206

 

الإخبار عن اُمور غيبيّة مستقبليّة

 

وردت أخبار غيبيّة مستقبليّة في القرآن من قبيل:

 

1 ـ انتصار الروم بعد بضع سنين:

قال تبارك وتعالى: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الاَْمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون﴾(1).

قالوا: وقعت حرب بين الروم والفُرس بهجوم من قبل الفُرس سنة (617) الميلاديّة تقريباً على الروم في أراضي الشامات، وانتهت بهزيمة الامبراطوريّة الروميّة الشرقيّة وأصبحت على أبواب الانقراض. وكان ذلك فيما يقارب السنة الهجريّة السابعة، وأوجب فرحاً وسروراً للمشركين في مكّة؛ لأنّ الفُرس كانوا مشركين مجوسيّين والروم مسيحيّين ومن أهل الكتاب، فتفاءل مشركو مكّة بأنّهم سيغلبون المسلمين، ويُنهون بذلك حياة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وهذا ما أوجب فرح المشركين وأذى المسلمين واغتمامهم، فنزلت الآية المباركة المصرّحة بأنّ الروم سيَغلِبون في ما هو أقل من عشر سنين.

والذي وقع حسب ما يحدّثنا التاريخ هو بدء غلبة الروم على الفُرس من سنة (626) الميلاديّة في حروبهم مع إيران إلى سنة (627)، فكان يتمّ للروم


(1) س 30 الروم، الآية: 1 ـ 6.

207

الانتصار تلو الانتصار حتّى اكتمل انتصارهم، وخلع الإيرانيون ملكهم خسرو پرويز ونصبوا مكانه ابنه شيرويه. إذن بدأت انتصارات هرقل ملك الروم بعد تسع سنين من انكساره واكتملت في السنة العاشرة، حيث اكتسح سلطانه الأرض إلى ما يقرب من عاصمة خسرو فهرب وخلعه الإيرانيون وقُتل بعد ذلك.

 

2 ـ دخول المسجد الحرام:

قال تبارك وتعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً﴾(1).

قالوا: عزم رسول الله(صلى الله عليه وآله)على زيارة المسجد الحرام وأداء العمرة في شهر ذي القعدة سنة ست للهجرة، وطلب من المسلمين مصاحبته في هذا العمل فاستجاب كثير منهم. وقد رأى رسول الله(صلى الله عليه وآله) في عالم الرؤيا دخوله مع أصحابه المسجد الحرام لأداء مناسك العمرة، وحدّث المسلمين بذلك، ورؤيا النبي تعتبر بمنزلة الوحي، فتوهّم المسلمون أنّ ذلك سيكون في تلك السنة نفسها.

وسار مع رسول الله(صلى الله عليه وآله) نحو ألف وأربع مئة نفر وهم لا يحملون من السلاح إلّا السيف الذي يعتبر سلاح السفر ولا يكفي للحرب، وحينما وصلوا إلى عسفان قريباً من مكّة عرفوا أنّ قريشاً صمّمت على منعهم من دخول مكّة، ولكنّهم ساروا إلى الحديبيّة التي كانت تبعد عن مكّة بعشرين كيلو متراً، فوقفت الناقة وزجرها فلم تنزجر وبركت، فقال أصحابه: خلأت الناقة. أي بركت ولم تبرح


(1) س 48 الفتح، الآية: 27.

208

مكانها. فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): وما هذا لها عادة ولكن حبسها حابس الفيل. ودعا عمر بن الخطّاب ليرسله إلى مكّة ليأذنوا له بأن يدخل مكّة ويحلّ من عمرته وينحر هديه، فقال: يا رسول الله ما لي بها من حميم، وإنّي أخاف قريشاً لشدّة عداوتي إيّاها، ولكن أدلّك على رجل هو أعزّ بها منّي وهو عثمان بن عفّان. فقال: صدقت. فدعا رسول الله(صلى الله عليه وآله)عثمان، فأرسل إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنّه لم يأت لحرب وإنّما جاء زائراً لهذا البيت معظّماً لحرمته، فخرج عثمان إلى مكّة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص ـ حين دخل مكّة أو قبل أن يدخلها ـ فحمله بين يديه، ثمّ أجاره حتّى بلّغ رسالة رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فاحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله(صلى الله عليه وآله)والمسلمين أنّ عثمان قد قتل، فقال(صلى الله عليه وآله): لا نبرح حتّى نناجز القوم. فدعا الناس إلى البيعة فقام رسول الله(صلى الله عليه وآله)إلى الشجرة فاستند إليها، وبايع الناس على أن يقاتلوا المشركين ولا يفرّوا.

ونزل(صلى الله عليه وآله) بأقصى الحديبيّة على ثمد قليل الماء، فشكوا إليه العطش، فانتزع رسول الله(صلى الله عليه وآله) سهماً من كنانته ثمّ أمرهم أن يجعلوه في الماء، فو الله مازال يجيش لهم بالريّ حتّى صدروا عنه، وبعد ذلك جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة وأخبره بتهيّؤ قريش للقتال، فقال له رسول الله(صلى الله عليه وآله): نحن لم نجئ لنقاتل أحداً ولكنّنا جئنا معتمرين. وعرض(صلى الله عليه وآله) عليه فكرة الصلح وإيقاف الحرب لمدّة بين المسلمين والمشركين، وإعطاءه حرّية تبليغ الرسالة مع كونهم في أمان من المسلمين وكون المسلمين في أمان منهم، فقال بديل: ساُبلّغهم ما تقول. فرجع إلى قريش وأخبرهم بكلام رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فقام عروة بن مسعود الثقفي وقال: إنّه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها ودعوني آته. فأتى النبيّ(صلى الله عليه وآله) وضمن حواره معه(صلى الله عليه وآله) جعل يرمق صحابته(صلى الله عليه وآله)، فإذا أمرهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) ابتدروا أمره، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلّموا

