293

تعليلية بل يجب أن يقال: إنّ حيثية الملك إن كانت في إنشاء المتعاقدين تقييدية ومن دون خصوصية الشخص في عالم المنشأ فلا إشكال في صحّة العقد بالإجازة فانّه في واقعه رجوع إلى القسم الأوّل من الفضولي وهو الذي يبيع للمالك.

اللهم إلّا في مجرّد تطبيق خاطىء كان ضمّه إلى البيع من قبيل ضمّ الحجر إلى جنب الإنسان وإن لم تكن الحيثية تقييدية أو كانت خصوصية الشخص أيضاً ملحوظة في لبّ الإنشاء فلا بد من مراجعة بناء العقلاء لنرى هل يحكمون هنا بالصحّة بعد تعقّب إجازة المالك أو لا؟ والظاهر انّهم يحكمون بالصحّة.

بقي الكلام في الفرع الذي نقلنا عن الشيخ الأعظم (رحمه الله) القول ببطلان البيع فيه وهو ما لو باع مال غيره لنفسه من دون ادّعاء الملكية وكذلك عكس هذا الفرع وهو ما لو اشترى شيئاً لغيره بمال نفسه.

ولنقدّم الحديث عن الفرع الثاني وبه يتّضح الحال في الفرع الأوّل.

فنقول: لو اشترى شيئاً لغيره بمال نفسه ففيه إشكالات ثلاثة:

الأوّل ـ انّ هذا ليس بيعاً لانّ ما وقع خلاف حقيقة المبادلة فانّ المقصود بالمبادلة هي المبادلة في عالم الملكية وهي لا تكون إلّا بإنشاء إدخال كل من العوضين في ملك من أخرج من ملكه العوض الآخر، في حين انّه قصد في ذلك الفرع خلاف ذلك.

ويمكن الجواب على ذلك إمّا بدعوى انّ البيع متقوّم بالتبادل بلحاظ أحد الشخصين ولا يشترط فيه التبادل بلحاظ كليهما أي يكفي ان يدخل أحد العوضين في ملك من خرج من ملكه العوض الآخر وإن لم يتحقّق ذلك بلحاظ الشخص الآخر، وذلك من قبيل شراء من ينعتق عليه حيث يدخل الثمن في ملك من يخرج من ملكه العبد ولا يدخل العبد في ملك من يخرج من ملكه الثمن، فبناء

294

على فرض كون المشتري لم يقصد إنشاء تملّكه للعبد وتسمية ذلك ـ رغم هذا ـ بالبيع يكون هذا بيعاً بمعنى التبادل بلحاظ ملكية البائع فحسب، نعم لو فرضنا انّ المشتري أيضاً ينشىء التبادل بلحاظ نفسه وإن كان لا يدخل شرعاً العبد في ملكه يخرج مثال شراء من ينعتق عليه عن المصداقية لما فرضناه من إنشاء التبادل بلحاظ أحد الشخصين فحسب.

وإمّا بدعوى انّنا لو أصررنا على أنّ معنى البيع متقوّم بالتبادل من كلا الطرفين فليكن ما نحن فيه خارجاً عن حقيقة البيع وليكن عقداً مستقلاً تشمله إطلاقات ﴿اوفوا بالعقود﴾ فيتمّ بذلك دخول المثمن في ملك الشخص الثالث رغم انّ الثمن يكون على المشتري الذي لم يملك المثمن.

الثاني ـ انّ شراء شيء لغيره بمال نفسه لا يمكن تصحيحه بمثل ﴿اوفوا بالعقود﴾ لانّ أدلّة الوفاء بالعقد تنصرف بمناسبات الحكم والموضوع عن فرض كون النتيجة المثبّتة في العقد لها ارتباط بشخص ثالث خارج عن دائرة العقد مع إغفال قبوله لذلك، فأدلّة وجوب الوفاء بالعقد انّما تعالج المسألة من زاوية المتعاقدين فحسب في حين انّ مفاد العقد في ما نحن فيه له علاقة بشخص ثالث وهو المشترى له، صحيح انّ هذا العقد كان في صالح الشخص الثالث وليس ضدّه لكن هذا لا يشفع لنفوذ هذا العقد بحكم الإطلاقات رغم اجنبية الشخص الثالث عن القبول.

إلّا انّ هذا الإشكال يمكن فصله عن أصل المسألة التي نحن بصددها كما لو افترضنا انّ المشتري كان وليّاً على المشترى له أو وكيلاً عنه في هكذا شراء كي لا يأتي إشكال ارتباط العقد بشخص اجنبي فنبقى نحن والتمسّك بإطلاق أدلّة الوفاء بالعقد لتصحيح شراء شيء لغيره بمال نفسه.

295

الثالث ـ ان يقال: إنّ دليل الوفاء بالعقد مقيد بفرض مشروعية متعلّق العقد في نفسه إمّا لانّه حكم حيثيّ لا يدلّ إلّا على وجوب احترام العقد من حيث ارتباطه بالمتعاقدين ولا ينظر إلى مشروعية المتعلّق وإمّا لانّه حكم ثانوي ورد في إطار الأحكام الأوّليّة فلا إطلاق له لفرض مخالفة متعلّقه للأحكام الأوّليّة ومشروعية تمليك مال لغيره بثمن يخرج من ملكه أوّل الكلام.

والجواب: انّه إن قصد بذلك التشكيك في مشروعية تمليك الشخص الثالث فلا شكّ في مشروعيته بمثل إهداء المال إليه، وإن قصد بذلك التشكيك في تمليك الثمن للشخص البائع فلا إشكال أيضاً في مشروعية ذلك ولو بمثل الإهداء إليه، وان قصد بذلك التشكيك في جعل التقابل بين هذين الأمرين اللذين هما مشروعان في حد انفسهما فمن الواضح انّ هذا التقابل والربط هو عين العقد وإيجاد العقدة بين قرارين وإطلاق الوفاء بالعقد يشمله، ومعنى قولنا: لا بد من إحراز مشروعية متعلّق العقد قبل التمسّك بإطلاق دليل الوفاء بالعقد هو ضرورة إحراز مشروعية ذات القرارين، أمّا مشروعية الربط بين القرارين فانّما هي تستفاد من دليل الوفاء بالعقد.

فإذا صحّ بهذا البيان شراء شيء لغيره بمال نفسه عندما كان من حقّه ذلك بالولاية عليه أو الوكالة عنه أمكن تصحيحه في مورد ما إذا فعل ذلك فضولة بالإجازة المتأخّرة، فلو اشترى شيئاً لغيره بمال نفسه ثمّ أجاز الغير ذلك نفذ العقد إذ لا يوجد في ذلك إشكال غير الإشكالات التي دفعناها إلّا شيء واحد وهو انّه بناء على رأي السيد الخوئي الذي يصحّح عقد الفضول بانتساب ذات العقد إلى المجيز بالإجازة يلزم في المقام ان يصبح العقد ثلاثي الأطراف فهو من ناحية مرتبط بالبائع ومن ناحية اُخرى مرتبط بالمشترى ولا بد في تصحيح العقد من

296

فرض نفوذه حتى بلحاظ هذا الارتباط لانّ المفروض انّ الثمن يخرج من ملكه، ومن ناحية ثالثة مرتبط بالمشترى له والمفروض انّ الإجازة تنسب العقد إليه ولكنّنا نقول: أي بأس في افتراض كون عقد ما ثلاثي الأطراف؟! فمثلاً لو اتفق الثلاثة منذ البدء على عقد من هذا القبيل فأوجب البائع تمليك المثمن للشخص الثالث بثمن على المشتري وقبل المشتري والشخص الثالث كلاهما ذلك فأي مانع من صحّة هذا العقد المتقوّم بإيجاب وقبولين؟!

