312

بلا حاجة إلى الجمع بين اللحاظين أو الصراحة والكناية، فيكون معنى قوله: (الظنّ كالقطع) هو أنّ الظنّ يشبه القطع، أي: إنّ من يظنّ بشيء، فعليه أن يعمل بنحو كأنّه قاطع به سواء بلحاظ الآثار الشرعيّة أو بلحاظ الآثار العقليّة، وهذا لا بأس به، ولا يهمّنا في ذلك الفرق الموجود بين الأثرين: من أنّ الأثر الشرعىّ يترتّب مباشرة على الظنّ، والأثر العقلىّ يترتّب في الواقع على العلم بالحكم الظاهرىّ لا على الظنّ بالحكم الواقعىّ.

وهذا نظير ما لو قال المولى لعبده: إن رزقت ولداً، فاصنع ما يصنعه عبد فلان حينما يرزق ولداً، فإنّ هذا ليس تنزيلاً بالمعنى المصطلح؛ إذ ليس لهذا المولى حكم على ذاك العبد حينما يرزق ولداً حتّى يسريه بالتنزيل إلى مورد كلامه، وإنّما حكم ذاك العبد مرتبط بمولاه، ولكنّه تشبيه وبيان لوجوب فعل ما يشبه فعل ذاك العبد على هذا العبد.

وقد ظهر ممّا ذكرناه: أنّ جعل الحكم المماثل بتنزيل المؤدّى منزلة الواقع غير معقول؛ إذ ليس للواقع حكم مماثل يسري إلى المؤدّى، وإنّما الواقع هو الحكم الذي يراد جعل مثله، فيصحّ التشبيه لا التنزيل.

هذا. وقد أشكل المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) على ما مضى ـ من تقريبه لعدم إمكان فهم كلا التنزيلين من دليل واحد للزوم الجمع بين اللحاظين ـ بوجهين في تعليقته على الرسائل: أحدهما إشكال على تقدير واحد، والآخر إشكال على كلّ تقدير:

أمّا الوجه الأوّل: فهو إشكال على تقدير بيان التنزيل بلسان الإخبار دون الإنشاء، وتوضيح ذلك: أنّه لو فرض تحقّق كلا التنزيلين بإنشاء واحد: وهو إنشاء جعل الظنّ كالقطع، والإنشاء بنفسه موجد لمعناه من الجعل على مبنى المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله)، فهذا محال؛ لاستلزامه الجمع بين اللحاظ الآلىّ والاستقلالىّ. أمّا لو جعل ابتداءً الظنّ مقام القطع الموضوعىّ باللحاظ الاستقلالىّ، وجعل ـ أيضاً ـ الظنّ مقام القطع الطريقىّ باللحاظ الآلىّ؛ وذلك بجعلين مختلفين لا بجعل واحد، فلم يلزم الجمع بين اللحاظين، ثُمّ أخبر: بأنّي جعلت الظنّ بمنزلة القطع، وأراد بذلك ما يقتضيه إطلاق الكلام من المفهوم الجامع بين الظنّ الآليّ والاستقلاليّ، والمفهوم الجامع بين القطع الآلىّ والاستقلالىّ، فقد أخبر بقيام كلّ من الظنّ الآلىّ والاستقلالىّ مقام ما يناسبه من القطع، فلا إشكال في المقام.

وبكلمة اُخرى نقول: إنّ مقتضى الإطلاق للإخبار هو ثبوت التنزيل في كلتا الحالتين

313

للظنّ (حالة كونه ملحوظاً آليّاً، وحالة كونه ملحوظاً استقلاليّاً)، ونفس اللحاظين الآلىّ والاستقلالىّ قد تحقّقا عند الجعلين قبل هذا الإخبار، فلم يلزم الجمع بين لحاظ آلىّ ولحاظ استقلالىّ.

ثُمّ استدرك هو(رحمه الله) في تعليقته على الرسائل على هذا البيان بأنّه: صحيح أنّ إشكال الجمع بين اللحاظين لا يرد على تقدير الإخبار، ولكن يبقى الدليل على ثبوت كلا التنزيلين هو الإطلاق، ولا إطلاق في المقام؛ لوجود القدر المتيقّن في المقام، وهو إقامة الظنّ مقام القطع الطريقيّ، وذلك يضرّ بتماميّة الإطلاق ومقدّمات الحكمة.

أقول: نحن قد حقّقنا في محلّه عدم مضرّيّة وجود القدر المتيقّن بالإطلاق ومقدّمات الحكمة، سواء كان من الخارج أو في مقام التخاطب. ولكن مع ذلك نقول في المقام بعدم إمكان التمسّك بالإطلاق لإثبات التنزيل بكلا اللحاظين، لالوجود القدر المتيقّن كما قال، بل لأنّ ما يثبته الإطلاق هو إلغاء الخصوصيّات، ومقصودنا فيما نحن فيه هو الجمع بين الخصوصيّات، فليس حال الإطلاق في المقام حال الإطلاق في (أحلّ الله البيع) للبيع العقدىّ والمعاطاتىّ مثلاً، فلو قال: (أحلّ الله البيع)، كان مقتضى إطلاق الكلام عدم دخل المعاطاتيّة والعقديّة في الحكم، وهذا ينتج سريان الحكم إلى العقدىّ والمعاطاتىّ معاً. أمّا فيما نحن فيه، فسريان الحكم إلى كلّ من الظنّ الآلىّ والاستقلالىّ ليس نتيجة عدم دخل الآليّة والاستقلاليّة في الحكم، وإنّما هو نتيجة دخل كلتيهما في الحكم، والإطلاق لا يفيد ذلك.

نعم هنا كلام، وهو: أنّ في قوله: (أحلّ الله البيع) كما يحتمل عدم دخل المعاطاتيّة والعقديّة في الحكم كذلك يحتمل دخل كلتيهما في الحكم؛ لأنّ بيان الحكم الذي يكون في عالم الثبوت بنحو العموم بلسان الإطلاق إثباتاً ليس مخالفاً للبيان العرفىّ، فيمكن أن يتوهّم أنّ هذا بعينه يأتي في المقام، فيقال: صحيح أنّ الإطلاق لم يقتض الكشف عن دخل الآليّة والاستقلاليّة في الحكم، لكنّهما كانتا دخيلتين في عالم الثبوت، ولم يذكرهما المولى في عالم الإثبات، كما فرضنا أنّ العقديّة والمعاطاتيّة دخيلتان في عالم الثبوت، ولم يذكرهما المولى في مقام الإثبات، على ما هو شأن بيان ما هو عامّ ثبوتاً بلسان الإطلاق إثباتاً الذي قلنا: إنّه ليس مخالفاً للبيانات العرفيّة.

314

والجواب: أنّ الكشف عن المعاطاتيّة والعقديّة لم يكن شرطاً لفهم سريان الحكم إلى كلّ من العقدىّ والمعاطاتىّ؛ إذ كون الحكم ثابتاً على ذات البيع كاف للسريان إليهما، وعندئذ يقال: إنّ بيان الحكم العامّ بلسان الحكم المطلق الثابت على الجامع أمر عرفىّ. وهذا بخلاف ما نحن فيه؛ فإنّه ما لم يكشف عن الآليّة لم يفهم سريان الحكم من الظنّ إلى المظنون، وما لم يكشف عن الاستقلاليّة لا يفهم ثبوت الحكم لنفس الظنّ، فلابدّ من الكشف عن الآليّة والاستقلاليّة، وقد فرضنا أنّ وظيفة الإطلاق ليست هي الجمع بين الخصوصيّات.

وأمّا الوجه الثاني: فهو إشكال على كلا تقديري الإخبار والإنشاء، وبيانه: أنّ بالإمكان استفادة نتيجة التنزيلين من دون التورّط في الجمع بين اللحاظين؛ وذلك لأنّ قوله: (الظنّ كالقطع) لا يدلّ بالمطابقة إلّا على تنزيل واحد، وهو تنزيل المظنون منزلة الواقع، فليس هناك جمع بين لحاظين، ولكنّنا نستفيد بالدلالة الالتزاميّة أنّ القطع بهذا الواقع التنزيلىّ منزّل منزلة القطع بالواقع الحقيقىّ، وهذا يفيد نتيجة قيام الظنّ بالواقع مقام القطع به؛ فإنّ القطع بالواقع التنزيلىّ ملازم للظنّ بالواقع الحقيقىّ.

