473

ولا يعقل تقوّمها بطرف واحد(1).

وهذا الكلام بظاهره واضح البطلان؛ إذ بالإمكان اختيار الشقّ الثاني، واحتياج النسبة إلى الطرفين بحسب الخارج وفي نفس الأمر صحيح، لكن لا يلزم أن يكون طرفاها مدلولين لنفس الدالّ على النسبة، وإلاّ فماذا يقول في الحروف التي تدلّ على النسبة، فكلمة «في» مثلاً تدلّ على النسبة الظرفيّة مع أنَّها لاتدلّ على طرفيها، فهل لزم من ذلك عدم تقوّم النسبة بالطرفين؟! فكان الأحسن له التمسّك لإبطال الشقّ الثاني أيضاً ببراهين المحقّق الشريف(2) التي سوف يأتي أنّه لا محصّل لها.

إلاّ أنّه من المحتمل أن يكون مقصود المحقّق النائينيّ(رحمه الله) مطلباً آخر وإن كانت العبارة قاصرة عن أدائه، وهو: أنّه إن كان المأخوذ هو النسبة بلا ذات لزم تقوّم النسبة بطرف واحد لا في نفس الأمر والواقع، بل في مرحلة المدلول المطابقيّ التصوّريّ للكلام، فكلمة «قائم» مثلاً كلمة غير مستقلّة، ولابدّ لها من متمّم، بينما من الواضح كونها كلمة مستقلّة، ولو لم تكن مستقلّة فلا متمّم لها في لغة العرب أصلاً، فيكون هذا الكلام فنّيّاً، إلاّ أنّه يبقى الإشكال عليه بإمكان أخذ الشقّ الأوّل وإبطال براهين المحقّق الشريف بما سيأتي إن شاء الله.

الرابع: أنّه إن اُخذت النسبة مع الذات، لزمت محاذير المحقّق الشريف، وإن


(1) كأنّ هذا الوجه متصيَّد من كلمات الميرزا(رحمه الله)، فإنّي لم أجده بهذا الشكل في شيء من تقريري بحثه. نعم، لديه(رحمه الله) بعض البراهين على عدم أخذ الذات في المشتقّ، ولديه كلام منفصل عن ذلك في كلا التقريرين حول أخذ النسبة في المشتقّ دون الذات، وهو: أنّ هذا غير معقول؛ لأنّ النسبة تتقوّم بطرفين.

راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 63 بحسب الطبعة المحشّاة بتعليقات السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، وراجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 103 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) لا أعرف برهاناً للمحقّق الشريف لإبطال الشِقّ الثاني.

474

اُخذت بدون الذات لزم إباء المشتقّ عن الحمل على الذات؛ إذ فرض لحاظ النسبة فرض المغايرة والاثنينيّة، وفرض الحمل هو فرض الوحدة والاتّحاد(1).

ويرد عليه أيضاً ما سيأتي ـ إن شاء الله ـ من بطلان محاذير المحقّق الشريف(رحمه الله).

وأمّا الدعوى الإثباتيّة وهي: أنّ هيئة المشتقّ موضوعة للاّبشرطيّة، وبهذا أصبح مدلول المادّة صالحاً للحمل على الذات بخلاف المصدر الموضوع هيئته للبشرط لائيّة من حيث الحمل، فهذه الجهة تحتاج إلى تفسير، فقد فسّرت اللاّبشرطيّة والبِشرط لائيّة بثلاثة تفسيرات:

التفسير الأوّل: ما ساق إليه الجمود على حاقّ العبارة، فقيل: إنّ هذا يعني انحفاظ مفهوم واحد في المشتقّ والمصدر، وهذا المفهوم الواحد إذا قيس إلى الحمل فتارة يؤخذ لا بشرط عن الحمل، وهذا ما وضع له المشتقّ، واُخرى يؤخذ بشرط لا عن الحمل، وهذا ما وضع له المصدر، فالفرق فقط في كيفيّة مقايسة هذا المفهوم الوحدانيّ إلى الحمل.

وأشكلوا عليه بأنّ أخذ المبدأ ولحاظه مقيّداً بشرط لا عن الحمل، أو مطلقاً ولا بشرط عن ذلك لا أثر له في صحّة الحمل وإبطاله؛ إذ هذان اعتباران في عالم الذهن في كيفيّة لحاظ هذا المفهوم الوحدانيّ، وهذا لا ربط له بالحمل، فالحمل يحتاج إلى اتّحاد في الوجود، فإذا كان هذا الاتّحاد في الوجود مع الذات ثابتاً صحّ الحمل على كلا التقديرين، وإلاّ لم يصحّ الحمل على كلا التقديرين.

وهذا الكلام ينحلّ إلى أمرين:


(1) لم أرَ هذا الوجه في شيء من التقريرين للشيخ النائينيّ(رحمه الله).

475

1 ـ إنّ هذا المفهوم الوحدانيّ إذا كان مغايراً للذات، لم يمكن تصحيح حمله بمجرّد اعتبار اللابشرطيّة. وهذا الكلام صحيح؛ فإنّ الحمل الحقيقيّ مرجعه إلى الهوهويّة، وهي فرع أن يكون عين الذات ومتّحداً معه، ومجرّد اعتبار اللابشرطيّة لا يوجب ذلك، فلو اعتبرنا الحجر لا بشرط من ناحية الحمل على الإنسان مثلاً، فمن الواضح: أنّ هذا لا يصحّح حمله على الإنسان.

2 ـ إنّه مع فرض الاتّحاد في الوجود لا يمكن إبطال الحمل بالاعتبار؛ إذ مجرّد أخذه بشرط لا لا يؤثّر فيما هو ملاك الحمل والهوهويّة.

وهذا الأمر الثاني قابل للمناقشة في المقام؛ إذ إنّ أخذ هذا المفهوم الوحدانيّ بشرط لا عن الحمل قد يكون مانعاً تعبّديّاً عن الحمل، وتوضيح ذلك: أنّ أخذه بشرط لا عن الحمل مرجعه إلى أخذ عدم الحمل قيداً، وأخذه قيداً يتصوّر على وجهين:

الأوّل: كون المقصود: أخذ عدم واقع الحمل خارجاً قيداً للعلقة الوضعيّة بناءً على ما سبق في بحث الحروف من أنّ أمثال صاحب الكفاية من المشهور تصوّروا إمكان تقييد العلقة الوضعيّة، فنفرض كون الوضع مقيّداً بظرف عدم الحمل على الذات من قبيل دعوى صاحب الكفاية: أنّ الوضع مقيّد باللحاظ الآليّ تارة والاستقلاليّ اُخرى، ومعه لا يصحّ الحمل؛ إذ عند الحمل ينتفي الوضع لكونه مشروطاً بزمان عدم الحمل، فكأنّ كلمة (عِلم) في ظرف الحمل تكون مهملة، فلا يمكن حملها على زيد بالرغم من فرض اتّحاد المبدأ خارجاً مع الذات.

الثاني: أن يكون عدم الحمل لا بمعنى عدم الحمل بوجوده الخارجيّ، بل عدم الحمل بما هو مفهوم من المفاهيم التصوّريّة، ويؤخذ قيداً في المعنى الموضوع له لا شرطاً للعلقة الوضعيّة، بمعنى: أنّ لفظ «العلم» مثلاً موضوع لحصّة خاصّة من

476

مفهوم الحدث، وهي الذي لم يحمل على الذات، ولم يوضع للحدث على الإطلاق، فيتعذّر الحمل؛ إذ بمجرّد حمل الحدث على الذات يخرج عن كونه مصداقاً لما وضع له اللفظ(1). إذن فهدم صحّة الحمل يمكن تثبيته على أساس تصوّرات اعتباريّة. وقد اتّضح بذلك: أنّ الأمر الثاني غير تامّ، ولكن الأمر الأوّل تامّ: أي: أنّ المتغايرين وجوداً ومفهوماً لا يصحّ حمل أحدهما على الآخر بمجرّد أخذ أحدهما لا بشرط من الحمل على الآخر، فإن أراد المحقّق الدوّانيّ وأمثاله تصحيح الحمل على أساس الأخذ لا بشرط مع الاعتراف بالمغايرة وجوداً ومفهوماً، فهذا لا يتمّ.