وبهذا العرض يتضح إمكان تصحيح الفرع الأوّل أيضاً وهو ما لو باع مال الغير لنفسه أو اشترى لنفسه بمال الغير ثم أمضى الغير هذا العقد بهذا النحو أي بان يدخل الثمن أو المثمن في ملك الفضولي.

شراء الشيء بذمّة غيره:

ولنختم الحديث عن عقدالفضولي لنفسه بما لو اشترى شيئاً بثمن في ذمّة غيره.

فإن كان مقصوده بذلك الشراء لذاك الغير فهذا خارج عن عقد الفضولي لنفسه وداخل في القسم الأوّل من عقد الفضولي ولا كلام جديد فيه.

وإن كان مقصوده بذلك الشراء لنفسه فقد يقال: إنّه وقع التهافت بين العنوانين: عنوان كون الشراء لنفسه وعنوان كون الثمن في ذمّة غيره فهل يبطل أحد العنوانين أو يبطل العقد أم ماذا؟ وكذلك الكلام في عكس هذه المسألة وهو الشراء لزيد بثمن في ذمّة نفسه:

والتحقيق في المسألة الاُولى وهي الشراء لنفسه بثمن في ذمّة غيره: إنّه إن كان يقصد بذلك إشغال ذمّة الغير بنفس هذا الشراء فهذا هو الفرض الذي يمكن أن يقال فيه بالتهافت بين العنوانين والواقع انّه يكون من سنخ الشراء لنفسه بمال خاص لغيره، فلو قيل بالبطلان هناك لعدم صدق المبادلة ثبت البطلان هنا.

297

وإن كان يقصد بذلك دعوى مالكيته للثمن على ذمّة الغير كذباً فهو يشتري المثمن بهذا الثمن الذي ادّعى مالكيته دخل ذلك في القسم الثالث من الفضولي الذي عرفت انّه لا يرد عليه الإشكال بكون البيع صورياً، بل قد قصد البيع بالمعنى الحقيقي للكلمة فلو أجاز ذلك الغير هذا العقد لنفسه انشغلت ذمّته بالثمن بنفس هذه الإجازة، أمّا لو لم يجز ذلك فهنا تتجّه ثلاثة أسئلة:

الأوّل ـ هل يقع العقد للفضولي وتنشغل ذمّته بالثمن بلا حاجة إلى إجازته؟

والجواب بالنفي وذلك لفقدان الرضا على الأقل.

والثاني ـ هل يقع العقد للفضولي وتنشغل ذمّته بالثمن إذا أجاز؟

والجواب بالنفي لانّ الثمن الذي يفترض انشغال ذمّة الفضولي به غير الثمن الذي فرض في ذمّة الشخص الثالث فانّ الكليّ يتحصّص بالإضافة إلى الذمم وتصحيح بيع الفضولي بالإجازة مشروط بعدم تبدّل الثمن أو المثمن وإلّا فلا بد من عقد جديد.

والثالث ـ لو انّ الفضولي صادف ان ملك بعد هذا العقد الفضولي الذي أوقعه مالاً في ذمّة ذاك الغير يساوي الثمن الذي فرضه في ذاك العقد الفضولي فهل يدخل ذلك في مسألة من باع شيئاً ثم ملكه فبإمكانه ان يجيز الآن ذاك البيع الفضولي أو لا؟

والجواب بالنفي لانّ الثمن هنا أيضاً غير الثمن وقد قلنا: إنّه لا بد في تصحيح بيع الفضولي بالإجازة من وحدة الثمن أو المثمن وإلّا فلا بد من عقد جديد.

وهنا وإن كان الثمنان مضافين إلى ذمّة واحدة لكن الثمن الأوّل كان ذمّياً خيالياً والثمن الثاني ذميّ حقيقي، ولا يتحد الثمن الحقيقي بالثمن الخيالي فليس

298

هذا حاله حال المال الشخصي الذي غصبه أحد فباعه ثم ملكه فالوحدة هناك محفوظة حقيقة بخلاف ما نحن فيه.

وفي المسألة الثانية وهي ما لو اشترى لغيره بثمن في ذمّة نفسه نقول: لو كان المقصود بذلك إشغال ذمّة نفسه بنفس هذا الشراء لحق ذلك بما إذا اشترى لغيره بثمن شخصي من ملكه، فلو قلنا بالبطلان هناك لعدم صدق المبادلة اتّجه البطلان هنا أيضاً.

ولو كان المقصود بذلك دعوى انّ الغير يملك مالاً على ذمّته هو فاشترى له بذاك المال شيئاً فإن كان صادقاً في دعواه دخل ذلك في القسم الأوّل من الفضولي، وإن كان كاذباً في دعواه لم يمكن لحوق الإجازة من قبل الغير لانّ الثمن خيالي لا وجود له ولا لحوق الإجازة من قبل نفس الفضولي بأن يصبح المتاع له وتنشغل ذمّته هو بالثمن حقيقة بسبب الإجازة، وذلك لما قلناه من عدم التوحّد بين الثمن الحقيقي والثمن الخيالي فلا مورد للإجازة.

هذا تمام الكلام في أصل عقد الفضولي.

الإجازة كاشفة أو ناقلة؟:

والآن يقع الكلام في أثر الإجازة هل هو حصول النقل والانتقال منذ بدء العقد أو هو حصول ذلك من حين الإجازة؟ والأوّل يسمى بالكشف والثاني يسمى بالنقل.

وقد يفترض انّ الكشف أو ما في حكمه على ثلاثة أقسام:

الأوّل ـ افتراض اعتبار الملك من حين العقد كشفت عنه الإجازة وهذا كشف حقيقي.

والثاني ـ افتراض انّ الاعتبار يتأخّر إلى حين الإجازة ولكن المعتبر عبارة

299

عن الملك من حين العقد.

والثالث ـ كون الاعتبار والمعتبر كلاهما بلحاظ حين الإجازة لكن ترتّب آثار الملك السابق حين العقد وأحكامه بقدر الإمكان وهذا كشف حكمي.

والثاني في الحقيقة وسط بين الأمرين.

مقتضى القواعد والأدلّة العامّة:

وكلّ هذه الوجوه للكشف خلاف الأصل فانّ مقتضى الأصل عدم الاعتبار السابق وعدم اعتبار المعتبر السابق وعدم تحقّق آثار الملك السابق. اذن فالكشف هو الذي يكون بحاجة إلى الدليل.