أمّا الوجه في هذه الدلالة الالتزاميّة، فالظاهر من عبارته في التعليقة على الرسائل أنّه هو مجرّد دعوى فهم العرف، فالعرف يرى أنّه إذا كان المظنون واقعاً تعبّداً، فالقطع به قطع بالواقع ـ أيضاً ـ تعبّداً، وذلك من قبيل أنّه لو كان ابن زيد بمنزلة ابني، فابن ابنه بمنزلة حفيدي.

إلّا أنّ المنقول عن المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) الذي هو تلميذ للمحقّق الخراسانىّ(رحمه الله): أنّه فسّر عبارة اُستاذه في الكفاية بتفسير آخر: وهو ثبوت الملازمة بدلالة الاقتضاء، وصون كلام الحكيم من اللغويّة.

توضيح ذلك: أنّ صاحب الكفاية(رحمه الله) فرض الكلام فيما إذا كان القطع جزءاً للموضوع إلى صفّ الواقع، فيقال ـ عندئذ ـ: إنّ تنزيل المظنون منزلة الواقع من دون تتميم الأمر بتنزيل آخر لغو؛ إذ الواقع لم يكن إلّا جزءاً للموضوع، فلا يترتّب على المظنون أثر الواقع ما لم يحرز الجزء الآخر، فيدلّ ذلك بدلالة الاقتضاء على أنّ الجزء الآخر ـ أيضاً ـ قد نزّل شيء منزلته، والشيء المناسب لذلك هو القطع بالواقع التنزيلىّ، فهذا منزّل منزلة القطع

315

بالواقع الحقيقىّ ؛ كي يتمّ بذلك الموضوع، ويترتّب الأثر، وتنتفي اللغويّة.

وعلى أيّة حال، فقد أورد صاحب الكفاية(رحمه الله) على ذلك في كفايته ما يمكن شرحه في ضمن بيان أمرين:

الأوّل: أنّ تنزيل القطع بالواقع التنزيلىّ منزلة القطع بالواقع الحقيقىّ يكون في طول تنزيل المظنون منزلة الواقع، لا بمعنى الطوليّة بحسب عالم الدلالة؛ لكون الدلالة الالتزاميّة في طول الدلالة المطابقيّة كما قد يتراءى من بعض عبائر الكفاية، بل بمعنى الطوليّة بين ذات التنزيلين؛ لكون فعليّة تنزيل القطع بالواقع التنزيلىّ فرع فعليّة طرفه، وهو القطع بالواقع التنزيلىّ الذي هو في طول نفس الواقع التنزيلىّ الذي هو في طول تنزيل المظنون منزلة الواقع.

والثاني: أنّ الحكم الواحد لئن كان ينحلّ بحسب تعدّد أفراد الموضوع، فمن الواضح أنّه لا يعقل انحلاله على أجزاء الموضوع، فوجوب إكرام العالم العادل لا ينحلّ إلى حكمين باعتبار العلم والعدالة، ومن هنا يتّضح أنّ التنزيلين بلحاظ جزئي الموضوع لا يعقل فيهما الطوليّة زماناً أو رتبة؛ لأنّهما بروحهما تنزيل واحد؛ لما عرفت من عدم انحلال الحكم بلحاظ أجزاء موضوعه حتّى يترتّب أحد أفراد الحكم على ما نزّل منزلة جزء الموضوع، والتنزيل إنّما هو عبارة عن إسراء الحكم، فلابدّ من كون التنزيلين في عرض واحد، فبتنزيل الجزء الأوّل لا يترتّب الحكم؛ كي يتمّ التنزيل حقيقة؛ كي تصل النوبة إلى التنزيل الآخر الذي هو في طوله.

وبتعبير آخر: أنّ تنزيل شيء منزلة أحد جزئي الموضوع لا يعقل إلّا إذا كان الجزء الآخر ثابتاً حقيقة، أو بتنزيل في عرض ذلك التنزيل.

وأورد المحقّق العراقىّ(رحمه الله) على ما في الكفاية: أنّ تنزيل شيء منزلة جزء الموضوع لا يعني تنزيله منزلته في الحكم الفعلىّ؛ كي يقال: إنّ الحكم إنّما يترتّب على مجموع الجزءين لا على أحدهما، بل يعني تنزيله منزلته في الحكم التعليقىّ، أي: في ترتّب الحكم عليه على تقدير تحقّق الجزء الآخر، وهذا أمر معقول، فقد ينزّل المولى بعد هذا التنزيل شيئاً آخر منزلة الجزء الآخر؛ ليخرج ذلك الحكم التعليقىّ عن التعليق إلى الفعليّة، ولا ضير في ذلك.

316

ويرد عليه: أنّ هذا التخريج في خصوص ما نحن فيه غير وارد؛ لأنّ تنزيل المظنون منزلة الواقع إنّما هو حكم ظاهرىّ، فلو فرض حقّاً أنّه إجراء لنفس الحكم التعليقىّ الثابت على الواقع كما هو المفروض إرادته بكلمة التنزيل، قلنا: إنّ الحكم التعليقىّ الثابت على الواقع قبل التنزيل الثاني إنّما هو معلّق على العلم بالواقع، في حين أنّه لا يعقل تعليق حكم المظنون الذي نزّل منزلة الواقع على العلم بالواقع؛ إذ مع العلم به ينتفي أصل التنزيل الأوّل الذي كان حكماً ظاهريّاً.

فلو فرض المحقّق العراقىّ(رحمه الله) أنّ ما هو المعلّق عليه الحكم الذي جعل بالتنزيل الأوّل عبارة عن القطع بالواقع الحقيقىّ، لم يناسب ذلك كون التنزيل الأوّل حكماً ظاهريّاً.

ولو فرض أنّ ما هو المعلّق عليه لذلك الحكم عبارة عن القطع بالواقع الجعلىّ، ورد عليه:

أوّلاً: أنّ هذا خلف فرض التنزيل؛ لأنّ التنزيل عبارة عن إسراء نفس حكم المنزّل عليه إلى المنزّل، وحكم المنزّل عليه هو الحرمة المعلّقة على القطع بالواقع الحقيقىّ.

وثانياً: أنّ هذا خلف لما هو المفروض من الاحتياج بعد التنزيل الأوّل إلى تنزيل جديد؛ إذ بمجرّد العلم بالواقع الجعلىّ يتحقّق ما علّق عليه الحكم، وهو القطع بالواقع الجعلىّ، فيصير الحكم فعليّاً بلا حاجة إلى تنزيل جديد. أو قل: إنّ قوله: (جعلت الحرمة لمظنون الخمريّة على تقدير القطع بالواقع الجعلىّ) يكون في الحقيقة متكفّلاً لكلا التنزيلين.

وثالثاً: أنّه على هذا الوجه يلزم تعليق الحرمة على القطع بتلك الحرمة، والمحقّق العراقىّ(رحمه الله) لايجوّز تعليق الحكم على القطع به.

وجه اللزوم: أنّ المفروض أنّ الحرمة علّقت على القطع بالواقع الجعلىّ، وليس جعل الواقع إلّا عبارة عن التنزيل، وليس التنزيل إلّا عبارة عن إسراء الحكم ـ وهو الحرمة ـ إلى المنزّل عليه، وهذا عبارة عن جعل الحرمة، فلزم كون الحرمة معلّقة على القطع بالحرمة.

ولو فرض المحقّق العراقىّ(رحمه الله) أنّ ما هو المعلّق عليه الحكم المجعول بالتنزيل الأوّل عبارة عن الجامع بين القطع بالواقع الحقيقىّ والقطع بالواقع الجعلىّ، ورد عليه:

أوّلاً: أنّ المعلّق عليه الحكم الواقعىّ قبل التنزيل الأوّل كان هو القطع بالواقع الحقيقيّ،

317

والمفروض أنّ تحوّله بالتنزيل الثاني إلى الجامع بين القطع بالواقع الحقيقىّ والقطع بالواقع الجعلىّ إنّما صار بعد التنزيل الأوّل، إذن فمقتضى جرّ نفس الحكم بالتنزيل الأوّل كون المعلّق عليه الحكم المجعول به هو القطع بالواقع الحقيقىّ دون الجامع بين القطعين، إلّا أن يفترض أنّ للتنزيل نظراً إلى الحكم الواقعىّ المتأخّر عنه، وهو مستحيل.

