214

أنّ التقليد لم يكن مشروطاً بهذا الشرط، أو لنفترض أنّ كلاّ من مرجعيّة التقليد والولاية مشروطة بالأعلميّة في موردها، ولكن الأعلميّة في أحد الموردين تختلف عن الأعلميّة في الآخر.

صحيح أنّ الكفاءة الذهنيّة السياسيّة والاجتماعيّة دخيلة في استنباط كثير من الأحكام فتؤثّر ـ لا محالة ـ على الأعلميّة ولكن ليست هي وحدها الدخيلة في ذلك كي لا تنفكّ الأعلميّة عن الكفاءة.

والثاني: أنّ مقياس الترجيح في باب التقليد الفردي كان هو واقع الأعلميّة، وكان اعتقاد الشخص بأعلميّة فقيه طريقاً إلى الواقع، ولكن في باب الولاية حينما تتجاوز دائرة القيادات الموضعيّة والجزئيّة ـ كما إذا قامت الدولة الإسلاميّة بقيادة الفقيه ـ لا يمكن أن يكون المقياس واقع الأعلميّة في فنّ القيادة، أو قل: واقع الأكفئيّة؛ لما مضى في الأبحاث السابقة من أنّ جعل المقياس هو الواقع يفشل عمل الوليّ؛ لأنّ الناس يختلفون في تشخيص الواقع، فمنهم من يرى زيداً هو الأكفأ مثلا، ومنهم من يرى عمراً هو الأكفأ، فنقع عندئذ في فساد تعدّد الأولياء. إذن فالمقياس في الترجيح يجب أن يكون له حظّ من مرحلة عالم الإثبات وهو انتخاب الأكثريّة، ولو على أساس اعتقادهم بأكفئيّة من بين المتهيّئين للتصدّي للولاية.

فإذا اتّضح اختلاف مقاييس الولاية عن مقاييس التقليد في القضايا الشخصيّة فانفصال أحدهما عن الآخر أحياناً يكون ضروريّاً.

 

أدلّة عدم جواز الفصل:

إلاّ أنّ هناك وجوهاً لدعوى عدم إمكانيّة الفصل بينهما:

الوجه الأوّل: أنّه لو انفصلت المرجعيّة عن الولاية فكثيراً ما يتّفق أنّ الوليّ

215

يصدر أحكاماً مبتنية على جذور فقهيّة لا يؤمن بها المرجع في التقليد؛ وذلك لأنّ الأحكام الولائيّة ليست دائماً منفصلة تماماً عن المباني الفقهيّة الأوّليّة، فإنّ الأحكام الولائيّة مشروطة بعدم التصادم مع الأحكام الإلزاميّة الأوّليّة التي لا يجوز مخالفتها إلاّ بنكتة التزاحم، فالفقيهان قد يختلفان في صحّة بعض الأحكام الولائيّة وعدم صحته نتيجة اختلافهما في فهم الأحكام الأوّليّة التي لابدّ من أخذها بعين الاعتبار ضمن الأحكام الولائيّة، وعندئذ لو كان أحدهما مرجعاً للتقليد والآخر زعيماً للأُمّة الإسلاميّة في القضايا السياسيّة والاجتماعيّة دار أمر الفرد بين أن يخالف أمر الوليّ أو يخالف أمر المقلّد، وكلاهما غير جائز، فكيف يمكن حلّ الإشكال لدى انفصال المرجعيّة عن القيادة؟ أفلا ينتهي هذا إلى بطلان أحد الأمرين المرجعيّة أو القيادة؟!

وتحقيق الكلام في ذلك: أنّ هذا البيان بعد التدقيق لا ينتهي إلى بطلان فصل المرجعيّة عن القيادة، بل تبقى لكلّ منهما مساحة خاصّة بها، ويتّضح ذلك بالالتفات إلى مجموع أُمور:

الأوّل: أنّ فتاوى المرجع ـ في غير موارد الاصطدام بأوامر الوليّ ـ تبقى على قوّتها بما فيها فتاواه المخالفة لفتاوى الوليّ التي كانت دخيلة في أوامره الولائيّة، فهي في غير الموارد التي شملها الأمر الولائي باقية أيضاً على قوّتها، وإنّما الإشكال يختصّ بالفتاوى المعارضة لفتاوى الوليّ الدخيلة في أوامره في خصوص مورد الأمر.

والثاني: أنّ فتوى المرجع في موارد الاصطدام بحكم الوليّ لو كانت فتوى ترخيصيّة وكان حكم الوليّ إلزاميّاً وجب على المولّى عليه العمل بحكم الوليّ،

216

ويكفي في إثبات ذلك أن يقال: إنه لو عمل بحكم الوليّ لم يخالف مرجعه أيضاً؛ إذ غاية الأمر أنه ملتزم في رأي مقلّده بأحد طرفي الترخيص ولا بأس بذلك، وهذا بخلاف ما لو عكس الأمر والتزم بالترخيص فعمل على خلاف حكم الولي فعندئذ قد خالف أمراً إلزامياً.