209

أخفضوا أصواتهم عنده وما يحدّون إليه النظر تعظيماً له. فرجع عروة إلى أصحابه وقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قطّ يعظّمه أصحابه بمثل ما يعظّم أصحاب محمّد محمّداً، إذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلّموا خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدّون إليه النظر تعظيماً له، وإنّه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانه: دعوني آته. فلمّا أشرف عليهم قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): وهذا فلان وهو من قوم يعظّمون البدن فابعثوها له. واستقبله القوم يلبّون، فلمّا رآى ذلك قال لأصحابه: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا. فقام رجل يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آته. فلمّا أشرف عليهم قال النبيّ(صلى الله عليه وآله): هذا مكرز وهو رجل فاجر فجعل يكلّم النبيّ(صلى الله عليه وآله)، فبينا هو يكلّمه إذ جاء سهيل بن عمرو فقال(صلى الله عليه وآله): قد سهّل الله عليكم أمركم. فقال: اكتب بيننا وبينك كتاباً. فدعا رسول الله(صلى الله عليه وآله) عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)فقال له اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: أمّا الرحمن فو الله ما أدري ما هو ولكن اكتب بسمك اللّهمّ. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلّا بسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبيّ(صلى الله عليه وآله): اكتب بسمك اللّهمّ، هذا ما قضى عليه محمّد رسول الله. فقال سهيل: لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب محمّد بن عبدالله. فقال النبيّ(صلى الله عليه وآله): إنّي رسول الله وإن كذّبتموني. ثمّ قال لعليّ(عليه السلام): امح رسول الله. فقال(عليه السلام): يا رسول الله، إنّ يدي لا تنطلق بمحو اسمك من النبوّة. قال له: فضع يدي عليها. فمحاها رسول الله(صلى الله عليه وآله)بيده.

ثمّ قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): يا عليّ، إنّك أبيت أن تمحو اسمي من النبوّة، فوالذي بعثني بالحقّ نبيّاً لتجيبنّ أبناءهم إلى مثلها وأنت حضيض مضطهد. فلمّا كان يوم

210

صفّين ورضوا بالحكمين كتب: هذا ما اصطلح عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. فقال عمرو بن العاص: لو علمنا أنّك أمير المؤمنين ما حاربناك، ولكن اكتب: هذا ما اصطلح عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): صدق الله وصدق رسوله(صلى الله عليه وآله)؛ أخبرني رسول الله(صلى الله عليه وآله) بذلك. ثمّ كتب الكتاب.

وممّا ينقل عن هذه القصّة أنّه «أقبل سهيل بن عمرو إلى النبي(صلى الله عليه وآله) فقال له: يا محمّد، إنّ أرقّاءنا لحقوا بك فارددهم علينا. فغضب رسول الله(صلى الله عليه وآله) حتّى تبيّن الغضب في وجهه ثمّ قال: لتنتهن يا معاشر قريش، أو ليبعثنّ الله عليكم رجلاً امتحن الله قلبه بالإيمان يضرب رقابكم على الدين. فقال بعض من حضر: يا رسول الله، أبوبكر ذلك الرجل؟ قال: لا. قال: فعمر؟ قال: لا، ولكنّه خاصف النعل في الحجرة. فتبادر الناس إلى الحجرة ينظرون من الرجل فإذا هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام)»(1)، ورُوي أنّه كان الذي أصلحه أمير المؤمنين(عليه السلام) من نعل النبيّ(صلى الله عليه وآله) شسعها؛ فإنّه كان قد انقطع فخصف موضعه وأصلحه.

وفي رواية اُخرى: أنّ أبابكر هو الذي قال: أنا هو يا رسول الله؟ قال(صلى الله عليه وآله): لا. وعمر هو الذي قال: أنا هو يا رسول الله؟ قال(صلى الله عليه وآله): لا، ولكنّه ذلكم خاصف النعل في الحجرة(2).

وعلى أيّ حال فبعد الصلح اعترض بعض على رسول الله(صلى الله عليه وآله) بأنّ الرؤيا إذن لم تصدق، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): هل قلت لكم إنّه في هذه السنة سندخل المسجد الحرام؟ إنّما قلت: إنّه سيتحقّق ذلك في وقت قريب. فنزلت الآية


(1) البحار 20: 360، الباب 20 من أبواب أحوال الرسول(صلى الله عليه وآله)، الحديث 9.

(2) راجع المصدر السابق: 364، الحديث 11.

211

المباركة وتحقّق الأمر في العام المقبل(1).

بقي الكلام في ذيل الآية المباركة وهو قوله: ﴿فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً﴾ فقد ذُكر لذلك تفسيران:

أحدهما: إنّ المقصود بذلك نفس صلح الحديبيّة، وقد يدلّ على ذلك قوله تعالى في أوّل السورة:﴿اِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً * هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾(2)، فإنّ أغلب الظنّ أنّ المقصود بالفتح المبين هو صلح الحديبيّة لا فتح مكّة ولا فتح خيبر؛ بدليل كون الآية ضمن آيات الحديبيّة، والتعبير بــ ﴿فَتَحْنَا﴾ تعبير بفعل ماض ظاهر في تحقّق الفتح، ولم يكن في أيّام الحديبيّة فتح غير صلح الحديبيّة. وقد نقل عن تفسير جوامع الجامع: أنّه حينما نزلت سورة الفتح عند الرجوع من الحديبيّة إلى المدينة قال أحدهم: ما هذا الفتح؟ لقد صددنا عن البيت وصدّ هدينا، فقال(صلى الله عليه وآله): بئس الكلام هذا، بل هو أعظم الفتوح، قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراع، ويسألوكم القضيّة ورغبوا إليكم في الأمان، وقد رأوا منكم ما كرهوا(3).