وثانياً: أنّه إن اُريد بالجامع الجامع بين القطع بالواقع الحقيقىّ ونفس عنوان القطع بالواقع الجعلىّ، لم تكن حاجة إلى التنزيل الثاني؛ لكفاية القطع بالواقع الجعلىّ ـ عندئذ ـ في فعليّة الحكم.

وإن اُريد به الجامع بين القطع بالواقع الحقيقىّ وما كان منزّلاً منزلته بحيث اُخذ في الفرد الثاني من الجامع عنوان التنزيل، فعندئذ وإن كنّا نحن بحاجة إلى التنزيل الثاني، لكنّ التنزيل الأوّل على هذا ليس تنزيلاً حتّى لو تنزّلنا عن الإشكال الأوّل؛ لأنّنا لو تنزّلنا عن الإشكال الأوّل، وافترضنا المعلّق عليه الحكم الواقعىّ هو الجامع، فإنّما هو الجامع بين القطع بالواقع وواقع ما نزّل منزلته، وهو القطع بالواقع الجعلىّ، لا الجامع بين القطع بالواقع وعنوان ما نزّل منزلته.

وثالثاً: أنّه لا يعقل التعليق على الجامع بين القطع بالواقع الحقيقىّ والقطع بالواقع الجعلىّ؛ لعدم معقوليّة التعليق على الفرد الثاني ولو في ضمن الجامع؛ لاستلزامه أخذ القطع بالحرمة في موضوع تلك الحرمة.

وقد تحصّل بكلّ هذا: أنّ إشكال المحقّق العراقىّ(رحمه الله) على ما أورده في الكفاية كردّ لما جاء في تعليقته على الرسائل غير تامّ.

نعم، الصحيح: أنّ كلام صاحب الكفاية الذي أورده على ما في تعليقته على الرسائل ـ أيضاً ـ غير تامّ، سواء حمل ما في التعليقة على دعوى الملازمة العرفيّة، أو حمل على دعوى دلالة الاقتضاء.

أمّا على الأوّل وهو دعوى الملازمة العرفيّة؛ فلأنّه بالإمكان أن يقتصر أوّلاً في الاستفادة منها لتنزيل طولىّ على مورد ما إذا كان الواقع موضوعاً مستقلّاً للحكم، والعلم به موضوعاً لحكم آخر، فالدليل ينزّل المظنون منزلة الواقع بالمطابقة، وينزّل العلم بالواقع التنزيلىّ منزلة العلم بالواقع الحقيقىّ بالملازمة العرفيّة، وهما تنزيلان مستقلّان بلحاظ

318

حكمين متعدّدين، فلا ضير في فرض الطوليّة بينهما، ثُمّ نتعدّى من هذا المورد إلى مورد ما إذا كان كلّ من الواقع والعلم جزء الموضوع بمثل عدم احتمال الفصل(1).

وأمّا على الثاني وهو دعوى دلالة الاقتضاء، فهي تكون ابتداءً في مورد ما إذا كان كلّ منهما جزء الموضوع، ويتعدّى إلى غيره بعدم الفصل، إلّا أنّنا حتّى لو سلّمنا أنّ المناسب والمستظهر عرفاً هو تنزيل القطع بالواقع التنزيلىّ (لا الظنّ بالواقع الحقيقىّ) منزلة القطع بالواقع الحقيقىّ، فاستحالة ذلك عقلاً تجعلنا ننتقل إلى تنزيل الظنّ بالواقع الحقيقىّ ـ مثلاً ـ منزلة القطع به؛ إشباعاً لدلالة الاقتضاء لا أن نرفع يدنا من أصل دلالة الاقتضاء.

وأمّا أصل تقريب صاحب الكفاية(رحمه الله) لاستفادة التنزيلين المذكور في تعليقته، فأيضاً هو غير صحيح، سواء قصد بذلك دعوى الملازمة العرفيّة، أو قصد دعوى دلالة الاقتضاء.

أمّا إذا قصد دعوى الملازمة العرفيّة؛ فلأنّ فرض فهم العرف للملازمة إنّما ينتهي إلى حجّيّة شرعيّة لو كان بمستوىً أوجب دلالة التزاميّة للكلام، وفيما نحن فيه ليس الأمر كذلك؛ فإنّ العرف لا ينتقل ذهنه من تصوّر تنزيل المظنون منزلة الواقع إلى تصوّر كون القطع بالواقع الجعلىّ منزّلاً منزلة القطع بالواقع الحقيقىّ فضلاً عن أن يفهم ذلك بالدلالة الالتزاميّة من الكلام، ومجرّد افتراض أن لو ألفت شخص نظره إلى ذلك لاعتقد بالملازمة بين التنزيلين، لا يكفي لتماميّة الدلالة الالتزاميّة، ولو شكّ في الظهور العرفىّ والدلالة الالتزاميّة، كفى الشكّ في عدم ترتيب آثار القطع الموضوعىّ على القطع بالواقع الجعلىّ.

وأمّا إذا قصد دعوى دلالة الاقتضاء؛ فلأنّه يكفي لعدم اللغويّة شمول دليل تنزيل المظنون منزلة الواقع لموارد كون الواقع تمام الموضوع، وأمّا إطلاقه لموارد كون الواقع جزء الموضوع، فلايوجب التمسّك بدلالة الاقتضاء؛ لأنّ الإطلاق ـ دائماً ـ مقيّد بقيد لبّيّ كالمتّصل بثبوت الفائدة وعدم اللغويّة، فإثبات تحقّق القيد بنفس الإطلاق تمسّك


(1) ويكمّل هذا التقريب بدعوى أنّنا نتصوّر التنزيلين فيما تعدّينا إليه بشكل غير طولىّ: بأن يكونا عبارة عن تنزيل المظنون منزلة الواقع، وتنزيل الظنّ بالواقع منزلة القطع به مثلاً، لا تنزيل القطع بالواقع التنزيلىّ منزلة القطع بالواقع الحقيقىّ، وإلّا لعاد إشكال الطوليّة. ففائدة الاقتصار أوّلاً على مورد ما إذا كان كلّ منهما موضوعاً مستقلّاً لحكم، ثُمّ التعدّي بعدم الفصل إلى ما إذا كان كلّ منهما جزء الموضوع هي: إنّه لو ادّعي أنّ طرف الملازمة العرفيّة إنّما هو تنزيل القطع بالواقع التنزيلىّ (لا الظنّ بالواقع الحقيقىّ) منزلة القطع بالواقع، لم يضرّنا هذا الادّعاء؛ لأنّنا إنّما استفدنا من هذه الملازمة أوّلاً في حكمين مستقلّين لا ضير في الطوليّة بلحاظهما، ثُمّ تعدّينا إلى غير المورد بعدم الفصل بشكل لم يكن فيه إشكال الطوليّة.

319

بالمطلق في الشبهة المصداقيّة للقيد المتّصل، وهو واضح البطلان.

بقي في المقام تحقيق الحال في الكبرى التي طرحها صاحب الكفاية في كفايته: من أنّه متى ما اُريد تنزيل شيئين منزلة جزئي الموضوع، يجب أن يكون التنزيلان عرضيّين لاطوليّين.

فنقول:

تارة يراد تنزيل مجموع الجزءين منزلة مجموع الجزءين، بحيث لا يكفي التلفيق من أحد الجزءين الأصليّين مع أحد الجزءين التنزيليّين في تحقّق الحكم، وعندئذ لابدّ من اتّحاد التنزيليين رتبة وزماناً وسنخاً، بل وحدة التنزيل.