وبكلمة أُخرى: إنّ فتوى المرجع هنا لا تمنع عن العمل بحكم الوليّ في حين أنّ حكم الوليّ يمنع عن الأخذ بنقيضه المطابق لفتوى المرجع. إذن فيجب عليه هنا اتّباع الوليّ، وهو في الحقيقة موافقة للولي والمرجع في وقت واحد فأحدهما يوجب ما فعله والثاني يجوّزه.

والثالث: أنّ فتوى المرجع في موارد الاصطدام بحكم الوليّ لو كان عبارة عن الإيجاب مع كون حكم الوليّ تحريماً أو بالعكس فهنا لو كان الوليّ يقصد بحكمه أنه حتى لو كان الحكم الأوّلي هو الذي يقوله المرجع فالمصالح الثانوية المزاحمة اقتضت الإلزام بنقيض ذلك، فهنا لابدّ من اتباع الوليّ، ويكفي في إثبات ذلك أنّ المرجع أيضاً يعترف بأنّ الحكم الأوّليّ على تقدير التزاحم بمصلحة أهمّ يتقدّم عليه الحكم الثانوي، ولو خالف الوليّ في تشخيص المصلحة فرأي الوليّ هو الحجّة في تشخيصها دون رأي المقلّد، فإنّ المقلّد إنما يكون رأيه حجّة في تخصّصه الفقهي الذي كان فيه أعلم من الوليّ مثلا لا في تشخيص المصلحة.

أما لو كان الوليّ إنّما حكم بالتحريم مثلا خلافاً لرأي المرجع الذي أفتى بالوجوب من باب ما يراه من مصلحة إلزامية ثانوية في التحريم دون مزاحمة بحكم أوّلي؛ لأنه كان يعتقد أنّ حكمه الأولّي هو الإباحة لا الوجوب، ولو كان يوافق المرجع في أنّ الحكم الأوّلي هو الوجوب لما كان يحرّم؛ لأنه لا يرى

217

مصلحة التحريم بمستوىً يغلب على الوجوب الأوّلي، فهنا إن رأى الوليّ أنّه بعد التحريم تكون مصلحة وحدة الكلمة بين مقلّدي هذا المرجع وغيرهم وعدم تضعيف القيادة أهمّ من الوجوب الأوّلي الذي ادّعاه ذاك المرجع لو كان صحيحاً، فهنا أيضاً لابدّ من متابعة الوليّ حيث شخّص بالنهاية أنّ المصلحة الثانوية غلبت الوجوب الأوّلي لو كان، والمرجع ليس له حقّ تشخيص المصلحة للأُمّة في مقابل الوليّ. وإن لم يرَ الوليّ ذلك فهنا يتبع من يقلّد القائل بالوجوب رأي مقلّده، إلاّ إذا كان دليل الولاية نصّاً وارداً بعنوان إثبات السلطة ـ كآية الشورى، أو روايات البيعة لو تم الاستدلال بها ـ فإن كان كذلك تقدّم على دليل التقليد دائماً رغمأنّ النسبة بين الدليلين عموم من وجه؛ لأنّ دليل التقليد قابل للتخصيص بإخراج هذه الفتوى من فتاوى المرجع من إطلاقه، ولكن دليل الولاية والسلطة آبعن التخصيص عرفاً، بنكتة أنّ التفصيل في الولاية يكون غالباً موجباً لتضعيف السلطة والقيادة.

والرابع: أنّ فتوى المرجع لو كانت إلزامية وحكم الوليّ ترخيصياً فمن الواضح أنه لو كان مراد الوليّ مجرّد الرخصة ـ المنسجمة مع العمل بفتوى المرجع؛ لأنه عمل بأحد طرفي الرخصة ـ لما كان له داع إلى الحكم الولائي، فإنّ أي طرف يعمل به الناس وفق رأي من يقلّدونه يكون عملا بأحد طرفي الرخصة. إذن فحكم الوليّ الترخيصي لا يخلو حاله من أحد فرضين:

الأوّل: أن يكون في واقعه راجعاً إلى الإلزام بالمباح لا الترخيص في الحرام، مثاله: ما لو رخّص الوليّ للناس شراء متاع بسعر محدّد وهو أقلّ مما يرضى به البائع، فهذا وإن كان بحسب الظاهر ترخيصاً في الحرام؛ لأنّ المفتي يقول:

218

إنّ الناس مسلّطون على أموالهم، فيحرم شراء شيء بسعر تحميلي على البائع، والقائد قد رخّص في ذلك، ولكن بعد شيء من التدقيق يتّضح أنّ المسألة مسألة الإلزام بالمباح دون تحليل الحرام؛ لأنه كان من المباح على البائع أن يبيع متاعه بالسعر المحدد فقد ألزمه الولي بفعل هذا المباح، فإن فعل راضياً بذلك فبها ونعمت وإلاّ فعل حراماً في مخالفة الوليّ، فيجبر عندئذ على ترك الحرام، ويكون رضا الوليّ في البيع قائماً مقام رضا المالك الممتنع، فإذا رجع الأمر في واقعه إلى الإلزام بالمباح لا الترخيص في الحرام رجع هذا إلى القسم الأوّل الذي عرفت الحال فيه.