والقسم الأوّل من الكشف قد صوّر بوجوه أربعة:

الأوّل ـ فرض الإجازة أمارة بحتة كاشفة عن الملك من دون أيّ تأثير لها.

والثاني ـ فرض الإجازة شرطاً متأخّراً فالإجازة هي التي تؤثر في حصول الملك وليست كاشفة بحتة لكنّها شرطٌ متأخّر للملك قد حصل مشروطها قبلها، واستحالة الشرط المتأخّر انّما هي في التكوينيات لا التشريعيات.

والثالث ـ فرض انّ الشرط هو تعقّب الإجازة وقد كان هذا الوصف ثابتاً منذ البدء.

والرابع ـ فرض انّ الإجازة تكشف عن الرضا التقديري الذي كان ثابتاً حين العقد ويكون الرضا التقديري هو المصحّح للعقد.

وهذا هو المنقول عن المحقّق الرشتي (رحمه الله)(1).

وهذه الوجوه الأربعة يمكن افتراض إرجاع بعضها إلى بعض كأن يقصد


(1) نبذة من كلام المحقّق الرشتي موجودة في كتاب البيع للسيد الإمام (رحمه الله) 2: 163.

300

بالأوّل وهو أمارية الإجازة كونها كاشفة عن وصف التعقّب وهو الوجه الثالث، أوكاشفة عن الرضا التقديري وهو الوجه الرابع، أو يقصد من يقول بالوجه الثاني وهو شرطية الإجازة دخل وصف التعقّب على أساس انّ الشروط كلها ترجع إلى دخل عنوان التعقّب، أو التقدّم، أو التقارن دون دخل نفس الشرط وإلّا رجع إلى الجزء وبذلك يتحد الوجه الثاني والثالث.

ولكنّنا هنا نفترضها وجوهاً متقابلة لاستيعاب مناقشة الصور المتصوّرة في المقام.

وقد ناقش السيد الخوئي كل هذه الوجوه الأربعة(1).

أمّا الوجه الأوّل ـ فناقشه بانّه وإن كان معقولاً ثبوتاً ولكنّه خلاف ظاهر الدليل فانّ ظاهر الأدلّة دخل الإجازة في الحكم لا كاشفيتها البحتة.

أقول: إن لم يقصد بالوجه الأوّل ما يرجع إلى الوجه الثاني أو الثالث ففرض الأمارية البحتة للإجازة من دون دخل لها ولو بمثل عنوان وصف التعقّب مثلاً غير متصوّر ثبوتاً، لانّ حكم عقد الفضولي ليس مجعولاً بنحو القضية الخارجية كي نحتمل انّ الإجازة انّما أخذت كعنوان مشير إلى المصاديق الصحيحة من العقد ولا نتصوّر عنواناً آخر في المقام ملازماً للإجازة يكون هو المصحّح للعقد كي يفترض انّ الإجازة عنوان مشير إلى ذاك الملازم المتقدّم عليه زماناً، ولا نحتمل كون الإجازة ثابتة دائماً في موارد صحّة العقد من باب تكرّر الصدف فينحصر الوجه المحتمل ثبوتاً في المقام دخل الإجازة في الحكم، أو ما يلازمها من مثل وصف التعقّب، أو الرضا التقديري لو قلنا به وهو رجوع إلى الوجهين الآخرين.


(1) راجع المحاضرات 2: 340 ـ 342، ومصباح الفقاهة 4: 133 ـ 137.

301

وعلى أيّة حال فقد اتضح بهذا العرض بطلان الدليل الأوّل من الدليليناللذين نقلهما الشيخ الأنصاري (رحمه الله)(1) عن المحقّق والشهيد الثانيين على الكشف من أنّ قوله تعالى: ﴿اوفوا بالعقود﴾ دلّ على أنّ العقد هو تمام الموضوع فغاية الأمر انّ تمامه في الفضولي يعلم بالإجازة، لا انّ الإجازة هي جزء المؤثّر وإلّا لكان الوفاء وفاء بمجموع العقد والإجازة لا بالعقد خاصّة.

وهذا الدليل كما ترى في غاية الضعف فانّه لو كان العقد تمام الموضوع للحكم لنفذ عقد الفضولي حتى مع عدم الإجازة، ولا معنى لافتراض انّ الإجازة كشفت عن تمامية الموضوع فليس هذا الوجه إلّا تهافتاً في الكلام، وانّما الدليل المعقول نسبياً للمحقّق والشهيد الثانيين على الكشف هو الدليل الثاني الذي نقله الشيخ (رحمه الله)عنهما(2) وسيأتي في المستقبل بيانه إن شاء الله.

وأمّا الوجه الثاني ـ وهو كون الإجازة شرطاً متأخّراً فقد ناقش السيد الخوئي في ذلك باستحالة الشرط المتأخّر، وافتراض اختصاص استحالته بالتكوينيات دون التشريعيات يشبه افتراض استحالة التناقض مثلاً بالتكوينيات دون التشريعيات، واستحالة تأثير المتأخّر في المتقدّم حكم عقلي لا يقبل التخصيص.

أقول: إنّ نسبة الموضوع إلى فعلية الحكم لو كانت نسبة السبب إلى المسبب أو العلّة إلى المعلول بالمعنى الحقيقي للكلمة صحّ كلام السيد الخوئي في المقام، ولكن الأمر ليس كذلك وانّما الشيء بتمامية شرائط الموضوع فيه يصبح طرفاً للحكم من دون أن يؤثر ذلك في إيجاد شيء اسمه فعلية الحكم على ما هو منقّح


(1) و (2) راجع المكاسب 1: 132، حسب الطبعة المشتملة على تعليق الشهيدي.

302

في محلّه، أمّا بلحاظ عالم ملاكات الأحكام فأخذ شيء ما في عالم الجعل شرطاً متأخّراً لا يعني بالضرورة حصول مصلحة مثلاً قبل تحقّق ما يؤثّر فيها، وشرح الكلام في ذلك موكول إلى محله.

نعم هذا الوجه يكون خلاف ظاهر دليل الوفاء بالعقد لانّه ظاهر في الشرط المقارن دون المتأخّر.

وأمّا الوجه الثالث ـ وهو فرض كون الشرط هو التعقّب فهو في نظر السيد الخوئي أمر معقول ثبوتاً وبه يحلّ إشكال الشرط المتأخّر في مثل غسل المستحاضة، أو شرطية الأجزاء المتأخّرة للصلاة في صحّة الأجزاء السابقة ولكنه يقول: إنّ شرطية تعقّب الإجازة في المقام خلاف ظاهر الدليل والوجه في ذلك على ما يظهر من المحاضرات انّ الدليل ظاهر في شرطية نفس الإجازة والرضا لا عنوان تعقّبه، وأمّا عبارة المصباح فلا تخلو من تشويش ويحتمل أن يكون المقصود من عبارة المصباح كون ذلك خلاف الظاهر لوجهين.

أحدهما ما في المحاضرات: من أنّ ظاهر الدليل شرطية نفس الإجازة والرضا لا شرطية عنوان منتزع تضايفي من قبيل التعقّب.