واُخرى يراد تنزيل الجزءين بشكل يمكن التلفيق، وعلى هذا الفرض نتكلّم في صورتين:

الصورة الاُولى: ما لو اُريد تنزيل شيئين منزلة جزئي الموضوع مع عدم كون أحد الجزءين عبارة عن القطع بالواقع، بل كان كلّ منهما أمراً واقعيّاً كالاجتهاد والعدالة في جواز التقليد مثلاً، وعندئذ تارة يفرض أنّ التنزيلين من سنخ واحد: بأن كان كلاهما واقعيّين أو كلاهما ظاهريّين(1)، واُخرى يفرض التنزيلان متخالفين في السنخ: بأن كان أحدهما ظاهريّاً والآخر واقعيّاً.

فإن فرضناهما من سنخ واحد، أمكن أن يكون التنزيلان عرضيّين، وأمكن أن يكونا طوليّين، وليس من الضروريّ أن يكونا عرضيّين؛ وذلك لما مضى عن المحقّق العراقىّ(رحمه الله): من إمكان التنزيل بلحاظ الحكم التعليقىّ، فمن الممكن أن ينزّل الكرم ـ مثلاً ـ منزلة العدالة، فيثبت بالنسبة إليه جواز التقليد معلّقاً على الاجتهاد، ثُمّ تنزّل الهاشميّة ـ مثلاً ـ منزلة الاجتهاد فيما له من جواز التقليد مهما انضمّ إلى جامع العدالة والكرم.

وإن فرضناهما من سنخين، فهنا لابدّ أن يكون التنزيل الظاهرىّ في طول التنزيل الواقعيّ؛ لأنّ التنزيل الظاهرىّ عبارة عن جعل حكم مماثل للواقع، والتنزيل الواقعىّ


(1) أفاد اُستاذنا الشهيد (رضوان الله عليه): أنّ التنزيل إذا كان يلائم الواقع ويجتمع معه، فهو ظاهرىّ، وإذا كان متكفّلاً لتغيير في دائرة الواقع، فهو واقعىّ، ومقتضى إطلاق الأدلّة الواقعيّة ـ دائماً ـ هو حمل التنزيل على كونه ظاهريّاً، فيحمل على الظاهريّة، إلّا إذا لم يمكن حمله عليها؛ لعدم الشكّ في الواقع، أو أمكن حمله عليها، لكنّه كان خلاف الظاهر كما إذا لم يكن موضوعه الشكّ. انتهى.

320

يتصرّف في دائرة المماثل (بالفتح)، وهو مقدّم على المماثل (بالكسر).

الصورة الثانية: هي ما كان مورد بحثنا في المقام، وهو تنزيل المظنون منزلة الواقع، وتنزيل شيء آخر منزلة القطع بالواقع. ولا إشكال هنا في أنّ تنزيل المظنون منزلة الواقع ظاهرىّ؛ لكون موضوعه الشكّ، وقابليّة كونه بنحو يكون بداعي التحفّظ على الواقع، فيجتمع مع الواقع. كما أنّه لا ينبغي الشكّ في أنّ التنزيل الآخر تنزيل واقعىّ؛ إذ إنّ عدم القطع بالواقع معلوم، ولا شكّ في ذلك حتّى يجعل حكم ظاهرىّ بداعي التحفّظ على الواقع.

وعليه نقول: إنّ تنزيل المظنون منزلة الواقع الذي هو تنزيل ظاهرىّ يجب أن يكون في طول التنزيل الآخر؛ لما مضى: من أنّ التنزيل الظاهرىّ يكون بمعنى جعل حكم ظاهراً مماثل للواقع، والتنزيل الواقعىّ مربوط بتحديد حدود المماثل (بالفتح)، وهو مقدّم على المماثل (بالكسر). ومن هنا يجب أن يكون ما نزّل منزلة القطع بالواقع الحقيقىّ غير القطع بالواقع الجعلىّ، بناءً على أنّ القطع بالحكم لا يمكن أن يكون موضوعاً لنفس ذلك الحكم.

وعلى أىّ حال، فقد اتّضح بما ذكرناه: أنّ الطوليّة المذكورة في التعليقة على الرسائل غير معقولة، كما أنّ لزوم العرضيّة المذكورة في الكفاية غير صحيح. وإنّما الذي ينتج في المقام هو الطوليّة على عكس الطوليّة المذكورة في التعليقة، أي: إنّ تنزيل المظنون منزلة الواقع هو الذي يكون في طول التنزيل الآخر، لا العكس.

نعم، لو غفلنا عن اختلاف التنزيلين سنخاً في المقام، وتخيّلنا أنّهما معاً ظاهريّان، فالنتيجة بناءً على هذا هو إمكان العرضيّة وإمكان الطوليّة أيضاً: بأن يكون تنزيل المظنون منزلة الواقع في طول التنزيل الآخر، أمّا العكس فغير ممكن؛ إذ لو علّق الحكم الثابت بالتنزيل للمظنون على القطع بالواقع، استحال وصوله إلّا بفرض اجتماع الضدّين؛ إذ الظنّ والقطع ضدّان لا يجتمعان، ولو علّق على شيء آخر لم تتحقّق المماثلة بين الحكم الواقعىّ والحكم الثابت بالتنزيل.

فقد تحصّل: أنّه بعد فرض هذه الغفلة لا تصحّ ـ أيضاً ـ الطوليّة المذكورة في التعليقة، ولا لزوم العرضيّة المذكورة في الكفاية، بل يمكن العرضيّة، ويمكن الطوليّة بعكس الطوليّة المذكورة في التعليقة.

321

هذا تمام الكلام في هذا المقام بعد فرض البناء على مبنى المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله): من أنّ التنجيز والتعذير في الأمارات لا يمكن إلّا بجعل حكم تكليفىّ، بعد ضمّ ذلك إلى دعوى أنّ لسان دليل حجّيّة الأمارات هو تنزيل الظنّ منزلة القطع.

ولابدّ لنا من البحث في كلا هذين الأمرين، فيقع البحث:

أوّلاً: فيما هو الممكن في باب الأمارات والاُصول من العمليّة التي يترتّب عليها تنجّز الواقع والعذر عنه.

وثانياً: فيما هو الواقع من تلك الألسنة الممكنة.

وبعد ذلك نبحث ـ إن شاء الله ـ عن أنّ ما هو الواقع من تلك الألسنة، هل يتكفّل قيام الأمارة أو الأصل مقام القطع بكلا قسميه (الطريقىّ والموضوعىّ المأخوذ على وجه الكاشفيّة)، أو لا؟ فهنا أبحاث ثلاثة:

 

الألسنة الممكنة لجعل الحجّيّة ثبوتاً

البحث الأوّل: فيما هو الممكن من ألسنة الحجّيّة المترتّب عليه التنجيز والتعذير.

وقد اشتهر أنّ ذلك لا يمكن إلّا بجعل حكم تكليفىّ.

وغاية ما يمكن أن يقال في وجه ذلك: إنّ آثار القطع من الكاشفيّة والتنجيز والتعذير بعضها تكوينىّ، وهو الأوّل، وبعضها عقلىّ، وهو الأخيران، والشارع لا يمكنه أن يوجد بالتشريع الأمر التكوينىّ أو الأمر العقلىّ.

والتحقيق: أنّه لو اُريد إيجاد نفس هذه الآثار وحقيقتها بالجعل، فهذا واضح الاستحالة، ولا نظنّ بأحد الالتزام بذلك، ولو اُريد إيجاد عناوينها اعتباراً وفرضاً من قبيل التبنّي في مجتمع يرى ذلك، فيجعل شخصاً بالجعل والاعتبار ابناً له، فهذا لا ينبغي الإشكال في إمكانه.