الثاني: أن يكون في واقعه إلزاماً في الرخصة بمعنى أنّ الوليّ لايقبل أن يحسّ الفرد بتحتم ما يقوله المفتي عليه من الفعل أو الترك، فالوليّ يرى أنّ نفس التقيّد بما يقوله هذا المفتي هو المضرّ بالمصلحة الثانوية، ولابدّ من رفعه، وهذا القسم يكون ملحقاً بالقسم الثالث، أعني ما إذا أفتى المفتي بالحرمة وحكم الولي بالوجوب أو بالعكس، فإنّهما معاً يشتركان في التضارب بين مصلحتين ملزمتين، أعني المصلحة الأوّلية التي يراها المفتي ملزمة والمصلحة الثانوية التي يرى الحاكم ضرورة تحصيلها، إما بمعنى إلزام الفرد بنقيض ما أفتى به المفتي كما هو الحال في القسم الثالث أو بمعنى ضرورة ثبوت الرخصة والحرّية للفرد، بمعنى عدم الإحساس بضغط فتوى المفتي عليه كما في المقام، ويأتي هنا عندئذ نفس التفصيل الذي شرحناه في القسم الثالث.

الوجه الثاني: أنّ إسناد المرجعية إلى غير الوليّ تضعيف عمليّ لولايته، فإنّ الشيعة المؤمنين بمبدأ التقليد مجبولون على تقديس المرجع الذي يقلّدونه وعدم

219

تقديس غير المرجع بمقدار تقديس المرجع الذي يأخذون منه حلالهم وحرامهم، فالوليّ إن لم يكن مرجعاً في الحلال والحرام لم يكتسب تلك القدسية في النفوس، وبالتالي ضعف نفوذ كلمته في الأُمّة. إذن فلابدّ من جمع المرجعية والولاية في شخص واحد وإيقاع الكسر والانكسار بين المرجّحات حينما يكون مرجّح المرجعية ـ وهو الأعلمية ـ في بعض، ومرجّح الولاية ـ وهو الأكفئيّة ـ في بعض آخر، ويكون الفاصل هو انتخاب أكثرية النّاس ولو نظراً منهم إلى مجموع المرجّحين؛ لما عرفت فيما مضى من عدم إمكان كون المقياس في فرض التصدّي الحقيقي للحكم الإسلامي من قبل المسلمين هي الأكفئية الواقعية.

ولو فرض أنّ الأعلم لم يكن كفوءاً للقيادة اختصّ التقليد بالوليّ الكفوء، وإن كان مفضولا في الفقه، كل هذا لأجل التزاحم بين مصلحة تقليد الأعلم ومصلحة الولاية، وأهميّة الثانية من الأُولى.

فإن قلت: إنّ التقليد وحجيّة الفتوى حكم ظاهري، وظاهر أدلّة الأحكام الظاهرية هي الطريقية البحتة لحفظ مصالح الأحكام الواقعية المتزاحمة في ما بينها في الحفظ لدى الجهل، في حين أنّ التقليد في المقام أصبح بالبيان الذي ذكرتموه تابعاً لمصلحة سلوكية، أي أنّ هناك مصلحة في تقليد الوليّ وهي تقويته في وسط الأُمّة وتهيئة المناخ المناسب لقيادته لها، وهذا خلاف ظاهر دليل الحكم الظاهري.

قلت: إنّ وجوب تقليد الأعلم الذي هو حكم ظاهري قد سقط بمزاحم أهمّ، وهو وجوب تهيئة المناخ لقيادة الكفوء للمجتمع الذي هو حكم واقعي، وبعد ذلك أصبحت فتوى الولي حجة لطريقيّتها إلى الواقع، فحجّية فتوى الولي حكم ظاهري