والثاني: انّه لو صرف الدليل إلى شرطية عنوان متضايف من هذا القبيل فظاهره انّ الشرط هو التقارن لا التعقّب، لانّ الدليل ظاهر في لزوم مقارنة الرضا لحصول النتيجة.

أقول: امّا حلّ إشكال الشرط المتأخّر في مثل غسل المستحاضة بالإرجاع إلى شرط وصف التعقّب بعد فرض تفسيره بمعنى يثبت قبل مجيء الغسل (كعنوان الصوم الذي سيعقبه الغسل) فلعلّنا لا نشك في أنّ الشرط بالمعنى الذي يكون جزء علّة حقيقةً هو نفس الغسل لا عنوان التعقّب فانّه هو الذي يؤثر في تحقّق الملاك لا

303

هذه العناوين الانتزاعية، نعم بمعنى ما يؤخذ في مرحلة الجعل يمكن أن يكون جزء الموضوع هو عنوان التعقّب وقد قلنا إنّه بلحاظ عالم فعلية الجعل لا يوجد تأثير وتأثّر بين الموضوع والحكم.

وأمّا كون الأجزاء المتأخّرة شرطاً في صحّة الأجزاء السابقة فلم نفهم معناه فانّ صحّة الأجزاء السابقة ليست إلّا بمعنى قابليتها للحوق باقي الأجزاء بها وهي ثابتة سواء لحقت باقي الأجزاء بها أو لا، نعم لو لم تلحق باقي الأجزاء بطلت الصلاة بمعنى انّ المركّب الواجب بما هو مركّب لم يحصل.

وأمّا استظهار كون الشرط في ما نحن فيه نفس عنوان الإجازة دون عنوان انتزاعي من قبيل تعقّب الإجازة فنحن لا نشك في أنّ الشرط هو نفس الإجازة دون عنوان انتزاعي من هذا القبيل، ولكن معنى كون الإجازة شرطاً بلحاظ عالم الجعل هو جزئية التقيد بها، والتقيد بها يعني التعقّب أو التقارن مثلاً كما يقال في تعريف الشرط: إنّ التقيد جزء والقيد خارج فلو قبلنا: انّ المستظهر بمناسبات الحكم والموضوع والارتكازات هو كون الإجازة شرطاً في موضوع الحكم المجعول لا جزءً اذن فالدخيل في حصول الملكية هو تعقّب الإجازة أو تقارنها نعم هذا الاستظهار أوّل الكلام.

وعلى أيّة حال فظاهر الدليل كون الإجازة شرطاً مقارناً بحصول النتيجة لا شرطاً متأخّراً كي يستظهر الكشف ولو بالالتجاء إلى دخل وصف التعقّب في الحكم.

وأمّا الوجه الرابع ـ وهو كشف الإجازة عن الرضا التقديري فقد أورد عليه السيد الخوئي: أوّلاً ـ بأنّنا لا نقول بكفاية الرضا الفعلي من دون إبراز فكيف بالرضا التقديري؟ وثانياً ـ بانّ الإجازة لا تكشف دائماً عن الرضا التقديري إذ قد

304

يكون الشخص في وقت العقد لو اطلع لما رضى بذلك ولكن يرضى بعد ذلك على أساس البداء.

أقول: الذي يبدو ممّا هو المنقول عن السيد الرشتي (رحمه الله) انّه يقصد بالرضا التقديري ما لا ينافي البداء ولذا فرض كشف الإجازة عن الرضا التقديري حتى إذا كانت بعد ردّ العقد فهو يقصد بالرضا التقديري انّه لو علم بالمصلحة التي علم بها حين الإجازة لرضى بالعقد.

إلّا انّ الصحيح انّه رغم هذا ليست الإجازة دائماً كاشفة عن الرضا التقديري لانّه قد يتّفق انّه حين الإجازة يعترف بانّه لم يكن من مصلحته حين العقد نفوذ العقد عملاً ولكن من مصلحته من الآن نفوذ العقد ولو بمعنى ترتيب آثار الملكية السابقة من الآن.

وعلى أي حال فالصحيح عدم كفاية الرضا التقديري.

وأمّا القسم الثاني من الكشف وهو افتراض انّ اعتبار الملك شرعاً يتحقّق لدى الإجازة ولكن المعتبر هو ملكية حين العقد، فافتراض كشف من هذا القبيل في مقابل القسم الأوّل ورد في كلمات السيد الخوئي(1) في حين أنّ الشيخ الانصاري (رحمه الله)لم يرد في كلامه تقسيم من هذا القبيل للكشف، وانّما الوارد لديه انّ الكشف إمّا هو حقيقي أو حكمي(2)، وقد صرف السيد الخوئي الدليل الآخر من دليلي المحقّق والشهيد الثانيين على الكشف ـ غير الدليل الذي مضى ـ إلى هذا القسم الثاني من الكشف ولكن الشيخ الانصاري صرف ذاك الدليل إلى الكشف الحقيقي من دون افتراض إنقسامه إلى القسمين.

 


(1) راجع المحاضرات 2: 344 ـ 345، ومصباح الفقاهة 4: 137 ـ 143.

(2) راجع المكاسب 1: 132 ـ 133، حسب الطبعة المشتملة على تعليق الشهيدي.

305

وعلى أيّة حال فذاك الدليل هو عبارة عن أنّ الإجازة قد تعلّقت بمفاد العقد ومفاد العقد هو الملكية حين العقد وإمضاء الشارع تعلّق بمفاد الإجازة، اذن فإمضاء الشارع يعني اعتبار ملك حين العقد.

وقد أورد على ذلك الشيخ الانصاري (رحمه الله)(1) بوجوه ثلاثة:

أوّلاً ـ انّ مفاد العقد ليس هو التمليك من حين العقد وانّما مفاده ذات التمليك وانّما ظرف هذا التمليك هو حين العقد ولذا ترى انّ القبول متعلّق بالإيجاب كتعلّق الإجازة بالعقد، ومع ذلك لا يعني القبول قبول حصول الملك من حين الإيجاب وليس ذلك إلّا لأجل انّ مفاد الإيجاب هو ذات التمليك وإن كان ظرفه هو حين الإيجاب والقبول يتعلّق بمفاد الإيجاب الذي هو ذات التمليك، وكذلك الحال في الإجازة فلو افتينا في الإجازة بحصول الملك بلحاظ حين العقد بحجّة تعلّق الإجازة بذلك للزم ان نفتي أيضاً في القبول بحصول الملك بلحاظ حين الإيجاب بنفس النكتة ولا يلتزم أحد بذلك.

وثانياً ـ انّه لو سلّمنا كون مفاد العقد هو التمليك من حين العقد وانّ الإجازة تعلّقت بهذا المفاد قلنا: إنّ كلامنا انّما هو في الملكية الشرعية، والملكية الشرعية تتبع حكم الشرع وخطابه بالوفاء، وهذا الخطاب انّما يصبح فعلياً بفعلية موضوعه وهو المجيز أو قل المالك الذي يكون عاقداً أو بمنزلة العاقد وانّما أصبح المالك كذلك من حين الإجازة فحكم الشارع توجّه إليه من هذا الحين فلا دليل على حصول الملك إلّا بلحاظ هذا الحين.