إلاّ أنّ هذا التفسير الأوّل ليس هو مراد أصحاب هذا القول كما صرّح به أنفسهم وإن توهّمه بعض(2).

التفسير الثاني: ما جاء في كلمات المحقّق الدوّانيّ(رحمه الله)(3) والمحقّق


(1) لا يخفى: أنّ تقييد المعنى الموضوع له بمثل هذا الشرط شبيه بتقييد الوضع به من حيث إنّ المحكيّ عنه لا يختلف بإضافة هذا الشرط أو القيد، وهذا ليس معهوداً في الوضع، ولا معمولاً به من قبل المستعملين.

(2) كأنّ المقصود به صاحب الفصول(رحمه الله) بحسب ما نقل عنه صاحب الكفاية(رحمه الله) في الجزء الأوّل من الكفاية، ص 83 ـ 84 بحسب طبعة المشكينيّ. أو المقصود به المحقّق العراقيّ(رحمه الله) الذي فسّر كلام أهل المعقول بهذا التفسير في المقالات، ج 1، ص 193 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ. راجع أيضاً نهاية الأفكار، ج 1، ص 141 ـ 142 بحسب طبعة جماعة المدرسين بقم.

(3) لا توجد عندي تعليقات المحقّق الدوّانيّ على شرح التجريد للقوشجي، ولا أيّ كتاب آخر للمحقّق الدوّانيّ(رحمه الله)، ولكن هذا الوجه نقله الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) في نهاية الدراية، ج 1، ص 132 بحسب طبعة مطبعة الطباطبائيّ بقم عن الحكيم السبزواريّ في تعليقاته على الأسفار لا عن المحقّق الدوّانيّ.

477

النائينيّ(رحمه الله)(1) من أنّ اللابشرطيّة والبِشرط لائيّة ليستا بلحاظ نفس الحمل، بل بلحاظ أمر أسبق من الحمل، ويترتّب على ذلك جواز الحمل وعدمه. وأوضح ذلك المحقّق النائينيّ(رحمه الله) بأنّ الحدث كالعلم مثلاً له وجود في نفسه ووجود لموضوعه، ووجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه المندكّ في الموضوع، وحال ذلك حال المرآة، فحينما نقابل المرآة فوجود المرآة وجود للمرآة في نفسها ووجود للصورة المنعكسة في المرآة، وهما وجود واحد، فإن فرض: أنّنا لاحظنا هذا الوجود بمقتضى طبعه دون لحاظ عناية، إذن صحّ حمله على الذات؛ إذ هو طور من أطوارها، وإذا أعملنا عناية وفككنا بين وجوده في نفسه ووجوده لموضوعه، والتفتنا فقط إلى جنبة وجوده في نفسه دون جنبة استهلاكه واندكاكه في الموضوع لم يصحّ الحمل. والأوّل معنى اللابشرطيّة، والثاني معنى البشرط لائيّة، ونفس المطلب يتصوّر في المرآة، فمن ناحية يقال: هذه صورة إنسان؛ لأنّ المرآة مندكّة في الصورة، لكن لو أعملنا عناية لفصل المرآة عن الصورة، قلنا: هذه مرآة، ولا يصحّ أن نقول: إنّها صورة، فالمشتقّ والمصدر يحتويان على مفهوم واحد تارةً يلحظ بما هو ظهور لموضوعه، فيحمل عليه لكونه عينه، واُخرى يلحظ بما هو ظهور لنفسه فقط فلا يحمل عليه.

وقد اعترض على ذلك بعدّة اعتراضات(2):

الأوّل: أنّه كيف يعقل تصوّر مفهوم وحدانيّ بلحاظ قابل للحمل على الذات،


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 73 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 117 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) راجع أجود التقريرات، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، ص 73 تحت الخطّ، والمحاضرات، ج 1، ص 278 ـ 280 بحسب طبعة مطبعة النجف.

478

وبلحاظ آخر غير قابل للحمل عليها؟! فإنّ هذا المفهوم الوحدانيّ: إمّا أن يكون وجوده عين وجود الذات، فيصحّ حمله متى ما تصوّرناه، أو مغايراً له، فلا يصحّ حمله متى ما تصوّرناه، فيجب أن نلتزم بأنّ ما يقبل الحمل مفهوم، وأنّ ما لا يقبل الحمل مفهوم آخر، ومن هنا التزم هؤلاء المستشكلون بأنّ مفهوم المشتقّ مغاير ذاتاً لمفهوم المصدر، فمفهوم المصدر هو الحدث، ووجوده مغاير لوجود الذات، ومفهوم المشتقّ مطعّم بالذات والشيء، فيتحّد مع الذات، فيصحّ الحمل. وأمّا لو لم ندخل هذا التطعيم وفرضنا وحدة المفهوم، فلا نتعقّل كونه ممّا يحمل تارةً ولا يحمل اُخرى.

وهذا الإشكال لا يمكن المساعدة عليه؛ لأنّ أصحاب هذا الإشكال مضطرّون في النهاية إلى الاعتراف بإمكان انحفاظ مفهوم واحد يصحّ حمله تارةً ولا يصحّ اُخرى ووقوع ذلك؛ إذ ننقل الكلام من المشتقّات ومصادرها الحقيقيّة إلى المشتقّات ومصادرها الجعليّة، فنأتي إلى نفس مفهوم الشيء الذي أدخلوه في مفهوم المشتقّ، وبه صحّحوا الحمل وميّزوا بينه وبين المصدر، فنقول: إنّ الشيء بنفسه مشتقّ له مصدر جعليّ، فيقال: شيء وشيئيّة، وذات وذاتيّة، وإنسان وإنسانيّة وهكذا، فشيء يصحّ حمله على الذات بلا إشكال، والشيئيّة لا يصحّ حملها عليها، فهل الشيء والشيئيّة يحتفظان بمفهوم واحد، أو إنّ «شيء» طعّم بشيء زائد على الشيئيّة؟ طبعاً هنا لا يمكن القول بالتطعيم؛ إذ كلامنا في نفس الشيء، فإن قيل: المراد: شيء له الشيئيّة، فهذا غير معقول، ويجب فرض شيء أعمّ من الشيئيّة تعرض عليه الشيئيّة حتّى لا يلزم عروض الشيء على نفسه، ولا يوجد هناك مفهوم أعمّ من الشيء حتّى يطعّم به، إذن فلابدّ من فرض وحدة مفهوم الشيء والشيئيّة، ومع ذلك صحّ بقدرة قادر حمل الشيء على الذات، ولم يصحَّ حمل

479

الشيئيّة عليه، وهذا برهان على أنّ مفهوماً واحداً قد يكون له لحاظان، بأحد اللحاظين يصحّ حمله على الذات، وباللحاظ الآخر لا يصحّ حمله عليها، فإذا كان الأمر كذلك في الشيء والشيئيّة، فليكن كذلك في مثل «عِلم» و«عالم» مثلاً.