220

لا يشذّ عن باقي الأحكام الظاهرية في كونها لأجل حفظ الأحكام الواقعية لدى التزاحم الحفظي، وإنّما كان سقوط رأي الأعلم عن الحجّية نتيجة للتزاحم بين حجّيته ـ التي هي حكم ظاهري ـ وحكم واقعي أهمّ، وهذا له نظيره في سائر الأبواب، فإنّ التزاحم كما قد يتفق بين حكمين واقعيين كما في الصلاة والإزالة كذلك قد يتّفق بين حكمين ظاهريين أو حكم واقعي وحكم ظاهري من دون سراية التزاحم إلى الحكمين الواقعيين، كما لو فرضنا أنّ واجبي النفقة لم يكن تزاحم بين وجوبي الإنفاق عليهما؛ لكون المنفق مالكاً لما يكفي لنفقتهما، ولكن كلّ منهما وقع الاشتباه فيه بين شخصين فكان مقتضى الحكم الظاهري في كل منهما هو العمل بالعلم الإجمالي بالإنفاق على شخصين بناء على أنّ الاحتياط في مورد العلم الإجمالي حكم ظاهري، والمنفق لم يكن قادراً على الإنفاق على أربعة أشخاص، فهنا قد وقع التزاحم بين حكمين ظاهريين من دون سريان التزاحم إلى الحكمين الواقعيين، وكما لو فرضنا أنّ واجب النفقة تردّد بين شخصين وقلنا بأنّ وجوب الاحتياط بالإنفاق عليهما احتياط شرعي فهو حكم ظاهري، ولكن كان ذلك مزاحماً لمصرف أهمّ يؤدّي إلى حفظ النفس مثلا حيث لم يكن المنفق قادراً على الجمع بين ذاك المصرف والإنفاق على طرفي العلم الإجمالي بوجوب النفقة في حين أنه كان قادراً على الجمع بين ذاك المصرف والإنفاق على أحدهما، فالتزاحم وقع بين حكم ظاهري وحكم واقعي من دون سراية ذلك إلى التزاحم بين حكمين واقعيين.

وتحقيق الحال في المقام: أنه متى ما وقع التزاحم حقّاً بين تقليد الأعلم ومصلحة قيادة الأُمّة تقدّم الثاني على الأوّل بلا إشكال للقطع بأهميته، ولكن قد

221

تتفق إمكانية حلّ التزاحم كأن نعمل مثلا على توعية الأُمّة على مقاييس التقليد ومقاييس القيادة وتوضيح الفرق بينهما وإمكانية انفكاك أحدهما عن الآخر بحيث تصبح الأُمّة متقبّلة للتفكيك، ولا يوجب التفكيك شلّ القيادة عن النجاح، أو كما إذا كانت السلطة الفعليه المستقرّة بيد الوليّ الفقيه غير الأعلم بحيث لم يكن يخشى على قيادته الفشل لمجرّد كون التقليد لغيره باعتبار أنّ ما يمتلكه من السلطة كاف لدعم قيادته.

وعلى أيّة حال فلا إشكال في أنه متى ما اجتمعت مقاييس التقليد ومقاييس القيادة في شخص واحد كان في ذلك دعم كبير للقيادة الرشيدة وترتّب على ذلك خيرات وبركات كثيرة.

الوجه الثالث: هو التمسّك بالتوقيع الذي ورد فيه: «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه»، وذلك ببيان أنّ هذا الحديث يرجع الأُمّة إلى الراوي في قضايا التقليد وقضايا الولاية معاً، وهذا يعني أنّ من ترجع إليه الأُمّة ترجع إليه في كلا الأمرين، ويجب أن يكون كفوءاً في كلا الأمرين، فمن لا يمتلك الكفاءة في أحدهما ليس هو الذي يُرجع إليه هذا الحديث المقيّد إطلاقه بقيد ارتكازي كالمتصل وهو قيد الكفاءة، وفي مقام الترجيح لدى تعدّد الكفوئين لابدّ من ملاحظة الكسر والانكسار بين مرجّح التقليد ومرجح الولاية، واختيار من يتراءى أنه أفضل بلحاظ مجموع الأمرين، وهذا يعني ضرورة التوحيد بين القيادة والمرجعية.

ويرد عليه: أنّ هذا الحديث ليس ظاهره دعوة الناس للالتفاف حول راية موحّدة حتى يستظهر منه التوحيد بين المرجعية والقيادة وضرورة انتخاب من

222

يتراءى أنه الأفضل من ناحية مجموع المنصبين، على الخصوص أنه لم يكن عصر صدور الحديث عصراً يحتمل فيه إرادة إبراز راية واحدة غير راية النّواب الخاصّين الذين كان يبرزهم الإمام صاحب الزمان عجل اللّه فرجه بالتصريح بالاسم، وإنما الحديث ظاهر في الرجوع إلى كلّ الرواة، وهذا يفيد الانحلال، ويعني أنّ كلّ شخص يرجع إلى راو من الرواة في أخذ مواقفه التي يحتاج إلى أخذها منه، والشخص الآخر قد يرجع إلى راو آخر، بل الشخص الواحد بإمكانه أن يرجع في بعض الأُمور إلى راو، وفي بعضها الآخر إلى راو آخر.

