139

سوف يعجز بسببه عن الطاعة.

ومثاله: أن يحلّ عليه وقت الصلاة ويتوجّه إليه التكليف بها، فيركب القطار وهو يعلم بأنّه سوف يعجز ـ عند ركوبه ـ عن أداء فريضة الصلاة، فإنّ هذا يعتبر عصياناً أيضاً، بل لا يجوز له أن يقدم حينئذ على عمل يحتمل بأنّه يعجز بسببه عن القيام بما وجب عليه فعلا.

(12) الإسلام ليس من الشروط العامة للتكليف، فالتكاليف الشرعية كما تتّجه إلى المسلم تتّجه إلى الكافر أيضاً، ويستثنى من ذلك وجوب قضاء الصلاة والصيام، فإنّ الكافر يُخاطَب شرعاً بالصلاة والصيام في أوقاتهما، ولكن لا يخاطب بوجوب قضائهما.

البلوغ وعلاماته:

(13) عرفنا أنّ أحد الشروط العامة للتكليف: البلوغ، ويتحقّق البلوغ إذا توفّرت في الذكر أو الاُنثى أحد الاُمور التالية:

أ ـ خروج المني(1)، سواء كان ذلك في حالة النوم أو في اليقظة، في حالة جماع واتّصال جنسيّ أو بدونه.

ب ـ نبات الشعر على العانة إذا كان خشناً، ولا اعتبار بالزغب (الشعر الناعم)، والعانة تقع بين العورة ونهاية البطن.

ج ـ إكمال مرحلة معيّنة من العمر، وذلك في الذكر بأن يكمل خمس عشرة


(1) خروج المني يكون في الذكر، وأمّا الاُنثى فتخرج منها رطوبات، ومن تلك الرطوبات ما يكون مصحوباً برعشة ولذّة تشبه رعشة الرجل ولذّته لدى خروج المني، وهذا أيضاً حاله حال خروج المني في دلالته على البلوغ، أي كما أنّ خروج المني من الذكر دليل على بلوغه كذلك خروج رطوبة من هذا القبيل من الاُنثى دليل على بلوغها.
140

سنةً من السنين القمرية، وفي الاُنثى بأن تكمل تسع سنين قمرية. والأفضل والأحوط للدين استحباباً أن يعتبر الصبي نفسه مكلفاً منذ إكماله ثلاث عشرة سنةً ودخوله في السنة الرابعة عشرة، فلا يتهاون بشيء من الواجبات التي يلزم بها البالغون.

(14) وإذا شكّ الصبي وكذلك الصبية في بلوغه بنى على عدم البلوغ، حتّى يحصل له اليقين ببلوغه.

(15) وإذا شكّ البالغ المكلّف في قدرته على الطاعة والامتثال لم يسمح له بأن يفترض في نفسه العجز لمجرّد الشكّ، بل يجب عليه أن يحاول إلى أن يثبت لديه أنّه عاجز.

 

آثار عامة للتكليف الشرعي

 

(16) إذا ثبت تكليف شرعي وكان أمراً كالأمر بالصلاة والأمر بالصدقة ترتّب على ذلك أنّ كلّ مقدمة يتوقّف عليها ذلك الواجب الذي أمرت به الشريعة تصبح واجبةً ولابدّ للمكلف من القيام بها.

(17) وإذا ثبت التكليف وكان نهياً وتحريماً كالنهي عن شرب الخمر أو قتل النفس ترتّب على ذلك أنّ المكلّف لابدّ له حذراً من الوقوع في الحرام أن يجتنب كلّ موقف أو عمل يؤدّي بطبيعته إلى وقوع الحرام وصدوره منه.

(18) وإذا وجب على إنسان القيام بفعل حَرُم على أيّ إنسان آخر أن يحاول صرفه عن القيام به، وإذا حرم على إنسان القيام بفعل حرم على أيّ إنسان آخر أن يسعى من أجل أن يقوم بذلك الفعل.

ومثاله: إذا حرم على الجنب أن يدخل المسجد حرم عليك أن تُدخله، وإذا

141

حرم على إنسان أن يأكل النجس حرم عليك أن تقدّمَ له طعاماً نجساً وتستدرجهإلى أكله، وهكذا.