نعم، ينبغي الكلام في أنّه هل يترتّب على ذلك التنجيز والتعذير الحقيقيّان، أو لا؟ وفي تحقيق ذلك لابدّ من التفتيش عن نكتة التنجيز والتعذير حتّى يرى أنّ هذه النكتة هل هي موجودة في هذا الجعل والاعتبار، أو لا؟ فنقول:

إن سلكنا ما مضى منّا في المقام الأوّل من المسلك القائل بأنّ قاعدة قبح العقاب ليس

322

موضوعها خصوص عدم البيان، بل موضوعها عدم شيئين: أحدهما البيان، والآخر العلم بأنّ أهميّة الحكم عند المولى تكون بنحو لا يرضى بتركه عند الشكّ، كما لو غرق شخص، وكان فرض وجوب إنقاذه هو فرض كونه ابناً للمولى، ونحن نعلم أنّه لا يرضى بترك إنقاذ ابنه حتّى عند الشكّ، فنكتة التنجّز في ظرف الشكّ هي: العلم بعدم رضا المولى بمخالفة الحكم في ظرف الشكّ على فرض وجوده.

وهذه النكتة تنكشف بمثل قوله: جعلت الظنّ قطعاً، أو جعلته منجّزاً، أو نحو ذلك من الألسنة المناسبة للتعبير بها عن أهميّة الحكم في ظرف الشكّ على تقدير وجوده. فترتّب التنجيز على هذه الألسنة يكون بما لها من جهة الكشف لا بما لها من جهة الإيجاد كما تخيّل.

وإن لم نسلك هذا المسلك، وقلنا ـ كما لعلّه المشهور ـ: إنّ رفع قاعدة قبح العقاب بلابيان لايكون إلّا بالبيان، فعندئذ لابدّ من أن يكون ترتّب التنجيز على لسان الحجّيّة بما له من جهة الإيجاد، وبما أنّه لاشكّ عند أحد في تنجّز الواقع بقيام أمارة شرعيّة عليه لابدّ لأرباب هذا المسلك من دعوى أنّ المراد بالبيان في قاعدة قبح العقاب بلا بيان ما يعمّ البيان الحقيقىّ وبعض هذه الألسنة: من جعل الطريقيّة، أو المنجّزيّة، أو الحكم التكليفىّ، أو نحو ذلك، أو جميع هذه الألسنة. وأمّا لو اقتصر في تفسير موضوع القاعدة على البيان الحقيقىّ، فارتفاع قاعدة قبح العقاب بلا بيان بمجرّد قيام الأمارة على رغم عدم العلم من المحالات. وإذا بني على تعميم البيان، وجعل موضوع القاعدة انتفاء أمرين: البيان الحقيقىّ، وبعض هذه الألسنة، فتعيين بعضها في قبال بعض لا يكون ببرهان فنّىّ، وينسدّ هنا باب البحث، ولا يكون تعيين ذلك إلّا بالوجدان، فربّما يعيّن شخص بوجدانه بعض الألسنة، وشخص آخر لساناً آخر، أو يرى ترتّب التنجيز على جميع هذه الألسنة.

لا يقال: إنّ المتعيّن هو لسان جعل الطريقيّة والبيان تعبّداً؛ لأنّه أنسب لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ فإنّ موضوعها هو البيان، ويناسبه جدّاً جعل البيان والطريقيّة.

فإنّه يقال: ليست كلمة البيان واردة فيما نحن فيه في حديث ـ مثلاً ـ كي يفتّش عمّا يناسبه، ويقال: إنّ المراد بالبيان ما يعمّه، وإنّما القاعدة عقليّة ووجدانيّة بحسب الفرض، فيجب أن يرى أنّ الوجدان هل يقبل بترتّب التنجيز على بعض هذه الألسنة؟ وما هو ذاك

323

اللسان الذي يحكم الوجدان بترتّب التنجيز عليه؟

وقد انقدح بما ذكرناه وجوه الخلل فيما أفاده المحقّق النائينىّ(رحمه الله) ؛ إذ إنّه بنى على إمكان التنجيز بغير الحكم التكليفىّ، لكنّه فصّل في ذلك بين جعل الطريقيّة وجعل المنجّزيّة والمعذّريّة. فذكر ـ ردّاً على مقالة المحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) في بحث الجمع بين الحكم الواقعىّ والظاهرىّ ـ: أنّ جعل التنجيز والتعذير تخصيص في حكم العقل، وهو لا يجوز، وإنّما المعقول هو تبديل موضوع حكم العقل بجعل الطريقيّة والعلم.

أقول: إن اُريد بجعل التنجيز والتعذير أو الطريقيّة إيجاد واقع هذه الاُمور بالتشريع المباشر، فكلّ ذلك مستحيل، فالتنجيز والتعذير من مختصّات دائرة العقل، ولا تنالهما يد الشرع، كما أنّ الطريقيّة من مختصّات دائرة التكوين، ولا تنالها يد التشريع. ولا نظنّ بالمحقّق الخراسانىّ(رحمه الله) أنّه كان يقصد جعل واقع التنجيز والتعذير، ولا بالمحقّق النائينىّ(رحمه الله) أن يقصد جعل واقع الطريقيّة.

وإن اُريد بذلك اعتبارها وجعل عناوينها، فكلّ هذا ممكن، ولا يستلزم أىّ تخصيص في حكم العقل.

نعم، يبقى الكلام في أنّ التنجيز والتعذير العقليّين يترتّبان على أىّ واحد من هذه الاعتبارات؟ فالمحقّق الخراسانىّ يدّعي ترتّبهما على اعتبار التنجيز والتعذير، والمحقّق النائينيّ يدّعي ترتّبهما على اعتبار العلم والطريقيّة. ولا نعرف وجهاً فنّيّاً يرجّح أحد الرأيين على الآخر. ونحن قد اخترنا أنّهما يترتّبان على كلّ هذه الألسنة وغيرها بما هي تكشف عن اهتمام المولى بالحكم في ظرف الشكّ لا بما توجدها من اعتبارات، أمّا إذا غضضنا النظر عن كشفها عن ذلك، فلا قيمة عمليّة لأيّ شيء من هذه الاعتبارات، ولا يترتّب عليها أثر التنجيز والتعذير إطلاقاً. هذا.

وقد اشتهر الإيراد على المحقّق النائينىّ(رحمه الله): بأنّ جعل الأمارة علماً الذي يعني تنزيلها منزلة العلم عبارة اُخرى عن جعل أحكام العلم من التنجيز والتعذير لها، والمفروض استحالة ذلك، فما معنى جعل الأمارة علماً وطريقاً؟!

إلّا أنّ هذا خلط بين باب التنزيل وباب الاعتبار، فليس مقصود المحقّق النائينىّ(رحمه الله)تنزيل الأمارة منزلة العلم في الآثار، وإنّما مقصوده ـ كما أفاده في بعض كلماته ـ اعتبارها علماً من قبيل المجاز السكّاكىّ، أو التبنّي المتعارف في بعض الأوساط. نعم، يبقى الكلام

324

في أنّ هذا الاعتبار لو لم يترتّب عليه أثر، لكان لغواً، وهو(رحمه الله) يدّعي ترتّب أثر التنجيز والتعذير على ذلك.

وقد أورد المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله) على جعل الأمارة علماً بالاعتبار كي يترتّب عليها قهراً التنجيز والتعذير: أنّه لايعقل ترتّب التنجيز والتعذير على اعتبار الأمارة علماً إطلاقاً، سواء فرض أنّ التنجيز والتعذير أثران عقليّان للعلم، أو فرضا أثرين عقلائيّين له كما هو مختار المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله). فإن فرض الأوّل، قلنا: إنّ الأحكام العقليّة لا تتقوّم إلّا بالاُمور الواقعيّة.

وإن فرض الثاني، قلنا: إنّ الأحكام العقلائيّة ليست بنحو القضايا الحقيقيّة ـ كأحكام الشارع ـ كي تشمل الأفراد الخارجيّة والمقدّرة حتّى يقال: إنّ الشارع أوجد لموضوع الحكم العقلائىّ فرداً جديداً، وإنّما حكم العقلاء عبارة عن عملهم الخارجىّ في الموارد الجزئيّة، والعقلاء ليسوا مشرّعين(1).