ولو سلّمنا ظهور هذا الحديث في توحيد الراية وضرورة الرجوع في مجموع أمري التقليد والولاية إلى من له الكفاءة في الأمرين فهو معارض بسائر أدلّة التقليد المنصرفة بالارتكاز إلى الأعلم في الفقه، والذي قد لا يكون كفوءاً في القيادة، أو لا يكون هو الأكفأ الذي ينبغي أن ينتخب للقيادة.

223

 

المسألة الخامسة:

 

 

 

 

 

نفوذ حكم الوليّ

 

 

 

على سائر الفقهاء

 

 

 

 

 

 

 

 

 

225

 

 

 

 

 

المسألة الخامسة: في أنه هل ينفذ حكم الوليّ على سائر الفقهاء، أو لا؟

لا إشكال في أن مخالفة سائر الفقهاء حينما تؤدّي إلى شقّ العصا وتشتّت أُمور المسلمين تكون محرّمة، ولكن هذا المقياس ليس مقياساً شاملا في نفوذ حكم الولي على سائر الفقهاء؛ إذ قد يفترض أنّ مخالفة فقيه آخر لا تؤدّي إلى مفسدة من هذا القبيل كما لو خالف الوليّ في عمله الشخصي من دون الإعلان عن ذلك، أو من دون تأثير لذلك على المجتمع مثلا فهل هناك ما يثبت به بشكل عام نفوذ حكم الوليّ على سائر الفقهاء أو لا؟

الإشكال الذي يتبادر للذهن في نفوذ حكم الوليّ على سائر الفقهاء هو دعوى أنّ الولاية نسبتها إلى كلّ الفقهاء الكفوئين الجامعين للشرائط على حدّ سواء، فما معنى نفوذ حكم أحدهم على الآخرين الذين هم في عرضه؟!

وتحقيق الحال في ذلك: هو أننا لو آمنّا بالانتخاب، ولم نؤمن بدليل مستقل عن أدلة الانتخاب يدلّ على ولاية الفقيه فلا موضوع لهذا الإشكال، ولو آمنّا بدليل مستقل عن أدلة الانتخاب يدلّ على ولاية الفقيه كالتوقيع الشريف فعندئذلو آمنّا أيضاً بالانتخاب بدليل مطلق من قبيل أدلّة البيعة فالمشكلة محلولة أيضاً،فإنّ غاية الأمر هي أن نفترض أنّ دليل ولاية الفقيه جعل الفقهاء أولياء على

226

المجتمع، وهذا الدليل قاصر عن جعل بعض الفقهاء وليّاً على بعض، ولكندليل الانتخاب مطلق يجعل الفقيه المنتخب ولياً على كلّ المجتمع بما فيهمالفقهاء الآخرون.

أمّا لو آمنا بدليل يدلّ على ولاية الفقيه كالتوقيع ولم نؤمن بدليل يدلّ على الانتخاب، أو آمنّا أيضاً بدليل يدلّ على الانتخاب ولكن هذا الدليل لم يكن له إطلاق ـ كالدليل العقلي الذي كان يقول بعد تسليم ولاية الفقهاء: إنه لدى تعدّد الفقهاء لابدّ من الانتخاب حسماً لمشكلة تعدّد الأولياء ـ فعندئذ قد يتركّز الإشكال في المقام؛ لأنّ دليل الانتخاب غير موجود أو لا إطلاق له، ودليل ولاية الفقيه يجعل الولاية للفقهاء على المجتمع فحسب، ولا ينظر إلى نسبة الفقهاء بعضهم إلى بعض، فكيف ينفذ حكم الوليّ الفقيه على سائر الفقهاء الذين تكون نسبتهم مع الوليّ الفقيه إلى دليل ولاية الفقيه على حد سواء؟!

والحلّ: أنّ دليل ولاية الفقيه لم يكن مفاده جعل الفقيه وليّاً على الأفراد بما هم أفراد فحسب كي يقال: ليس أمراً عرفياً فرضُ ولاية شخصين كلٍّ منهما على الآخر، فيختص مفاد الدليل بالولاية على غير الفقهاء ولا ينظر الدليل إلى نسبة الفقهاء بعضهم مع بعض ـ بل إنّ الأفراد غير القاصرين ليسوا مشمولين أصلا بما هم أفراد لولاية الفقيه عليهم، فإنّ المفهوم عرفاً من جعل الولاية في غير المعصومين وغير ولاية المالك على المملوك ـ هو الولاية لسدّ قصور المولّى عليه ـ بل إنّ دليل ولاية الفقيه جعل الفقيه وليّاً على المجتمع بما هو مجتمع، والمجتمع بما هو مجتمع له قصور كبير، ويكون بحاجة إلى ملء هذا القصور بولاية الوليّ حتى ولو فرض المجتمع مؤتلفاً من أذكى وأبرع ما يتصوّر من بني الإنسان، فالمجتمع لا يستطيع

