190

والثالث: أن يكون المقصود من الجماعة جماعة أهل الحقّ كما هو الحال في الاحتمال الثاني، ولكن نكتة التحريم تكمن في عنوان الجماعة بما هي جماعة، ولا يكون المقصود من أهل الحقّ خصوص الذين بايعوا من ثبتت له الولاية مسبقاً وقبل البيعة، بل المقصود بذلك الذين بايعوا من يكون أهلا للبيعة وواجداً لشرائط إلباسه ثوب الولاية؛ إذ لا إشكال في أنه لا يتمّ منح الولاية بالبيعة لكل أحد ولو كان فاسقاً فاجراً. إذن فمعنى الرواية: أن بيعة أكثرية من لا يبايع إلاّ المتواجد لشروط أهلية الولاية تنفذ على الآخرين وإن كانوا بالقياس إلى الذين يبايعون الطاغوت قلّة، فإذا بطل الاحتمال الأوّل والثاني تعيّن هذا الاحتمال وبه تثبت شرعية الانتخاب.

إلاّ أنّ ضعف هذا الوجه كما أشرنا إليه عبارة عن ضعف الأسانيد.

وقد اتّضح بهذا العرض أنّ جميع هذه الوجوه العشرة للانتخاب غير تامّ.

 

الترجيح بالانتخاب بعد فرض صلاحيّة الولاية:

 

وهناك وجه آخر غير هذه الوجوه العشرة ذكره في «الدراسات» لا لإثبات شرعية الانتخاب في تحقيق الولاية ابتداءً، بل لإثبات أنه بعد فرض الفراغ عن صلاحية فئة من الناس واجدة لمواصفات معيّنة لاستلام الولاية ـ وليفترض أنهم هم الفقهاء الواجدون للشرائط ـ لابدّ عقلا من تدخّل الانتخاب في تعيين الوليّ، وأنا أصوغ الوجه العقلي الذي ذكره(1) بهذه الصياغة:


(1) راجع دراسات في ولاية الفقيه 1: 409 ـ 415.

191

إنّنا إمّا أن نفترض تعدّد الأولياء الثابتة لهم الولاية الفعلية لإدارة البلادبتعدّد الفقهاء مثلا أو نفترض وحدة الوليّ بترجيح أحدهم على الآخرين،وعلى الثاني إمّا أن يفترض الترجيح بصفة واقعية بحتة في الولي كالأعلميةأو الأكفئيّة أو يفترض الترجيح باختيار الناس وانتخابهم، ولو بأن يكون انتخابه على أساس ما قد تعتقده الأكثرية من صفة واقعية في من انتخبوه كما لو اعتقدوا أنه أعلم أو أكفأ:

أمّا افتراض ثبوت الولاية الفعلية لكلّ الفقهاء الواجدين للشرائط مثلا فغير محتمل؛ لأنّ ذلك يؤدّي لدى إعمال فردين منهم الولاية إلى التضارب وإلى فساد وضع المجتمع لا إلى صلاحه.

وأمّا افتراض الترجيح بصفة واقعية بحتة في الوليّ كالأعلمية أو الأكفئية من دون دخل لاختيار الأكثرية وانتخابهم إيّاه في ذلك فهذا أيضاً غير محتمل؛ إذ أوّلا قد يتّفق تساوي فقيهين مثلا في تلك الصفة الواقعية، فنقع مرّة أُخرى في الفساد الذي أشرنا إليه في الافتراض الأول. وثانياً أنّ الترجيح بأمر واقعي بحت إنّما يمكن في العمل الفردي كما في باب التقليد الشخصي، فبالإمكان افتراض أنّ التقليد يكون لدى تعدّد الفقهاء للأعلم، فكلّ فرد يقلّد من يعتقد أنه أعلم، فالمرجّح الواقعي هو الأعلمية، واعتقاد الفرد المقلّد للأعلمية طريق إلى ذاك الواقع، وكذلك في موارد إعمال الولاية بشكل فردي وجزئي قبل بلوغ الأُمّة مستوى استلام زمام الحكم، فلو فرض أنّه لدى تعارض حكمين ولائيين يتبع كلّ فرد من يعتقد أكفئيته بأن كان المرجح الواقعي هو الأكفئية، وكان تشخيص الفرد للأكفئيّة طريقاً إلى الواقع لم يكن بذلك بأس.

192

أمّا في الولاية التي لابدّ من تطبيقها على المجتمع كمجتمع كما في إدارة دفّتي السلطة الإسلامية فالترجيح بصفة واقعية بحتة غير ممكن؛ لأنّ الناس يختلفون في تشخيص من هو الأكفأ أو الأعلم، فنتورّط مرة أُخرى في الفساد الذي ينشأ من تعدّد الأولياء.

إذن فلابدّ أن يكون لانتخاب الأكثرية دخل واقعي في الولاية ولا يصحّ افتراض أنّ ما هو الدخيل واقعاً في الولاية إنّما هو الأكفئية مثلا، ويكونتشخيص الأكثرية طريقاً ظاهرياً إلى ذلك، وذلك لأنّ الطريق الظاهري يسقطعن الحجّية لدى العلم بالخلاف، فلو كانت الأقليّة معتقدة خطأ الأكثرية في انتخابها سقط هذا الطريق الظاهري بالنسبة لهم عن الحجية، فلابدّ أن يكون للأكثرية أمير وللأقلية أمير آخر، ونتورّط مرّة أُخرى في الفساد الذي ينشأمن تعدّد الأولياء.