وثالثاً ـ ان افتراض حصول الملك بلحاظ حين العقد بسبب الإجازة يعني افتراض الشرط المتأخّر وتأثير المتأخّر في المتقدّم وهو مستحيل.


(1) راجع المكاسب 1: 132 ـ 133، حسب الطبعة المشتملة على تعليق الشهيدي.

306

والسيد الخوئي أهمل ذكر هذا الإشكال الثالث ومناقشته ولعلّه لأجل انّه حمل الحديث على ما افترضه قسماً ثانياً للكشف وهو ما يفترض فيه اعتبار الملك مقارناً للإجازة، وإن كان المعتبر عبارة عن الملك السابق فلا يُتورّط اذن في إشكال الشرط المتأخّر أو تأثير المتأخّر في المتقدّم فلم ينقل السيد الخوئي عن الشيخ إلّا الإشكالين الأوّلين وأجاب عليهما(1).

أمّا الإشكال الأوّل وهو انّ مفاد العقد ليس إلّا ذات التمليك وإن كان ظرفه زمان العقد فقد أجاب عليه بانّ الإنشاء ليس مفاده إيجاد المعنى كي يقال إنّ العقد انّما أوجد ذات الملكية وكان وجودها في حين العقد، ففرق بين ان يوجد الملكية في ظرف العقد أو يوجد الملكية المقيّدة بذاك الظرف وانّما مفاده إبراز الاعتبار النفساني وهذا الاعتبار لا يخلو أمره من الإطلاق أو التقييد ويستحيل الإهمال ثبوتاً، وبما انّه لا يوجد تقييد في المقام للملكية بزمان خاص فلا بد من الإطلاق وهو الملكية المستمرة والثابتة من حين العقد وذلك لا بمعنى أخذ تمام القيود بل بمعنى رفضها والإجازة تعلّقت بنفس هذا المفاد وهي الملكية المطلقة التي تبدأ من حين العقد.

وأمّا النقض على ذلك بالقبول المتعلّق بالإيجاب فقد أجاب عليه السيد الخوئي في المحاضرات بانّ الإيجاب لم يكن تمليكاً مطلقاً بل كان تمليكاً معلّقاً على لحوق القبول دائماً سواء ذكر التعليق في اللفظ أو لا فلا يترتّب عليه الأثر إلّا بتحقّق القبول، وهذا بخلاف عقد الفضولي الذي لا يعلّقه غالباً على إجازة المالك خصوصاً إذا كان العاقد بانياً على مالكية نفسه.

 


(1) راجع المحاضرات 2: 343 ـ 345، ومصباح الفقاهة 4: 139 ـ 143.

307

أمّا عبارة المصباح في الجواب على النقض بالقبول فلا تخلو من تشويش فقد يبدو من صدرها الجواب عليه بانّ الإيجاب ليس وحده هو مضمون العقد فانّ مضمون العقد لا يحصل إلّا بالإيجاب والقبول معاً، وهذا بخلاف باب الفضولي الذي تم فيه العقد قبل الإجازة ومن ذيلها الجواب عليه بمثل ما في المحاضرات ولعلّ ما في صدر العبارة دليل في نظره على ما في ذيلها أي انّ الدليل على كون الإيجاب معلّقاً على حصول القبول هو تركّب العقد منهما معاً.

وأمّا الإشكال الثاني للشيخ وهو انّ حكم الشارع انّما حصل من حين الإجازة فقد أجاب عليه السيد الخوئي بانّنا وإن كنّا لا نتحاشى عن حصول الحكم من حين الإجازة ولذا نقول: إنّ اعتبار الملك انّما يكون من حين الإجازة لكنّنا نقول: إنّ المعتبر أو المحكوم به انّما هو ملك حين العقد لانّ الحكم أو الإمضاء انّما تعلّق بنفس مفاد الإجازة المتعلّق بمفاد العقد الذي هو عبارة عن ملكية حين العقد.

ثم ذكر السيد الخوئي إشكالين(1) على فرضية كون اعتبار الملك متأخّراً إلى حين الإجازة والمعتبر عبارة عن الملك المتقدّم أي الملك حين العقد.

أحدهما ـ ما نقله عن استاذه المحقّق النائيني (رحمه الله) من أنّ الحكمين المتضادين لا يجتمعان بلحاظ زمان واحد وإن كان زمان اعتبارهما مختلفاً فالخروج عن الدار المغصوبة لا يمكن افتراض كونها محكومة بالحرمة قبل الدخول وبالوجوب بعد الدخول لاتحاد زمان الواجب والحرام وان فرض تعدّد زماني الاعتبار، وكذلك في المقام لا يمكن ان يفترض انّ هذا المتاع الذي بيع فضولة كان قبل الإجازة ملكاً للمالك الأصلي لا للمشتري ثم يفترض بعد الإجازة


(1) راجع المحاضرات 2: 345 ـ 347، ومصباح الفقاهة 4: 144 ـ 149.

308

انّه من قبل الإجازة ملك للمشتري لا للمالك الأصلي فهذا يعني اجتماع معتبرين متضادين بلحاظ زمان واحد وإن كان اعتبارهما في زمانين.

وأجاب عليه السيد الخوئي بانّ التضاد بين الحكمين بلحاظ زمان واحد رغم اختلاف الاعتبارين زماناً انّما يتم في الأحكام التكليفية بلحاظ تبعيتها للمصالح والمفساد في متعلّقاتهما والمفروض وحدة المتعلّقين فيلزم من اجتماعهما اجتماع المصلحة والمفسدة من دون كسر وانكسار وهذا غير معقول، وأمّا الأحكام الوضعية كما في ما نحن فيه فلا يأتي فيها هذا الكلام لانّها تتبع المصالح في نفسها والاعتبار سهل المؤونة فبالإمكان اعتبار هذا المال في حين العقد ملكاً لزيد دون عمرو ثم اعتباره في حين الإجازة ملكاً من حين العقد لعمرو دون زيد ولا تنافي بين الأمرين أبداً.

وثانيهما ـ انّ افتراض تأخّر الاعتبار عن العقد إلى زمان الإجازة انّما يعقل في اعتبار المجيز نفسه فبإمكانه ان يعتبر حين الإجازة ملكية المشتري بلحاظ حين العقد، وكذلك يعقل في اعتبار الشارع إذا كان بنحو القضية الخارجية بان يسكت الشارع من حين العقد إلى حين الإجازة ثم يعتبر حين الإجازة حصول الملك من حين العقد ولكن الواقع انّ اعتبار الشارع ثابت بنحو القضية الحقيقية منذ أوّل الشريعة على الموضوعات المقدرة الوجود وانّما الذي يقبل التقدّم والتأخّر هو المعتبر فان فرض المعتبر عبارة عن الملك المتقدّم على الإجازة أعني الملك حين العقد فهذا هو الكشف بالمعنى الأوّل المتقدّم فيه الاعتبار والمعتبر معاً والذي قلنا باستحالته لعدم معقولية الشرط المتأخّر فلا نتصوّر قسماً آخر للكشف يفسر بتأخّر الاعتبار وتقدّم المعتبر وان فرضناه عبارة عن الملك من حين الإجازة رجعنا إلى النقل.