227

أن يدير شؤونه الاجتماعية من دون افتراض رأس يلي أُموره، والمجتمع كمجتمع لا يستطيع أن يشخّص طريق الصلاح الذي يختلف في تشخيصه أفراد المجتمع، وما إلى ذلك مما لا يمكن أن يقوم به إلاّ رأس ينصب أو ينتخب، فدليل ولاية الفقيه المنصرف إلى الولاية في موارد القصور قد جعل الفقيه وليّاً على المجتمع وإذا أمر بأمر نفذ أمره على المولّى عليه وهو المجتمع، والفقيه الآخر جزءٌ من هذا المجتمع فينفذ عليه أمر الوليّ الفقيه لا بوصفه فرداً مولّى عليه كي يقال: إنه مماثل للفقيه الوليّ، ولا تقبل عرفاً ولاية أحدهما على الآخر، بل بوصفه جزءاً من المجتمع، والمولّى عليه هو المجتمع وهو ليس مماثلا للوليّ الفقيه، وليست نسبة دليل الولاية إلى الفقيه وإلى المجتمع على حدّ سواء.

 

229

 

المسألة السادسة:

 

 

حالة العلم بخطأ الوليّ

 

 

* الحكم الولائي والحكم الكاشف.

* حالة العلم بالحرمة.

* حالة العلم بخطأ المستند.

* حالة العلم بخطأ القاضي.

 

 

 

 

 

 

231

 

 

 

 

 

المسألة السادسة: لو علم المولّى عليه بخطأ الولي في حكمه فهل تجوز له المخالفة في ذلك، أو يجب عليه الاتباع رغم قطعه بخطأ الوليّ؟

 

الحكم الولائي والحكم الكاشف:

 

الصحيح هو التفصيل بين قسمين من الأحكام الصادرة من الوليّ الفقيه، وهما: الحكم الولائي، والحكم الكاشف، فيجب اتباعه حتى مع العلم بالخطأ في القسم الأوّل دون القسم الثاني.

وهذا التقسيم منشؤه هو اختلاف ما يقصده الحاكم بالحكم، فقد يرى الحاكم أنّ هناك حقيقة ثابتة قبل إعماله هو للولاية، ولا يقصد من إعماله للولاية عدا تنجيز تلك الحقيقة على الناس كي يعمل بها أولئك الذين لم تصلهم تلك الحقيقة، فلولا إعمال الحاكم للولاية لما عملوا بها، مثال ذلك: الحكم بالهلال، فالولي يعتقد مثلا ثبوت الهلال ووجوب الصوم أو وجوب الإفطار ويحكم بذلك،ولا يقصد بحكمه هذا إنشاء تكليف واقعي على الأُمّة، بل ينظر إلى نفسالحكم الواقعي ويقصد إيصاله أو إيصال موضوعه إلى الأُمّة بهدف تنجيز نفسذاك الحكم الواقعي عليهم ورفع عذر الجهل عنهم، فهذا في الحقيقة حاله حال

232

كلّ حكم ظاهري ينظر إلى الواقع، وتكون حجيته مغيّاة بالشكّ كما هو الحال في كلّ حكم ظاهري، فمع القطع بالخطأ لا مورد لاتّباعه.

وقد يقصد الحاكم إنشاء تكليف واقعي على المجتمع لا خصوص تنجيز الواقع، وذلك لأحد أمرين:

الأوّل: أن يفترض أنّه لا واقع يهدف تنجيزه، مثاله: ما لو رأى الحاكم ضرورة تحديد الأسعار فحكم بذلك، فالمقصود بهذا الحكم ليس هو تنجيز حكم واقعي على الأُمّة؛ لأنّ الالتزام بسعر محدّد ليس بحسب الحكم الأوّلي واجباً حيث إنه حتى لو كان فيه ملاك الإلزام أحياناً لم يكن بالإمكان تحصيل هذا الملاك أو لم يكن بالإمكان إيصاله إلى الناس من قبل الشريعة بنحو لا يزاحم مصلحة عدم الإلزام الثابتة أحياناً أُخرى إلاّ عن طريق إعطاء زمام الإلزام بيد الوليّ.

وقد يفرض: أنّ الملاك ليس في متعلّق الحكم مباشرة، بل هو في توحيد موقف الأُمّة، فالولي يحكم بتعيين موقف معيّن، لا لكونه أفضل من موقف آخر كي يفترض وجود ملاك إلزامي فيه يوجبه شرعاً قبل حكم الوليّ، بل لتوحيد موقف كلّ أفراد الأُمّة الذي لم يكن يمكن أن يتحقق إلاّ بتعيين أحد الموقفين لهم ولو من دون ترجيح.