وتوجد في هذا البيان ثغرتان لابدّ من ملئهما كي يتمّ عندئذ هذا البيان:

الثغرة الأُولى: أنّه لِمَ لا نقول لدى التعارض بالتساقط وانتفاء الولاية؟! وكأنّ صاحب «الدراسات» كان قد افترض مسبقاً فساد ذلك ولو لوضوح فساد بقاء المجتمع بلا وليّ يدير الأُمور.

إلاّ أنّ تخريج ذلك يكون بحاجة إلى شيء من التدقيق والتعميق، وحاصله: أنّ الأساس الذي اعتمدناه لإثبات أصل الولاية إما أن يكون هو الأساس الأوّل من الأُسس الثلاثة الماضية في بحث المسألة الأُولى وهو الحسبة، أو الثاني وهو الأدّلة اللفظية على وجوب إقامة الحكم الإسلامي، أو الثالث وهو الدليل اللفظي على ولاية الفقيه.

193

أمّا على الأساس الأوّل فلا يرد إشكال التعارض والتساقط؛ لأنّ مفاده ليس هو فعلية الولاية لكل فقيه مثلا حتى نبتلي بالتعارض والتساقط، وإنّما مفاده هو وجوب التصدّي كفاية لإدارة الأُمور بلا إطلاق في المقام من حيث الشروط، وليكن القدر المتيقّن من ذلك من يقع عليه الانتخاب.

وأمّا على الأساس الثاني فأيضاً لا يرد هذا الإشكال، فإنّ دليل وجوب إقامة الحكم لا يدلّ أيضاً على الولاية الفعلية لكل فقيه مثلا وإنما مفاده الوجوب الكفائي لإدارة الحكم بلا إطلاق في المقام من حيث الشروط، وليكن القدر المتيقّن من ذلك من يقع عليه الانتخاب.

وأمّا على الأساس الثالث فقد يورد عليه هذا الإشكال، فيقال: إنّ الدليل اللفظي لمبدأ ولاية الفقيه يبتلي لدى تعارض حكمين من قبل فقيهين بالتعارض الداخلي والتساقط، كما هو الحال في دليل حجية خبر الواحد مثلا لدى تعارض خبرين، أو دليل التقليد لدى تعارض فتويين من فقيهين متساويين.

والجواب: أنّ هناك فرقاً بين ما نحن فيه وبين تلك الموارد، وهو ارتكازية أنّ تعارض الوليّين ليس المفروض به أن يوجب بقاء المجتمع بلا وليّ، فهذا الارتكاز يعطي لدليل الولاية إطلاقاً إجمالياً في فهم العرف لفرض التعارض، أي أنّ ذاك الدليل تنقلب دلالته في فرض التعارض من الدلالة على الولاية التعيينية لكلّ فقيه مثلا إلى الدلالة على أنّ دائرة الولاية إجمالا هي الفقهاء، ولابدّ عندئذ من التمسك بالقدر المتيقّن، ولا شكّ أنّ المنتخب هو القدر المتيقن بعد ما لم يكن بالإمكان كون الأعلم الواقعي أو الأكفأ الواقعي هو القدر المتيقن؛ لما عرفت من أنّ إسناد الولاية على المجتمع إلى خصوص الأعلم أو الأكفأ غير معقول.

194

الثغرة الثانية: أنّنا لئن اضطررنا إلى مرجّح إثباتي لحلّ مشكلة تعدّدالقادة على أساس أنّ المرجّح الثبوتي كالأكفئية يقع الخلاف فيه بين الناس، وبذلك تعجز القيادة عن فعلها القيادي، فلابدّ من مرجّح إثباتي لا يختلففي تشخيصه الناس، فما الذي أثبت لنا أنّ ذاك المرجّح هو اختيار الناس،ولم لا يكون ذاك المرجح عبارة عن القرعة مثلا أو عبارة عن اختيار الفقهاء بالانتخاب في ما بينهم لأحدهم دون اختيار الأُمّة وانتخابها، أو عبارة عنأكثرية رأي الفقهاء في كلّ مسألة بأن يتحوّل الأمر إلى شورى القيادة فيمابينهم؟

وقد يجاب على هذا الإشكال: بدعوى القطع بأنّه لو كان مرجح إثباتي في المقام فالمتيقّن منه هو انتخاب الأُمّة لا غير، وهذه الدعوى لا يمكن إثباتها أو نفيها بالبرهان إلاّ أن تكون بروحها راجعة إلى الجواب الثاني.

وأُخرى يجاب عليه: ببيان أنّ دليل ولاية الفقيه المطلق وهو التوقيع الماضي مثلا كان المترقّب فيه بطبيعة إطلاق متعلّق المتعلّق وهو الفقيه أن يكون إطلاقه شمولياً، فكان المفروض أن يشمل كلا المتشاحّين في الولاية ويوجب ذلك التساقط، ولكن بعد فرض القرينة العقلائية الارتكازية المانعة عن حمل الدليل على فرض الشمول المؤدّي إلى التعارض والتساقط كما نقول بذلك في دليل التقليد أيضاً ينصرف الدليل ـ سواء دليل الولاية أو دليل التقليد ـ من الإطلاق الشمولي الموجب للتساقط إلى الإطلاق البدلي الموجب للتخيير، ولا موجب في بداية الأمر لترجيح ثبوتي ولا إثباتي لأحد الأفراد على الآخر، أي أنّ المطلق بعد وجود مانع عن حمله على الشمول والاستغراق ينصرف إلى البدلية والتخيير،