 

309

وأجاب السيد الخوئي على ذلك:

أوّلاً ـ بانّه لا ملزم لافتراض اعتبار الشارع الملك كي يأتي فيه هذا الكلام بل بالإمكان افتراض انّ الشارع هو لا يعتبر شيئاً وانّما يوافق على اعتبار المجيز ويمضيه فانّ حكم الشارع في باب المعاملات عادة ليس تأسيسياً بل إمضاء لما عليه العقلاء، وما عليه العقلاء هو إمضاء ما فعله المجيز وهو اعتباره ومن المعلوم انّ اعتبار المجيز متأخّر ولكنه متعلّق بمعتبر متقدّم.

وثانياً ـ بانّه حتى لو افترضنا انّ الشارع هو الذي يعتبر الملك في المقام قلنا: إنّ اعتبار الشارع حكم من أحكام الشارع له جعل وفعلية، وجعله هو الذي يكون ثابتاً من أوّل الشريعة على الموضوع المقدّر الوجود أمّا فعليته فتتأخّر إلى حين فعلية الموضوع كما هو الحال في سائر الأحكام، وموضوعه في المقام هو الإجازة فإذا حصلت الإجازة أصبح الاعتبار فعلياً وهو متعلّق بالملك حين العقد وهذا هو معنى القسم الثاني من الكشف الذي قلنا عنه: إنّ الاعتبار فيه متأخّر لحين الإجازة والمعتبر هو الملك المتقدّم من حين العقد.

ومقتضى هذا التسلسل من الحديث هو الإيمان بالكشف بهذا المعنى الثاني على مقتضى القواعد بلا حاجة إلى دليل خاص كصحيحة محمّد بن قيس، وإن وجد دليل خاص على الكشف فهذه زيادة خير وهذا هو الظاهر من عبارة المصباح ولكن عبارة المحاضرات فيها غموض في المقام من هذه الناحية وهي انّ هذا المقدار من البيان هل اثبت الكشف حقاً أو جعل الكشف محتملاً في عرض احتمال النقل ويتمسّك عندئذ لإثبات الكشف بعد ردّ إشكالاته الثبوتية بمثل صحيحة محمّد بن قيس، ولكن يظهر في ما ذكره بعد ذلك في ثمرات الكشف والنقل انّه يرى الكشف بهذا المعنى الذي اختاره موافقاً للقواعد ويسمّيه هناك

310

بالكشف الحكمي(1).

أقول: وفي هذا التسلسل من الحديث مواقع للنظر.

فأوّلاً ـ ما أجاب به على القول بانّ مفاد البيع كان هو ذات التمليك لا التمليك من حين العقد وهو قوله: إنّ الإنشاء ليس إيجاداً للملك بل هو كاشف عن اعتبار نفساني وذاك الاعتبار يستحيل فيه الإهمال فهو إمّا مطلق أو مقيّد.

يرد عليه: إنّ الإنشاء وإن لم يكن إيجاداً للمعنى في الخارج بل هو كاشف عن اعتبار نفساني فانّ عالم الإنشاء اللفظي ليس عالم الخلق والتكوين وانّما هو عالم الكشف عمّا في النفس كما هو الحال في الأخبار، لكن هذا الاعتبار النفساني الذي يكشف عنه هذا الإنشاء انّما هو اعتبار لوجود الملك لانّه بنحو مفاد كان التامّة وليس بنحو مفاد كان الناقصة فهو لم يعتبر الملك موضوعاً لحكم مّا حتى يقال: إنّ مقتضى إطلاقه شموله للملك في كل آن وانّ هذا متعيّن في مقابل التقييد بعد استحالة الإهمال وانّما اعتبر وجود الملك نعم يختلف الوجود الاعتباري للملك عن الوجودات الحقيقية للاُمور التكوينية في أنّ الوجود التكويني أمره دائر في أي لحظة بين أن يخلق وأن لا يخلق ولا معنى لفرض خلق حصّة استقبالية مثلاً، أمّا الوجود الاعتباري فله حصص منها اعتبار ملك الآن ومنها اعتبار ملك مستقبل أو ماض فانْ قصد بقوله: إنّ الإنشاء ليس إيجاداً انّه ليس إيجاداً تكوينياً أو كاشفاً عن إيجاد تكويني حتى يكون الزمان ظرفاً له وغير مأخوذ في مفاده بل هو كاشف عن إيجاد اعتباري يؤخذ الزمان في متعلّقه قلنا:


(1) راجع المحاضرات 2: 354، وأمّا في مصباح الفقاهة فقد سمّاه هناك أيضاً بالكشف الحقيقي راجع 4: 163.

311

هذا صحيح لكن ملكية الآن أو الملكية الحاصلة من الآن التي أصبحت متعلّقة للإنشاء والوجود الاعتباري انّما هي حصة في مقابل ملكية الزمان المستقبل مثلاً وليست هذه مطلقة وتلك مقيدة بالمعنى الذي يستحيل الإهمال في ما بينهما بل هما حصتان متقابلتان.

نعم يحمل إطلاق كلام الشارع بعد لغوية اعتبار الجامع بين الحصص على الحصّة الاُولى لانّها أقل مؤونة في نظر العرف من باقي الحصص إمّا بنكتة اُنس ذهن العقلاء في تشريعاتهم للملكية بتشريع ملكية حين العقد أو لانّ المتعاقدين يهدفان عادة ذلك أو قياساً ـ في نظر العرف المسامحي ـ للوجود الاعتباري بالوجود التكويني الذي لا يتخلّف عن زمان إيجاده، أو لانّ الملك الشامل لكل الآنات ما لم يرفعه الرافع كأنّه في مقابل الملك الخاص بالزمان المستقبل مطلق في مقابل حصصه لا حصة من ضمن الحصص، امّا الملكية التي تخلق في عالم اعتبار المُنشىء فتحمل على اعتبار الجامع من دون لزوم لغوية فانّ هذا موضوع في نظر العقلاء لوجود الملكية في لوح اعتبار العقلاء من حين إمضائهم قياساً في النظر المسامحي للوجود الاعتباري بالوجود التكويني فمفاد البيع ـ كما قاله الشيخ الانصاري ـ هو ذات التمليك لا التمليك من حين العقد.

وثانياً ـ ما أورده على نقض الشيخ (رحمه الله) بالقبول المتعلّق بالإيجاب والذي لا ينتج الملك من حين الإيجاب من أنّ الإيجاب كان معلّقاً على القبول يردّ عليه: انّه إن كان المقصود بذلك كون تأثيره في لوح اعتبار الشارع أو العقلاء معلّقاً على القبول فهو صحيح ولكن هذا لا يعني انّ المنشأ بالإيجاد هو ملكية ما بعد القبول، وإن كان المقصود بذلك كون المُنشأ معلّقاً على القبول بما هو مُنشأ فهو غير صحيح، وأمّا تركّب العقد من الإيجاب والقبول فهو انّما يصلح علّة لكون التأثير الشرعي أو العقلائي معلّقاً على القبول لا لكون المُنشأ معلّقاً.

