب العدم الأزليّ.

 

الكلام فيما اختلف فيه العلمان:

بقي الكلام فيما وقع الخلاف فيه بين السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ والمحقّق النائينيّ(قدس سره) من أنّ العدم المأخوذ عنواناً للعامّ بعد التخصيص هل هو عدم نعتيّ حتّى لا يجري استصحاب العدم الأزليّ، أو عدم محموليّ حتّى يجري استصحاب العدم الأزليّ؟ اختار المحقّق النائينيّ(قدس سره) الأوّل مستدلاًّ بعدم إمكان أخذ العامّ المحموليّ ثبوتاً كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ بيانه، واختار السيّد الاُستاذ الثاني مستظهراً ذلك بنظر العرف في مقام الإثبات بعد ردّ ما أفاده المحقّق النائينيّ في مقام الثبوت، ونحن نتكلّم تارة في مقام الإثبات واُخرى في مقام الثبوت، وكلامنا في المقام الأوّل مع السيّد الاُستاذ وفي المقام الثاني مع المحقّق النائينيّ؛ لأنّ كلام الأوّل إثباتيّ وكلام الثاني ثبوتيّ، فنقول:

المقام الأوّل: في الكلام في مرحلة الإثبات.

ذكر السيّد الاُستاذ دامت بركاته: أنّ الظاهر عرفاً من دليل المخصّص هو كون المأخوذ جزءاً لموضوع حكم العامّ هو العدم المحموليّ لا النعتيّ؛ لأنّ النعتيّ

321

يحتاج إلى مؤونة زائدة تنفى بالأصل. وقد رَدَّ بذلك ما ذكره المحقّق النائينيّ في رسالة اللباس المشكوك من أنّه لو أمكن في مقام الثبوت كلّ من النعتيّةوالمحموليّة ففي مقام الإثبات يحتمل كلّ منهما ولا معيِّن لأحدهما، ونفس الشكّ كاف في عدم جريان استصحاب العدم الأزليّ.

أقول: إن كان مراد السيّد الاُستاذ ممّا أفاده أنّ العدم المحموليّ والنعتيّ يكونان من قبيل الأقلّ والأكثر فالأقلّ متيقّن والأكثر مشكوك ينفى بالإطلاق، ورد عليه ـ مضافاً إلى أنّهما متباينان حتّى مع عدم إرجاع العدم النعتيّ إلى أمر وجوديّ(1) ـ: أنّه ـ دامت بركاته ـ معترف برجوعه إلى أمر وجوديّ والتباين بين الوجود والعدم من الواضحات، وإن كان مراده غير هذا فلابدّ من بيانه حتّى نرى أنّه صحيح أو لا؟ ونحتمل أن يكون مراده ما سنبيّنه ـ إن شاء الله ـ في آخر هذا البحث الإثباتيّ.

ويمكن الاستدلال على كون العدم المأخوذ محموليّاً بوجوه يختصّ كلّ واحد منها ببعض الموارد لا تمامها:

الأوّل: ما يكون مختصّاً بالنواهي الغيريّة؛ لما ثبت في محلّه من أنّها ظاهرة في الإرشاد إلى المانعيّة(2). مثاله: ما لو قال: (صلّ في أيّ لباس شئت، ولا تصلّ فيما



(1) كأنّه(رحمه الله) يقصد أنّ العدم الملحوظ بحيال ذاته والعدم الملحوظ في محلّه يعتبران ملحوظين بلحاظين متباينين، وأمّا ذات العدم فيهما فهو واحد ولا يشتمل على الأقلّ والأكثر.

(2) لا أرى وجهاً لتعيّن الإرشاد إلى المانعيّة في مقابل احتمال شرطيّة ضدّه إلّا نفس البيان الذي سيأتي ـ إن شاء الله ـ في نهاية هذا البحث الإثباتيّ والذي يشمل حتّى النواهي النفسيّة، فهذا الوجه لا قيمة استقلاليّة له.

322

لا يؤكل لحمه)، وكذلك الأمر لو بيّن ذلك بلسان الاستثناء بأن قال: (صلّ في أيّ لباس شئت إلّا ما لا يؤكل لحمه) بناء على كون ذلك أيضاً ظاهراً في المانعيّة. وهذا الوجه يتمّ في كلّ مخصّص استفيد منه المانعيّة، وأمّا تشخيص الصغرى فهو من وظيفة الفقيه وليس مربوطاً بما نحن فيه.

وهذا الوجه هو: أنّ الأحكام تابعة للملاكات، والمفروض أنّ التخصيص يكون بملاك المانعيّة، ومن المعلوم أنّ ملاك المانعيّة إنّما يقتضي أخذ صِرف عدم المانع، وأمّا أخذ عنوان وجوديّ ملازم للعدم فيحتاج إلى ثبوت الملاك في نفس ذلك العنوان وهو خلاف المفروض. والخلاصة: أنّ المتمّم للعلّة إنّما هو عدم المانع لا ما يلازم عدم المانع الذي هو ضدّ للمانع، بحيث لو فرض محالاً التفكيك بين عدم المانع وضدّ المانع الملازم لهذا العدم فتحقّق العدم دون ذلك الملازم كفى ذلك في حصول المعلول.