195

لا إلى الترجيح إلاّ إذا كان المرجّح عبارة عن نفس نكتة الحجّية المفهومة عرفاً، ويكون الفاصل بمقدار كبير كالأعلمية في التقليد والكفاءة في الولاية، فلو كان أحدهم أعلم من الآخرين بمقدار مساو لملاك التقليد أو أكثر منه، أو كان أحدهم أكفأ من الآخرين بمقدار مساو لملاك الولاية أو أكثر منه فلا إشكال عندئذ في الترجيح، وهذا يكون دائماً ترجيحاً بملاك ثبوتي في القضايا الفردية كالتقليد أو الولاية في أُمور جزئية قبل إقامة الحكم الإسلامي مما يمكن التفكيك فيه بين الأشخاص، فكلّ يرجع إلى من يراه أعلم أو أكفأ، وفي غير فرض وجود مرجّح من هذا المستوى يتّم التخيير؛ لأنّ فهم العرف من المطلق الذي كان الأصل فيه الشمولية تحوّل إلى البدلية والتخيير، وهذا التخيير في القضايا الفردية تخيير فردي، فالمقلّد يتخيّر في تقليد أحد المفتين، والمولّى عليه يتخيّر في إتّباع أحد المتشاحّين في الولاية.

أمّا في باب الولاية على المجتمع فالتخيير الفردي غير معقول، وإلاّ لاختار كلّ أحد وليّاً، وهذا هدم للولاية والقيادة كما هو واضح، فهنا يتحوّل مرّة أُخرى فهم العرف للدليل من التخيير الفردي إلى التخيير الجمعي، أي أنّ الأُمّة بمجموعها هي التي ستختار الوليّ بمعنى أنّ لكل فرد منهم دخلا في هذا التخيير وصوتاً ملحوظاً ضمن الأصوات، وهذا يعني الانتخاب والترجيح بالأكثرية، وكذلك الترجيح الثبوتي بالأكفئية الكبيرة يكون أمر تشخيصه بيد الكلّ لا بيد فرد واحد وإلاّ لزم تعدّد الأولياء، وهذا أيضاً يعني الانتخاب لمن هو أكفأ في نظر كلّ فرد فرد، أي أنّ كلّ فرد له حقّ الإدلاء بصوته في تشخيص الأكفأ، وهذا يعني الترجيح بأكثرية الآراء، وهذا ما سمّيناه بالمرجّح الإثباتي.

196

هذا فيما إذا كان لدينا دليل لفظي مطلق على ولاية الفقيه، وكذلك الحال في ما إذا كان دليلنا على ولاية الفقيه عبارة عن دليل لفظي أوجب على المجتمع إقامة الدولة الإسلاميّة زائداً ضرورة الاقتصار على القدر المتيقّن ممّن تجوز للأُمّة تسليطه على أنفسهم وهو الفقيه، فهنا أيضاً نقول: إنّ ذاك الدليل دلّ على أنّه يجب على المجتمع كفاية تحقيق الدولة الإسلامية وتشخيص قيّم عليها وفق المتيقّن من واجد الصفات المحتمل دخلها في الولاية، ويفهم من ذلك عرفاً تخييرهم في تعيين من يريدون أو ترجيحهم بما يعتقدونه من الأكفئيّة، وهذا التخيير أو الترجيح ليس أمراً فردياً كما في باب التقليد أو في باب الولاية الجزئية، بل أمر جمعي ليس له مفهوم معقول عدا الانتخاب والأخذ بأكثرية الأصوات.

وأما إذا كان الدليل على الولاية عبارة عن الحسبة، والتي ليس لها إطلاق أو ظهور لفظي فهنا ينحصر حلّ اللغز بالجواب الأوّل، وهو أنّ الانتخاب والترجيح بالأكثرية بعد فرض التشاحّ هو القدر المتيقّن مما نستطيع أن نقطع معه برضا الشارع.

بقي في المقام شيء، وهو أنّ هذا الوجه لإثبات الانتخاب إنّما يكون مفاده هو الترجيح بالانتخاب لدى التشاحّ في إعمال الولاية، أمّا إذا لم يكن بين الفقهاء تشاحّ من هذا القبيل فلا يبقى مورد لهذا الوجه بالتقريب الذي عرفت فإن وقع التشاحّ فالقدر المتيقّن مما يفصل الكلمة هو انتخاب الأُمّة بلا إشكال.

وإن لم يقع التشاحّ كما لو تصدّى البعض للقيادة دون غيره، أو توافق المتنافسون على أن ينتخبوا هم من بينهم بأكثرية آرائهم فرداً منهم للقيادة فهل يجب هنا أيضاً الانتخاب أو لا داعي للانتخاب ما دام التشاحّ غير موجود؟

197

إن كان دليلنا على ولاية الفقيه عبارة عن نصّ يتمتّع بالإطلاق، وهو الأساس الثالث من الأُسس الثلاثة لولاية الفقيه فلا حاجه إلى الانتخاب في غير فرض التشاحّ، ومن يتصدّى للحكم ويسيطر على الأُمور وهو جامع للشرائط يجب على الأُمّة الانقياد له، ويحرم على الفقهاء الآخرين شقُّ عصا المسلمين.

وإن كان دليلنا على ذلك عبارة عن أحد الأساسين الأوَّلين اللذين يكون تعيين الفقيه للقيادة بناء عليهما من باب القدر المتيقّن، فقد يقال: إنّ القدر المتيقّن إنّما هو الفقيه المنتخب للأُمّة فلابدّ من الانتخاب رغم عدم التشاحّ. نعم لو لم تستعدّ الأُمّة لأيّ سبب من الأسباب للانتخاب وجب على أحد الفقهاء ـ الجامعين لسائر الشروط ـ كفاية القيام بوظائف الولاية وحمل الراية بنفس دليل الحسبة أو الدليل اللفظي الدالّ على وجوب إقامة الحكم الإسلامي كفاية.