وتحليل المطلب بعد إقامة البرهان عليه: أنّنا إذا فرضنا أنّ مفهوم البياض مثلاً مع الذات متّحدان في الوجود الخارجيّ، فهذا الوجود الوحدانيّ للمفهومين بحسب عالم التحليل يمكن أن يحلّل إلى جزءين فحصّة منه مظهر للذات وهو الجدار مثلاً، وحصّة اُخرى منه مظهر للعرض وهو البياض، لكن هذه تجزئة بحسب عالم الاعتبار والتحليل، لا بحسب الخارج كما هو الحال في الجنس والفصل، فالإنسانيّة في عالم الخارج لا تنحلّ إلى حيوانيّة وناطقيّة، وإنّما في صقع التحليل وبالمنظار التحليليّ ترى شيئين، وكذلك الأمر في المقام، وعندئذ إن نظرنا إلى عالم الخارج الذي هو عالم الوحدة في الوجود، صحّ الحمل. وإن نظرنا إلى صقع التحليل، فسوف نرى المغايرة في الوجود، فلا يصحّ الحمل، فكلمة «بياض» موضوعة عند المحقّق النائينيّ(رحمه الله) للحدث المنظور إليه بالنظر التحليليّ؛ ولذا قال: إنّ ملاحظته بشرط لا عن الحمل تحتاج إلى عناية، وأمّا في الأبيض فالملحوظ نفس الحدث حسب طبعه الخارجيّ.

الثاني: أنّه لو سلّمت وحدة العرض والمعروض في الوجود الخارجيّ، ولذلك يصحّ الحمل على الذات في مثل «عالم» بالرغم من كونه بمعنى العلم بحسب الفرض، فهذا لا يسري إلى أسماء الأماكن والأزمان؛ إذ ليس نسبة المبدأ إلى الزمان أو المكان نسبة العرض إلى موضوعه حتّى يقال: إنّ وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه، وإنّه اندكّ في الموضوع، وإنّما نسبته إليهما نسبة المظروف إلى الظرف الزمانيّ أو المكانيّ ومع ذلك يصحّ فيه الحمل على الزمان والمكان، فلابدّ

480

من الالتزام فيه بأنّ كلمة «مقتل» تختلف مفهوماً عن القتل، وأنّها طعّمت بمفهوم الشيء، فمقتل يعني شيء وقع فيه القتل مثلاً، أو شيء له ظرفيّة القتل مكاناً أو زماناً حتّى يصحّ الحمل.

ويمكن ذبّه عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله) بأن يدّعي دعوى إضافيّة في اسم الزمان والمكان، وهي: أنّ المبدأ ليس هو ذات القتل، بل محلّيّة القتل سنخ ما اختاره جملة من المحقّقين كصاحب الكفاية(1) وغيره من تطعيم المبدأ في الحرف والصناعات بالحرفة والصناعة، ومن الواضح: أنّ نسبة محلّيّة القتل إلى المكان والزمان نسبة العرض إلى موضوعه.

الثالث: أنّ دعوى المحقّق النائينيّ(رحمه الله): أنّ وجود العرض في نفسه عين وجوده لموضوعه، فيكون وجوده طوراً من أطوار موضوعه ومتحداً معه إن صحّت فإنّما تصحّ في الأعراض الحقيقيّة: كالعلم والبياض والسواد والقدرة وغير ذلك، ولا تصحّ في الأعراض والمفاهيم الانتزاعيّة التي تنتزع عن الماهية والأشياء؛ كالزوجيّة والفرديّة والإمكان والوجوب ونحو ذلك؛ إذ ليس لها وجود في الخارج حتّى يقال: إنّ وجودها في نفسها عين وجودها لغيرها. نعم، الأعراض الحقيقيّة لها وجود في الخارج، فيقال: إنّه عين وجود الذات.

وهذا الإشكال لو تمّ لكان هدماً لمبنى المستشكلين أنفسهم، فإنّهم يهدفون القول بأنّ المصدر والمشتقّ مفهومان متباينان؛ ولذا صحّ حمل أحدهما على الذات دون الآخر، وأنّ المصحِّح لحمل المشتقّ على الذات هو أخذ مفهوم الشيء فيه، فنقول لهم: إنّ (الشيء) بنفسه مفهوم انتزاعيّ، فإن لم نتصوّر نحواً من الاتّحاد


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 58 ـ 59 بحسب طبعة المشكينيّ.

481

بين المفهوم الانتزاعيّ ومنشأ الانتزاع، بطل تصحيحكم للحمل بإدخال مفهوم الشيء. وإن اعترفتم بنحو من الاتّحاد بين ثبوت المفهوم الانتزاعيّ بالنحو المناسب له من الثبوت ومنشأ الانتزاع، بطل الإشكال الذي أوردتموه عل المحقّق النائينيّ(رحمه الله).

الرابع ـ وهو أوضح الاعتراضات وأقربها إلى الذهن ـ(1): أنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله)يرى أنّ المشتقّ وإن كان هو نفس العرض، ولكن العرض وجوده في نفسه بحسب طبعه عين وجوده لغيره، ومتّحد مع الذات، فحينما ينظر إلى العرض بحسب طبعه يصحّ حمله على الذات، وهنا نقول: إنّه يمكن التعبير عن المطلب في المقام بإحدى عبارتين:

1 ـ فإمّا أن نعبّر بأنّ العرض وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه.

2 ـ أو نعبّر بأنّ العرض وجوده في نفسه عين وجود موضوعه.

فإن كان المقصود هو الأوّل، فهذا لا يصحّح الحمل، ولا يثبت اتّحاد العرض مع الذات خارجاً؛ فإنّ معنى كون وجوده في نفسه عين وجوده لموضوعه: أنّ وجوده في نفسه حاضر للموضوع، فلوجوده إضافتان: إضافة إلى ماهية العرض، فيقال مثلاً: «هذا وجود البياض» وإضافة إلى موضوعه لكونه عرضاً له، والوجود الذي هو طرف الإضافة إلى البياض مثلاً هو عين الوجود الذي هو طرف الإضافة إلى الموضوع، لكن المغايرة مع هذا محفوظة بين وجود العرض والموضوع. وممّا يبرهن على ذلك: أنّ نفس هذه العبارة صادقة في المعلول مع العلّة، فالمعلول الحقيقيّ وجوده في نفسه عين وجوده لعلّته، بمعنى: أنّ هناك وجوداً واحداً هو


(1) كأنّ هذا الوجه تعميق لجزء من كلام السيّد الخوئيّ(رحمه الله) فيما ذكره من الوجه الثاني للإشكال في المحاضرات، ج 1، ص 278 ـ 279 بحسب طبعة مطبعة النجف، ومن الوجه الثالث للإشكال في أجود التقريرات، ج 1، ص 73، تحت الخطّ.

482

طرف الإضافة إلى ماهية المعلول، وهو حاضر بذاته للعلّة؛ ولذا يقال: إنّ وجود المخلوقين هو أحد مراتب علم الله، فإنّ أنزل مراتب العلم الربوبيّ نفس الوجودات الخارجيّة للمخلوق، والعلم هو حضور المعلوم لدى العالم، ومع هذا لا يصحّ توصيف العلّة بالمعلول؛ ولذا اختار صاحب الأسفار في تعريف العرض ـ على ما أتذكّر ـ: العرض ما يكون وجوده في نفسه عين وجوده للموضوع على وجه الاتّصاف، فجاء بقيد (على وجه الاتّصاف) لكي يخرج المعلول الذي هو أيضاً وجوده في نفسه عين وجوده لعلّته، فاتّضح بهذا: أنّ هذه النكتة لا تصحّح حمل العرض على المعروض، وإلاّ لصحّحت حمل المعلول على العلّة أيضاً بينما لا يصحّ ذلك.