الثاني: ما يكون مختصّاً بالمخصّص المنفصل، وهو: أنّ العامّ وهو قوله مثلاً: (أكرم كلّ عالم) يدلّ بالإطلاق على أنّ الدخيل في الحكم إنّما هو عنوان العالم بلا دخل أيّ خصوصيّة اُخرى فيه، فمقتضى إطلاقه عدم دخل العدم المحموليّ وعدم دخل العدم النعتيّ، ولكن بعد التخصيص علمنا إجمالاً بتقيّد أحد الإطلاقين، أعني: إطلاقه في قبال التقيّد بالعدم المحموليّ وإطلاقه في قبال التقيّد بالعدم النعتيّ، فيظهر في بادئ النظر أنّ مقتضى القاعدة تساقطهما، ولكن بالتأمّل يتّضح أنّ إطلاقه في قبال التقيّد بالعدم المحموليّ غير حجّة قطعاً بعد فرض العلم بأصل التقيّد؛ لأنّه لا أثر له فتلغو حجّيّته. وأمّا إطلاقه في قبال التقيّد بالعدم النعتيّ فينتج المنع عن إمكان إحراز الموضوع بالاستصحاب، فالإطلاق من هذه الناحية يرفع هذا المانع فلا تلغو حجّيّته فيكون حجّة بلا معارض، ويثبت بهذا الإطلاق أنّ ما

323

ثبت من القيد هو العدم المحموليّ لا النعتيّ(1).

وهذا الوجه لا يأتي فيما لو كان المخصّص متّصلاً؛ لما مضى من أنّ التخصيص بالمتّصل المردّد بين المتباينين يوجب إجمال العامّ.

الثالث: ما يكون أيضاً مختصّاً بالمخصّص المنفصل، ولا يتمّ إلّا على مبنى القوم من أنّ أداة العموم تدلّ على استيعاب الأقسام، لا على مبنانا من أنّها لا تدلّ إلّا على استيعاب الأفراد، فنقول على مبناهم: إنّ قوله: (أكرم كلّ عالم) دلّ على ثبوت الحكم على جميع أقسام العالم بجميع انقساماته، فيدلّ على وجوب إكرام العادل وغير العادل؛ لأنّه أحد انقسامات العالم، ويدلّ على وجوب إكرام مَن يكون متّصفاً بالفسق ومَن لا يكون متّصفاً بالفسق؛ لأنّه أيضاً أحد انقسامات العالم، وكذا غيرهما من الانقسامات، وقوله: (لا تكرم فسّاق العلماء) دلّ على خروج القسم المتّصف بالفسق عن الحكم، ومقتضى العموم أنّ القسم الذي لا يكون متّصفاً بالفسق ـ الذي هو أحد القسمين من الانقسام الثاني ـ يكون باقياً تحت العامّ، وبذلك يثبت أنّ العدم المأخوذ عنواناً للعامّ هوالمحموليّ؛ لأنّه لو كان هو النعتيّ لم يكن هذا القسم من الانقسام الثاني باقياً تحت العامّ. لكن هذا الوجه إن تمّ بناءً فلا يتمّ مبنىً(2).



(1) لا يخفى أنّ العلم الإجماليّ بكذب أحد الإطلاقين يوجب كسر قوّة الكشف في كلّ واحد منهما حتّى ولو افترضنا أحدهما بلا أثر. فهذا الوجه أيضاً لا قيمة له.

(2) لا يخفى أنّه لو تمّ القول بأنّ العموم يدلّ على استيعاب الأقسام حتّى الأقسام المترادفة خارجاً في المصاديق رجع ذلك إلى تقريب المحقّق الخراسانيّ لحجّيّة استصحاب العدم في المقام، ولو لم يتمّ القول بذلك فهذا الوجه باطل رأساً، فهذا الوجه أيضاً لا قيمة له.

324

ثمّ إنّ الإنصاف أنّ التخصيص سواء كان بالمنفصل أم كان بالمتّصل ـ أعني: الاستثناء ونحوه لا التوصيف بأمر وجوديّ ـ إنّما يستفاد منه عرفاً أخذ العدم المحموليّ جزءاً للموضوع لا النعتيّ، فإنّ كون جزء الموضوع أمراً لم يذكر ثبوتاً ولا نفياً في العامّ ولا في الخاصّ خلاف الظاهر.

وبكلمة اُخرى: لو كان المأخوذ في عالم الثبوت جزءاً للموضوع صِرف عدم الفسق كان قوله: (أكرم كلّ عالم) و(لا تكرم فسّاق العلماء) وافياً ببيان ذلك، وأمّا لو كان المأخوذ فيه عنواناً وجوديّاً فهذا الكلام غير واف ببيانه ويحتاج إلى مؤونة زائدة وإن كانا متباينين، كما هو الحال في باب أصالة الإطلاق، فإنّ الإطلاق والتقييد متباينان والموضوع له اللفظ إنّما هو الطبيعة المهملة المحفوظة حتّى في ضمن المقيّد، لكنّا نستفيد الإطلاق من ناحية أنّه لو كان مراد المتكلّم هو الإطلاق كان ذكر الطبيعة المهملة وافياً ببيان المقصود، ولو كان مراده التقييد فهو بحاجة إلى مؤونة زائدة، هذا بناءً على ما اخترناه من إرجاع العدم النعتيّ إلى أمر وجوديّ. وأمّا بناء على تفسيره بالعدم المرتبط بالموضوع فلا يكون ترجيح للعدم المحموليّ عليه، بل هما متساويان في نظر العرف.

هذا. ومن المحتمل كون مراد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ من كون العدم النعتيّ محتاجاً إلى مؤونة زائدة ما ذكرناه.

وان شئت فبيّن(1) الدليل على أنّ المأخوذ هو العدم المحموليّ لا النعتيّ بهذا



(1) لا داعي إلى هذا البيان بعد ما أشرنا إليه في التعاليق السابقة من بطلان تلك البراهين.