(19) وإذا وجب على الإنسان شيء يقيناً وشكّ في أنّه هل أتى به أو لا ؟ وجب عليه أن يأتي به ما دام في الوقت متّسع.

ومثال ذلك: أن يشكّ في أنّه هل صلّى أو لا ؟ ولا يزال وقت الصلاة باقياً.

ومثال آخر: أن يشكّ المدين في أنّه هل وفّى زيداً وسدّد له دينه ؟

ومثال ثالث: أن يشكّ من وجبت عليه الزكاة في أنّه هل أدّى الزكاة ؟ ففي كلّ هذه الحالات يجب عليه أن يأتي بالواجب ليكون على يقين بالطاعة.

(20) إذا وجب شيء على المكلّف فأدّاه، ثمّ شكّ بعد الفراغ منه أنّه هل أدّاه على الوجه الصحيح الكامل شرعاً أو لا ؟ بنى على الصحة، واكتفى بما أدّاه في حالتين.

الاُولى: أن يكون العمل الذي أدّاه غير قابل للتكميل فعلا لو لم يكن كاملا؛ لأنّه اُدّي بصورة ناقصة. ومثاله: أن يصلّي ثمّ يشكّ في أنّه هل كان على وضوء حين الصلاة ؟ أو هل استقبل القبلة في الصلاة ؟ أو هل ركع في كلّ ركعة ؟ فإنّ التكميل هنا غير ممكن لو لم تكن الصلاة كاملة، وإنّما الممكن إعادتها من الأساس، ففي مثل ذلك لاتجب الإعادة ويكتفي بما أدّاه.

وكذلك إذا ركع ثمّ قام وشكّ في أنّه هل كان مستقرّاً في ركوعه أوْ لا ؟ فإنّ الركوع الذي وقع لا يمكن إصلاحه، وإنّما الممكن إعادة الركوع ولو بإعادة الصلاة من الأساس، فلا قيمة للشكّ حينئذ.

الثانية: أن يكون ذلك العمل الذي أدّاه محدّداً شرعاً بأن يؤدّى قبل عمل

142

آخر، وقد بدأ المكلّف في العمل الآخر ثمّ شكك في صحة عمله الأول.

ومثاله: الأذان المحدّد بأن يؤدّى قبل الإقامة، ويشكّ المكلّف بعد أن بدأ بالإقامة أنّه هل أتى بكلّ أجزاء الأذان أو لا ؟

ومثال آخر: الإقامة المحدّدة بأن تؤدّى قبل الصلاة، ويشكّ المكلّف بعد أن بدأ بالصلاة أنّه هل أقام أو لا ؟

ومثال ثالث: الركوع محدّد بأن يكون قبل السجود، فيسجد المكلّف ويشكّ في أنّه ركع أو لا ؟ ففي هذه الفروض يمضي ولا يلتفت إلى شكّه.

ويستثنى ممّا ذكرناه في هذه الفقرة الوضوء، فإنّ له أحكاماً خاصّةً يراجع فيها باب الوضوء الفقرة (101). وقد يخطئ المقلِّد في تطبيق الحالتين المذكورتين أحياناً، ولهذا يحسن به أحياناً أن يستعين بمقلَّده في التعرّف على أنّ هذا الفرض أو ذاك هل يدخل ضمن الحالة الاُولى أو الثانية، أو لا ؟ وسوف نذكر في الأبواب المقبلة عدداً من التطبيقات لهاتين الحالتين.

(21) كلمة « اليقين والعلم » تعني: الجزم الذي لا يبقى معه مجال لأيّ تردّد واحتمال للعكس، و « الظن » يعني: أنّ احتمال هذا الشيء أكبر من احتمال العكس، فحينما نقول: « نظنّ أنّ المطر سينزل » نعني أنّ احتمال المطر أكثر من خمسين في المائة. والاطمئنان يعني درجةً عاليةً من الظنّ يقارب العلم واليقين، على نحو يبدو احتمال العكس ضئيلا إلى درجة يلغى عملياً عند العقلاء، كما إذا كان احتمال العكس واحداً في المائة مثلا.

وكلّما جاءت كلمة « اليقين والعلم » بصدد حكم شرعيّ في الأحكام الشرعية الآتية فنريد بها الجزم والاطمئنان معاً، فما يثبت للجزم والعلم من آثار شرعاً يثبت للاطمئنان أيضاً.