وقد يقال: ما معنى عدّ الصلح فتحاً؟

والجواب: أنّ هذا الصلح أوّلاً لم يكن بإصرار المسلمين بل أصبح مطلباً للمشركين فأعطى ذلك اُبّهة للإسلام؛ لأنّ المشركين خافوا سطوتهم ونزلوا إلى


(1) راجع لتفصيل القصّة البحار 20، باب غزوة الحديبيّة وبيعة الرضوان، وكذلك باقي كتب السيرة المفصّلة.

(2) س 48 الفتح، الآية: 1 ـ 4.

(3) تفسير نمونه 22: 16 نقلاً عن تفسير جوامع الجامع.

212

الصلح. وثانياً كان من بنود الصلح حرّية نشر الإسلام حتّى من قبل مسلمي مكّة في داخلها. وثالثاً إنّ الصلح صبغ الإسلام بصبغته الواقعيّة وهي عدم كونه دين قتال ونزاع، وأنّه يقبل بصلح عادل ما لم يضطرّ إلى دفع العدوّ بالقوّة، ومن هنا قوي الإسلام فيما بعد صلح الحديبيّة في زمن قصير نسبيّاً إلى أن فتحت مكّة بسهولة. وقد نقل عن الزهري أنّه لم يكن فتح أعظم من فتح الحديبيّة(1).

وممّا يؤيّد أيضاً كون المقصود بالفتح المبين صلح الحديبيّة: التعبير في ذيل الآية بقوله: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِين﴾؛ إذ نحن نعلم أنّ إنزال السكينة في قلوب المؤمنين كان في بيعة الرضوان التي وقعت قبيل الصلح حينما صمّم رسول الله(صلى الله عليه وآله)في ظاهر الحال على القتال وأخذ البيعة من المؤمنين، إذ قال الله: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً﴾(2).

إلّا أنّ كلّ هذا يكون شاهداً على كون المقصود بالفتح المبين هو صلح الحديبيّة، ولكن كلامنا الآن في الفتح القريب الوارد في قوله تعالى: ﴿فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً﴾ ولم نظفر حتّى الآن بشاهد قويّ على توحّد الفتح القريب مع الفتح المبين.

ثانيهما: ـ وهو أكبر الظنّ ـ أنّ المقصود بالفتح القريب في الآية هو عين الفتح القريب في ما قبلها في الآية: (18)، ومن الواضح من تلك الآية أنّ المقصود بالفتح القريب هو فتح خيبر؛ بدليل أنّه عُطف عليه قوله تعالى: ﴿وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا﴾(3)، وهو منصرف إلى المغانم المادّيّة، وهي لم تكن في صلح


(1) تفسير نمونه 22: 17 نقلاً عن تفسير الدرّ المنثور 6: 109.

(2) س 48 الفتح، الآية: 18.

(3) س 48 الفتح، الآية: 19.

213

الحديبيّة، ولكن وقعت بعد ذلك قريباً في فتح خيبر، وعليه فهذا الدليل إشارة ثانية إلى أمر غيبيّ مستقبلي آخر وهو فتح خيبر.

 

3 ـ اختراع وسائل النقل الحديثة:

قال تبارك وتعالى: ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفٌْ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَد لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُون﴾(1)، فإنّ هذه الآية تكون إخباراً عن اختراع وسائل النقل في زماننا بناءاً على ما قد يقال: من أنّ عطف قوله تعالى: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُون﴾ على ما يركب قديماً من الخيل والبغال والحمير ـ التي وصفها الله تعالى بكونها وسائل السفر والنقل إلى ما لم نكن نبلغه إلّا بشق الأنفس ـ ظاهر في كون المقصود بما يخلق بعد ذلك ممّا لم تكن البشريّة تعلم به هو وسائل السفر والنقل الحديثة، أمثال السيّارات والطائرات ممّا لم يكن ممكناً توضيحه حتّى على مستوى التصوّر للبشريّة وقتئذ إلّا بمثل: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُون﴾، وهذا لا يكون إلّا من قول إله نسبته إلى الماضي والحال والمستقبل سواء.

 

* * *

 


(1) س 16 النحل، الآية: 5 ـ 8.

214

 

معاجز النبيّ(صلى الله عليه وآله)غير القرآن

 

نشير باختصار إلى أنّ معاجز النبيّ(صلى الله عليه وآله) لم تكن منحصرة في القرآن بل كانت له معاجز اُخرى، ولكنّها لم تكن خالدة وإنّما كانت مختصّة بأوقاتها.

أمّا أنّنا كيف نستفيد منها مع اختصاصها بأوقاتها؟ فلذلك عدّة طرق:

الأوّل: الاستفادة من تواترها الإجمالي.

الثاني: الاستفادة من التواتر الذي قد يتّفق صدفة لمعجز معيّن من النقل الكثير الواسع، كما يدّعى ذلك في إعجاز انشقاق القمر.