الثاني: أن يفترض أن الحاكم يرى حكماً واقعياً إلزامياً، لكن هدفه من إعمال الولاية ليس مجرّد تنجيز ذلك الحكم بل يهدف إنشاء حكم واقعي على الأُمّة كي يتنجز حتى على من لا يمكن تنجيز الحكم الأوّلي عليه لقطعه بالخلاف، مثاله: ما لو حكم الوليّ بالجهاد معتقداً أنّ الجهاد اليوم مشتمل على ملاك إلزامي، فهو واجب واقعاً، ولكنه لا يقصد بحكمه بالجهاد مجرّد تنجيز الواقع؛ لأنّه لو قصد ذلك

233

لكان نفوذه على الشاكّين في هذا الواقع فحسب دون القاطعين بالخلاف، وتقاعس القاطعين بالخلاف عن الجهاد يؤثّر لا محالة في درجة احتمال نجاح الحرب في تحقيق أهدافها أو يؤثر في درجة النجاح، بل يقصد بحكمه إنشاء حكم واقعي فينفذ ذلك حتى لدى القاطع بالخلاف؛ لأن هذا القطع بالخلاف ليس بمعنى القطع بمخالفة حكم الحاكم للواقع؛ إذ لم يؤخذ هذا الحكم مجرّد طريق إلى الواقع، بل كان هو الواقع.

وبكلمة أُخرى: لم يكن هذا الحكم حكماً ظاهرياً كي يمكن افتراض إمكان الخطأ فيه، بل كان حكماً واقعياً على أساس إعمال الولاية، وإنّما معنى القطع بالخلاف هنا أنّ الشخص قطع بأن الحاكم أخطأ في الملاك الذي تخيّله، أي أن حكمه بالجهاد مثلا كان على أساس اعتقاده بمصلحة في الجهاد في حين أنه يرى هذا الشخص أن الحاكم أخطأ في تقديره للمصلحة، وهذا النمط من القطع بالخلاف لا يضرّ بحجية حكم الولي، فإنّ معنى ولاية الوليّ الثابتة بنصّ أو التي تكون بنفسها من الأُمور الحسبية هو تقدّم رؤيته على رؤية المولّى عليه، ولم يكن الحكم ظاهرياً كي يقال: إنه مغيّاً بالقطع بالخلاف، وأنه يعقل فيه الخلاف بمعنى مخالفة الواقع.

إن قلت: إنّ تقسيم حكم الحاكم إلى حكم كاشف يسقط عن الحجّيّة بالعلم بالخلاف، وحكم ولائيّ لا يسقط عن الحجّيّة بالعلم بالخلاف غير صحيح؛لأنّ دليل الولاية فيهما واحد، وهو إمّا أن يدلّ على حكم ظاهري، أي يجعل حكم الوليّ حجّة ظاهريّة من قبيل الأمارات أو الأُصول، أو يدلّ على أنّ متابعة الولي واجبة وجوباً واقعيّاً، ولا يمكن افتراض دلالته في أحد القسمين على حكم

234

ظاهري، وفي الآخر على حكم واقعي؛ لأنّ دليل الولاية إن كان لفظيّاً فافتراض دلالته على هذين الأمرين يكون من سنخ استعمال اللفظ في معنيين، وإن كان عقليّاً فمن أين حكم العقل تارةً بالحكم الواقعي وأُخرى بالحكم الظاهري؟!

قلت: ليس الاختلاف في دلالة دليل الولاية سواء كان لفظيّاً أو عقليّاً وإنّما الدليل دلّ على نفوذ حكم الوليّ بمقدار ما له من قابليّة النفوذ، وإنما الاختلاف في نفس حكم الوليّ، فتارةً يقصد الوليّ تنجيز الواقع، أي أنّه يخلق حكماً ظاهريّاً، وأُخرى يقصد خلق الواقع بالشرح الذي عرفته، وكلّ منهما ينفذ بقدر ما يناسبه من النفوذ، ومن الطبيعي أنّ الأوّل لا يكون نافذاً إلاّ على من يحتمل موافقته للواقع، وأنّ الثاني يكون نافذاً على الكلّ؛ إذ لا يوجد واقع تُتوقّع موافقة حكم الحاكم أو مخالفته له، والحكم الذي صدر منه هو الواقع الذي يجب اتباعه،ولو كان الحكم الأولي هو الجواز فقد تبدلّ الجواز بسبب حكم الحاكم إلى الوجوب أو الحرمة.