143

تقسيم الأحكام

 

وأحكام الشريعة على الرغم من ترابطها واتّصال بعضها ببعض يمكن تقسيمها إلى أربعة أقسام كما يلي:

(1) العبادات، وهي: الطهارة والصلاة والصوم والاعتكاف والحجّ والعمرة والكفّارات.

(2) الأموال، وهي على نوعين:

أ ـ الأموال العامة، ونريد بها: كلّ مال مخصّص لمصلحة عامة، ويدخل ضمنها الزكاة والخمس، فإنّهما على الرغم من كونهما عبادتين يعتبر الجانب المالي فيهما أبرز، وكذلك يدخل ضمنها الخراج والأنفال وغير ذلك. والحديث في هذا القسم يدور حول أنواع الأموال العامة، وأحكام كلّ نوع وطريقة إنفاقه.

ب ـ الأموال الخاصة، ونريد بها: ما كان مالا للأفراد، واستعراض أحكامها في بابين:

الباب الأول: في الأسباب الشرعية للتملّك، أو كسب الحقّ الخاصّ، سواء كان المال عينياً ـ أي مالا خارجياً ـ أو مالا في الذمّة، وهي الأموال التي تشتغل بها ذمّة شخص لآخر، كما في حالات الضمان والغرامة.

ويدخل في نطاق هذا الباب: أحكام الإحياء والحيازة والصيد والتبعية والميراث والضمانات والغرامات، بما في ذلك عقود الضمان والحوالة والقرض والتأمين، وغير ذلك.

الباب الثاني: في أحكام التصرّف في المال، ويدخل في نطاق ذلك: البيع

144

والصلح والشركة والوقف والوصيّة، وغير ذلك من المعاملات والتصرّفات.

(3) السلوك الخاصّ، ونريد به: كلّ سلوك شخصيّ للفرد لا يتعلّق مباشرةً بالمال، ولا يدخل في عبادة الإنسان لربه. وأحكام السلوك الخاصّ نوعان:

الأول: مايرتبط بتنظيم علاقات الرجل مع المرأة، ويدخل فيه النكاح والطلاق والخلع والمبارات والظهار والإيلاء، وغير ذلك.

الثاني: ما يرتبط بتنظيم السلوك الخاصّ في غير ذلك المجال، ويدخل فيه: أحكام الأطعمة والأشربة، والملابس والمساكن، وآداب المعاشرة، وأحكام النذر واليمين والعهد، والصيد والذباحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من الأحكام والمحرّمات والواجبات.

(4) السلوك العام، ونريد به: سلوك ولي الأمر في مجالات الحكم والقضاء والحرب، ومختلف العلاقات الدولية، ويدخل في ذلك: أحكام الولاية العامة، والقضاء والشهادات، والحدود، والجهاد، وغير ذلك.

145

الفتاوى الواضحة

 

القسم الأوّل

العبادات

 

 

○   أحكام عامّة للعبادات.

○  الطهارة.

○  الصلاة.

○  الصيام.

○  الاعتكاف.

○  الحجّ والعمرة.

○  الكفّارات.

○  نظرة عامّة في العبادات.

 

 

147

العبادات

1

أحكام عامة للعبادات

 

 

○   تمييز العبادات عن التوصّليات.

○  تفصيل أحكام النيّة.

○  النيابة والاستئجار في العبادات.

○  تقسيم العبادات.

 

 

149

[تمييز العبادات عن التوصّليات:]

(1) توجد في الشريعة أشياء أمر الله سبحانه وتعالى بها، وشرط فيها على المكلّف أن يأتي بها من أجله سبحانه وتعالى، أي بنيّة القربة، فلا تقع صحيحة إلّا إذا كانت مع نية القربة، وتسمّى هذه الأشياء بالعبادات.

وخلافاً لها أشياء اُخرى أمر الله سبحانه وتعالى بها ولم يشترط على المكلّف أن يأتي بها بنية القربة فيكون المكلّف بالخيار، إن شاء أتى بها من أجله سبحانه وتعالى، وإن شاء أتى بها بدافع من دوافعه الخاصّة، وهي في الحالتين تقع صحيحةً وكافية، وتسمّى هذه الأشياء بالتوصليات، أي أنّ المقصود بها شرعاً مجرّد التوصّل إلى فوائدها بدون اشتراط نيّة مخصوصة في أدائها.