وقد يقال: إنّ الانتخاب إنّما يجعل الشخص المنتخب قدراً متيقّناً، لدى التشاحّ أو لدى وقوع الانتخاب بالفعل، أمّا لدى عدم التشاح وعدم وقوع الانتخاب بالفعل فلا نكتة لكون المنتخب قدراً متيقناً، بمعنى أن يكون الانتخاب مقدّمة ضرورية لتحصيل من يقطع بولايته.

 

التمسّك بما ورد في ( الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله) ):

 

هذا، وهناك وجه آخر يمكن أن يذكر لإثبات الانتخاب، وهو أيضاً لو تمّ لم يكن له الإطلاق كأكثر الوجوه السابقة، ولابدّ فيه من الاقتصار على القدر المتيقّن وهو الفقيه، وذاك الوجه هو الاستدلال بما مضى من رواية العيص التامّة سنداً،

198

والتي ورد فيها قوله: «ولا تقولوا خرج زيد، فإنّ زيداً كان عالماً وكان صدوقاً، ولم يدعكم إلى نفسه وإنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه...»(1)، وذلك بناء على تفسير قوله: «الرضا من آل محمد» بمعنى المرتضى من قبل الناس من آل محمد، وهذا يعني الانتخاب.

إلاّ أنّ هذا التفسير بعيد؛ وذلك لما ورد في ذيل هذا الحديث من قوله: «فالخارجُ منّا اليوم إلى أيّ شيء يدعوكم؟ إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)؟ فنحن نشهدكم أ نّا لسنا نرضى به، وهو يعصينا اليوم، وليس معه أحد، وهو إذا كانت الرايات والألوية أجدر أن لا يسمع منّا...»، فمن الواضح من هذا الذيل أنّ الإمام (عليه السلام) طبّق عنوان «الرّضا من آل محمّد» على نفسه، في حين أنه لم يكن قد وقع وقتئذ انتخاب عليه من قبل الأُمّة، وإنما كانت إمامته بالتعيين من قبل اللّه تعالى. إذن فالظاهر أنّ المقصود بالرّضا من آل محمد المرتضى للّه أو للشريعة الإسلامية من آل محمد.

أمّا ما هو المقياس في ارتضاء اللّه أو الشريعة الإسلامية لشخص للولاية، هل هو التعيين أو الانتخاب أو غير ذلك؟ فهذا أمر مسكوت عنه.

ولا يعارض هذا التفسير ما ورد في بعض الأحاديث من أنّ زيداً لم يكن يؤمن بإمامة الإمام (عليه السلام)(2)، فإنّ هذا لو تم لا ينافي الدعوة للرضا من آل محمد، فلنفترض أنه لم يكن يعرف زيد من هو الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله) ولكن كان يدعو على سبيل الإجمال إلى الرّضا من آل محمد إلى أن يعرف بعد الانتصار بالبراهين والحجج من هو الرّضا من آل محمّد.


(1) وسائل الشيعة 11: 36، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث الأول.

(2) راجع معجم رجال الحديث 7: 349 ـ 354، برقم ( 4870 )، ترجمة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، بحسب الطبعة الثالثة.

199

نعم تلك الروايات تعارض قوله (عليه السلام) في رواية العيص: «فإنّ زيداً كان عالماً»، فإنّ الظاهر أنّ المقصود بذلك كونه عارفاً بالإمام الحقّ.

وفي ختام البحث عن مسألة الانتخاب نشير إلى أمرين قد اتضح الحال فيهما في الحقيقة من الأبحاث التي عرفتها:

 

انتخاب غير الفقيه:

 

الأمر الأوّل: هل يحقّ للأُمّة أن تنتخب غير الفقيه وليّاً لها شريطة أن يرجعهذا الولي في فهم الأحكام الفقهية الدخيلة في عمله ومواقفه إلى فقيه بالتقليدأو لا؟ وقد اتّضح مما عرفته من الأبحاث أنّه لا يحقّ لها ذلك، وذلك لا لأجل دليل خاصّ على شرط الفقاهة في الوليّ كما مضى عن كتاب «دراسات فيولاية الفقيه» فإنّك قد عرفت النقاش في ذلك لدى البحث عن المسألة الأُولى،بل لأجل أنه لا إطلاق في دليل الانتخاب يثبت به جواز انتخاب غير الفقيه للولاية، فلابدّ من الاقتصار في مقابل أصالة عدم الولاية على القدر المتيقّنوهو الفقيه، وقد مضى النقاش في كلّ دليل من أدلّة الانتخاب الذي يمكندعوى الإطلاق فيه بما فيها الدليل الذي نقلناه عن أُستاذنا الشهيد (قدس سره) من التمسّك بآية الشورى(1) منضمّة إلى قوله تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْأَوْلِيَاءُ بَعْض ﴾(2).


(1) سورة الشورى: الآية 38.

(2) سورة التوبة: الآية 71.