ويرد عليه: أنّنا تارة نختار الشقّ الأوّل كما هو الصحيح، وهو المشهور بين الاُصوليّين، وهو مختار المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، ونجيب عن الإشكال بأنّ المدّعى ليس هو تقوّم التنجيز والتعذير باُمور اعتباريّة، بل يدّعى تقوّمهما بأمر واقعىّ، وهو نفس اعتبار الشارع الأمارة علماً؛ فإنّ هذا أمر واقعىّ، لا بالمعتبر الذي هو أمر خيالىّ، ويستحيل فلسفيّاً تقوّم الواقعيّات به، فهذا نظير أن تحصل لشخص من تصوّر بحر من زئبق واعتباره حالة نفسانيّة حقيقيّة.

واُخرى نختار الشقّ الثاني، ونجيب عن الإشكال بأنّ العقلاء كثيراً ما يجعلون فيما بينهم قضايا كلّيّة، كجعل وجوب إطاعة أوامر الشخص الفلاني على أنفسهم، كما أنّه كثيراً ما يجعلون فيما بينهم اُموراً جزئيّة بالأعمال الخارجيّة، لكنّه بالتدريج ينعقد في أذهانهم حكم كلّىّ. فقد يدّعى أنّه صدر عنهم العمل الخارجىّ بالنسبة إلى الموارد الجزئيّة التي تمّ في بعضها البيان حقيقة وفي بعضها اعتباراً، وتحقّق من ذلك الحكم الكلّىّ.

وقد تحصّل: أنّ كلام المحقّق النائينىّ(رحمه الله) لايرد عليه الإيراد الأوّل المشهور، ولا الإيراد الثاني الذي نقلناه عن المحقّق الإصفهانىّ(رحمه الله).


(1) نهاية الدراية ج 2 ص 19.

325

والتحقيق في مقام الإيراد على المحقّق النائينىّ(رحمه الله): أن يقال ـ بعد وضوح أنّه ليس المراد بجعل الطريقيّة جعل واقع الطريقيّة والقطع؛ فإنّ هذا واضح الاستحالة، وإنّما المراد جعل عنوان الطريقيّة واعتباره ـ: إنّه إن كان تنجّز الواقع بذلك لكشفه عن أهمّيّة الحكم عند الشكّ على تقدير ثبوته، فهذا لا يفرّق فيه بين جعل الطريقيّة وجعل المنجّزيّة ونحو ذلك، وإن فرض تنجّز الواقع بذلك لا لكشفه عن أهمّيّة الحكم: بأن ادّعي أنّه يتنجّز الواقع بهذا الجعل والاعتبار ولو لم يكن الواقع مهمّاً عند المولى بحيث لا يرضى بتركه عند الشكّ، وإنّما أوجد هذا الاعتبار لأجل أنّه أعطاه شخص ديناراً ـ مثلاً ـ لإيجاده، فعهدة هذه الدعوى على مدّعيها.

وقد تحصّل بكلّ ما ذكرناه: أنّ هذا المبحث إنّما صار معركة للآراء لما تخيّلوا ـ كما يبدومن بعض العبائر أو التفريعات ـ من أنّ ترتّب التنجيز على هذه الألسنة يكون لما لها من جهة الإيجاد، وبالالتفات إلى أنّه إنّما يترتّب عليها لما لها من جهة الكشف عن أهميّة الحكم تنحلّ الإشكالات ويسهل الأمر.

هذا. وقد مضى في المقام الأوّل أنّ الأمارات والاُصول كلتاهما تقومان مقام القطع الطريقىّ الصرف، ونقول هنا: إنّ شبهة الفرق بينهما إنّما تبدومن تخيّل كون ترتّب التنجيز على هذه الألسنة يكون لما لها من جهة الإيجاد، فيمكن أن يدّعى الفرق بين لسان ولسان، وأمّا بناءً على ما حقّقناه من كون ذلك بما لها من الكشف، فلا مجال لشبهة الفرق وعدم قيام الاُصول مقام القطع الطريقىّ، فهي تقوم مقامه بعين ملاك قيام الأمارات مقامه بلاإشكال.

هذا تمام الكلام فيما هو الممكن من ألسنة الحجّيّة. وقد عرفت أنّ جميع هذه الألسنة ممكنة.

 

لسان جعل الحجّيّة إثباتاً

البحث الثاني: فيما هو الواقع من تلك الألسنة بعد أن عرفت ثبوتاً أنّ جعل الحجّيّة كما يمكن بجعل الحكم التكليفىّ، كذلك يمكن بجعل الطريقيّة، أو المنجّزيّة، أو بجعل نفس الحجّيّة، أو نحو ذلك.

326

فنقول: أمّا بالنسبة إلى الاُصول، فنذكر هنا إجمالاً: أنّ المتعيّن فيها هو الحكم التكليفيّ إن لم نقل: إنّ ما ورد فيها ليس إلّا إرشاداً إلى أهمّيّة الحكم بنحو لا يرضى المولى بتركه عند الشكّ على فرض وجوده.

وتفصيل الكلام في ذلك يأتي في محلّه إن شاء الله.

وأمّا بالنسبة إلى الأمارات، فالمحقّق النائينىّ(رحمه الله) ذهب إلى أنّ المتعيّن فيها بحسب مقام الإثبات هو جعل الطريقيّة، وتبعه على ذلك السيّد الاُستاذ وغيره. وما استدلّ به(قدس سره) على ذلك يرجع في الحقيقة إلى مقدّمات ثلاث:

الاُولى: أنّ جعل الحجّيّة لا يعقل ثبوتاً إلّا بأحد وجهين: جعل الحكم التكليفىّ، وجعل الطريقيّة، على ما حقّقه(قدس سره) فيما مضى من البحث الأوّل.

الثانية: أنّ عمدة الدليل على حجّيّة أمارات الأحكام ـ أعني خبر الواحد والظهور ـ هي السيرة العقلائية؛ إذ ما عداها ممّا استدلّ به على حجّيّة خبر الواحد إن تمّ فإنّما هو مسوق مساق الإمضاء لطريقة العقلاء، فالعمدة هي السيرة الممضاة ولو بالسكوت وعدم الردع، ومن المعلوم أنّ المستفاد من إمضاء الشارع لسيرة العقلاء إنّما هو جعله لمثل ما جعلوا.

الثالثة: أنّ العقلاء بما هم عقلاء ليسوا مشرّعين وجاعلين للأحكام التكليفيّة، وليس من شأنهم البعث والزجر، وإنّما المعهود منهم هو جعل أحكام وضعيّة: كالملكيّة، والقضاء، والولاية، ونحو ذلك.

وبضمّ هذه المقدّمات بعضها إلى بعض يظهر أنّ المتعيّن فيما نحن فيه بحسب مقام الإثبات هو جعل الطريقيّة؛ وذلك لأنّ المجعول فيما نحن فيه للعقلاء هو الوضعىّ بحكم المقدّمة الثالثة، والحكم الوضعىّ منحصر هنا في جعل الطريقيّة بحكم المقدّمة الاُولى، فتحصّل: أنّ المجعول للعقلاء هو الطريقيّة، فيكون المجعول للشارع ـ أيضاً ـ الطريقيّة، كما ذكر في المقدّمة الثانية من مماثلة جعله لجعلهم. هذا أحسن ما يمكن أن يقال في توضيح مرام المحقّق النائينىّ(قدس سره).

أقول: إنّ المقدّمة الاُولى مضى تحقيقها في البحث الأوّل، كما أنّ الاستدلال على حجّيّة خبر الواحد بالسيرة يكون تحقيقه موكولاً إلى بحث حجّيّة خبر الواحد. وهنا نبني

327

نحن على فرض صحّة جميع المقدّمات الثلاث: من أنّ جعل الحجّيّة لا يعقل إلّا بأحد الوجهين، وأنّ السيرة العقلائيّة دليل على حجّيّة خبر الواحد، وأنّ ما عداها إن تمّ فهو مسوق لإمضاء طريقة العقلاء، وأنّ العقلاء بما هم عقلاء ليس من شأنهم البعث والزجر وجعل الحكم التكليفىّ. ومع ذلك نناقش فيما استدلّ به(رحمه الله) على جعل الطريقيّة في الأمارات.