وللعبادات دور مهمّ في الشريعة الإسلامية، وسنعطي في نهاية القسم الأول ـ إن شاء الله تعالى ـ نظرةً موجزةً عامّةً عن العبادات ومدلولها التربويّ ومغزاها العقائدي.

(2) العبادات في الشريعة: هي: الطهارة (الوضوء والغسل والتيمّم)، والصلاة (الأذان والإقامة ونفس الصلاة)، والصيام، والاعتكاف، والحجّ والعمرة

150

والطواف، والزكاة، والخمس، والجهاد، والكفّارات، والعتق. وغير هذه المذكورات من الواجبات والمستحبّات فهي توصّليات: كتطهير البدن والملابس من النجاسة، والإنفاق على الزوجة والأقارب، وصلة الرحم، وتعليم الأحكام، وتكفين الأموات ودفنهم، ووفاء الدين، وأداء الأمانة، ونصح المستشير، والبرّ بالوالدين، وردّ التحية (جواب السلام)، ودفع الظلم عن المظلوم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإنقاذ الإنسان من مهلكة حريق أو غرق ونحوهما، وزيارة مشاهد النبي والأئمّة (عليهم السلام)، وقراءة القرآن، إلى غير ذلك من الواجبات والمستحبّات التوصّلية.

[تفصيل أحكام النيّة:]

(3) نية القربة معناها: الإتيان بالفعل من أجل الله سبحانه وتعالى، فهي الباعث نحو الفعل، سواء كانت هذه النية بسبب الخوف من عقاب الله تعالى، أو رغبةً في ثوابه، أو حبّاً له وإيماناً بأنّه أهل لأن يطاع، فالعبادة تقع صحيحةً إذا اقترنت بنية القربة على أحد هذه الأوجه، ولا يعتبر فيها أن ينوي كون الفعل واجباً أو مندوباً ومستحبّاً، بل يكفي أن يأتي به طاعةً لله تعالى، ولو لم يقصد الوجوب في الواجب أو الاستحباب والندب في المستحبّ والمندوب.

(4) إذا أتى المكلّف بالواجب التوصّليّ ـ كالإنفاق على الزوجة ـ بنية القربة دفع عن نفسه العقاب، واستحقّ بلطف الله تعالى الأجر والثواب. وإذا أتى به بدافع من الدوافع الخاصّة ـ كحبّه لزوجته ـ على نحو لم يكن ليقوم بذلك لولا تلك الدوافع الخاصّة دفع عن نفسه العقاب، ولكنّه لا يستحقّ بذلك الأجر والثواب. وكذلك إذا أحسن الغنيّ بالمال في سبيل من سبل الخير فإنّه إن نوى بذلك القربة إلى الله تعالى استحقّ بلطف الله الثواب، وسمّي إحسانه بالصدقة، وإن لم ينوِ القربة

151

لم يستحقّ ذلك، وكثيراً مايتفضّل الله سبحانه وتعالى عليه بذلك لأنّه أكرم الأكرمين وأوسع المعطين(1).

(5) وإذا أتى المكلّف به بنية القربة وبالدافع الخاصّ معاً على نحو لو لم يكن هناك دافع خاصّ لقام بذلك أيضاً من أجل الله تعالى فقد برئ من العقاب واستحقّ الثواب(2). وأمّا العبادات الواجبة فلا ينجو المكلّف من العقاب بسببها إلّا إذا أتى بها بنية القربة.

(6) نية القربة كما تتحقّق في حالةِ تمييز العبادة كذلك تتحقّق في حالة عدم التمييز.

ومثال ذلك: أنّ الصلاة إلى القبلة واجبة، فقد يميّز القبلة ويعرف أنّ الصلاة إلى هذه الجهة هي الصلاة إلى القبلة فينوي بها القربة، وقد تحتاج معرفته للقبلة إلى السؤال، فلا يعلم هل المطلوب الصلاة إلى هذه الجهة أو تلك؟ فبدلا عن السؤال يصلّي إلى الجهتين معاً بنية القربة دون أن يميّز العبادة المطلوبة بالضبط.