200

الفقيه غير المنتخب:

 

الأمر الثاني: الفقيه الذي لم ينتخب هل تكون له الولاية في غير دائرة أوامر الوليّ المنتخب، وفي غير فرض تحقّق التعارض مع غيره والتساقط أو لا؟ هذا مبتن على الإيمان بالأساس الثالث من الأُسس الثلاثة التي شرحناها لمبدأ ولاية الفقيه وعدمه، وهو أساس الدليل اللفظي على ولاية الفقيه، فإن لم نؤمن به لم تثبت للفقيه الولاية إلاّ عند عدم وجود فقيه منتخب كما هو الحال في ما قبل بلوغ الأُمّة مستوى انتخاب الحاكم لها، فعندئذ تثبت الولاية للفقيه بقدر الأُمور الحسبية لا أكثر من ذلك وإن آمناً به كما اخترناه في ما مضى. إذن تثبت للفقيه غير المنتخب الولاية شرط عدم التدخّل في دائرة أوامر الوليّ المنتخب، أي أن ولاية الأمر العامّة تختص بالفقيه المنتخب، ولكن لا ينافي ذلك تدخلّ فقيه آخر في دائرة جزئية لم يتصدّ لها الوليّ العامّ.

وعليه فبقدر ما يختار في ما مضى من تماميّة الدليل الخاصّ على ولاية الفقيه تثبت الولاية للفقيه غير المنتخب فيما لا يزاحم أوامر الفقيه المنتخب.

وأمّا ما ستأتي إن شاء اللّه في البحث القادم من روايات عدم تعدّد الإمامفي عصر واحد فلو تعدّينا من مورد تلك الروايات وهو الإمام المعصوم إلى الفقيه فهي إنّما تدلّ على عدم جواز تعدّد الوليّ العامّ على مجتمع واحد، وهذا لا ينافي جواز إعمال أحدهم الولاية في غير دائرة أوامر الفقيه المنتخب، ولا يعارض إمامة ذاك الفقيه.

201

 

 

 

المسألة الثالثة:

 

 

شورى القيادة

 

 

· إبطال فكرة الشورى بالنصوص.

· إبطال فكرة الشورى بقصور الدليل.

 

 

 

 

 

203

 

 

 

 

 

المسألة الثالثة: في شورى القيادة.

هل القيادة يجب أن تكون دائماً فرديّة، فالقرار النهائي يكون بيد الفرد القائد وإن كان عليه أن يستشير ـ قبل البت بالأمر ـ ذوي الخبرات، أو بالإمكان افتراض شورى القيادة مؤتلفةً من عدد من المؤهّلين للقيادة الواجدين لشروطها؟

هناك طريقان لإبطال فكرة شورى القيادة في مقابل القيادة الفرديّة:

 

إبطال فكرة الشورى بالنصوص:

 

الطريق الأوّل: الاستفادة من النصوص المانعة عن فرض وجود إمامين في عرض واحد، فحتى لو فرضنا أنّ مقتضى القواعد الأوّلية هو جواز شورى القيادة فالنصّ الخاصّ قد منعنا عن ذلك، وذلك من قبيل:

1 ـ ما في الكافي عن الحسين بن أبي العلا ـ بسند تام ـ قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): تكون الأرض ليس فيها إمام؟ قال: لا. قلت: يكون إمامان؟ قال: لا، إلاّ وأحدهما صامت»(1)، ورواه في كمال الدين ـ بسند فيه إبراهيم بن مهزيار ـ هكذا:


(1) الكافي 1: 178، كتاب الحجة، باب أنّ الأرض لا تخلو من حجة، الحديث الأول.

204

قال ـ يعني الحسين بن أبي العلا ـ: «قلت له ـ يعني أبا عبداللّه (عليه السلام) ـ: تكون الأرضُ بغير إمام؟ قال: لا. قلت: أفيكون إمامان في وقت واحد؟ قال: لا، إلاّ وأحدهما صامت. قلت: فالإمام يعرف الإمام الذي بعده؟ قال: نعم. قلت: القائم إمام؟ قال: نعم، إمام ابن إمام قد اؤتّم به قبل ذلك»(1)، ورواه في بصائر الدرجات بناءً على نقل البحار ـ بسند فيه علي بن إسماعيل ـ قال ـ يعني الحسين بن أبي العلا ـ: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام): تكون الأرض وفيها إمامان؟ قال: لا، إلاّ إمامٌ صامت لا يتكلّم، ويتكلّم الذي قبله»(2).

2 ـ ما في كمال الدين ـ بسند تام ـ عن ابن أبي يعفور: «أنه سأل أبا عبداللّه (عليه السلام)هل تُترك الأرض بغير إمام؟ قال: لا. قلت: فيكون إمامان؟ قال: لا، إلاّ وأحدهما صامت»(3) ورواه في بصائر الدرجات ـ حسب نقل البحار ـ بما يقرب من ذاك النصّ(4).

3 ـ ما رواه في كمال الدين عن هشام بن سالم ـ بسند فيه محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني ـ قال: «قلت للصادق جعفر بن محمد (عليه السلام): الحسن أفضل أم الحسين؟ فقال: الحسن أفضل من الحسين؟ قلت: فكيف صارت الإمامة من بعد


(1) كمال الدين: 223 ـ 224، باب 22 إنّ الأرض لا تخلو من حجّة، الحديث 17، طبعة دار الكتب الإسلامية للآخوندي بطهران.

(2) بحار الأنوار 25: 108، كتاب الإمامة، أبواب علامات الإمام، الباب 2 إنه لا يكون إمامان في زمان واحد إلاّ وأحدهما صامت، الحديث 8.

(3) كمال الدين: 233، الباب 22، إنّ الأرض لا تخلو من حجة، الحديث 41.

(4) راجع بحار الأنوار 25: 107، كتاب الإمامة، أبواب علامات الإمام الباب 2، أنه لا يكون إمامان في زمان واحد، الحديث 5.