325

الترتيب، وهو: أنّ المخصّص إمّا يكون نهياً غيريّاً فيكون ظاهراً في المانعيّة، أو لاكما لو كان نهياً نفسيّاً:

فإن كان من قبيل الأوّل فكون المأخوذ هو العدم المحموليّ لا النعتيّ ثابت بالبرهان، وهو: أنّ جزء العلّة دائماً هو نقيض المانع لا ضدّه، والمفروض أنّ الأحكام تابعة للملاكات ونقيض الفسق مثلاً إنّما هو عدمه المحموليّ.

وإن كان من قبيل الثاني فإمّا يكون منفصلاً وإمّا يكون متّصلاً، فإن كان منفصلاً فأيضاً ثبتت المحموليّة بالبرهان وهو لغويّة الإطلاق في قبال العدم المحموليّ، بخلافه في قبال النعتيّ كما مضى بيانه، وإن كان متّصلاً فليس لنا برهان يدلّ على المحموليّة ولكنّا نستظهر ذلك عرفاً كما مرّ بيانه. وفي القسمين الأوّلين تثبت المحموليّة بالبرهان بلا فرق بين إرجاع العدم النعتيّ إلى أمر وجوديّ أو تفسيره بالعدم المرتبط، وأمّا في القسم الثالث فإنّما تثبت المحموليّة بالاستظهار العرفيّ على الأوّل لا الثاني.

المقام الثاني: في الكلام في مرحلة الثبوت.

قد أفاد المحقّق النائينيّ(قدس سره): أنّ أخذ عنوان الوصف أو عدمه ثبوتاً لابدّ أن يكون على نحو النعتيّة لا المحموليّة وأقام برهاناً عليه، ولكن السيّد الاُستاذ ـ مدّظلّه ـ أبطل ذلك البرهان وأقام برهاناً آخر عليه في خصوص جانب الوجود وهو:

أنّ الاُمويّة مثلاً إذا صارت جزءاً لموضوع حرمة إكرام العالم فإمّا أن تكون مطلق الاُمويّة جزءاً للموضوع، وإمّا أن تكون خصوص اُمويّة العالم جزءاً للموضوع، ولكن الأوّل خلف؛ لأنّه يستلزم حرمة إكرام العالم بثبوت الاُمويّة ولو في الجاهل، وهو خلاف المفروض، فلابدّ أن تكون الاُمويّة مأخوذة بنحو الوصفيّة للعالم.

أقول: ما ذكره ـ دامت بركاته ـ متين وينتج النعتيّة بالمعنى الأخير من المعاني

326

التي مضى ذكرها، لكن مختاره ـ كما مرّ ـ تفسير النعتيّة بالربط، فتطبيقه لهذا الدليل على مدّعاه عجيب(1).

وأمّا ما برهن به المحقّق النائينيّ(قدس سره) على مطلوبه فهو: أنّ انقسام العامّ بلحاظ صفاته مقدّم رتبة على انقسامه بلحاظ مقارناته، ومن المعلوم أنّ انقسامه بالنسبة للعدم النعتيّ وكذا الوجود النعتيّ يكون من قبيل الأوّل، وانقسامه بالنسبة للمحموليّ يكون من قبيل الثاني، فلو فرض تقيّده بالعدم المحموليّ وقع التساؤل عن أنّه في الرتبة السابقة على ذلك هل هو مقيّد بالعدم النعتيّ أو يكون في الرتبة السابقة مطلقاً؟ فإن قيل بتقيّده بالعدم النعتيّ كان تقيّده بعد ذلك بالعدم المحموليّ لغواً، وإن قيل بإطلاقه في الرتبة السابقة لزم التهافت؛ إذ المتحصّل من الإطلاق في الرتبة السابقة والتقييد في الرتبة اللاحقة هو هذا: مثلاً (أكرم كلّ عالم سواء كان عادلاً أو فاسقاً إن لم يكن معه فسق)، ومن الواضح أنّ هذا الكلام ليس له معنى صحيح. هذا ما أفاده المحقّق النائينيّ(قدس سره).

وذكر السيّد الحكيم ـ دامت بركاته ـ في المستمسك: أنّ بعض مشايخنا المعاصرين(2) ذكر مقدّمات لإ ثبات عدم جريان استصحاب العدم الأزليّ، وتلك



(1) لو فسّرت النعتيّة بهذا التفسير لسرت إلى جانب العدم أيضاً، لتحصّصه بالمعدوم المتحصّص بالمحلّ. نعم، لو فسّرت النعتيّة بمعنى الربط فالمعدوم هو المتحصّص وليس العدم، فهذا الكلام من السيّد الخوئيّ(رحمه الله) فيه خلط غريب.

(2) كلمة (المعاصرين) غير موجودة في المستمسك ولكنّه لا شكّ أنّ مقصوده(رحمه الله) هو الشيخ النائينيّ(قدس سره). راجع المستمسك، ج 1، كتاب المياه، فصل الماء الجاري، المسألة 2 في الشكّ في وجود المادّة للماء، ص 137 بحسب الطبعة الرابعة في مطبعة الآداب في النجف الأشرف.

327

المقدّمات غير واضحة في نفسها وغير واضحة الاستنتاج بعد فرض صحّتها.

أقول: لا يخفى أنّه لو تمّت مقدّماته وقلنا: إنّ العدم مأخوذ على نحو النعتيّة ـ سواء فسّرنا النعتيّة بما يقولون من الربط أو أرجعنا العدم النعتيّ إلى أمر وجوديّ ـ فلا إشكال في النتيجة، فإنّ العدم النعتيّ بكلّ من المعنيين لم يكن ثابتاً في الأزل حتّى يستصحب. هذا.