 

312

وثالثاً ـ انّ الإشكال الأخير الذي ذكره السيد الخوئي من عدم معقولية تأخّر الاعتبار عن المعتبر في القضايا الشرعية المجعولة بنحو القضايا الحقيقية متين فليس من الصحيح القول بانّه من حين الإجازة يعتبر الشارع ملكية حين العقد فانّ الاعتبارات الشرعية كلّها قد تحقّقت في زمن التشريع ولا يتم شيء من الجوابين اللذين ذكرهما على هذا الإشكال.

أمّا الجواب الأوّل وهو انّ الشارع ليس له اعتبار خاص به بل هو يمضي اعتبار المجيز وهذا الاعتبار متأخّر عن المعتبر فالمجيز من حين الإجازة قد اعتبر ملكية حين العقد فهو غريب ولا أدري ماذا يفهم السيد الخوئي من إمضاء اعتبار المجيز هل هذا يعني انّ أمر التشريع اعطى بيد المجيز؟! فهذا واضح البطلان أو يعني انّ للشارع اعتباراً مماثلاً لاعتبار المجيز؟ وهذا هو المعنى الصحيح لإمضاء الشارع لكن هذا رجوع إلى اعتبارات الشرع التي تحقّقت كلها في زمن التشريع ولم يتأخّر شيء منها إلى زمان إجازة المجيز.

وأمّا الجواب الثاني وهو انّ اعتبار الشارع وإن كان جعله متقدّماً وثابتاً في زمان التشريع لكن فعليته تكون بفعلية موضوعه وهي إجازة المالك فمن حين إجازة المالك تصبح ملكية حين العقد فعلية فيرد عليه: انّ فعلية الجعل التي يفترض تأخّرها عن الجعل انّما يقصد بها فعلية المجعول، أمّا ذات الجعل فقد تحقّق كاملاً حين التشريع ولا معنى لفعلية متأخّرة له وراء فعلية المجعول والفارق بين الجعل والمجعول هو الفارق بين الاعتبار والمعتبر اذن فتأخّر فعلية الاعتبار لا يعني إلّا تأخّر المعتبر فليس في المقام اُمور ثلاثة: الجعل والفعلية والملك المعتبر حتى يفترض انّ الأوّل ثبت في زمن التشريع والثاني ثبت في زمن الإجازة والثالث عبارة عن ملك حين العقد، وانّما يوجد في المقام أمران: الاعتبار

313

والمعتبر والأوّل متقدّم بلا إشكال والثاني إمّا أن يكون عبارة عن ملك حين العقد أو يكون عبارة عن ملك حين الإجازة والأوّل هو الكشف والثاني هو النقل فليس الكشف منقسماً إلى قسمين: أحدهما ما يفرض فيه تقدّم الاعتبار والمعتبر والثاني ما يفرض فيه تأخّر الاعتبار إلى حين الإجازة وتقدّم المعتبر بان يعتبر من حين الإجازة ملك زمان العقد، بل الكشف الحقيقي قسم واحد وهو القسم الذي يراه السيد الخوئي على بعض وجوهه الماضية مستحيلاً وعلى بعض وجوهه خلاف ظاهر الأدلّة العامّة ولكنّنا لا نراه مستحيلاً وإن كنّا نراه خلاف ظاهر الأدلّة العامّة على ما مضى.

وقد تحصّل بكل هذا البحث انّ الكشف الحقيقي خلاف ظاهر الأدلّة العامّة.

وأمّا القسم الثالث من الكشف وهو الكشف الحكمي فهو وإن لم يكن خلاف ظاهر الأدلّة العامّة لكنّه على أي حال خلاف الأصل فلا بد اذن بعد هذا التطواف من الانتهاء إلى الأدلّة الخاصّة لنرى انّه هل يمكن ان يستفاد منها الكشف أو لا؟

مقتضى الأدلّة الخاصّة:

ولعلّ عمدة الأدلّة الخاصّة للكشف ما يلي:

1 ـ صحيحة محمّد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قضى أميرالمؤمنين (عليه السلام)في وليدة باعها ابن سيدها وأبوه غائب فاشتراها رجل فولدت منه غلاماً ثم قدم سيّدها الأوّل فخاصم سيّدها الأخير فقال: هذه وليدتي باعها ابني بغير اذني فقال: خذ وليدتك وابنها فناشده المشتري فقال: خذ ابنه يعني الذي باع الوليدة حتى ينفّذ لك ما باعك فلمّا أخذ البيّع الابن قال أبوه: ارسل ابني فقال لا ارسل ابنك حتى ترسل ابني فلمّا رأى ذلك سيّد الوليدة الأوّل أجاز بيع ابنه(1).

 


(1) الوسائل 14: 591، الباب 88 من أبواب نكاح العبيد والإماء، الحديث 1.

314

وسواء فسّرنا أخذ سيّد الوليدة الأوّل للطفل بانّ الحكم الشرعي هو استرقاقه إلى ان يفديه أبوه بثمنه لكون الوطىء وطىء شبهة، أو لافتراض كونه زنا من قبل الامّ العالمة بالحال، أو للقول بانّ ولد الأمَة من حرّ غير المولى مملوك للمولى ما لم يشترط الزوج منذ البدء الحرية، أو فسّرناه على أنّه أخذٌ للطفل كرهينة في مقابل ثمنه لانّ المشتري فوّت على المولى ولداً من هذه الأمَة، وسواء كان الحكم بأخذه للولد حكماً حقيقياً أو حكماً للتقية فالمهم انّه فرض رجوع الطفل إلى المشتري بسبب الإجازة وهذا دليل الكشف.

والاستشكال على ذلك بانّه لعلّ إرجاع الطفل إلى المشتري كان بسبب انّه سلّم إلى السيّد الأوّل ثمن الطفل لانّ سكوت الحديث عن تسليم ثمن الطفل ليس دليلاً على عدم تسليمه، فانّ الحديث لم يكن بصدد بيان كل الخصوصيات ولذا لم يذكر كيفية المخاصمة وفصلها، مع وضوح انّ مجرّد دعوى أبي البائع انّ الوليدة كانت له وقد باعها ابنه بلا اذنه لا يوجب الحكم باسترجاع الوليدة والطفل(1) غير وارد لانّ ظاهر قوله: لا ارسل ابنك حتى ترسل ابني هو ان إرسال الطفل كان في مقابل إرسال ابنه لا في مقابل دفع ثمنه.