 

حالة العلم بالحرمة:

 

نعم لو اعتقد الشخص أنّ حكم الوليّ إلزامٌ بأمر محرّم، كما لو اعتقد أنّ الجهاد حرام عليه؛ لأنّ الحرب فعلا حرب يائسة مثلا، وأنّ الدماء التي تراق تراق بلا فائدة، وأنّ حكم الوليّ لم يوجب تبدّل موضوع الحرمة عليه بافتراض أنّ المفاسد ستقع على أيّ حال سواء اتبعه هذا الشخص المعتقد بالحرمة أو لا؛ لأنّ الآخرين سيتّبعونه، واتباع هذا الشخص سوف لن يزيد في المفسدة، بل لعلّ مخالفته تزيد في المفسدة على أساس كونه سبباً لاختلاف الكلمة.

235

أقول: لو اعتقد الشخص الحرمة حتى بعد لحاظ صدور الحكم لم ينفذ عليه الحكم؛ لأنّ نفوذ حكم الوليّ إنّما هو في دائرة حفظ الأحكام الإلزاميّة للشريعة، فمن اعتقد بخروج حكم الوليّ عن هذه الدائرة لم يجز له اتباعه.

بقي هنا أمران لا بأس بالتنبيه عليهما:

 

حالة العلم بخطأ المستند:

 

الأمر الأوّل: قد عرفت أنّ الحكم الكاشف حكم ظاهريّ يسقط عن الحجّية لدى العلم بالخلاف، ويقع الكلام هنا في ما لو فرض أنّ الحكم الكاشف لم يعلم بمخالفته للواقع، ولكنه علم بخطأ مستنده فهل يكون نافذاً أو لا؟ مثاله ما لو حكم الحاكم بالهلال، ولم يعلم المكلّف بالخلاف ـ أي لم يعلم بعدم الهلال ـ لكنّه علم بخطأ مستند الحاكم ـ أي علم أنّ الحاكم اعتمد خطأً على بينة غير عادلة مثلا ـ فهل ينفذ الحكم هنا كما كان يقول بذلك أُستاذنا الشهيد (قدس سره)، أو لا؟ يمكن تقريب نفوذه ببيان أنّ نفوذ حكم الحاكم لم يكن على أساس الأمارية بنظر المولّى عليه كي يقال بسقوطه لدى انتفاء كاشفيّته بنظر المولّى عليه، بل كان على أساس الولاية غاية ما هناك أن الحكم لمّا كان ظاهرياً لم يمكن نفوذه مع العلم بالخلاف، والمفروض هنا عدم العلم بالخلاف، فلا مانع من نفوذه.

ولكن بالإمكان أن يقال بعدم النفوذ ببيان: أنّ الوليّ إذا كان لا ينظر إلاّ إلى تنفيذ الواقع وحفظه، فهو لا يريد حفظ الواقع بأكثر مما يحفظه حافظه ـ وهو المدرك الذي اعتمد عليه ـ فمع علم المكلف بخطأ ذاك المدرك لا مبرّر لنفوذ الحكم عليه.

236

وبكلمة أُخرى: كأنّ حكم الحاكم لم يكن طريقاً بالمباشرة إلى الهلال بل كان طريقاً إلى البيّنة العادلة التي هي طريق إلى الهلال، وقد انكشف لنا خطأ ذاك الطريق ومخالفته للواقع، فلا يثبت به الطريق إلى الهلال.

 

حالة العلم بخطأ القاضي:

 

الأمر الثاني: أنّ حكم القاضي في المرافعات يكون عادة بروح الحكم الكاشف، أي أنّ القاضي يريد تطبيق الحق ولا يريد إنشاء الحقّ وإيجاده، ولذا لو كان يعلم أحد المترافعين أنّه هو الظالم، ولكن تمّت المقاييس الظاهرية لدى القاضي بنحو حكم لصالح ذاك الظالم لم تجز له الاستفادة من حكم القاضي لصالح نفسه، بل يجب عليه إرجاع الحقّ إلى صاحبه، ولكن رغم أنّ هذا الحكم حكم كاشف لا حكم ولائي لا إشكال في نفوذه على المحكوم عليه ولو كان يقطع المحكوم عليه بأنه هو المظلوم، وأنّ هذا الحاكم لم يصب الواقع، والسرّ في ذلك هو أنّ لنفوذه دليلا خاصاً به غير أدلّة الولاية الدالّة عليه بالإطلاق، وذاك الدليل ظاهر في تنفيذ حكم القاضي خصماً للنزاع، ولا يتمّ خصم النزاع بغير هذا المستوى من النفوذ، ولم يكن ذاك الدليل ناظراً إلى مجرّد جعل حكم ظاهري يسقط بالعلم بالخلاف.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.

 

17 / ربيع الثاني / 1410 هـ. ق

المصادف 26 / 8 / 68 هـ. ش

كاظم الحسيني الحائري