وأورد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على المحقّق النائينيّ(قدس سره): أنّ كون انقسام العامّ بلحاظ صفاته وخصوصيّاته مقدّماً على انقسامه بلحاظ مقارناته صِرف دعوى لا برهان عليه، بل الانقسامان في عرض واحد، وكلّ من العدم النعتيّ والمحموليّ بعد فرض وجود الموضوع متلازمان، فالتقييد بأيّ واحد منهما يغني عن التقييد بالآخر، نظير إغناء التقييد باستقبال القبلة عن التقييد باستدبار الجدي وبالعكس في مورد تتقابل القبلة والجدي.

أقول: إنّ المحقّق النائينيّ(قدس سره) لم ينقل عنه في التقريرات برهان على دعوى تقدّم انقسام العامّ بلحاظ صفاته على انقسامه بلحاظ مقارناته إلّا أنّه(رحمه الله) ادّعى في رسالة اللباس المشكوك بداهة ذلك(1) مضيفاً دعوى: أن تؤخذ مرتبة الإطلاق والتقييد بالنسبة لمقارناته بالنسبة للانقسامات الأصليّة من نتائج استحالة الإهمال في لبّ الواقع وضرورة الإطلاق أو التقييد فيه(2).

وهذه الدعوى الأخيرة يبدو في بادئ النظر أنّه لا محصّل لها، لكنّه يحتمل أن تكون إشارة إلى برهان متين على المدّعى بعد فرض أنّ التعبير بانقسام العامّ



(1) راجع رسالته في اللباس المشكوك، ص 285 بحسب طبعة المطبعة المرتضويّة في النجف الأشرف.

(2) راجع المصدر السابق.

328

بلحاظ المقارنات مسامحة، فيقال: إنّه لا إشكال في أنّ الحكم بوجوب إكرام العالم مثلاً يتصوّر تقييده بالعدم المحموليّ ويتصوّر تقييده بالعدم النعتيّ، ولكن هناك فرق بين التقييدين، وتوضيح ذلك:

إنّ تقييد الحكم بالعدم المحموليّ يكون في عرض تقييده بنفس العالم مثلاً؛ لأنّ المفروض أنّ العالم والعدم المحموليّ أمران متقارنان، ولا وجه لكون التقييد بأحد المتقارنين بواسطة التقييد بالآخر بل يقيّد في عرض واحد بكليهما، ولا معنى لانقسام أحد المتقارنين بلحاظ المقارن الآخر إلّا بمعنى الانقسام بلحاظ وصف التقارن وهو خارج عن محلّ الكلام؛ إذ المفروض عدم أخذ عنوان التقارن بين الموضوع والعدم المحموليّ.

وأمّا تقييد الحكم بالعدم النعتيّ فيكون بواسطة تقييده بالعالم، فإنّ العالم الذي هو قيد للحكم ينقسم باعتبار العدم النعتيّ؛ لأنّه وصفه ويصير هذا الوصف قيداً له ويرجع ذلك بالواسطة إلى تقيّد الحكم؛ لأنّ قيد القيد قيد، ولا معنى لتقييد الحكم بلا واسطة بالعدم النعتيّ، فإنّه وصف للعالم لا للحكم، ولو قُيّد بلا واسطة بالعدم كان معناه فرض العدم بحيال ذاته وهو عدم محموليّ لا نعتيّ، وتقييد العالم بالعدم النعتيّ يغني عن تقييد الحكم بالعدم المحموليّ؛ لأنّه يرجع بالواسطة إلى تقييد الحكم ويخرجه عن الإهمال. وأمّا تقييد الحكم بالعدم المحموليّ فلا يغني عن تقييد الموضوع بالعدم النعتيّ؛ لأنّه لا يرجع بالواسطة إلى تقييد العالم حتّى يرتفع بذلك إهمال العالم، والمفروض أنّ الإهمال في لبّ الواقع محال فلابدّ من أن يكون العالم بلحاظ العدم النعتيّ معلّقاً أو مقيّداً.

فظهر: أنّه لابدّ أوّلاً من ملاحظة أنّه هل قيّد العالم بالعدم النعتيّ أو يكون مطلقاً من هذه الناحية، فإن كان مقيّداً به لم تصل النوبة إلى تقييد الحكم بالعدم المحموليّ

329

للغويّته، وإن كان مطلقاً فإن تعقّلنا مع ذلك تقيّد الحكم بالعدم المحموليّ تصل النوبة عندئذ إلى أن نرى أنّه هل الحكم مقيّد بالعدم المحموليّ أو مطلق، وإن لم نتعقّل ذلك ـ لما ذكره المحقّق النائينيّ من لزوم التهافت ـ تمّ ما أفاده المحقّق النائينيّ من البرهان، ولا محيص عن عدم جريان استصحاب العدم الأزليّ.

والتحقيق في هذا المقام: أن يقال: إنّه لو قلنا: إنّ الإطلاق عبارة عن أخذ تمام العناوين وثبوت الحكم ابتداءً عليها فمعنى الإطلاق في الرتبة السابقة هو ثبوت الحكم للعادل والفاسق، ومن الواضح أنّ هذا لا يجتمع مع التقييد في الرتبة المتأخّرة بعدم الفسق محموليّاً، ويصحّ ما ذكره المحقّق النائينيّ(قدس سره)من لزوم التهافت.

لكنّ المختار أنّ الإطلاق لا يشبه العموم وإنّما هو رفض لجميع الخصوصيّات والعناوين، فالحكم لم يثبت أوّلاً إلّا على ذات الطبيعة وإنّما يسري إلى العناوين بحكم العقل، ومن المعلوم أنّ الإطلاق في الرتبة السابقة إنّما يوجب حكم العقل بسراية الحكم إلى تمام العناوين لو لم يقيّد في الرتبة المتأخّرة بما ينافي بعض تلك العناوين، فظهر: أنّ دعوى وقوع التهافت بسبب الإطلاق في الرتبة السابقة والتقييد في الرتبة اللاحقة ناش من الخلط بين الإطلاق والعموم. هذا.