وإن كان المقصود هو الثاني بأن يقال بعبارة صريحة: إنّ وجود العرض في نفسه عين وجود الموضوع، فالبياض والجدار ليس بإزاء كلّ واحد منهما وجود مستقلّ، بل يوجد بإزائهما وجود واحد، فلا برهان على خلاف ما تفيده هذه العبارة، وعلى استحالة ظهور مفاهيم متعدّدة بوجود واحد، بل قد ادّعي هذا بالنسبة إلى الصور الذهنيّة للمعلومات مع النفس، وهي قائمة بالنفس على حدّ قيام الوجودات الخارجيّة للأعراض بوجودات ذويها الخارجيّة، فإن صحّ أنّها موجودة بعين وجود النفس فلا استنكار لو ادّعى المحقّق النائينيّ أنّ الوجودات الخارجيّة للأعراض عين وجودات الموضوع. وبناءً على هذه الدعوى، فحينما يصبح الأسود أبيضَ وبالعكس يرجع ـ بحسب الحقيقة ـ إلى تبدّل حدود وجود واحد لا إلى زوال وجود ومجيء وجود آخر، كما يقال بذلك أيضاً حينما يتبدّل تصوّر من تصوّرات النفس إلى تصوّر آخر. هذا مطلب لا برهان على استحالته. وما يقال في الكلمات من أنّ العرض مغاير مفهوماً ووجوداً للجوهر؛ لأنّ العرض وجود رابطيّ والجوهر وجود نفسيّ استقلاليّ، هذا الكلام ينفع الخطابة لا البرهان.

483

إلاّ أنّه مع هذا كلِّه نقول: إنّ الإلهام العاميّ للإنسان العرفيّ والنظر الفطريّ للشخص المتعارف يفرض المغايرة بين الذات والأعراض(1)، فالتفّاحة هي غير صفرتها أو حلائها ونحو ذلك، واللغة بنت هذا الإنسان الذي يفكّر بإلهامه الفطريّ، فيتحكّم فيها ذوق هذا الإنسان. فنحن فلسفيّاً عاجزون عن البرهنة ضدّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، لكن الإلهام العاميّ والنظر الفطريّ يقتضي التباين، فنقول: إنّ العالم مثلاً لو كان مفهومه عين مفهوم العلم لما صحّ حمله على الذات بحسب الإلهام الفطريّ الحاكم بأنّه مباين للذّات وجوداً ومفهوماً.

التفسير الثالث: هو ما نذكره في بيان القول الثاني.

 

تحقيق القول الثاني:

وأمّا القول الثاني: وهو القول بأنّ المشتقّ موضوع لعنوان بسيط منتزع عن الذات بلحاظ تلبّسها بالمبدأ، فهذا القول هو المفسّر للابشرطيّة عن الحمل والبشرط لائيّة بتفسير ثالث، وهو ما يستفاد من عبارة المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)(2)، وتوضيحه: أنّ اللابشرطيّة والبشرط لائيّة ترجع إلى تغاير سنخيّ وذاتيّ بين المفهومين، لا أنّ هناك مفهوماً وحدانيّاً محفوظاً في جانب المشتقّ والمصدر، ويكون الفرق بينهما بالاعتبار، فمدلول المصدر هو مفهوم الحدث، ومدلول المشتقّ هو عنوان انتزاعيّ بسيط منتزع عن الذات بلحاظ تلبّسها بالمبدأ، فنفس الذات ونفس الحدث ونفس النسبة غير مأخوذة في مدلول المشتقّ على خلاف


(1) الإشكال بفهم الإنسان العرفيّ وارد في نهاية الدراية، ج 1، ص 134 بحسب طبعة مطبعة الطباطبائيّ بقم.

(2) راجع الكفاية، ج 1، ص 78 بحسب طبعة المشكينيّ.

484

القول الرابع الذي سوف يأتي الكلام عنه إن شاء الله.

وعلى أيّ حال، فهناك فرق ذاتيّ بين مفهوم «عالم» مثلاً ومفهوم «علم»، فمفهوم «علم» هو الحدث، وهو مغاير وجوداً للذات، فبطبعه يأبى عن الحمل على الذات، وهو معنى البشرط لائيّة، ومفهوم «عالم» هو عنوان بسيط منتزع عن الذات، إذن فهو متّحد مع الذات؛ لأنّ العنوان الانتزاعيّ متّحد مع منشأ انتزاعه، فبطبعه يقبل الحمل على الذات، وهذا معنى اللابشرطيّة.

وبعد أن ذكر صاحب الكفاية هذا الرأي في المقام استعرض براهين المحقّق الشريف على نفي التركيب الذي هو القول الرابع معتقداً أنّها بناءً على تماميّتها ترد على القول بالتركيب والتطعيم بمفهوم الشيء والذات، ولا ترد على هذا القول.

ولنا حول ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) عدّة تعليقات:

1 ـ إنّ هذا الكلام يدّعي: أنّ قيام مبدأ بالذات ـ سواء كان المبدأ عرضيّاً حقيقيّاً: كالعلم والبياض أو انتزاعيّاً: كالإمكان والزوجيّة ـ يوجب انتزاع عنوان بسيط عن الذات بلحاظ قيام المبدأ به، بينما إن قطعنا النظر عن باب الألفاظ وتوجّهنا إلى المفاهيم، نرى ـ بحسب وجداننا ـ أنّه لا توجد في النفس صورة جديدة وراء صورة الذات والمبدأ والنسبة تكون منتزعة عنها، ولو كان كذلك للزم التسلسل في الاُمور الانتزاعيّة؛ لأنّ هذا المفهوم الجديد المنتزع عن الذات بلحاظ تلبّسها بالمبدأ يكون بدوره قائماً بالذات أيضاً على حدّ قيام المبادئ الانتزاعيّة بمناشئ انتزاعها، فعنوان «ممكن» أو «أبيض» أو «عالم» عنوان انتزاعيّ حسب الفرض قائم بالإنسان المتّصف بهذه الصفات، فينتزع عنوان بسيط آخر في طول هذا العنوان البسيط، وهكذا حتّى يتسلسل. فإن قلنا باستحالة التسلسل في الانتزاعيّات، فهذا محال، وإلاّ فيكفي كون هذا خلاف الوجدان، فإنّ الوجدان

485

شاهد على أنّه حينما يتّصف شيء بالبياض أو العلم أو غير ذلك لا يكون منشأً لإمكان انتزاع عناوين متكثّرة من هذا القبيل.

2 ـ إنّ ظاهر صاحب الكفاية القائل بهذا القول الثاني: أنّه يرى أنّ هذا القول لا يرد عليه إشكالات المحقّق الشريف(رحمه الله) ـ لو تمّت ـ التي اُوردت على أخذ مفهوم الشيء والذات في المشتقّ، حيث استشكل في ذلك ـ على ما يأتي إن شاء الله ـ بأنّ مفهوم الشيء والذات عرض، والمشتقّ قد يكون فصلاً كناطق، فيلزم دخول العرض في الذات بينما أنّ هذا الإشكال ـ لو كان له محصّل ـ فهو وارد على مختار صاحب الكفاية أيضاً؛ إذ هذا العنوان المنتزع البسيط أيضاً أمر عرضيّ باعتباره انتزاعيّاً، فلو اُخذ في مفهوم «ناطق» لزم أيضاً محذور تقوّم الفصل بالعرض.