(7) إذا علم المكلّف بأنّ هذا الفعل ليس مطلوباً لله سبحانه وتعالى حرم عليه أن يأتي به بنية القربة، ويسمّى ذلك « تشريعاً » أي « بدعة » والتشريع حرام. وأمّا إذا شكّ في أنّ هذا الفعل هل هو مطلوب لله أو لا؟ وأحبّ أن يأتي به بأمل أن


(1) وخاصّة إذا كان دافعه إلى تلك الأعمال التوصّلية عبارةً عن دوافع الخير الإنسانيّة كالرحمة والرأفة والشفقة وما إلى ذلك، بل لعلّ روايات الثواب تكون شاملةً لهذا الفرض وإن كان فرض قصد القربة هو الفرض الأتمّ والأفضل بلا إشكال.
(2) بل حتّى لو كان كلٌّ من الدافع الإلهي والدافع الخاصّ جزء المحرِّك له نحو الواجب التوصّلي فهو يحصل أيضاً على الثواب بنسبة ما لديه من الدافع الإلهي.
152

يكون مطلوباً له لم يكن آثماً، ويسمّى هذا «احتياطاً». وقد مرّ الحديث عن الاحتياط.

(8) الرياء: هو الإتيان بالفعل من أجل كسب ثناء الناس وإعجابهم، وهذا حرام في العبادات، فأيّ عبادة يأتي بها الإنسان بهذا الدافع تقع باطلةً، ويعتبر الفاعل آثماً؛ سواء أتى بالفعل من أجل الناس وحدهم، أو من أجلهم ومن أجل الله معاً، وقد سمّي ذلك في بعض الأحاديث بالشرك.

وأمّا في التوصّليات فلا يحرم الرياء، ولا يبطل العمل، فمن أنفق على الفقراء ووصل أرحامه وبرّ والديه لا لشيء إلّا من أجل الحصول على ثنائهم وحبّهم، أو من أجل أن يصبح مشهوراً بين الناس بحسن السلوك يقع العمل صحيحاً، ولا يعتبر آثماً، ولكن يفوته رضوان من الله أكبر.

(9) الرياء إذا حصل للإنسان بعد الفراغ من عبادته، بأن صلّى ـ مثلا ـ ثمّ حاول أن يتحدّث وينوِّه بذلك لكسب رضا الناس وثنائهم لا يبطل بذلك العمل.

(10) وإذا كان المكلّف مُقدِماً على العبادة من أجل الله سبحانه وتعالى مخلصاً له في نيته، ولكنّه كان مذموماً لدى الناس ومتّهماً بعدم التديّن فحاول التظاهر بعبادته تلك أمام الآخرين ليدفع عنه التهمة جاز ذلك وصحّت عبادته.

(11) ويكره للإنسان ـ ولا يحرم ـ أن يتحدّث إلى الآخرين بما يقوم به من طاعات وعبادات ﴿فَلا تُزَكُّوا أنْفُسَكُمْ هُوَ أعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾(1).

ويستثنى من ذلك ما إذا كان يحتمل نفع الآخرين دينياً بهذا الحديث؛ لما فيه من ترغيب لهم في الطاعة وكان هذا الاحتمال هو الدافع.

 


(1) النجم: 32.
153

(12) ولا ضير على الإنسان إذا عبد ربّه فاطّلع على ذلك غيره صدفةً، فشعر العابد بالسرور لاطّلاع الغير على عبادته وطاعته فإنّ شعوره هذا لا كراهة فيه، ولا ينقص من قدره.

(13) وليس من الرياء أن يتعبّد الإنسان أو يحسن عبادته بدافع ترغيب الآخرين في الطاعة، ومجاراته أو تقريب دينه ومذهبه إلى قلوبهم، ولكن على أن يكون الدافع هو ذلك فقط، لا إعلاء شأنه وتقريب شخصه بوصفه الخاصّ إلى القلوب، وإلّا كان رياءً محرّماً.

(14) العُجب: هو أن يشعر الإنسان بالزهو وبالمنّة على الله سبحانه بعبادته، وأنّه أدّى لربّه كامل حقّه، وهذا محرّم شرعاً، إلّا أنّ العبادة لا تبطل به، ولكن يذهب به ثوابها.