الثالث: الاستفادة من المعاجز التي اُشير إليها في القرآن على أساس أنّها لو كانت كذباً لكان يتّضح بسهولة كذب القرآن في وقته، ولانتهى الإسلام في أوائل بزوغه، على أنّه من لا يعترف بنبوّة رسول الله(صلى الله عليه وآله) لا يشكّ في نبوغه وحكمته فلا يحتمل بشأنه الكذب الذي ينكشف في نفس الأيّام الاُولى، ولو فعل ذلك لسهل على الأعداء إبطال دينه بلا حاجة إلى الحروب الطاحنة للطرفين.

وهنا نشير إلى معجزتين من المعجزات المشار إليها في القرآن:

 

الاُولى ـ الإسراء:

قال تعالى: ﴿بسم اللَّه الرحمن الرحيم سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير﴾(1).

 


(1) س 17 الإسراء، الآية: 1.

215

ومن الواضح أنّ دعوى الإسراء إلى المسجد الأقصى والرجوع منه في ليلة واحدة لو كانت كذباً لأمكنهم فضح النبيّ(صلى الله عليه وآله) بأسرع وقت بتوجيه أسئلة إليه يعجز عن الإجابة عنها؛ لأنّه لم يكن في حياته قد سافر إلى المسجد الأقصى، ولو أجاب عنها بإجابات كاذبة فما كان أسهل كشف كذبه.

وقد ورد أنه(صلى الله عليه وآله) أخبرهم عن رؤيته عيراً لهم في موضع كذا وكذا، وأنّ لهم ماء في آنية فشرب(صلى الله عليه وآله) منه وأراق الباقي، وقد كانوا أضلّوا بعيراً لهم فلمّا أخبرهم قالوا: حتّى تجيء العير ونسألهم عمّا قلت. فقال لهم رسول الله(صلى الله عليه وآله): وتصديق ذلك أنّ العير تطلع عليكم مع طلوع الشمس يقدمها جمل أحمر. فلمّا أصبحوا أقبلوا ينظرون إلى العقبة وهم يقولون: هذه الشمس تطلع الساعة. فبيناهم كذلك إذ طلعت العير مع طلوع الشمس يقدمها جمل أحمر، فسألوهم عمّا قال رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فقالوا: لقد كان هذا، فقد ضلّ لنا جمل في موضع كذا وكذا ووضعنا ماءً وأصبحنا وقد اُريق الماء(1).

 

الثانية ـ انشقاق القمر:

قال تعالى:﴿بسم الله الرحمن الرحيم اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْر مُّسْتَقِرّ﴾(2).

ولا يمكن حمل الآية على شقّ القمر الذي يقال إنّه يقع بعنوان علامة على بدء القيامة ويكون من أشراطها، فإنّه لا معنى لافتراض حمل ذلك من قبل الكفّار على السحر، أو تكذيبهم لدين الإسلام، فالمقصود يقيناً هو الإعجاز الذي وقع في زمان رسول الله(صلى الله عليه وآله).

 


(1) تفسير كنز الدقائق 7: 304.

(2) س 54 القمر، الآية: 1 ـ 3.

216

ويا تُرى هل يعقل أن يدّعي رسول الله(صلى الله عليه وآله) كذباً انشقاق القمر ثمّ لا ينفضح كذبه؟

وقد يعترض على قصّة شقّ القمر بأنّها لو كانت واقعيّة لانعكست في كلّ تواريخ العالم؛ فإنّ انشقاق القمر ليس بأمر هيّن حتّى لا يجلب انتباه الكثيرين.

وقد أجاب عن ذلك الشيخ آية الله مكارم في پيام قرآن(1): بأنّ شقّ القمر لا يراه من كان في النصف الثاني من العالم؛ لخلو الاُفق منه لدى وجوده في النصف الآخر هذا من ناحية، ومن ناحية اُخرى كان وقته بعد نصف الليل في حين أنّ أكثر الذين يمكنهم مشاهدته في النصف الآخر كانوا نياماً، ومن ناحية ثالثة يمكن افتراض كون قسم من العالم قد استتر القمر فيه بالسحاب، ومن ناحية رابعة إنّ شقّ القمر ليس كالصاعقة ولا كالخسوف والكسوف الكليّين ممّا يجلب الأنظار بصوته أو بسبب مفاجأته العالم بالظلام، ومن ناحية خامسة لم تكن وسائل تدوين التاريخ وكتبه منتشرة في ذلك الزمان، إذن لم يكن عدم ذكر حادث ما في غير التاريخ الإسلامي دليلاً على عدمه، أو موجباً لإثارة التعجّب منه.

 

 

* * *


(1) پيام قرآن 8: 321 ـ 322.

217

 

 

 

 

 

إخبار أنبياء سابقين عن نبوّة رسول الله(صلى الله عليه وآله)

 

مضى أنّ من وسائل إثبات النبوّة هو إخبار نبيٍّ سابق عن نبوّة النبي المأخّر وهذا متحقّق بشأن نبوّة رسول الله(صلى الله عليه وآله)لإخبار التوراة والإنجيل عنها، وإن عُمّي عليها في التوراة والإنجيل الحاليين فلا شكّ في وجودها بوضوح في التوراة والإنجيل زمن الرسول(صلى الله عليه وآله) بدليل أنّ القرآن أخبر بذلك، في حين أنّه لو كان كاذباً لفضحه الكفّار في ذلك الزمان بأسهل ما يكون.

وقد أخبر القرآن عن ذلك في عدّة آيات:

1 ـ ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُون﴾(1).

2 ـ ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون﴾(2).

3 ـ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيل﴾(3).


(1) س 2 البقرة، الآية: 146.

(2) س 6 الأنعام، الآية: 20.