3 ـ إنّ هذا المقدار من البيان يري أنّ النكتة الوحيدة التي جعلت المصدر غير قابل للحمل على الذات، والمشتقّ قابلاً لذلك هي: أنّ الحدث غير متّحد مع الذات، وهو مفاد المصدر، والعنوان الانتزاعيّ متّحد مع منشأ انتزاعه، وهو مفاد المشتقّ، في حين أنّ هذا لا يفسّر لنا الفرق بين المشتقّ والمبادئ الانتزاعيّة في قبول الأوّل للحمل دون الثاني، فإن كان العنوان الانتزاعيّ متّحداً مع منشأ انتزاعه، إذن فلماذا لا يصحّ حمل المبادئ الانتزاعيّة على الذات، كأن نقول: «الإنسان إمكان» و«الأربعة زوجيّة» ونحو ذلك؟ وإن كان العنوان الانتزاعيّ مغايراً في الوجود لمنشأ انتزاعه، إذن فكيف صحّ حمل المشتقّ على الذات مع أنّه على هذا المبنى ليس إلاّ عنواناً انتزاعيّاً انتزع عن الذات؟

 

تحقيق القول الثالث:

وأمّا القول الثالث: فهو أنّ المشتقّ بمادّته موضوع للحدث وبهيئته للنسبة من

486

دون أخذ الذات فيه، وهذا ظاهر المحقّق العراقيّ(رحمه الله) على ما في تقريرات بحثه(1). وخلاصة ما يستفاد منه للاستدلال على هذا المدّعى هو الاستقراء للهيئات غير هيئة المشتقّ، فنحن نرى مثلاً أنّ هيئة المصدر وهيئة الفعل الماضي والمضارع والأمر كلّها موضوعة للمعنى الحرفيّ، فنعرف أنّ هيئة فاعل مثلاً أيضاً كذلك، فليست موضوعة للذات، وإلاّ لكان مفهوماً اسميّاً، فالذات غير مستفادة من المشتقّ؛ إذ لا هي مأخوذة في المادّة ولا الهيئة، فإنّ المادّة إنّما تدلّ على الحدث، والهيئة إنّما تدلّ على النسبة.

وهذا الكلام يواجه الصعوبة الأساسيّة، وهي: أنّه كيف يتصوّر بناءً على هذا تصحيح حمل المشتقّ على الذات، فكيف نقول مثلاً: «زيد عالم» أو «زيد ضاحك» أو نقول: «الضاحك عالم»؟ فإنّنا حينما نقول: «الضاحك عالم» لا نريد بذلك: أنّ الضحك علم، ولا يصحّ ذلك؛ لعدم الاتّحاد بين الضحك والعلم وإنّما نريد أن نقول: إنّ الذات المتّصفة بالضحك هي الذات المتّصفة بالعلم.

وقد أثار هذا الإشكال في التقريرات، وأجاب عنه بما فيه نوع اضطراب وتشويش، ويتلخّص منه جوابان باختلاف الكلمات:

الجواب الأوّل: أنّ الذات ليست مدلولاً عليها بالمطابقة في «ضاحك» و«عالم»، لكنّها مدلول عليها بالدلالة الالتزاميّة؛ إذ النسبة تحتاج إلى طرفين، فيدلّ اللفظ الدالّ عليها على الذات بالالتزام(2). ويرد عليه:

 


(1) راجع نهاية الأفكار، ج 1، ص 143 ـ 144 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وراجع المقالات، ج 1، ص 190 ـ 192 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

(2) إنّني لا أملك كتاب بدائع الأفكار تقريراً لاُصول الشيخ العراقيّ(رحمه الله)، والموجود

487


في نهاية الأفكار يختلف عمّا هو مذكور هنا في المتن نقلاً عن المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، فهو لا يرى أنّ الاتّحاد نتج من الدلالة الالتزاميّة على الذات كما هو الموجود هنا في المتن في الجواب الأوّل، أو نتج من النسبة الاتّحاديّة كما هو الموجود في المتن هنا في الجواب الثاني؛ بل هو يرى أنّ الاتّحاد نتج من ملاحظة الوصف بما هو جلوة من جلوات الذات، وبما هو لباس لها، ووجه لها.

وهذا الكلام ـ كما ترى ـ إن اُريد له التدقيق والتحديد يجب أن يرجع إلى بعض الوجوه الماضية من التوحيد بين الصفة والذات ممّا مضى شرحها على القول الأوّل. نعم، هو(رحمه الله)يرى أنّ الدلالة الإثباتيّة واللغويّة على ملاحظة الوصف بما هو جلوة أو لباس أو وجه للذات يكون أحد أمرين: إمّا دلالة هيئة المشتقّ على النسبة كما هو مختاره(رحمه الله)، فبضمّها إلى دلالة المادّة على المبدأ يثبت النظر إلى الحدث باعتباره جلوة للذات ولباساً لها، وإمّا دلالة مجموع المادّة والهيئة على المبدأ، لكن لا مطلقاً، بل في حين اتّحاده مع الذات؛ وذلك لا على أساس التقييد الذي يرجع إلى أخذ النسبة، بل على أساس الحصّة التوأم، ويقول(رحمه الله): إنّ هذا الوجه الثاني غير صحيح؛ لأنّه خلاف ما هو المألوف في باقي المشتقّات من انحلالها إلى مادّة تدلّ على الحدث وهيئة تدلّ على النسبة.

أقول: إنّ هذا يرد عليه:

أوّلاً: ما مضى إيراده على تصوير اتّحاد المبدأ مع الذات من أنّه إن صحّ فلسفيّاً لا يصحّ عرفيّاً.

وثانياً: بطلان الحصّة التوأم في مقابل الحصّة المقيّدة في مقام تحصيص المفاهيم على ما حُقّق في محلّه.

وثالثاً: ما مضى وسيأتي من اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) من أنّه لو اُخذت النسبة في مفاد المشتقّ من دون أخذ الذات، لأصبحت الكلمة غير مستقرّة كالفعل، بل وأتعس من ذلك حيث إنّ الفعل يمكن تكميله وجعله مستقرّاً بإعطاء فاعله له مثلاً، لكن مثل اسم الفاعل

488

أوّلاً: أنّ من الواضح: أنّ الحمل في قولنا: «العالم ضاحك» إنّما هو بلحاظ المدلول المطابقيّ لا الالتزاميّ، أي: أنّنا نحمل المدلول المطابقيّ لعالم على المدلول المطابقيّ لضاحك. وأمّا الدلالة الالتزاميّة في مرحلة التصوّر فهي لا تُنظّم الكلام، وإلاّ فنفس الدلالة الالتزاميّة موجودة في المصدر على ما ذهب هو وغيره إليه من أنّ هيئة المصدر أيضاً دالّة على النسبة التقييديّة، فيلزم صحّة قولنا: «الضحك علم»، مع أنّه لا يصحّ بلا إشكال، والمصحّح للحمل إنّما هو المدلول المطابقيّ.

وثانياً: أنّ الدلالة الالتزاميّة وإن كانت توجب تصوّر الذات من باب: أنّ النسبة لا تتصوّر بدون طرفين، ولا تقوم بذاتها على قدميها، لكن هذا لا يحتّم أن تُتصوّر الذات بنحو تكون هي المقيّد، وهو الذي نسمّيه بالركنيّة، أي: لا يتحتّم أن يكون مفاد «ضاحك» أو «عالم» بعد ضمّ الدلالة الالتزاميّة إليه ذات له الضحك، وذات له العلم حتّى يقال: إنّ حمل ذات له العلم على ذات له الضحك صحيح بلا إشكال؛ فإنّ الدلالة الالتزاميّة ليست بأكثر من لزوم انتقال الذهن إلى الذات من باب احتياج النسبة إلى طرفين، ولكن الذات كما يمكن أن تقع طرفاً للنسبة بأن تصبح هي الركن، وتصبح مقيّداً كذلك يمكن أن تقع هي القيد، ويكون الحدث هو المقيّد،


يبقى غير مستقرٍّ إلى الأبد.