وأمّا مجرّد سرور الإنسان بعبادته وطاعته فلا ضير فيه ولا إثم.

(15) إذا كان في العبادة بعض الفوائد الصحية أو الجسدية أو النفسية فأتى المكلّف بها من أجل الله سبحانه وتعالى ومن أجل بعض تلك الفوائد فهل تقع العبادة منه صحيحة ؟ ومثال ذلك: من يتوضّأ بنية القربة ومن أجل التنظيف معاً.

والجواب: أنّ نية القربة إذا كانت كافيةً لدفع المكلّف إلى القيام بتلك العبادة حتّى ولو لم يلتفت إلى تلك الفوائد صحّ عمله، وإذا لم يكن المكلّف ليتحرّك من أجل الله وحده لولا تلك الفوائد الإضافية فالصلاة باطلة.

(16) الإيمان شرط أساسي في صحة العبادة، أيّ عبادة، فلا تقع العبادة من الإنسان صحيحةً إلّا إذا كان قلبه عامراً بالإيمان.

(17) وليس التلفّظ شرطاً لنية القربة في شيء من العبادات، فهي شيء في النفس ولا يجب أن يتلفّظ به باللسان.

(18) وعلى العموم يعتبر التستّر بأداء العبادات المستحبّة أفضل من

154

التجاهر بها أمام الناس؛ لكي تكون النية أوضح إخلاصاً، ويستثنى من ذلك ما إذا كان للعامل غرض ديني في التجاهر للترغيب في الطاعة.

[النيابة والاستئجار في العبادات:]

(19) ولا يجوز في العبادة النيابة عن الحي، بمعنى أنّ الإنسان لا يمكنه أن يصلّي عن قريب أو صديق أو أيّ شخص آخر لا يزال حياً، لا الصلاة الواجبة على ذلك القريب أو غيره، ولا صلاة مستحبة يقصد بها النيابة عنه، ومثل الصلاةسائر العبادات فإنّ ذلك لا يصحّ. ويستثنى من هذا: الحجّ المستحبّ، والطواف المستحبّ، والعمرة المستحبّة، فإنّها عبادات لكن يمكن للشخص أن ينوب فيها عن الحي، وكذلك الحجّ الواجب في حالة خاصة يأتي شرحها في فصول الحجّ.

وينبغي أن لا يفهم من ذلك أنّه لا يصحّ للإنسان أن ينوب عن الحي في كلّ أوجه البرّ والخير، بل يصحّ أن ينوب عنه الإنسان في أوجه البرّ وصلة الفقراء وزيارة المشاهد المشرّفة، ونحو ذلك من المستحبات التوصلية.

وإذا أراد الإنسان أن ينفع شخصاً لا يزال حيّاً بعبادته أمكنه أن يأتي بصلاته أو عباداته الاُخرى المندوبة بصورة أصيلة ـ أي بدون أن ينوي بها النيابة ـ ثمّ يطلب من الله تعالى أن يسجّل ثواب العمل لذلك الشخص عسى أن يمنّ الله تعالى عليه بإجابة طلبه.

(20) تجوز النيابة في العبادات عن الميّت، فيصلّى عنه ويُصام عنه، إلى غير ذلك من العبادات، واجبةً كانت أو مستحبّة، كما يمكن الإتيان بالعبادة بصورة أصيلة ـ أي بدون نية النيابة ـ ثمّ إهداء ثوابها إلى الميّت، نظير ما أشرنا إليه في

155

الفقرة السابقة بالنسبة إلى الحي.

(21) كلّما صحّ التبرّع بالعبادة عن شخص صحّ أيضاً استئجار شخص للقيام بتلك العبادة نيابةً عنه، وهناك شرط أساسي لهذه الصحة، وهو: أن يكون الدافع للأجير للقيام بهذا العمل هو الخوف من الله سبحانه وتعالى أن يأكل الاُجرة حراماً، على نحو لا يكون مستعدّاً لأخذ الاُجرة حتّى لو تيسّر له أخذها ما لم ينجّز العمل الذي استُؤجر لأدائه؛ لكي لا تكون الاُجرة حراماً عليه ولا يكون خائناً، فإنّ هذا القدر من النية الحسنة لدى الأجير يحقّق نية القربة التي لا تصحّ عبادة بدونها.