(3) س 7 الأعراف، الآية: 157.

219

 

 

 

 

 

تجميع قرائن مختلفة على نبوّة نبيّنا(صلى الله عليه وآله)

 

إنّ القرائن المختلفة من ظروف البيئة وظروف النبيّ وأوصافه وأوصاف أتباعه وما إلى ذلك تدلّ بمجموعها دلالة أقوى من دلالة الإعجاز على صدقه، من قبيل: صدقه وأمانته طيلة حياته قبل النبوّة من ناحية، ورفعة مستوى المعارف المعطاة من قبله من ناحية اُخرى، ومستوى دناءة بيئته علماً ومعرفةً وانهماكاً في الخرافات وما إلى ذلك ممّا لا يحتمل عادة انبثاق تلك الظروف عن نظم وقوانين وأخلاقيّات وقيم من أرفع ما يمكن أن يكون من ناحية ثالثة، وعلى الرغم من كون النبيّ نفسه اُمّياً لا يقرأ ولايكتب من ناحية رابعة، وأمثال ذلك من القرائن والدلائل.

فها هو نبيّنا محمّد(صلى الله عليه وآله) كان اُمّياً لا يقرأ ولا يكتب كما ورد ذلك في القرآن: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَاب وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُون﴾(1)، والفارق كان عظيماً بين مستوى المعارف الموجودة في القرآن ومستوى ثقافة الرسول(صلى الله عليه وآله)الظاهريّة والعاديّة قبل نبوّته: ﴿قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُون﴾(2).


(1) س 29 العنكبوت، الآية: 48.

(2) س 10 يونس، الآية: 16.

220

وكانت شبه الجزيرة العربيّة منهمكة في الضلال والخرافات والحروب والرذائل: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلال مُّبِين﴾(1).

وأيّ ضلال أشدّ من صنع الصنم بأيديهم من الخشب أو الحجر ثمّ عبادته: ﴿أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُون﴾(2) ؟ أو من صنع إله من التمر ثمّ أكلهم إيّاه؟ أو من وأد البنات: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُون أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُون﴾(3)؟ أو من الحروب والعداوات والاعتداءات الدائمة ضمن قوميّة واحدة: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَة مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا﴾(4)؟ أو من خرافيّة عباداتهم: ﴿وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَة﴾(5)؟ أو من تفاخرهم الخرافي بالعدد حتّى بالأموات: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِر﴾(6)، أو ما إلى ذلك؟ وبهذا اتضح انطباق دليل آخر من أدلّة النبوّة على نبوّة نبيّنا(صلى الله عليه وآله).

 

 

 

* * *


(1) س 3 آل عمران، الآية: 164.

(2) س 37 الصافّات، الآية: 95.

(3) س 16 النحل، الآية: 58 ـ 59.

(4) س 3 آل عمران، الآية: 103.

(5) س 8 الأنفال، الآية: 35.

(6) س 102 التكاثر، الآية: 1 ـ 2.

221

 

 

 

 

 

مضمون دعوة نبيّنا(صلى الله عليه وآله)

 

اتضح ممّا سبق في بحث النبوّة العامّة أنّ مضمون الدعوة قد يلقي الضوء على صدق الدعوة؛ فإنّ الفرق بين الدين المصطنع الكاذب والدين السماويّ الإلهي في مستوى المعارف والأفكار شاسع لا يخفى على ذي حِجر، بل إنّ من يكون من أهل المعرفة بمقدار ما يتذوّق المعارف الراقية والنُظُم الشامخة والحِكَم البالغة والمبادئ العالية يحسّ أنّ دلالة هذا الوجه على النبوّة الحقّة أقوى من دلالة الإعجاز، نعم دلالة الإعجاز عامّة لجميع الطبقات، ودلالة هذا الوجه مخصوصة بالطبقة الواعية للمعارف الراقية والنظم الشامخة، وهنا نقول: إنّ نفس علوّ معارف القرآن والإسلام ونُظُمهما ـ حتّى لو فصلناها عن باقي القرائن التي أشرنا اليها في الدليل الثالث ـ تلقي الضوء الواضح على صدق دعوة نبيّنا(صلى الله عليه وآله)، فلنشر ولو مختصراً إلى المعارف القرآنية والإسلاميّة الشامخة، سواء في جانب النُظُم والقوانين الحيّة التي تسعد البشريّة في الدنيا قبل الآخرة، أو في جانب الأخلاق وتهذيب النفوس، أو في جانب المراتب العرفانيّة الراقية، أو في جانب مبدأ التوحيد:

222

 

النظم الحياتيّة الراقية والمعارف الأخلاقيّة

المطروحتان في الإسلام والقرآن

 

ولنبدأ لتوضيح الفكرة بالإشارة إلى مشكلة الإنسانيّة المعذّبة والحلّ الذي أتى به القرآن والإسلام لذلك، ونفتتح الحديث بإلقاء نظرة مختصرة على بعض بديهيّات الساحة التي نعيشها في الوقت الحاضر والتي وصلتنا بشكل قاطع من وقتنا القريب، وانتهت إلينا أيضاً من التاريخ الحاكي عن الوقت البعيد، أو من الكُتب السماويّة الحاكية عمّا قبل التاريخ:

إنّ البشريّة المعذّبة لم تر حتّى الآن حياة اجتماعيّة طيّبة وهنيئة على وجه الأرض، ابتداءً بالمجتمع الأوّلي الصغير الذي وقعت فيه مشكلة هابيل وقابيل، وانتهاءً بزماننا هذا الذي تعتبر فيه الصهيونيّة من مفردات مشاكله وويلاته البارزة، فقد شكّلت مصدراً للظلم وهدر الحقوق بالنسبة للعرب والمسلمين معاً، وهم يقفون في وجهها مضحّين بالغالي والنفيس في سبيل درء الظلم عن أنفسهم واسترجاع حقوقهم.