ورابعاً: أنّ مجرّد دلالة المادّة على الذات والهيئة على النسبة لا تكفي في مرحلة الدلالة لإثبات نظر المتكلّم إلى الوصف بما هو لباس ووجه وجلوة للذات، إلاّ أن يفترض أنّ هذا يفهم بالدلالة الالتزاميّة من باب حاجة النسبة إلى الطرفين.

إلاّ أنّ هذا يرد عليه ما أفاده اُستاذنا(رحمه الله) في المتن في إيراده الأوّل من دلالة الوجدان العرفيّ واللغويّ على أنّ الحمل في مثل «زيد قائم» أو «العالم ضاحك» إنّما هي بلحاظ المدلول المطابقيّ لا الالتزاميّ.

489

فيرجع «ضاحك» و«عالم» إلى ضحك مستند إلى الذات، أو علم مستند إلى الذات، ومن الواضح: أنّه لا يصحّ حمل العلم المستند إلى الذات على الضحك المستند إلى الذات(1).

الجواب الثاني: أنّه لو كانت النسبة المأخوذة في الهيئة من النسب الحلوليّة والصدوريّة بين المبدأ والذات لاستدعت المغايرة بينهما؛ إذ الحلول والصدور فرع الاثنينيّة، ولكن النسبة هنا هي النسبة الاتّحاديّة، أي: أنّ النسبة بين «زيد» و«علم» تارة يعبّر عنها بمفهوم اسميّ، فيقال: (اتّحاد)، واُخرى يعبّر عنها بمفهوم حرفيّ فيقال: (عالم)، فهيئة «فاعل» تدلّ على تلك النسبة، كما أنّ ظرفيّة الحديقة لزيد قد تلحظ بنحو المعنى الاسميّ فيقال: «الحديقة ظرف لزيد»، وقد تلحظ بنحو المعنى الحرفيّ، فيقال: «زيد في الحديقة»(2).

ويرد عليه: أنّ مجرّد وجود دالّ على الاتّحاد في الكلام بين المبدأ والذات لا يكفي لصحّة الحمل حتّى يفرض: أنّ الهيئة هنا تدلّ على نسبة سمّاها بالنسبة الاتّحاديّة، ويقال: إنّه بهذا تنتهي المشكلة، وإنّما المناط هو الاتّحاد حقيقةً ووجوداً، فالاتّحاد إن كان موجوداً حقيقةً صحّ الحمل سواء وجد دالّ عليه ولو بنحو المعنى الحرفيّ أو لا، وإلاّ لم يصحّ الحمل سواء وجد دالّ على الاتّحاد أو لا، وأخذ النسبة الاتّحاديّة في الهيئة إنّما أثره وجود الدالّ على الاتّحاد لا تحقّق واقع الاتّحاد،


(1) يمكن للمحقّق العراقيّ(رحمه الله) أن يجيب على ذلك بأنّ النسبة التي تدلّ عليها هيئة المشتقّ إنّما هي النسبة التي تكون الذات ركناً فيها لا التي يكون المبدأ ركناً فيها، فإنّهما نسبتان متباينتان؛ لأنّ أيّ تغيّر في أطراف النسبة ـ ولو على مستوى تعيين ما هو الركن ـ يوجب تغيّر النسبة.

(2) هذا الوجه غير موجود في المقالات ولا في نهاية الأفكار.

490

فتحصل: أنّ مشكلة الحمل واردة على هذا القول، ولا يمكن دفعها بكلا الجوابين. هذا.

مضافاً إلى أنّه يرد على هذا القول ما نقلناه عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في مقام الإشكال على أخذ النسبة في مدلول المشتقّ من أنّ النسبة إذا كانت مأخوذة من دون الذات، لزم تقوّمها بطرف واحد، وهو الحدث، مع أنّ النسبة متقوّمة بطرفين ولا يعقل تقوّمها بطرف واحد. وهذا الكلام قد أصلحناه سابقاً وقلنا: لا ينبغي أن يكون المراد: كون النسبة بواقعها متقوّمة بطرفين، وإنّما ينبغي أن يراد أنّ النسبة بلحاظ مرحلة مدلول الكلام يجب أن تتقوّم بطرفين حتّى يكون الكلام تامّاً ومستقرّاً، فلو كان «ضارب» يعطي معنى المبدأ والنسبة فحسب لكان الكلام بحسب عالم الدلالة ناقصاً، ففي قولنا: «رأيت ضارباً» يلزم أن يكون الكلام ناقصاً، وهذا خلاف الوجدان، فإنّ معنى «ضارب» سنخ معنىً لا يحتاج إلى متمّم ومكمّل كما هو الحال في «ضَرَب» المحتاج إلى الفاعل دائماً لدلالته على الحدث والنسبة فحسب، إذن فضارب: إمّا لم تؤخذ فيه النسبة، أو اُخذت فيه النسبة مع الذات.

 

تحقيق القول الرابع:

وأمّا القول الرابع: وهو التركب من الذات والحدث ونسبة بينهما، فالكلام فيه يقع في مقامين:

1 ـ فيما يدّعى برهاناً على هذا القول.

2 ـ فيما يدّعى برهاناً على نقض هذا القول وإبطاله.

أمّا المقام الأوّل: فحاصل ما برهن به أصحاب هذا القول عليه هو: أنّ المشتقّ يجب أن يغاير مفهومه مفهوم المصدر؛ لأنّ العلم مثلاً لا يصحّ حمله على الذات، وهو برهان التغاير مع الذات، والعالم يصحّ حمله على الذات، وهو برهان الاتّحاد

491

معها، والمغاير غير المتّحد.

وهذا البرهان بهذا البيان اندفع بما ذكرناه في توضيح وتحقيق تفسير المحقّق النائينيّ(رحمه الله) للابشرطيّة والبشرط لائيّة، حيث قلنا: يمكن انحفاظ مفهوم واحد يطرأ عليه لحاظان، بأحد اللحاظين يصحّ الحمل وباللحاظ الآخر لا يصحّ، وبرهنّا على ذلك بمثال الشيء والشيئيّة، حيث وضّحنا: أنّهما يعطيان مفهوماً واحداً ومع ذلك يصحّ حمل شيء على الذات دون الشيئيّة، وقلنا: إنّ هذين اللحاظين والاعتبارين عبارة عن النظر الجمعيّ والنظر التحليليّ.

وتحقيق الكلام في المقام: أنّنا لو تكلّمنا بمنظار الدقّة والواقع، فقد لا يكون هذا البرهان المُقام على القول الرابع تامّاً في شيء من المشتقّات أصلاً، ذلك أنّ المشتقّات المحمولة على الذوات يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:

1 ـ ما يكون مبدؤه ذاتيّاً بمعنى الذاتيّ في كتاب الكلّيّات، بأن يكون نوعاً أو جنساً أو فصلاً كما في «زيد انسان» فمبدؤه الجعليّ وهو الإنسانيّة ذاتيّ في كتاب الكلّيّات لزيد.

2 ـ أن يكون مبدؤه ذاتيّاً في كتاب البرهان، أي، من لوازم الذات بلا حاجة إلى ضمّ أمر خارج إليها، وذلك من قبيل: الشيئيّة التي هي من لوازم زيد.

3 ـ أن يكون المصدر أمراً عرضيّاً، أعني: أنّه يحتاج إلى ضمّ أمر خارجيّ كما في العلم والبياض ونحو ذلك من الأعراض الحقيقيّة، ففرضه في زيد يحتاج إلى ملاحظة أمر خارج عن زيد فرض وجوده فيه.