205

الحسين في عقبه دون ولد الحسن؟ فقال: إنّ اللّه تبارك وتعالى أحبّ أن يجعل سنّة موسى وهارون جارية في الحسن والحسين (عليهما السلام)، ألا ترى أنهما كانا شريكين في النبوّة كما كان الحسن والحسين شريكين في الإمامة، وأنّ اللّه عزّ وجل جعل النبوة في ولد هارون، ولم يجعلها في ولد موسى وإن كان موسى أفضل من هارون (عليه السلام)؟ قلت: فهل يكون إمامان في وقت واحد؟ قال: لا، إلاّ أن يكون أحدهما صامتاً مأموماً لصاحبه، والآخر ناطقاً إماماً لصاحبه، فأمّا أن يكونا إمامين ناطقين في وقت واحد فلا. قلت: فهل تكون الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين (عليهما السلام)؟ قال: لا، إنما هي جارية في عقب الحسين (عليه السلام) كما قال اللّه عزّ وجل: ﴿ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ﴾(1) ثمّ هي جارية في الأعقاب وأعقاب الأعقاب إلى يوم القيامة»(2).

4 ـ ما رواه في بصائر الدرجات حسب نقل البحار ـ بسند تام ـ عن عبيد بن زرارة قال: «قلت لأبي عبداللّه (عليه السلام) ترك ( يترك ظ ) الأرض بغير إمام؟ قال: لا. قلنا: تكون الأرض وفيها إمامان؟ قال: لا، إلاّ إمامان أحدهما صامت لا يتكلّم، ويتكلّم الذي قبله، والإمام يعرف الإمام الذي بعده»(3).

نعم، الكلام في إثبات سند تام للمجلسي (قدس سره) إلى بصائر الدرجات.


(1) سورة الزخرف: الآية 28.

(2) كمال الدين: 416 ـ 417، باب 40 إنّ الإمامة لا تجتمع في أخوين إلاّ الحسن والحسين (عليهما السلام) الحديث 9.

(3) بحار الأنوار 25: 107، كتاب الإمامة، أبواب علامات الإمام، الباب 2 إنّه لا يكون إمامان في زمان واحد، الحديث 6.

206

5 ـ ما في عيون أخبار الرضا وفي علل الشرائع عن فضل بن شاذان: «... فإن قال: فلم لا يجوز أن يكون في الأرض إمامان في وقت واحد أو أكثر من ذلك؟ قيل: لعلل: منها أنّ الواحد لا يختلف فعله وتدبيره، والاثنين لا يتّفق فعلهما وتدبيرهما، وذلك أ نّا لم نجد اثنين إلاّ مختلفي الهمم والإرادة، فإذا كانا اثنين، ثمّ اختلف همّهما وإرادتهما وتدبيرهما، وكانا كلاهما مفترضي الطاعة لم يكن أحدهما أولى بالطاعة من صاحبه، فكان يكون اختلاف الخلق والتشاجر والفساد، ثمّ لا يكون أحد مطيعاً لأحدهما إلاّ وهو عاص للآخر، فتعمّ المعصية أهل الأرض، ثمّ لا يكون لهم مع ذلك السبيل إلى الطاعة والإيمان، ويكونون إنّما أُتوا في ذلك من قبل الصانع الذي وضع لهم باب الاختلاف والتشاجر؛ إذ أمرهم باتّباع المختلفين. ومنها...»(1).

وسند الحديث غير تامّ، على أنّ السند لا ينتهي ابتداءً إلى الإمام (عليه السلام) بل ينتهي إلى فضل بن شاذان، ولكن في آخر الحديث ـ وهو حديث مفصّل مشتمل على العلل ـ قال علي بن محمد بن قتيبة لفضل بن شاذان: «أخبرني عن هذه العلل ذكرتها عن الاستنباط والاستخراج، وهي من نتائج العقل، أو هي مما سمعته ورويته؟ فقال لي: ما كنت لأعلم مراد اللّه عزّ وجل بما فرض، ولا مراد رسوله (صلى الله عليه وآله) بما شرّع ولا أُعلّل ذلك من ذات نفسي، بل سمعتها من مولايأبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) المرّة بعد المرّة والشيء بعد الشيء، فجمعتها، فقلت: فأُحدّث بها عنك عن الرضا (عليه السلام)؟ قال: نعم»، وذكر الفضل أيضاً


(1) بحار الأنوار 25: 105، كتاب الإمامة، أبواب علامات الإمام، الباب 2 إنّه لا يكون إمامان في زمان واحد، الحديث الأول.

207

لمحمد بن شاذان: «سمعت هذه العلل من مولاي أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) متفرّقة، فجمعتها وأ لّفتها»(1).

6 ـ ما ورد في كتاب «دراسات في ولاية الفقيه» نقلا عن كتاب «الغرر والدّرر»: «الشّركة في الملك تؤدي إلى الاضطراب»(2).

وهذا الحديث مرسل بحت.

وواضح من لحن هذه الأحاديث ما عدا الحديث الأخير أنّها واردة في الإمام المنصوص من قبل اللّه تعالى.

والاستدلال بهذه الأحاديث: تارة يكون بمقدار نفي جواز التعدّد وإثبات ضرورة التوحيد في قبال التعدّد ولو بالانتخاب، كما استشهد بها لذلك في كتاب «دراسات في ولاية الفقيه»(3)، وهذا لا بأس به بعد فرض التعدّي من مورد هذه النصوص، وهو الإمام المنصوص إلى غيره، ويؤيّد هذا التعدّي التعليل الوارد في رواية العلل باختلاف الآراء فإن فرض الاختلاف في الآراء بين المعصومين المنصوصين فبين غيرهم يكون ذلك بطريق أولى.