وإنّنا نعتقد أنّ الحلّ الوحيد لجميع المصائب الاجتماعيّة والظلم والمحن والاضطهاد هو الإسلام.

إلّا أنّ الإسلام لم يطبّق حتّى يومنا هذا على وجه الأرض إلّا ضمن نقائص ثلاثة:

أوّلاً: إنّ جميع تطبيقاته من زمن رسول الله(صلى الله عليه وآله) وإلى ماتحقّق في زماننا من الحكومة الإسلاميّة المباركة في إيران ليس إلّا تطبيقاً على قطعة أرضيّة صغيرة بالقياس إلى الأرض المكتشفة لنا، والتي نتعامل معها في كلّ مرّة من مرّات

223

تطبيق الإسلام بما فيها التطبيق المبارك الذي صار في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله).

ثانياً: إنّ الحكومة الإسلاميّة لم تكن مستقرّة وهادئة البال في كلّ هذه المرّات، بل كانت في جميعها مبتلاة بالحروب أو ـ على الأقلّ ـ المعارضات الطاحنة من قبل الأعداء، سواء في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله) أو عهد عليّ(عليه السلام) في فترة حكمه وكذلك في العهد القصير للحسن(عليه السلام) وفي عهدنا في إيران الإسلام.

ثالثاً: إنّ التطبيق كان ناقصاً في جميع أعصر التطبيق بما فيها العصر الذهبي لتطبيق الإسلام في عهد رسول الله وقيادته، فصحيح أنّه كان معصوماً، ولكن المجتمع الذي كان على عاتقه نصرة القائد ودعمه والتعاضد معه في التطبيق لم يفعل ما كان عليه؛ ولهذا كثر المنافقون في عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله): ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَاب عَظِيم * وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيم﴾(1). ولو كانوا قد طبّقوا الإسلام يوم ذاك بشكل كامل لما كان من المعقول أن يحدّثنا التاريخ بارتداد الناس ـ إلّا نفراً قليلاً ـ بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)عن الإسلام الذي اُكمل بالولاية: ﴿أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾(2).

والداء الذي سبّب هذا العذاب للبشريّة واضح، وهو مؤلّف من أمرين: أحدهما: محدوديّة وضيق النعم الدنيويّة وملاذّها في نظر هذا الإنسان الذي خلق هلوعاً بالرغم من أنّنا لو عددنا تلك النعم لا نحصيها، والثاني حبّ الذات في الإنسان ممّا أدّى إلى تكالبه على ما يمكن أن يقع بيديه من النعم واللذائذ المادّيّة، فمجموع هذين الأمرين هو الذي خلق هذا التنافس المحموم على


(1) س 9 التوبة، الآية: 101 ـ 102.

(2) س 3 آل عمران، الآية: 144.

224

الدنيا والصراع من أجلها ممّا سبّب التعارض والتسابب والتقاتل وسائر أنواع الظلم والاضطهاد والحيف وما إلى ذلك.

وقدّم العالَم حلّين نظريّين لهذه المشكلة التي هي اُمّ المشاكل المادّيّة، ولا ثالث لهما:

أحدهما: نزع حبّ الذات بالتدريج من النفس البشريّة، وتبديله بحبّ المجتمع عن طريق تطبيق نُظُم الاشتراكيّة إلى أن ينتهي الأمر إلى الشيوعيّة.

وهذا الحلّ لايمكن تطبيقه لتعارضه مع أمر ذاتيّ يستحيل نزعه من البشريّة، وهو حبّ الذات.

وكان على رأس أصحاب هذه النظريّة المعسكر الاشتراكي الذي كان مسيطراً على إحدى القوّتين المتنافستين للهيمنة على العالم الثالث، وقد انهار في زماننا شرّ انهيار، وليس ذلك إلّا لكون نظريتهم خياليّة بحتاً لا تقبل التطبيق.

ثانيهما: عكس الأوّل تماماً، وهو نظريّة إعطاء الحرّيات الأربع ـ الحرّية السياسيّة والاقتصاديّة والفكريّة والشخصيّة ـ بأقصى ما يمكن.

وهذه هي النظريّة التي أخذ بها المعسكر الآخر في العالم في مقابل المعسكر الاشتراكي وهو المعسكر الرأسمالي، وكانت نتيجتها تصاعد التنافس المحموم في العالم على أثر الحرّيات المفروضة ممّا أدّى إلى تعقّد مشكلة البشريّة بأقصى ما يمكن أن يكون.

أمّا العلاج المطروح من قبل القرآن أو الاسلام فهو عبارة عن تضافر أمرين:

الأوّل: دلالة الإنسان على عدم انحصار النعم والملاذّ المادّيّة ـ من المأكولات والمشروبات والمنكوحات وما إلى ذلك ـ التي هي أقرب إلى نفس الإنسان الساذج والبسيط بالنعم المحدودة في الدنيا، وأنّ هناك أمثالها بل أعلى منها بمراتب لا تحصى في العالم الآخر، والتنافس الظالم في هذا العالم يمنع عن

225

التنافس في تلك، فالأفضل ـ حتّى لمن لا يدرك إلّا الملاذّ المادّيّة ـ صرف عنان التنافس إلى تلك النعم الخالدة؛ اذ لا يخلق التنافس فيها أيّ مشكلة من المشاكل، بل التنافس فيها يجرّ الإنسان إلى الأعمال الفاضلة والحميدة لا إلى الشرّ والظلم. ألا وهي الجنّة التي عرضها السماوات والأرض اُعدّت للمتّقين.