فالقسم الأوّل لا إشكال في أنّ المبدأ فيه عين الذات، والقسم الثاني أيضاً عين الذات باعتباره أمراً منتزعاً عن الذات بلا ضمّ أمر خارجىّ، فوجوده بعين وجود منشأ انتزاعه وهو الذات. وأمّا القسم الثالث فقد مضى: أنّه لا برهان على مغايرته

492

للذات، فبالمنظار الدقّىّ لعلّ المبدأ بجميع أقسامه عين الذات، ولكن قلنا: إنّه بالنظر العرفىّ والفطرىّ لا إشكال في أنّ الأعراض الحقيقيّة مغايرة وجوداً للذات، فالعلم والبياض ونحو ذلك وجود، والذات وجود آخر، وحيث إنّ اللغة بنت العرف والفطرة لا بنت الفلسفة والدقّة، إذن فيحتاج تصحيح الحمل على الذات إلى أن يؤخذ في المشتقّ مفهوم الشيء الذي هو ذاتىّ في كتاب البرهان، أو مصداق الشيء الذي هو ذاتىّ في كتاب الكلّيّات، وبهذا يتمّ البرهان بمنظار العرف وعلى مستوى الإدراك الفطرىّ، حيث إنّ المشتقّ كثيراً ما يكون مبدؤه من القسم الثالث كما في عالم وعادل وأبيض وغير ذلك. نعم قد يكون المشتقّ أيضاً من القسم الثاني كما في الممكن الذي مبدؤه الإمكان، ولكن حيث إنّ وضع الهيئة الاشتقاقيّة نوعيّ فبشكل عامّ قد اُخذ مفهوم «شيء» أو نحوه في المشتقّ، حيث نحتاج إلى أخذ ذلك في موارد القسم الثالث، ولا يضرّنا ذلك في موارد القسم الثاني(1) وبهذا يحصل الاتّحاد مع الذات في موارد القسم الثالث، فيصحّ حمل المشتقّ فيها على الذات، ولكن لا يصحّ حمل المبدأ فيها عليها؛ لعدم الاتّحاد، وأمّا في القسم الأوّل والثاني فالاتّحاد ثابت في المبدأ أيضاً، إلاّ أنّه يصحّ الحمل فيهما على الذات في المشتقّ دون المبدأ من باب اختلاف اللحاظ بالنظر الجمعىّ والنظر التحليلىّ الذي مضى بيانه.

وأمّا المقام الثاني: ففي توضيح البرهان المدّعى على عدم إمكان أخذ الذات في مدلول الهيئة الاشتقاقيّة يقسّم عادة أخذ الذات فيه إلى فرضين:

1 ـ أخذ مفهوم الشيء في مدلول المشتقّ.


(1) وكذلك في موارد القسم الأوّل لو وجدنا فيها مشتقّاً حقيقيّاً كما لو فرضنا أنّ الناطق كذلك.

493

2 ـ أخذ مصداق الشيء في مدلول المشتقّ. والمقصود من مصداق الشيء ما هو معروض المبدأ حقيقيةً، ففي «ضاحك» يؤخذ الإنسان، وفي «صاهل» يؤخذ الحصان وهكذا. ثُمّ يُبدأ بكلّ واحد من الاحتمالين، فيبرهن على عدم صحّته حتّى يتمّ البرهان على عدم أخذ الذات في مدلول الهيئة، فالكلام إذن يقع أوّلاً في أخذ مفهوم الشيء في المشتقّ، وثانياً في أخذ مصداقه فيه.

أمّا الأوّل: وهو أخذ مفهوم الشيء في المشتقّ، فقد بُرهن على استحالته ببرهان مأخوذ من بعض كلمات المحقّق الشريف(رحمه الله) في تعليقته على شرح المطالع، وهو: أنّه قد يكون المشتقّ فصلاً كناطق، فلو اُحذ مفهوم الشيء فيه لزم دخول العرض العامّ في الذاتيّ؛ لأنّ مفهوم الشيء عرض عامّ والفصل ذاتيّ، فلزم تقوّم الذاتيّ بالعرض.

وهذه الصيغة للبرهان ناقشها المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(1) مع تسليمه لجوهر البرهان بأنّ الأفضل تبديل هذه الصيغة بصيغة اُخرى، وذلك بأن يقال (بدلاً عن قولنا: لزم دخول العرض في الفصل): (لزم دخول الجنس في الفصل)؛ وتقوّم الفصل بالجنس أيضاً مستحيل. والوجه في العدول عن تلك الصيغة إلى هذه الصيغة دعوى: أنّ الشيء ليس مفهوماً عرضيّاً، وإنّما هو جنس الأجناس تقع تحته كلّ الأجناس العالية والمقولات الممكنة.

والكلام تارةً يقع في هذا التعديل الذي أدخله المحقّق النائينيّ(رحمه الله) على الصيغة، واُخرى في أصل الصيغة:

أمّا تعديل المحقّق النائينيّ(رحمه الله) فهو مبنيّ على ما عرفت من افتراض أنّ الشيء


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 111 ـ 113 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وراجع أجود التقريرات، ج 1، ص 69 ـ 71 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

494

هو جنس الأجناس، وليس عرضاً. وهذه الدعوى من قبله لا ينبغي أن تردّ بمثل ما قيل من أنّ مفهوم الشيء لا يعقل أن يكون جنساً عالياً، وإلاّ لزم وجود جنس أعلى من المقولات العشر، أي: الجوهر والمقولات العرضيّة التسع، فإنّ الشيء يعمّها جميعاً مع أنّه برهن في محلّه من الحكمة على أنّ المقولات العشر أجناس عالية ليس فوقها جنس(1)، فإنّ هذا الكلام لم يتحصّل في الحكمة أصلاً، ولم يبرهن في الفلسفة على أنّها أجناس عالية وأنّه يستحيل دخول اثنين منها أو أكثر في جنس أعمّ كما اعترف صاحب الأسفار. نعم، حاول بعضهم البرهنة على أنّ مفهوم العرض ليس جنساً عالياً كما حاولوا أيضاً البرهنة على أنّ الوجود ليس جنساً عالياً، ولم يبرهنوا على أنّ المقولات العشر ليس فوقها أو فوق بعضها جنس أعلى. نعم، هم صنّفوا المقولات إلى الجوهر وإلى الأعراض التسعة، وترسّخ ذلك في الأذهان، فأوجب ترسّخه في الأذهان تخيّل: أنّه بُرهِن عليه.

ولكن ينبغي الإيراد على المحقّق النائينيّ(رحمه الله) بأنّ مفهوم الشيء يستحيل أن يكون جنساً عالياً؛ لبرهان يخصّ مفهوم الشيء، وهو: أنّه لو كان جنساً عالياً لاحتاج ـ لكي يصير نوعاً ـ إلى ضمّ فصل إليه، فننقل الكلام إلى هذا الفصل، فنقول: هذا الفصل أهو شيء أو ليس شيئاً من الأشياء؟ فإن قيل: إنّه ليس شيئاً فهو غير معقول؛ لأنّ الفصل ـ لا محالة ـ مفهوم من المفاهيم، فهو شيء لا محالة، فلابدّ من القول بالأوّل، أي: أنّ هذا الفصل شيء، وحينئذ نقول: إنّ الشيء الذي انطبق على هذا الفصل هل هو تمام حقيقته أو جزؤه، أي: جنسٌ له؟ فعلى الأوّل لزم كون


(1) هذا كلام ورد في أجود التقريرات بعنوان: (إن قلت). راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 70 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

495

الفصل عين الجنس؛ لأنّ الجنس هو الشيء، والفصل تمام حقيقته هو الشيء. وعلى الثاني يحتاج هذا الفصل في نفسه إلى فصل، وننقل الكلام إلى ذاك الفصل وهكذا حتّى يتسلسل، ويلزم تركّب الماهية من أجزاء لا متناهية، فهذا برهان على استحالة كون الشيء جنساً عالياً.