وتوضيح ذلك: أنّ الاستدلال بالسيرة العقلائيّة على حجّيّة خبر الواحد يتصوّر بأحد وجهين:

الأوّل: التمسّك بسيرة العقلاء بما هم عقلاء على العمل بخبر الواحد في مقام استيفاء أغراضهم الشخصيّة، أمّا كيف يتمّ الاستدلال بذلك على حجّيّة خبر الواحد في الأغراض المولويّة؟ فبيانه موكول إلى بحث حجّيّة خبر الواحد.

والثاني: التمسّك بسيرتهم بما هم موال لابما هم عقلاء بحتاً، بمعنى: أنّ سيرتهم قامت على أنّ كلّ واحد منهم لو تقمّص قميص المولويّة، لجعل خبر الواحد حجّة على عبده، ورافعاً لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

فإن فرض التمسّك لإثبات حجّيّة خبر الواحد بالوجه الأوّل، فهذا لا يدلّ على جعل العقلاء للطريقيّة؛ فإنّ سيرة العقلاء على استيفاء أغراضهم الشخصيّة عن طريق العمل بخبر الواحد لا تستبطن جعلاً أصلاً؛ فإنّ العاقل إنّما يتحرّك نحو العمل بخبر الواحد بلحاظ مدى اهتمامه بغرضه، ويجري خارجاً على طبق خبر الثقة، ويعمل به بلا حاجة إلى جعله أوّلاً حجّة على نفسه، ثُمّ العمل به، وإنّما يعمل به ابتداءً. وليس هنا دعوى جعل الطريقيّة أو الحكم التكليفىّ أو غير ذلك إلّا فضولاً من الكلام، ولو قال عاقل حينما أخبره الثقة بمجيء صديقه ـ مثلاً ـ من السفر: إنّي جعلت خبرك طريقاً لي، أو إنّي أوجبت على نفسي العمل بخبرك، ثُمّ عمل به تحصيلاً لغرضه، عدّ خارجاً من زمرة العقلاء.

وإن فرض التمسّك لإثبات حجّيّة خبر الواحد بالوجه الثاني ـ وهو سيرتهم بما هم موال على جعل الحجّيّة لخبر الواحد بالنسبة إلى عبيدهم، لا سيرتهم في أغراضهم العقلائيّة الشخصيّة بما هم عقلاء ـ قلنا: إنّ ما أفاده المحقّق النائينىّ (قدس سره) ـ: من أنّ العقلاء ليس من رأيهم البعث والزجر وجعل الحكم التكليفيّ ـ إنّما هو بالنظر إلى العقلاء بما هم

328

عقلاء، ولا مورد له بالنظر إليهم بما هم موال؛ إذ من الواضح أنّهم بما هم موال كما يناسبهم جعل الطريقيّة كذلك يناسبهم جعل الحكم التكليفىّ(1).

إذن فقد اتّضح بهذا أنّ السيرة العقلائيّة لا تعيّن ما ذهب إليه المحقّق النائينىّ(رحمه الله) من جعل الطريقيّة.

وبعد هذا يجب أن نرجع إلى الأدلّة اللفظيّة لحجّيّة خبر الثقة؛ كي نرى أنّه هل يستفاد منها جعل الطريقيّة، أو لا؟ والظاهر: أنّه لا يستفاد منها ذلك لو بنينا على فحص لنا في سالف الزمان؛ إذ إنّ الأدلّة اللفظيّة الدالّة على حجّيّة خبر الواحد ـ بحسب فحصنا السابق ـ على ثلاثة أقسام:

الأوّل: ما لم يصرّح فيه بحجّيّة الخبر، ولكن ذكر فيه بعض آثار الحجّيّة، فنستكشف من ذلك الحجّيّة، وذلك من قبيل الأخبار العلاجيّة الدالّة على علاج التعارض الذي هو فرع حجّيّة أصل كلّ واحد من الخبرين في نفسه، وكآية النبأ بناءً على دلالتها على حجّيّة خبر الواحد من باب ذكر عدم لزوم التبيّن الذي هو أثر من آثار الحجّيّة بناءً على بعض المباني في تفسير ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ التي سوف يأتي شرحها في محلّه إن شاء الله، وكآية النفر بناءً على دلالتها على حجّيّة خبر الواحد لما فيها من ذكر حسن الحذر الذي هو فرع احتمال العقاب الذي هو من آثار الحجّيّة.

ومن المعلوم أنّ هذا القسم من الأدلّة لا يدلّ على كيفيّة لسان جعل الحجّيّة؛ إذ إنّما استفيدت الحجّيّة منها بذكر آثارها، أمّا ما هو لسان جعل الحجّيّة؟ فغير معلوم.

الثاني: ما دلّ مباشرة على الحجّيّة، لكنّه من حيث لسان جعل الحجّيّة مجمل، فلا يدلّ على أحد الألسنة بالخصوص من جعل الطريقيّة أو غيره، وذلك مثل قوله(عليه السلام): «نعم» في جواب قول السائل: «يونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني؟»؛ فإنّ هذا إنّما يدلّ على أنّ يونس بن عبد الرحمن ممّن يؤخذ عنه معالم الدين، أمّا أنّ هذا هل هو من باب الحكم التكليفىّ بوجوب الأخذ مثلاً، أو من باب جعله طريقاً، أو غير ذلك؟ فغير معلوم.


(1) وإن تنبّهنا إلى ما أفاده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في حجّيّة القطع من رجوع الحجّيّة إلى حاقّ المولويّة وحدودها، وقلنا مبنيّاً على ذلك: إنّ هناك وجهاً ثالثاً لتصوير السيرة العقلائيّة في المقام: وهو دعوى أنّ العقلاء جعلوا حدود المولويّات المجعولة لهم عبارة عن حقّ المولويّة والطاعة في الأوامر المعلومة زائداً الأوامر الواصلة بخبر الواحد مثلاً، كان من الواضح ـ أيضاً ـ أنّ المسألة أجنبيّة عن جعل الطريقيّة.

329

الثالث: ما يمكن دعوى ظهوره في جعل الحكم التكليفىّ، وذلك كالأخبار الواردة في الأمر بالأخذ بقول الثقة، والنهي عن ردّه، والردع عن التشكيك فيه، ونحو ذلك، كقوله(عليه السلام)في كتب بني فضّال: «خذوا بما رووا وذروا ما رأوا»، وقوله(عليه السلام): «أمّا ما رواه زرارة عن أبي جعفر، فلا يجوز لك أن تردّه»، وقوله(عليه السلام): «فإنّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك عمّا يروي عنّا ثقاتنا، قد عرفوا بأنّنا نفاوضهم سرّنا، ونحملهم إياه إليهم»؛ إذ ليس المراد الأخذ وعدم الردّ وعدم التشكيك بحسب الاعتقاد، وإنّما المراد الأخذ وعدم الردّ وعدم التشكيك بحسب الجري العملىّ؛ والوجه في ذلك: أنّ الأخذ الاعتقادىّ وعدم الردّ والتشكيك الاعتقادىّ ليس تحت اختيار العبد، وإنّما الذي تحت اختياره هو الجري العملىّ. وأمّا جعل الطريقيّة والاعتقاد تعبّداً، فهو فعل المولى لا فعل العبد كي يؤمر به.

ولاتقاس الطائفة الثانية بهذه الطائفة؛ فإنّ قوله فيما مضى من الحديث: «نعم» لاينحصر أمره في معنى: «خذ معالم دينك من يونس» كي يدخل في الطائفة الثالثة، ويقال ـ أيضاً ـ: إنّ الأخذ الاعتقادىّ خارج عن القدرة، وإنّما المقدور الأخذ العملىّ، وجعل الطريقيّة فعل المولى لا فعل العبد، فهذا حكم تكليفىّ بالجري العملىّ؛ وذلك لأنّ من المحتمل أن يكون المراد بهذا الحديث: نعم، هذا مصدر العلم، وممّن يؤخذ منه.

وعلى أىّ حال، فهذه الطائفة الثالثة يمكن أن يقال بظهورها في جعل الحكم التكليفىّ.

ويمكن أن يقال بأنّها ليست ظاهرة في لسان خاصّ من ألسنة جعل الحجّيّة؛ وذلك لاحتمال كونها إرشاداً إلى أهمّيّة الحكم عند المولى بحيث لايرضى بتركه عند الشكّ على فرض وجوده في الواقع، لا بياناً لحكم تكليفىّ خاصّ؛ ولذا وردت بألسنة مختلفة، كالأمر بالأخذ، وعدم جواز الردّ، وعدم العذر في التشكيك.