وقد ظهر إلى هذا الحدّ: أنّه لا إشكال في استصحاب العدم الأزليّ.

إن قلت: إنّ من المحتمل كون العدم المأخوذ نعتيّاً بمعنى دخل عنوان المقارنة، وهذا وإن أمكن تصويره بنحو يقع الشكّ في دخل أمر زائد، بأن يفرض أنّ أخذ أصل عدم الفسق معلوم وأخذ عنوان المقارنة مشكوك، ولكن يمكن تصويره أيضاً بنحو التباين بأن يقال: إنّه شككنا في أنّ المأخوذ جزء للموضوع هل هو عدم الفسق أو مقارنة الموضوع لعدم الفسق؟ وما لم يدفع هذا الاحتمال لا مجال لجريان استصحاب العدم الأزليّ.

330

قلت: هذا الاحتمال يتأتّى حتّى فيما لو لم يكن الموضوع مركّباً من العرض ومحلّه، بل كان مركّباً من جوهرين أو غير ذلك من الأقسام، فيتأتّى هذا الإشكال في الاستصحاب حتّى في تلك الأقسام، مع أنّ صحّة الاستصحاب في تلك الأقسام مسلّمة عندنا. وقد أحلنا تحقيق حال الاستصحاب في تلك الأقسام إلى بعض تنبيهات الاستصحاب. والمقصود فيما نحن فيه: أنّه بعد فرض تسليم الاستصحاب في تلك الأقسام لا مجال للإشكال في استصحاب العدم الأزليّ فيما نحن فيه.

ثمّ إن ما أفاده المحقّق النائينيّ(قدس سره)ـ من أنّ جزء الموضوع إنّما هو العدم النعتيّ لا المحموليّ فلا يجري الاستصحاب ـ إنّما يثبت عدم جريان استصحاب العدم الأزليّ لإثبات حكم العامّ لا عدم جريانه لنفي حكم الخاصّ كما هو واضح.

ومن هنا اعترض السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على المحقّق العراقيّ، حيث تكلّم في استصحاب العدم الأزليّ لنفي حكم الخاصّ مستشكلاً على المحقّق النائينيّ وقال: إنّ كلام المحقّق النائينيّ في واد وكلام المحقّق العراقيّ في واد آخر.

أقول: إنّ هذا الإشكال غير وارد على المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، فإنّ المحقّق النائينيّ وإن لم يذكر في مجلس بحثه بحسب ظاهر التقريرات ما يمنع عن جريان استصحاب العدم الأزليّ لنفي حكم الخاصّ، لكنّه ذكر ذلك في رسالة اللباس المشكوك في مقام دفع القول باستصحاب العدم الأزليّ لوصف من الأوصاف لنفي حكمه.

وتوضيح الأمر: أنّه قد يقال: إنّ الوصف المأخوذ في موضوع حكم من الأحكام كوصف الاُمويّة مثلاً من الواضح أنّه ليس ثابتاً في الأزل؛ لأنّه ليس قديماً فيمكن أن نستصحب عدمه، فيحصل التعبّد بنفي الحكم بالتعبّد بنقيض موضوعه، فإنّه كما يكون التعبّد بموضوع تعبّداً بحكمه، كذلك يكون التعبّد بنقيض

331

الموضوع تعبّداً بنفي حكمه، والمحقّق النائينيّ(رحمه الله) تصدّى في رسالته في اللباس المشكوك لإبطال ذلك، والمحقّق العراقيّ(قدس سره) ناظرٌ إلى ما في تلك الرسالة.

وما استدلّ به المحقّق النائينيّ لنفي استصحاب عدم الوصف أزليّاً في مقام نفي حكمه مركّب من مقدّمتين:

المقدّمة الاُولى: بمنزلة الصغرى، وهي: أنّ النعتيّة راجعة إلى جهة الوجود وعبارة عن طرز الوجود لا إلى جهة الماهيّة، وتوضيح ذلك: أنّ الاُمور على أقسام ثلاثة:

الأوّل: ما لا يحتاج في وجوده ولا ماهيّته إلى محلّ وهو الجوهر كالإنسان والحيوان مثلاً، فلا هو يرتبط بالمحلّ في وجوده الخارجيّ ولا تحتاج ماهيّته إلى ذلك؛ ولذا حينما نتصوّره لا يرتبط أيضاً بمحلّ.

والثاني: ما يحتاج في وجوده وماهيّته إلى غيره وهي النسبة بمعناها الحرفيّ، فلا توجد في الخارج إلّا فانية في المعنى الاسميّ ولا تتصوّر في الذهن أيضاً مستقلّة.

الثالث: ما يكون أمراً بين الأمرين ويحتاج في وجوده إلى المحلّ دون ماهيّته، ولذا يتصوّر في الذهن مستقلاًّ ولا يوجد في الخارج مستقلاًّ وهي الأعراض كالسواد والبياض مثلاً.

وموضع كلامنا هو الثالث، فإذا كان موضوع الحكم ـ كحرمة الإكرام ـ هو العالم الاُمويّ مثلاً ـ والمفروض أنّ الاُمويّة لم تؤخذ بما هي بحيال ذاتها جزءاً للموضوع، بل اُخذت بوجودها النعتيّ جزء الموضوع؛ إذ هو المتعيّن ثبوتاً عند المحقّق النائينيّ(قدس سره) ـ فجزء الموضوع في الحقيقة هو نعتيّة الاُمويّة للعالم، ونعتيّتها طرز للوجود ولا علاقة لها بالمهيّة، أي: أنّ جزء الموضوع هو طرز وجود الاُمويّة.