والآيات التي تشير إلى نعم الجنّة اللامتناهية كثيرة، نكتفي هنا بالإشارة إلى واحدة منها، قال الله تعالى: ﴿إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُر مُّتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْس مِن مَّعِين * بَيْضَاء لَذَّة لِّلشَّارِبِينَ * لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض يَتَسَاءلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ ءَإِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ * ءَإِذا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً ءَإِنّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاُْولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَل الْعَامِلُون﴾(1).

ولم ينفِ القرآن حالة التنافس الموجودة في ذات البشريّة ـ التي هي مثار الفتن بالنسبة لنعم الدنيا ـ ولم يردع عنها، بل صرفها من النعم الضيّقة والفانية التي يؤدّي التنافس فيها إلى التكالب والتضارب إلى تلك النعم التي لا يكون طريق الوصول إليها إلّا ترك الظلم والطغيان، وأمر بالتنافس فيها ورغّب البشريّة في ذلك كما قال: ﴿إِنَّ الاَْبْرَارَ لَفِي نَعِيم * عَلَى الاَْرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيق مَّخْتُوم * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ


(1) س 37 الصافات، الآية: 40 ـ 61.

226

فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون﴾(1)، و التنافس هنا ليس كالتنافس في اُمور الدنيا مثاراً للمشاكل لأنّ ازدياد أحد من تحصيل تلك النعم لا يَنقص شيئاً من الآخر.

الثاني: فتح بصيرة الإنسان على اللذائذ المعنويّة التي تفوق للعارف بها اللذائذ المادّيّة بمراتب لا تحصى، وتزيد تلك المراتب وتنقص بقدر زيادة العرفان في الإنسان ونقصانه.

وشرح ذلك يطول ولكنّنا نكتفي في ذلك بالإشارة إلى بعض النماذج من القرآن؛ لتكون خير شاهد على حلّ الإسلام لمشكلة الإنسانيّة المعذّبة بأرقى مستوى من مستويات الأخلاق وتهذيب النفوس:

 

الأوّل ـ شكر المنعم:

قال الله تعالى:﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾(2)، وقال عزّ وجلّ: ﴿وَوَصَّيْنَا الاِْنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْن وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون﴾(3).

ولتوضيح رفعة التصوير القرآني لمسألة شكر المنعم ـ بما لا يصل إليه العقل البشري من دون الاستعانة بمبدأ الوحي وبالتربيّة القرآنيّة ـ نبرز هنا عدّة نكات:

 


(1) س 83 المطفّفين، الآية: 22 ـ 26.

(2) س 17 الإسراء، الآية: 23 ـ 24.

(3) س 31 لقمان، الآية: 14 ـ 15.

227

النكتة الاُولى: لئن كان احترام الأبوين إلى حدّ التذلّل لهما والاهتمام بمداراتهما وبقضاء حوائجهما يعتبر أمراً طبيعيّاً في المجتمع الإسلامي، فهذا أمر مأخوذ من القرآن ومن مبدأ الوحي والإسلام، ولو أردنا أن نعرف ما هو الذي يترشّح في هذا الموضوع من عقل الإنسان غير المستنير بنور القرآن يجب أن ننظر إلى المجتمع الغربي الذي لم يتربّ ولو بمقدار تربيتنا الناقصة على يد القرآن. وها نحن نرى أنّ البارّ من أولادهم غاية ما يفعل لأبيه أو اُمّه العجوزين العاجزين هو أن ينقله إلى دار العجزة أو المستوصف الحكوميين، ولن يعود الشابّ إلى ذاك المكان عادةً إلّا بعد إبلاغه خبر موته، فيعود بهدف بيع جثمانه للمستشفى. كما نرى كثيراً منهم يفضّل تربية كلب وتبنّيه على تربية ولد واحتضانه؛ لأنّ الكلب له صفة الوفاء والولد لا وفاء له ولو بمقدار وفاء الكلب، هذا هو مستوى إدراك من لم يتربّ تربية قرآنيّة.

النكتة الثانية: إنّ الله تبارك وتعالى قرن الإحسان بالوالدين بعبادته سبحانه وتعالى ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أن لاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾، ويبدو لنا في سرّ ذلك أنّ الله هو المنعم الحقيقي، وأوّل نعمه علينا هو نعمة الوجود، فهو الخالق لنا، والأبوان لهما دخل أيضاً في خلقنا وإيجادنا في حين أنّ ذلك خلق وإيجاد مجازي لا حقيقي؛ إذ ليسا إلّا من المقدّمات الإعداديّة التي كانت مقدّميّتهما أيضاً من إفاضات الله سبحانه، وقد يتّفق أنّهما لم يعملا ما عملا لأجلنا بل لأجل شهوتهما الجنسيّة، وقد لا تتحمّل الاُمّ مشاقّ الحمل والوضع والرضاعة إلّا لمشتهياتها النفسيّة أيضاً، ولكن مع هذا كلّه أوجب هذا المقدار من الدخل لإيجاد الأولاد شكرهم لهما إلى حدّ خفض جناح الذلّ لهما من الرحمة.