وأمّا إذا كان الأجير مستعدّاً لأخذ الاُجرة على أيِّ وجه اتّفق، وهو لا يؤدّي العمل إلّا لأنّه لا يتاح له أن يقبض تلك الاُجرة إلّا بأداء العمل، إذا كان الأجير كذلك فلا تصحّ منه النيابة والعبادة؛ لأنّ عمله يكون تجارياً بحتاً من أجل المال، ولا أثر للخوف من الله ورعاية حقّه فيه.

(22) ويحرم على الإنسان مهما تعبّد وأطاع ربّه أن يأمن عقابه ويثق ثقةً مطلقةً بمستقبله ومنقلبه، كما يحرم عليه مهما قصّر وأذنب أن ييأس من رحمته ويقنط من عفوه، ويعتبر ذلك الأمن من عقابه وهذا اليأس من رحمته من كبائر الذنوب.

(23) ولئن كانت العبادات مقصورةً على اُمور معيّنة كالصلاة والصيام ونحوهما فإنّ بإمكان الإنسان شرعاً أن يحوّل أعماله ومساعيه الصالحة في مختلف جوانب حياته إلى عبادة إذا أتى بها على وجه يرضي الله سبحانه وتعالى ومن أجله، فمن عمل في وجه من وجوه الكسب المباح من أجل القيام بما يجب عليه أو يستحبّ له من الإنفاق على عائلته كان عمله عبادةً، وهكذا.

156

[تقسيم العبادات:]

هذه أحكام موجزة عامة عن العبادات، وسنستعرض نوعاً بعد نوع مع أحكام كلّ نوع بالتفصيل على الترتيب التالي:

أوّلا: نقدّم الصلاة باعتبارها أهمّ العبادات.

ثانياً: نقدّم الطهارة على الصلاة؛ لأنّ الطهارة شرط أساسي في الصلاة.

ثالثاً: سنستعرض أحكام الحجّ أيضاً، ولكن بصورة موجزة، اعتماداً في التفاصيل على مناسك الحجّ التي أ لّفناها بهذا الصدد (موجز أحكام الحجّ).

رابعاً: أنّ الزكاة والخمس على الرغم من كونهما عبادتين سوف ندرجهما في القسم الثاني؛ لأنّ الجانب المالي فيهما أبرز وأهمّ. كما أنّ الجهاد سوف ندرجه في القسم الرابع؛ لأنّه يدخل في نطاق السلوك العام، وعلى هذا الأساس سوف نستعرض العبادات، بادئين بالطهارة، ثمّ الصلاة، فالصيام، فالاعتكاف، ثمّ الحجّ والعمرة، ونختم القسم الأوّل بالكفّارات.

157

العبادات

2

الطهارة

 

 

○   أقسام الماء وأحكامه.

○  الوضوء.

○  الغُسل.

○  التيمّم.

○  أنواع النجاسات.

○  أنواع المطهّرات.

 

 

159

الطهارة

1

أقسام الماء وأحكامه

 

 

○   تمهيد.

○  أقسام المياه.

○  حكم القليل والكثير.

○  أحكام متفرّقة للماء.

 

 

161

تمهيد

 

أهمّ العبادات الصلاة، فإنّها عمود الدين، وقد أوجب الشارع على المصلّي أن يكون متطهّراً من الخبث ومن الحدث.

ونقصد بالخبث هنا: النجاسة، ومردّ النجاسة إلى أشياء مادية تقع تحت الحواسّ: كالدم والبول والغائط والميتة، وغيرها من الأخباث، (أي النجاسات التي يأتي الكلام عنها).

وأمّا الحدث في اصطلاح الفقهاء فلا يدرك بالحسّ، بل هو أمر معنويّ يوجب الوضوء أو الغسل، ومثاله الجنابة.

والخبث يُزال وتحصل الطهارة منه بالغسل بالماء الطاهر، وبوسائل اُخرى أحياناً، كالأرض. والحدث يُزال وتحصل الطهارة منه بالوضوء بالماء الطاهر، أو الاغتسال به، وبالتيمّم بالتراب أحياناً. وسيأتي في الأبواب المقبلة تفصيل الحديث عن كلّ ذلك إن شاء الله تعالى.