والمقدّمة الثانية: ما هي بمنزلة الكبرى، وهي: أنّ المتنافيين لا يعقل اتّصاف أحدهما بالآخر، فمثلاً السواد والبياض لا يعقل اتّصاف أحدهما بالآخر، بل

332

الجسم تارة يتّصف بهذا واُخرى يتّصف بذاك، وإذا فرض أنّ الجسم كان متّصفاً بالسواد ثمّ اتّصف بالبياض صحّ أن يقال: هذا الجسم مسبوق بالسواد، كما يصحّ أن يقال: هذا البياض مسبوق بالسواد. لكن المسبوقيّتين ليستا بمعنى واحد بل الاُولى بمعنى أنّ الجسم كان متّصفاً قبل هذا بالسواد، والثانية ليست بمعنى أنّ البياض كان متّصفاً بالسواد قبل هذا، بل بمعنى أنّه قبل هذا كان السواد مكانَه وبديلاً عنه، وكذلك الكلام في الوجود والعدم، فإنّهما متنافيان ولا يعقل اتّصاف أحدهما بالآخر وإنّما يكون معنى مسبوقيّة أحدهما بالآخر أنّ الآخر قبل هذا كان مكانَه وبديلاً له.

واستنتاجاً من هاتين المقدّمتين نقول: إنّ جزء الموضوع ـ على ما ظهر من المقدّمة الاُولى ـ هو طرز وجود الاُمويّة، وهذا الجزء لا يعقل استصحاب عدمه؛ لما عرفت في المقدّمة الثانية من أنّ الوجود لا يتّصف بالعدم، والذي يتّصف بالعدم إنّما هو ماهيّة الاُمويّة، فإن اُريد استصحاب عدم الماهيّة من دون افتراض هذا العدم نعتاً للموضوع ورد عليه: أنّ جزء الموضوع لم يكن هو الماهيّة بحيال ذاتها حتّى يستصحب عدمها، وإن اُريد استصحاب عدم هذا الوجود ورد عليه: أنّ الوجود لا يتّصف بالعدم، وإن اُريد تثبيت نقيض ذاك الطرز من الوجود والمسمّى بالوجود النعتيّ كي يثبت نقيض حكمه فنقيضه هو العدم النعتيّ(1)، والعدم النعتيّ


(1) كأنّ المقصود: أنّ كلّ خصوصيّة اُخذت في أحد النقيضين يجب أن تؤخذ في الآخر، فنقيض وجود زيد في الدار هو عدمه في الدار وليس عدمه مطلقاً ولا عدم وجوده في الدار.

الذي أفهمُه أنا من عبائر الشيخ النائينيّ(رحمه الله) في اللباس المشكوك هو: أنّه أراد أن يبرهن

333


ببرهان واحد على عدم حجّيّة استصحاب العدم الأزليّ سواء لإثبات حكم العامّ أو لنفي حكم الخاصّ في كلا المجالين وأنّه يعتقد الملازمة بينهما.

وتوضيح الأمر: أنّه(رحمه الله) يؤمن بأنّ ما يتقيّد به العامّ بسبب التخصيص هو نقيض الخاصّ وبأنّ نفي حكم الخاصّ يكون بإثبات نقيض الخاصّ، فإن أمكن إثبات النقيض باستصحاب العدم الأزليّ صحّ إثبات حكم العامّ كما صحّ نفي حكم الخاصّ، وإن لم يمكن ذلك بطل الأمران.

يبقى الكلام في أنّ نقيض الخاصّ ما هو ـ بعد إثبات أنّ عنوان الخاصّ عبارة عن وجود نعتيّ ـ هل هو عبارة عن عدم الوجود النعتيّ بأن تكون النعتيّة قيداً في المعدوم لا العدم، وقلنا بما أنّ الوجود النعتيّ مسبوق بالعدم في الأزل يستصحب هذا العدم، أو هو عبارة عن عدم الماهيّة نعتيّاً بأن تكون النعتيّة قيداً في العدم، أو هو عبارة عن العدم المحموليّ؟ فإن آمنّا بالأوّل أو الثالث جرى الاستصحاب في كلا المجالين، وإن آمنّا بالثاني لم يجر الاستصحاب في شيء من المجالين:

والأوّل باطل؛ لأنّ نقيض الوجود وهو العدم بديل له ويحلّ محلّه ولا يضاف إليه، فمسبوقيّة الوجود بنقيضه في الأزل تعني أنّ نقيضه كان هو الحالّ محلّه، ولا تعني أنّ الوجود كان معدوماً حتّى يستصحب عدم الوجود؛ فإنّ كون الوجود عدماً يعني اجتماع النقيضين وهو مستحيل.

الثالث أيضاً باطل؛ لأنّ النعتيّة إذا اُخذت في أحد طرفي النقيض فلابدّ من أخذها في الطرف الآخر، حفظاً للبدليّة والتناقض كما هو الحال في أيّ قيد آخر، فمثلاً وجود زيد الذي نقيضه هو عدم زيد لو قيّد بكونه في الدار كان نقيضه أيضاً عدم زيد في الدار لا

334


عدمه مطلقاً ولا عدم وجود زيد في الدار.

فتعيّن: أنّ إثبات العدم النعتيّ هو الذي ينفي حكم الخاصّ وهو الذي يثبت حكم العامّ ولا يمكن إثباته بالاستصحاب.