وأُخرى يكون لنفي شورى القيادة أيضاً، وهذا هو المقصود في المقام، وتقريبه أن يقال:

إنّه يبدو من لحن الأسئلة والأجوبة في هذه الروايات أنّ تركّز الإمامة في الشخص ـ لا في لجنة يكون الرأي رأي أكثرية آرائها ـ كان أمراً مفروغاً عنه،


(1) دراسات في ولاية الفقيه 1: 172 نقلا عن العيون، أو عنه وعن العلل.

(2) دراسات في ولاية الفقيه 1: 410 نقلا عن الغرر والدرر 2: 86، الحديث 1941.

(3) دراسات في ولاية الفقيه 1: 410 ـ 413.

208

وإنّما كان الأمر دائراً بين أن تكون الإمامة في شخص واحد أو في عدّةأشخاص بأن يكون كلّ واحد منهم إماماً مستقلاّ، لا أن يكون الرأي رأي أكثريّتهم، فالإمام عليه الصلاة والسلام نفى الثاني وحصر الأمر في الأوّل،وهذا بالتالي نفي لشورى القيادة.

ونقطة الضعف في هذا الاستدلال هي أننا لئن سلّمنا التعدّي من موردالروايات وهو الإمام المنصوص إلى غيره في الأمر الأوّل وهو نفي التعدّدفي الإمامة بشكل مستقلّ، لعدم احتمال الفرق عرفاً أو للأولوية في غير المعصوم لقوّة احتمال وقوع الخلاف لا نسلّم التعديّ من موردها إلى غيره في الأمر الثاني وهو نفي شورى القيادة؛ لأنّ احتمال الفرق هنا عرفي وعقلائي باعتبار أنّ المعصوم لا يخطأ، فلا توجد حاجة في دائرة المعصومين إلى شورى القيادة،في حين أنه من المحتمل في دائرة غير المعصومين أن تكون شورى القيادةتعطي للقيادة مستوى من العصمة النسبية عن الخطأ، وليس مقصودي بهذا الكلام دعوى أنّ شورى القيادة أرجح في اعتبارنا العقلي من القيادة الفردية غير المعصومة، وإنما المقصود أنه لا توجد بالنسبة لرفض الشورى من المناسباتما يوجب جزم العرف بالتعدّي من المعصوم إلى غير المعصوم، فالتمسّك بهذه الروايات في المقام مشكل.

ونستثني الرواية الأخيرة فحسب التي يوجد فيها إطلاق لغير المعصوم،والتي تنفي مطلق الشركة في الملك، ومن مصاديق الشركة في الملك شورى القيادة، إلاّ أنّ هذه رواية واحدة مرسلة لا نستطيع التمسّك بها لإثباتالمقصود.

209

إبطال فكرة الشورى بقصور الدليل:

 

الطريق الثاني: دعوى القصور في دليل القيادة لإثبات شورى القيادة، وهذه الدعوى تتمّ على بعض الفروض، ولا تتم على بعض الفروض، وإن شئت تفصيلا لذلك فإليك ما يلي:

إننا تارة: نفترض وجود دليل لفظي مطلق على مبدأ ولاية الفقيه مع عدم وجود دليل على الانتخاب، وفي هذا الفرض نقول: إنّ دليل ولاية الفقيه إنّما أعطى الولاية بيد كلّ فرد فرد من الفقهاء لا بيد الشورى، أو قل إنّ ذاك الدليل لم يدلّ على الترجيح بالأكثرية. نعم، بإمكان الفقهاء أن يصلوا إلى نتيجة شورى القيادة لو أرادوا ذلك بأن يتواطؤوا فيما بينهم على أن يكون من يصدر الحكم منهم في كلّ مسألة من المسائل واحداً من أصحاب رأي الأكثرية في تلك المسألة دائماً، فهذا يعطي نتيجة شورى القيادة لكن الولاية ليست لشورى القيادة بل للفقيه، والفارق العملي يظهر في أنّ هذا التواطؤ ليس واجب الاتباع عليهم فمن حقّ أحدهم أن يتراجع عن هذا التواطؤ متى ما أراد، ولو ربطوا أنفسهم بعقد ملزم يمنعهم عن التراجع عن ذلك فمن حقّ فقيه جديد لم يكن داخلا في هذا التواطؤ أن لا يبني عليه.

وأُخرى نفترض وجود دليل لفظي مطلق على مبدأ ولاية الفقيه، ولكنه قيّد بالدليل الأخير للانتخاب الذي أثبتنا به الانتخاب بقدر حلّ مشكلة التشاحّ، وعلى هذا الفرض لا بأس بانتخاب الأُمّة لشورى القيادة، أي أنّه في كلّ مسألة من المسائل يكون من وافق رأيه أكثرية الشورى منتخباً للأُمّة، ومن خالف رأيه الأكثرية غير منتخب لها، فالموافق رأيه للأكثرية تثبت ولايته بدليل ولاية الفقيه المطلق الذي قيّد بالانتخاب، والمفروض ثبوت القيد فيه.

210

وثالثة نفترض عدم وجود دليل لفظي مطلق على مبدأ ولاية الفقيه مع وجود دليل لفظي مطلق على الانتخاب، وقد قيّد بدليل خاصّ بشرط كون المنتخب فقيهاً، وعلى هذا الفرض أيضاً لا بأس بانتخاب الأُمّة لشورى القيادة، وهذاأيضاً مرجعه إلى أنّ المنتخب في كلّ مسألة هو من وافق رأيه أكثرية الشورى فتثبت ولايته بدليل الانتخاب المطلق الذي قيّد بشرط الفقيه، والمفروضثبوت القيد فيه.