ولمّا كان الماء الطاهر هو المطهّر الرئيس من الحدث والخبث تعيّن في البداية أن نتحدّث عن الماء وأقسامه، ومتى يكون طاهراً ومطهّراً من الحدث والخبث؟ ومتى لا يكون كذلك؟

162

[أقسام المياه]

 

الماء مطلقٌ أو مضاف:

(1) ينقسم الماء إلى مطلق ومضاف، وتختلف أحكام كلٍّ منهما عن أحكام الآخر، وسنعرض الفرق والاختلاف في الفقرات الآتية.

والمراد بالماء المطلق: هذا الماء الذي يفهمه كلّ الناس من قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْء حَيٍّ﴾(1). وهو الذي يجري في الأنابيب إلى البيوت والحمّامات والفنادق والمعابد.... إلى آخره، ويشربه الإنسان والحيوانات؛ ويحيا به الشجر والنبات، ونغتسل به، ونطهّر الأجسام والثياب، ومنه ماء البحر، والمذاب من الثلج والبرد، والمياه المعدنية، وبالتالي فلا يحتاج الماء المطلق إلى تفسير؛ لوضوح معناه.

والمضاف هو: إمّا ماء مطلق خالطه جسم آخر، فأخرجه عن وضعه الطبيعي وسلب عنه اسم الماء، فلم يعد ماءً حقيقةً كالشاي وماء الورد، وإمّا ماء اعتصر من جسم، كماء البطّيخ والليمون.

(2) الماء المطلق والمضاف كلاهما طاهر، لك أن تشرب منهما وتستعملهما بما شئت. والفرق الأساس بين حكم المطلق وحكم المضاف يتمثّل فيما يلي:

أوّلا: أنّ الماء المطلق لك أن تطهّر به الشيء المتنجّس ـ كالإناء والثوب


(1) الأنبياء: 30.
163

والبدن ـ إذا أصابته النجاسة، وليس لك أن تطهّره بالمضاف.

وثانياً: أنّ الماء المطلق لك أن تتوضّأ به، وتغتسل من الجنابة، أو أيّ غسل آخر، وليس لك أن تتوضّأ أو تغتسل بالمضاف، وهذا معنى الكلمة الفقهية القائلة: « الماء المطلق طاهر في نفسه، ومطهّر لغيره من الحدث والخبث، وأنّ الماء المضاف طاهر في نفسه، ولكنّه لا يرفع حدثاً ولا يزيل خبثاً ».

وثالثاً: أنّ الماء المطلق لا يتأثّر ولا يتنجّس بملاقاة النجاسة إلّا في بعض الحالات، كما سيأتي، لاحظ الفقرة (8) و (9) من هذا الباب.

وأمّا الماء المضاف فيتأثّر ويتنجّس بمجرّد ملاقاة النجاسة، وأيّ شيء ينجّس الأجسام الصلبة فإنّه ينجّسه، سواء كان الماء المضاف قليلا أو كثيراً(1).

ورابعاً: أنّ الماء المطلق إذا تنجّس وأوصلناه بماء غزير أو أصابه ماء المطر يطهر على ما يأتي. وأمّا الماء المضاف فلا يطهر بذلك إذا تنجّس، وإنّما يطهر إذا حوّلناه إلى ماء مطلق، فنطهّره بما يطهّر به الماء المطلق.

(3) المائعات التي لا تحمل اسم الماء بحال ـ كالنفط والحليب ـ تتّفق مع الماء المضاف فيما تقدّم من أحكام، فلا يصحّ التطهير بها من الخبث أو الحدث، وتتنجّس بمجرّد الملاقاة(2)، وإذا تنجّست لا تطهر بحال.

(4) إذا ملأت إبريقاً بماء الورد وأخذت تصبّه على أرض نجسة تنجّس من ماء الورد ما أصاب الأرض، ولا يتنجّس كل ما في الإبريق. وكذلك في كلّ حالة يتحرّك فيها المائع باندفاع فيلاقي نجساً، فإنّ الذي يتنجّس هو الملاقي المباشر،


(1) لا دليل على تنجّس المضاف الكثير بملاقاة المتنجّس.
(2) مضى الاستشكال في تنجّس الكثير منها.