يقول(رحمه الله): إنّ هناك طريقة اُخرى لنفي حكم الخاصّ غير ما نحن بصدده من استصحاب عدم وصف الاُمويّة مثلاً، وهو استصحاب عدم عنوان (العالم الاُمويّ) وهذا ينفي حكم الخاصّ ولكنّه لا يثبت حكم العامّ إلّا بالملازمة؛ لأنّ موضوع العامّ هو العالم غير الاُمويّ، ونفي عنوان العالم الاُمويّ لا يثبت تحقّق عنوان العالم غير الاُمويّ إلّا بالملازمة.

وبهذا البيان الذي ذكرناه يمكن الجمع بين شتات كلام الميرزا أو ما يتراءى أنّه شتات، حيث إنّه رغم ظهور كلامه في وحدة البرهان يتراءى أنّ كلماته ليست منتسقة:

فكأنّه يظهر من بعض كلماته: أنّه يبرهن على عدم حجّيّة استصحاب العدم الأزليّ بأنّ إطلاق وتقييد العامّ بالقياس إلى أحواله مقدّمٌ رتبةً على تحديد ذلك بالقياس إلى مقارناته. وهذا إنّما يكون برهاناً على عدم إمكان إثبات حكم العامّ باستصحاب العدم الأزليّ لا على عدم إمكان نفي حكم الخاصّ به.

ويظهر من بعض كلماته: أنّه يبرهن على عدم إمكان نفي حكم الخاصّ باستصحاب عدم الوصف بأنّه إن قصد به استصحاب عدم الوجود النعتيّ فالوجود ليس مسبوقاً بالعدم إلّا بمعنى كون العدم بديلاً له لا كون العدم عدمه، وإن قصد به استصحاب عدم الماهيّة فالماهيّة لم تكن هي موضوع الحكم. وهذا إنّما يكون برهاناً على عدم إمكان نفي حكم الخاصّ باستصحاب العدم الأزليّ.

ويظهر من بعض كلماته: أنّ المستصحب إن لم يكن هو موضوع الأثر فلابدّ أن يكون

335

لم يكن ثابتاً في الأزل كي يستصحب.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّه إن اُريد كون جزء الموضوع لحكم الشارع حقيقةً هو نفس الوجود النعتيّ للاُمويّة فهذا باطل؛ إذ من المستحيل طروّ الحكم على الوجودات الخارجيّة.

وإن اُريد عروض الحكم على العناوين التي تنطبق بمعنى من معاني الانطباق على ما في الخارج فهذا صحيح، ولكن تلك العناوين توجد في الخارج أحياناً بذاك المعنى من الانطباق كما تنعدم أحياناً، فهي مصبّ واحد للوجود والعدم، وعدمه ثابت في الأزل فيستصحب وعدمه نقيض لوجوده فيستصحب.

وثانياً: أنّ ما ذكره(قدس سره) مبتن على ما اختاره من الوجود الربطيّ وقد قلنا: إنّ هذا لا يتعقّل في تمام الأوصاف؛ لعدم تعقّله في الاعتباريّات والانتزاعيّات.

وأمّا النعتيّة بمعنى التحصيص فهي من شؤون الماهيّة ويترتّب عليها الوجود والعدم فلا مانع من استصحاب عدمها الأزليّ.

 


نقيضه موضوع الأثر، والوجود النعتيّ الذي هو موضوع الأثر نقيضه هو العدم النعتيّ لا العدم المحموليّ. وهذا أيضاً يتراءى كونه برهاناً على عدم إمكان نفي حكم الخاصّ باستصحاب العدم الأزليّ لا على عدم إثبات حكم العامّ بذلك.

وبما شرحنا تتنسّق كلماته(رحمه الله) في بيان واحد متكامل.

ويرد عليه ـ مضافاً إلى الاعتراضات التي أوردها اُستاذنا(رحمه الله) عليه في المتن ـ: منع كون نقيض الوجود النعتيّ هو العدم النعتيّ بل هو العدم المحموليّ؛ لما عرفت من استحالة العدم النعتيّ نهائيّاً ما لم يرجع إلى الوجود، ولو رجع إلى الوجود لم يكن نقيضاً.

336

وثالثاً: أنّ افتراض العدم النعتيّ هو المقابل والنقيض للوجود النعتيّ بالتدقيق الفلسفيّ لا يؤثّر شيئاً في المقام؛ إذ لم يرد في دليل الاستصحاب أنّ ما يستصحب لنفي الحكم لابدّ أن يكون مقابلاً بحسب مصطلحات الفلاسفة لموضوع الحكم، فلو اعتقد أحد أنّ العدم المحموليّ يكون ولو عرفاً نفياً للوجود النعتيّ كفاه ذلك لنفي الحكم باستصحاب العدم المحموليّ.

هذا تمام الكلام في هذا المقام مع مدرسة المحقّق النائينيّ(قدس سره).

 

الكلام في تفصيل المحقّق العراقىّ(رحمه الله):

بقي الكلام حول ما أفاده المحقّق العراقيّ(رحمه الله): من التفصيل بين موارد استصحاب العدم الأزليّ، وقد ذكر ذلك التفصيل تارةً في رسالته التي ألّفها في اللباس المشكوك مستدلاًّ عليه بدليل، وثانيةً في رسالته التي ألّفها في استصحاب العدم الأزليّ مستدلاًّ عليه بدليل أعمق مع إبطاله للدليل الأوّل. ولا يخفى أنّ مصبّ كلامه(قدس سره) ليس ما هو مصبّ لكلام المحقّق النائينيّ في التقريرات من مسألة إثبات حكم العامّ باستصحاب العدم الذي صار جزءاً للموضوع، بل مصبّ كلامه هو مصبّ كلام المحقّق النائينيّ في رسالة اللباس المشكوك من مسألة نفي الحكم باستصحاب عدم جزء الموضوع الوجوديّ.