ولئن كان الشابّ الغربي البعيد عن تعاليم القرآن لا يتحمّلهما لدى الكبر إلّا بمقدار النقل إلى شبه المستشفيات ثُمّ عيادتهما بعد موتهما لبيع جسدهما، فإنّ

228

القرآن يربيّ أتباعه على عدم إبراز التضجّر من احتضان الأبوين لدى الكبر ولو بأبسط شيء، وهي قولة ﴿اُفّ﴾ بل أوجب عليهم خفض جناح الذلّ لهما من الرحمة.

والملاحظ أنّ الأمر بخفض جناح الذلّ للأبوين من الرحمة صدر من شريعة نهت على العموم عن التذلّل لغير الله، فنهت عن السجود لغير الله، وعن تقبيل اليد إلّا يداً اُريد بها وجه رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وعن السلام على الغنيّ بغير وجه السلام على الفقير لاعتبار ذلك نوع تذلّل للغنيّ.

النكتة الثالثة: إنّك لا ترى قانوناً مفروضاً من قبل سلطان أرضيّ، يطلب من الرعيّة احترام عدوّه والعطف عليه والتعاطف معه بالرحمة والحنان لا لشيء إلّا لحقّ الاُبوّة على الولد، في حين أنّك ترى القرآن قد أمر الولد بذلك بشأن أبويه حتّى ولو كانا مشركين، نعم استثنى عدم طاعتهما في نفس الشرك، وأنت تعلم أنّ من أعدى أعداء الله تعالى هو المشرك به عزّ وجلّ. وأمّا ما ورد في الروايات بصدد احترام حقّ الاُبوّة فقد بلغ مستوى أنّه لا يقاد الوالد بقتل الولد، في حين أنّه يقاد الولد بقتل الوالد(1)، ويقاد أيّ شخص ولو كان عزيزاً بقتل أيّ شخص ولو كان وضيعاً.

 

الثاني ـ الوفاء بالعهد:

قال الله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾(2).

وقال عزّ وجلّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود﴾(3).

 


(1) وسائل الشيعة 29: 77 ـ 80، الباب 32 من قصاص النفس.

(2) س 17 الإسراء، الآية: 34.

(3) س 5 المائدة، الآية: 1.

229

وقال عزّ مِن قائل: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْض وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً﴾(1).

وقال تعالى:﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين﴾(2).

وقال عزّ مِن قائِل:﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُون﴾(3).

وقال عزّ اسمه:﴿إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين﴾(4).

فبالله عليك هل تعرف سلطاناً أرضيّاً غير متربٍّ في مدرسة القرآن عندما أعطى الأمان لأعدى أعدائه في حالة الحرب لكي يوضّح له حججه، فلم يقتنع بها، يأمر بإرجاعه إلى مأمنه وفاءً بعهد الأمان، وبعد ذلك يُجوّز محاربته؟ أو يحتمل بشأن ما يترشّح من العقل الذي لم ير نوراً من القرآن والوحي غير أن يقول: مادام هذا العدوّ المحارب المسلّح لم يقتنع بحججنا فعليكم أن تقطّعوه إرباً إرباً، وإيّاكم أن تفسحوا له المجال للوصول إلى مأمنه؟

ولا بأس هنا بذكر بعض روايات هذا الباب من قبيل ما روي عن الصادق(عليه السلام)أنّه قال: «لو أنّ قوماً حاصروا مدينة فسألوهم الأمان فقالوا: لا. فظنّوا أنّهم قالوا: نعم. فنزلوا إليهم، كانوا آمنين»(5).

وما ورد بسند تام عن ابن أبي يعفور عن الصادق(عليه السلام): «أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)


(1) س 4 النساء، الآية: 21.

(2) س 9 التوبة، الآية: 4.

(3) س 9 التوبة، الآية: 6.

(4) س 9 التوبة، الآية: 7.

(5) وسائل الشيعة 15: 68، الباب 20 من جهاد العدوّ، الحديث 4.

230

خطب الناس في مسجد الخيف فقال: نضّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلّغها مَن لم يسمعها... المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمّتهم أدناهم»(1).

وفي نقل آخر: «المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم، وهم يدٌ على مَن سواهم، يسعى بذمّتهم أدناهم»(2)، ومعنى سعي أدناهم بذمّتهم أنّ الأمان المعطى من قبل أدناهم يجب تنفيذه حتّى على أعلاهم، كما أنّ العالي والداني يتكافأ دمهما، فيقتل العالي وهو في أعلى مستوى اجتماعي بأدناهم نسباً وحسباً. فهل يتصوّر إمكان إدراك المجتمعات الغربيّة لهذا المستوى الأخلاقي في حين أنّ من أبرز مشاكلهم هو التمييز العنصري بين البيض والسود، وكأنّما الأسود عندهم في مرتبة نازلة من البشريّة ومتوسطة بين الإنسان والحيوان، بل أقلّ من الحيوان؛ لأنّهم لا يحترمون الأسود بقدر ما يحترمون الكلب؟

 

الثالث ـ التوبة :

أفترى مخلوقاً غير متربّ بتربية القرآن يعفو عن مجرم ارتكب بحقّه شتّى ألوان الظلم والطغيان والإجرام على طول حياته، ثمّ تاب وطلب منه العفو في آخر لحظة؟!

ولكنّك ترى القرآن وهو يخاطب المذنبين ـ حتّى مرتكبي الكبائر ومضيّعي أعمارهم بالانهماك في المعاصي ـ بتعبير عاطفي بليغ لو لم يكن يمتلك إلّا حلاوة عطفه على عدوّه الذي أراد التوبة لكفاه عظمةً وجمالاً، وها هو قوله


(1) وسائل الشيعة 29: 75 ـ 76، الباب 31 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 2.

(2) المصدر السابق، الحديث 3.