2 ـ صحيحة أبي عبيدة الحذاء قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن غلام وجارية زوّجهما وليهما وهما غير مدركين قال فقال النكاح جائز ايّهما أدرك كان له الخيار فإن ماتا قبل أن يدركا فلا ميراث بينهما ولا مهر إلّا أن يكونا قد أدركا ورضيا قلت: فإن أدرك أحدهما قبل الآخر؟ قال: يجوز ذلك عليه ان هو رضي قلت: فإن كان الرجل الذي أدرك قبل الجارية ورضى النكاح ثم مات قبل أن


(1) راجع كتاب البيع للسيد الإمام (رحمه الله) 2: 177 ـ 178.

315

تدرك الجارية اترثه؟ قال: نعم يعزل ميراثها منه حتى تدرك وتحلف بالله ما دعاها إلى أخذ الميراث إلّا رضاها بالتزويج ثم يدفع إليها الميراث ونصف المهر قلت: فإن ماتت الجارية ولم تكن أدركت أيرثها الزوج المدرك؟ قال: لا لانّ لها الخيار إذا أدركت قلت: فإن كان أبوها هو الذي زوّجها قبل أن تدرك؟ قال: يجوز عليها تزويج الأب ويجوز على الغلام والمهر على الأب للجارية(1).

ولهذا الحديث تفسيران:

التفسير الأوّل ـ وهو الذي يبتني عليه الاستدلال به في المقام: انّ المقصود بقوله: «النكاح جائز» كونه قابلاً للتصحيح بالإمضاء وانّ المقصود بالخيار خيار الإمضاء والردّ لا خيار الفسخ، والشاهد على ذلك هو ما في الحديث من الحكم بعدم الإرث وعدم المهر إذا ماتا قبل الإدراك أو كان الإمضاء طمعاً بالإرث، وانّ المقصود بقوله: «وليّهما» هو الوليّ العرفي أي مَن كان يتولّى شؤون الصغير من دون أن يكون وليّاً شرعياً والشاهد على ذلك قوله في ذيل الحديث: «قلت فإن كان أبوها هو الذي زوّجها قبل أن تدرك قال يجوز عليها تزويج الأب ويجوز على الغلام» فهذا دليل على أنّ السؤال الأوّل كان سؤالاً عن غير الولي الشرعي، وذلك إمّا بدعوى انّ احتمال الخصوصية للأب من بين الأولياء الشرعيين غير عرفي فذكر الأب يحمل على المثالية عرفاً، أو بدعوى انّ ذكر الأب لو جاء على لسان الإمام (عليه السلام)لاحتملنا خصوصية في الأب تعبّداً ولكن جاء السؤال عن الأب على لسان نفس السائل والنكتة التي تتبادر إلى الذهن في السؤال عن الأب بعد السؤال عن مطلق الوليّ هي كون الأب وليّاً شرعياً، اذن فالمقصود بالوليّ المطلق


(1) الوسائل 17: 527، الباب 11 من أبواب ميراث الأزواج، الحديث 1.

316

كان هو غير الشرعي. هذا، ونفس كون المقصود بالولي في صدر الحديث الولي غير الشرعي شاهد آخر على انّ المقصود بجواز النكاح قابليته للنفوذ بسبب الإمضاء لا النفوذ الفعلي وأنّ المقصود بالخيار خيار الإمضاء والردّ لا خيار الفسخ.

وبناء على هذا الاحتمال يكون الحديث دليلاً على الكشف إذ لولا الكشف لما ثبت الإرث عند تأخّر إمضاء من بقى منهما للنكاح عن موت الآخر.

وقد يورد على الاستدلال بهذا الحديث على أصل صحّة الفضولي في العقود المالية بانّ هذا الحديث وارد في النكاح ولا نجزم بعدم الفرق في ذلك بين النكاح والعقود المالية، وقد مضى في أدلّة الفضولي في البحث عن روايات النكاح الفضولي البحث عن دعوى التعدّي إلى العقود المالية بالأولويّة لانّ النكاح أهمّ من العقود المالية لارتباطه بالفرج فلئن صحّ عقد الفضولي فيه فهو صحيح في العقود المالية بطريق أولى، وعن دعوى اُخرى عكس هذه الدعوى وهي دعوى انّ النكاح يناسبه التسهيل لكي لا يتورّط الناس في الزنا فتصحيح الفضولي فيه لا يدلّ على تصحيحه في الماليات ووضّحنا هناك ان كلتا الدعويين لا أساس لهما وانّما يجب ان نلحظ بعد حذف بحث الأولوية من الطرفين انّ العرف هل يتعدّى من النكاح إلى سائر العقود أو يحتمل الخصوصية للنكاح في الحكم بصحّة عقد الفضولي.

ونقول هنا: إنّه لو آمن أحد في أصل صحّة الفضولي بعدم التعدّي من النكاح إلى العقود المالية لاحتمال الفرق فليس من الضرورة ان يؤمن في ما نحن فيه أيضاً ـ وهو إثبات الكشف ـ بعدم التعدّي، فبإمكانه أن يقول: إنّه في أصل صحّة الفضولي يحتمل الفرق باختصاص الحكم بالصحّة بالنكاح لكن بعد ان

317

فرغنا ولو بوجه آخر عن صحّة الفضولي حتى في العقود المالية وهو المفروض في المقام نرى انّ العرف لا يحتمل الفرق في دائرة العقود التي تصحّ فيها الفضولية بالكشف في بعضها والنقل في البعض الآخر.

نعم لو كان عدم التعدّي إلى العقود المالية هناك على أساس دعوى احتمال انّ تصحيح الفضولية في النكاح كان لمصلحة التسهيل لكي لا يتورّط الناس في الزنا فنفس هذه النكتة توجب عدم التعدّي في ما نحن فيه أيضاً فانّ الكشف فيه مزيد من التسهيل في أمر النكاح والمنع عن التورّط في الزنا فلعلّه مختص بباب النكاح لأجل هذا المزيد من المصلحة أمّا العقود المالية فاقتصر فيها على تصحيح فضوليتها بنحو النقل دون الكشف.

التفسير الثاني ـ: ان يقال: إنّ المقصود بجواز النكاح في صدر الحديث هو النفوذ الفعلي لا قابليته للنفوذ بسبب الإمضاء وانّ المقصود بالخيار خيار الفسخ وانّ المقصود بالولي هو الولي الشرعي وأمّا ما في ذيل الحديث من حكم خاصّ بالأب فهو تفصيل تعبّدي بين الأب وغيره من الأولياء الشرعيين أعني الجدّ والوصيّ فنكاح الجدّ والوصيّ جائز مع الخيار للصبي إذا بلغ ونكاح الأب جائز بلا خيار وأمّا ما في الحديث من نفي الإرث والمهر لدى موتهما أو لدى عدم الإمضاء فهو يعني انّ نكاح الولي لا يوجب الإرث ولا المهر إلّا بعد لزومه بإسقاط الصغير الخيار بعد البلوغ وعلى هذا التفسير فالحديث اجنبيّ عن عقد الفضولي تماماً.

وقد رجّح السيد الإمام (رحمه الله) هذا التفسير على التفسير الأوّل بدعوى انّ التفسير الأوّل خلاف ظاهر الحديث من عدّة وجوه(1):

 


(1) راجع كتاب البيع 2: 178 ـ 179.