نعم، يظهر منه بالتبع حكم فرض جزئيّة العدم في موضوع وأنّه متى يجوز إثبات الحكم باستصحاب ذلك العدم ومتى لا يجوز.

وعلى أيّ حال فهنا تقريبان لما ذهب إليه من التفصيل:

التقريب الأوّل: ما جاء في رسالته في اللباس المشكوك، ونحن نبيّن هنا واقع مراده بالمقدار الذي تكشف عنه عبارته ولا نلتزم بالترتيب الذي سلكه هو في

337

مقام البيان، فقد نقدّم بيان نكتة ونؤخّر اُخرى، وهذا التقريب يتّضح بعد ذكر مقدّمتين:

الاُولى: أنّه إذا لوحظ شيئان بحسب الوجود الخارجيّ فربما يكون بينهما تقارن رتبيّ أو تقدّم وتأخّر كتقارن الحرارة والإحراق الناشئين من النار، وتأخّر الحرارة عن النار وتقدّمها على الغليان الناشئ منها، وكتأخّر القريشيّة رتبة عن الإنسان لكونها وصفاً له وتقدّم الإنسان عليها، وتقارن القرشيّة والعدالة العارضتين على الإنسان. هذا بحسب الوجود الخارجيّ.

وهكذا الحال بحسب عالم الجعل الشرعيّ، فربما يؤخذ شيء مع شيء آخر موضوعاً للحكم مع تقدّم وتأخّر رتبة، وربما يؤخذان في رتبة واحدة. والنسبة الرتبيّة بينهما بلحاظ عالم الجعل ربما تتّفق مع النسبة بينهما بلحاظ الوجود الخارجيّ وربما تختلف، فمثلاً العدالة والقرشيّة متقارنتان بحسب الوجود الخارجيّ لكن ربما تؤخذ العدالة مؤخّرة عن وجود القرشيّة فيقال: (القرشيّ إن كان عادلاً فأكرمه)، والعدالة مؤخّرة رتبة عن وجود الإنسان بحسب الخارج، وربّما تكون كذلك أيضاً بحسب الجعل كما لو قال: (إذا وجد إنسان وكان عادلاً فأكرمه) حيث فرض أوّلاً وجود الإنسان ثمّ اشترط بنسبة تامّة كون هذا الإنسان الموجود عادلاً، وربما لا يكون بينهما تقدّم وتأخّر وليست العدالة مضيّقة برتبة خاصّة وهي التأخّر عن وجود الإنسان، كما لوقال: (إذا وجد إنسان عادل فأكرمه) فالأوّل ـ أعني: فرض وجود الوصف والموصوف مرتّبين ـ يبيّن عادة في لسان أهل العرف بالنسبة التامّة، والثاني ـ أعني: فرض التقارن بمعنى فرض طروّ الوجود على المقيّد بالعدالة مثلاً ـ يبيّن عادة في لسان أهل العرف بالنسبة الناقصة التقييديّة.

338

الثانية: أنّ النقيضين في نظر المحقّق العراقيّ(قدس سره) يجب أن يكونا في رتبة واحدة، فلوضيّق أحدهما برتبة خاصّة كان الآخر أيضاً كذلك، فإنّ نقيض الشيء بديله وبديله ما يحلّ محلّه، فلابدّ أن يكون في تلك الرتبة والمحلّ.

ومع الالتفات إلى هاتين المقدّمتين نقول: إنّه بعد أن كان المفروض تأخّر القرشيّة بحسب الوجود الخارجيّ عن وجود الإنسان أمكن أن يقال: إنّه لا مجال لاستصحاب عدم القرشيّة؛ لأنّ القرشيّة تكون مضيّقة برتبة خاصّة وهي الرتبة المتأخّرة، فكذلك نقيضها، فما يجدي إثباته بالاستصحاب هو عدم القرشيّة الثابت في رتبة خاصّة الذي هو النقيض للقرشيّة الثابتة في رتبة خاصّة لا استصحاب مطلق عدم القرشيّة، فاستصحاب العدم الأزليّ لا يفيد أصلاً، ولكن بما أنّ العبرة ليست بالنسبة الرتبيّة من حيث الوجود الخارجيّ، وإنّما العبرة بما لوحظ من النسبة في عالم الجعل، فيختلف الأمر باختلاف كيفيّة الجعل، فمهما اُخذ القيد قيداً بعد فرض وجود الموضوع، كما لو قال: (إذا وجد إنسان وكان قرشيّاً فأكرمه) لم يجر استصحاب العدم الأزليّ؛ لأنّ نقيض القرشيّة المأخوذة قيداً ليس مطلق عدم العدالة حتّى يمكن إثباته باستصحاب العدم الأزليّ، بل العدم الخاصّ، أي: العدم الذي يكون متأخّراً رتبة عن وجود الإنسان، وذلك لا يمكن إثباته باستصحاب مطلق العدم؛ لعدم حجّيّة مثبتات الاستصحاب.

بل قال المحقّق العراقيّ(قدس سره) بعدم إمكان إثبات ذلك باستصحاب العدم الأزليّ حتّى بناء على حجّيّة مثبتات الاستصحاب؛ لأنّ هذا العدم الخاصّ ليس من الآثار العقليّة لمطلق العدم. ومراده(قدس سره) من حجّيّة مثبتات الاستصحاب هو إثبات الاستصحاب لجميع الآثار الشرعيّة والتكوينيّة، لا إثباته لجميع الملازمات حتّى يقال: إنّ الملازمة ثابتة فيما نحن فيه.