هذا، مضافاً إلى أنّ الشيء إن كان جنساً عالياً، فعلى كلّ حال يلزم دخول الجنس في الفصل سواء قلنا بالبساطة أو التركّب، فلنفرض أنّ مفهوم المشتقّ بسيط، وأنّه هو بعينه مفهوم المبدأ، ولكن أفليس المبدأ شيئاً؟! طبعاً المبدأ شيء من الأشياء، فإذا فرض أنّ الشيء ذاتىّ لكلّ ما يصدق عليه، لزم دخول الجنس في الفصل، فلا محيص عن مشكلة لزوم دخول الجنس في الفصل إلاّ بالبرهنة(1) على


(1) بل تلك المشكلة بنفسها برهان كاف لإثبات عدم جنسيّة الشيء هذا.

وما يصلح في كلمات الشيخ النائينيّ(رحمه الله) كبرهان على كون مفهوم شيء جنساً أمران:

الأمر الأوّل: أنّ مفهوم «شيء» لو كان عرضاً عامّاً لكان عروضه على ما يعرض عليه خارجاً بواسطة عروضه لجنسه القريب أو البعيد، في حين أنّنا لا نجد وراء مفهوم الشيء جنساً مشتركاً للجوهر والمقولات التسع كي يكون مفهوم الشيء عارضاً عليه.

والأمر الثاني: أنّ عنوان «شيء» لم يكن من قبيل عنوان التقدّم والتأخّر مثلاً ممّا انتزع من الذات بقيام أمر عرضيّ خارج من ذاته به، بل انتزع من مقام الذات مباشرة من دون دخل طروّ عرض عليه، فهو برغم كونه أمراً انتزاعيّاً يكون ذاتيّاً، ونظيره مثلاً الإنسانيّة المنتزعة من الإنسان ونحو ذلك، فبما أنّ منشأ انتزاع الشيئيّة ليس من الاُمور العرضيّة فلا تكون هي عرضيّة أيضاً.

إلاّ أنّ شيئاً من الوجهين لا يكفي في المقام:

أمّا الوجه الأوّل: فلأنّ العرض العامّ إن سلّمنا أنّه يعتبر عرضاً للجنس الأوسع من النوع أو الفصل، فإنّما يكون ذلك لو وجد جنس من هذا القبيل، وإلاّ فلا برهان على ضرورة

496

عدم جنسيّة الشيء كما صنعناه.

وأمّا أصل الصيغة، وهي لزوم دخول العرض العامّ في الفصل وهو محال، فهذا مبنيّ على الالتزام بكون كلمة «ناطق» قد حكم عليها بالفصليّة بما لها من معنىً لغويّ وعرفىّ، ولكن هذا أوّل الكلام، فإنّ كلمة «ناطق» التي اعتبرها المناطقة فصلاً لم يعرف أنّهم جعلوها فصلاً بما لها من معنىً لغويّ وعرفيّ، بل نقطع بعدمه؛ إذ لابدّ لتصوير فصليّته من التصرّف في مادّته وهي النطق؛ لوضوح: أنّ النطق يراد به لغةً وعرفاً التكلّم؛ أو يراد به بنحو من العناية الإدراك. والتكلّم الذي هو من مقولة الكيف المسموع، والإدراك الذي هو من مقولة الكيف النفسانيّ كلاهما أمر عرضيّ، وما يكون ذاتيّاً وفصلاً للإنسان هو منشأ التكلّم والإدراك، فإذا فرض التصرّف في المادّة فلماذا يستبعد التصرّف في الهيئة؟! ولو سلّم عدم تصرّفهم في الهيئة فغاية ما يلزم اشتباه المناطقة في المعنى العرفيّ للناطق، فتخيّلوا عدم دخول مفهوم الشيء فيه. وهذا الاشتباه ليس عجيباً؛ لأنّ تشخيص المفهوم اللغويّ للناطق شأن اللغويّ لا المنطقىّ حتّى يستبعد خطؤهم في ذلك، ويصبح كلامهم برهاناً على معنى الناطق. هذا.

وإن كان مراد المحقّق الشريف(رحمه الله) البرهنة على بساطة الفصل، أي: عدم دخول مفهوم الشيء فيه، هو صحيح ولا علاقة لذلك بما نحن فيه. وتوضيح ذلك: أنّ


عروضه على جنس من هذا القبيل بحيث نكتشف من افتراض عدم جنس أوسع كون هذا أمراً ذاتيّاً لا عرضيّاً. نعم، لو كان العرض عرضاً حقيقيّاً ومعلولاً لمعروضه، فقد كنّا نستكشف بقانون (أنّ الواحد لا يصدر إلاّ عن واحد) وجود جنس فوق تلك المعروضات كي تكون هي العلّة لذاك العرض، أمّا العرض الانتزاعيّ فلا يأتي فيه هذا البيان.

وأمّا الوجه الثاني: فكون الانتزاع من الذات بلا واسطة أمر عارض عليه إنّما يثبت ذاتيّته له بالمعنى المقصود في كتاب البرهان لا بالمعنى المقصود في كتاب الكلّيّات.

497

المناطقة لم يكونوا بصدد بيان مفاهيم الألفاظ كالاُصوليين، وقد صاروا بصدد بيان: أنّ الفكر كيف يتوصّل إلى أمر مجهول، فقالوا: إنّ التفكير هو ترتيب اُمور معلومة للتوصّل إلى أمر مجهول. ونوقش في ذلك بأنّ الفكر قد يتوصّل إلى شيء مجهول بترتيب أمر واحد وهو الفصل في التعريف بالحدّ الناقص. وأجاب عن ذلك شارح المطالع بأنّ الفصل أيضاً ينحلّ إلى أمرين؛ إذ ينحلّ إلى شيء له النطق، فهنا صار المحقّق الشريف بصدد الردّ على كلام شارح المطالع، فذكر: أنّه يلزم من ذلك دخول العرض العامّ في الفصل(1).

وهذا الكلام بهذا المقدار صحيح، ولا ربط له بما نحن فيه، فكلامهم ناظر إلى ذوات المعاني وعمليّة التفكير، وأنّ الفصل من حيث هو فصل هل هو أمر واحد أو أمران؟ فيقول المحقّق الشريف: إنّه أمر واحد: وهذا غير دعوى كون معنى «شيء» غير داخل في المدلول اللغويّ والعرفىّ لهيئة ناطق.

وأمّا الثاني: وهو أخذ مصداق الشيء في المشتقّ، فقد برهن على عدم إمكانه بأنّه يلزم منه انقلاب القضيّة المتسالم على إمكانها إلى ضروريّة، فقولنا: «الإنسان كاتب» يرجع إلى قولنا: «الإنسان إنسان له الكتابة» فيصير من حمل الشيء على نفسه، وهو ضرورىّ مع أنّه لا إشكال في أنّها قضيّة ممكنة.

وهذا المقدار من البيان اُشكل عليه حلاًّ ونقضاً:

أمّا الحلّ، فبأنّ حمل الإنسان على الإطلاق على الإنسان على الإطلاق


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 68 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 109 ـ 110 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وراجع شرح المطالع لقطب الدين الرازي، ص 7 ـ 8 الطبعة الحجريّة بإيران، وحاشية الشريف على شرح المطالع، هامش ص 9.