ورابعة نفترض عدم وجود دليل لفظي مطلق على مبدأ ولاية الفقيه ووجود الدليل على الانتخاب من دون إطلاق، فالمفروض أن يقتصر في الانتخاب على القدر المتيقّن، ولهذا يجب انتخاب الفقيه لكونه القدر المتيقن، وعلى هذا الفرض لابدّ أن يقع الانتخاب على الفرد دون الشورى اقتصاراً على القدر المتيقّن، فإنّ القدر المتيقّن ـ حسب ما هو المفهوم من تاريخ الإسلام الطويل ـ إنّما هو قيادة الفرد، فإننا نرى أنه في القيادات غير المعصومة المنحرفة كان الأئمّة (عليهم السلام) يوردون عليها كلّ إشكال من مثل عدم العصمة، أو عدم النصّ، أو عدم العدالة، أو غير ذلك، إلاّ إشكال الفرديّة، فهذا الإشكال غير مذكور أبداً، ولم نرَ في تاريخ الإسلام قيادة الأُمّة بالشورى كي نرى هل كان يرد الردع عن شوروية القيادة، أو لا؟

وقد ظهر مما سبق: أنّ المختار من هذه الفروض هو الفرض الثاني.

211

 

 

 

المسألة الرابعة:

 

 

 

المرجعية والولاية

 

 

 

 

 

 

 

 

213

 

 

 

 

 

المسألة الرابعة: هل يصحّ فصل المرجعية في التقليد عن الولاية، أو لا؟

أوّل ما يبدو للنظر هو أنّ انفصال المرجعية في التقليد عن الولاية أمر طبيعي لاختلاف إحداهما عن الأُخرى في الشرائط.

فالمرجعية في التقليد في الأُمور الفردية مدارها الأعلمية بحكم الارتكاز العقلائي في باب الرجوع إلى أهل الخبرة حيث يختار لدى تعارض آراء أهل الخبرة من هو أكثر خبرة، والأدلّة اللفظية للتقليد أيضاً تعطي نفس النتيجة، إمّا لأجل انصرافها إلى ما عليه الارتكاز، أو لأجل أنه لدى تعارض الفتويين يكون إطلاق الدليل لحجّيّة فتوى الأعلم سليماً عن المعارض، ولا يتعامل العرف مع الإطلاقين معاملة التعارض الداخلي والإجمال؛ لأن نكتة التقليد وهي الخبروية والعلم مأخوذة في لسان الدليل، فإذا كانت هذه النكتة موجودة بشكل متكّرر ومتأكّد في الأعلم التفت العرف إلى تيقن سقوط فتوى غير الأعلم وبقاء فتوى الأعلم تحت الإطلاق بلا معارض. نعم إن كان الفاصل بين الأعلم وغيره ضئيلا لا يصل إلى مستوى ملاك التقليد أشكل الأمر.

وعلى أية حال فالمقياس في التقليد في الأُمور الفردية هو الأعلمية.

أما المقياس في الولاية فيختلف عن مقياس مرجعية التقليد في أمرين:

الأوّل: أنّ الولاية مشروطة بالكفاءة السياسية والاجتماعية، في حين

214

أنّ التقليد لم يكن مشروطاً بهذا الشرط، أو لنفترض أنّ كلاّ من مرجعيّة التقليد والولاية مشروطة بالأعلميّة في موردها، ولكن الأعلميّة في أحد الموردين تختلف عن الأعلميّة في الآخر.

صحيح أنّ الكفاءة الذهنيّة السياسيّة والاجتماعيّة دخيلة في استنباط كثير من الأحكام فتؤثّر ـ لا محالة ـ على الأعلميّة ولكن ليست هي وحدها الدخيلة في ذلك كي لا تنفكّ الأعلميّة عن الكفاءة.

والثاني: أنّ مقياس الترجيح في باب التقليد الفردي كان هو واقع الأعلميّة، وكان اعتقاد الشخص بأعلميّة فقيه طريقاً إلى الواقع، ولكن في باب الولاية حينما تتجاوز دائرة القيادات الموضعيّة والجزئيّة ـ كما إذا قامت الدولة الإسلاميّة بقيادة الفقيه ـ لا يمكن أن يكون المقياس واقع الأعلميّة في فنّ القيادة، أو قل: واقع الأكفئيّة؛ لما مضى في الأبحاث السابقة من أنّ جعل المقياس هو الواقع يفشل عمل الوليّ؛ لأنّ الناس يختلفون في تشخيص الواقع، فمنهم من يرى زيداً هو الأكفأ مثلا، ومنهم من يرى عمراً هو الأكفأ، فنقع عندئذ في فساد تعدّد الأولياء. إذن فالمقياس في الترجيح يجب أن يكون له حظّ من مرحلة عالم الإثبات وهو انتخاب الأكثريّة، ولو على أساس اعتقادهم بأكفئيّة من بين المتهيّئين للتصدّي للولاية.

فإذا اتّضح اختلاف مقاييس الولاية عن مقاييس التقليد في القضايا الشخصيّة فانفصال أحدهما عن الآخر أحياناً يكون ضروريّاً.

 

أدلّة عدم جواز الفصل:

إلاّ أنّ هناك وجوهاً لدعوى عدم إمكانيّة الفصل بينهما:

الوجه الأوّل: أنّه لو انفصلت المرجعيّة عن الولاية فكثيراً ما يتّفق أنّ الوليّ