والخلاصة: أنّ احتمال الإرشاد إلى أهمّيّة الحكم يضرّ بظهور الكلام في كون لسان النصّ هو لسان جعل الحكم.

نعم، لو كان لسان النصّ عبارة عن جعل العلم والطريقيّة، فهذا ظاهر في حكايته عن لسان الجعل، ولا يرد عليه ما ذكرناه: من احتمال الإرشاد إلى أهمّيّة الحكم. والفرق بين اللسانين: أنّ ورود الإرشاد بلسان الأمر والنهي كثير جدّاً، بخلاف لسان جعل العلم والطريقيّة، فإذا ورد هذا اللسان، فكونه من باب الإرشاد بعيد جدّاً، وظاهره الاشتمال على نكتة زائدة، وكون المقصود حقيقة هو جعل العلم والطريقيّة اعتباراً.

330

وعلى أىّ حال، فهذه الأخبار لا تدلّ على مدّعى المحقّق النائينىّ(رحمه الله) من جعل الطريقيّة، بل إمّا تدلّ على جعل الحكم التكليفىّ، أو لا تدلّ على لسان خاصّ أصلاً.

وقد تلخّص من تمام ما ذكرناه: أنّ مبنى المحقّق النائينىّ(رحمه الله) ـ من جعل الطريقيّة الذي فرّع عليه اُموراً كثيرة: من تقديم الأمارات على الاُصول، وقيام الأمارة مقام كلا قسمي القطع، وغير ذلك ـ ممّا لا أساس له، ولم يدلّ عليه دليل أصلاً.

 

وفاء لسان الحجّيّة بالقيام مقام القطع

البحث الثالث: في أنّ اللسان المفروض في البحث الثاني هل يفي بقيام الأمارات والاُصول مقام كلا قسمي القطع، أو لا؟ ولنا هنا كلامان: كلام في نفسه، وكلام مع المحقّق النائينىّ(قدس سره).

أمّا الأوّل: فهو أنّ العبارات الواردة في أدلّة الحجّيّة ليس فيها ما يفي بقيامها مقام كلا قسمي القطع لا في باب الاُصول ولا في باب الأمارات:

أمّا الاُصول: ففي مثل البراءة الأمر واضح لا غبار عليه، والاستصحاب سيأتي تحقيق الحقّ فيه في محلّه ممّا يتّضح به عدم قيامه مقام القطع الموضوعىّ(1).

وأمّا الأمارات فليس فيما مضى من الطوائف الثلاث ما يمكن أن يقال بدلالته على قيامها مقام القطع بكلا قسميه عدا ما ورد من قوله(عليه السلام): «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا، قد عرفوا بأنّا نفاوضهم سرّنا، ونحملهم إيّاه إليهم» فيمكن أن يقال: إنّ هذا يدلّ على حرمة إظهار الشكّ من حيث العمل فيما يرويه الثقات، ووجوب ترتيب أثر العلم، وعدم الشكّ، وهذا بإطلاقه شامل لكلا قسمي الأثر العقلىّ والشرعىّ بالبيان الماضي عند الحديث عمّا أفاده المحقّق الخراسانىّ(قدس سره).

إلّا أنّ هذا الحديث لو راجعنا سنده فظهر صحّته(2)، يكفيه عدم تماميّته من حيث الدلالة على أصل الحجّيّة؛ فإنّ الظاهر من ذيل الحديث: أنّه ليس المقصود بالثقات مطلق


(1) لو فسّر اليقين والشكّ في رواية الاستصحاب: بمعناهما الاستقلالىّ والمطابقىّ، لأصبحت دليلاً على قاعدة اليقين لا الاستصحاب، ولو فسّرا بمعنى المتيقّن والمشكوك ـ وهو الملائم لمورد الرواية ـ إذن لم تدلّ على قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعىّ.

(2) يوجد في سنده علىّ بن محمّد بن قتيبة وأحمد بن إبراهيم المراغىّ، ولم تثبت وثاقتهما. والحديث موجود في وسائل الشيعة 27 / 49 ـ 50، باب 11 من صفات القاضي، الحديث 40.

331

ثقاة الشيعة، بل المقصود ثقاته هو بمعنى الأشخاص الخاصّين الذين وثق بهم، واعتمد عليهم خارجاً في مفاوضة السرّ والوساطة بينه وبين الشيعة في إيصال أوامره إليهم، فالحديث أجنبىّ عن حجّيّة خبر الثقة. هذا مع قطع النظر عمّا مضى من احتمال كون ذلك إرشاداً إلى أهميّة الحكم.

وأمّا الثاني: فهو أنّ المحقّق النائينّي(رحمه الله) حيث قد اختار فيما مضى من البحث الثاني أنّ الأمارة جعلت علماً، واعتبرت طريقاً بالتعبّد، اختار هنا قيامها مقام كلا قسمي القطع؛ لأنّ القطع الموضوعىّ ـ أيضاً ـ قطع، وقد افترضنا أنّ الأمارة جعلت من قبل الشارع قطعاً، فيترتّب عليها آثار القطع الموضوعىّ أيضاً.

أقول: إنّ شمول الدليل لموارد القطع الموضوعىّ وعدمه موقوف على مطلب في مبحث الحكومة لم يظهر لنا مختار المحقّق النائينىّ(قدس سره) فيه.

توضيح ذلك: أنّ المحقّق النائينىّ قد صرّح في كلماته بأنّ الحكومة تارة تكون بلحاظ عقد المحمول، كما في قاعدة لا ضرر ولا حرج، واُخرى بلحاظ عقد الموضوع، كما في لا شكّ لكثير الشكّ، ولا ربا بين الوالد وولده، والطواف في البيت صلاة. وصرّح ـ أيضاً ـ بالنسبة إلى القسم الأوّل بأنّ الحكومة تكون فيه بملاك النظر، وأمّا بالنسبة إلى القسم الثاني، فهل الحكومة تكون فيه بملاك النظر مطلقاً، فلو قال ـ مثلاً ـ: «العصير العنبىّ خمر، فهو حرام»، لم تثبت نجاسته بذلك إن لم تكن قرينة على كونه ناظراً في هذا الكلام إلى مسألة النجاسة أيضاً، وإنّما تتمّ الحكومة في فرض ثبوت قرينة على النظر ولو كانت تلك القرينة هي الإطلاق في مورد تمّت مقدّماته، أو لا تكون بملاك النظر مطلقاً، فنثبت الحكومة حتّى مع عدم النظر، أو أنّ هناك تفصيلاً في المقام؟ لم يظهر بنحو الجزم مختاره(قدس سره) في ذلك في تمام كلماته بالنسبة إلى الحكومة في موارد كثيرة متفرّقة، وبعض كلماته تشهد للقول بالحاجة إلى النظر، وبعضها تشهد للخلاف، ولا يستفاد منها شيء محصّل في ذلك. ويأتي منّا ـ إن شاء الله ـ تحقيق ذلك في محلّه.

ونقول هنا: إنّه إن لم نشترط النظر في الحكومة في عقد الموضوع، كان قوله ـ مثلاً ـ: «خبر الواحد علم» حاكماً على أدلّة أحكام العلم الموضوعىّ، كما أنّه حاكم على أدلّة

332

أحكام ما تعلّق به العلم، وأمّا إذا اشترطناه فيها، فلا تتمّ الحكومة فيما نحن فيه؛ لعدم قيام قرينة على النظر إلى أحكام القطع الموضوعىّ، ولا يصحّ جعل الإطلاق قرينة على ذلك.

وتوضيح ذلك: أنّ قول الشارع: «الأمارة علم» تارة يفرض بمعنى التنزيل منزلة العلم في الآثار، وعندئذ لا إشكال في استفادة الإطلاق من كلامه بلحاظ الآثار؛ إذ ترتّب الآثار مدلول مطابقىّ لكلامه، ويجري الإطلاق بلحاظ المدلول المطابقىّ، لكنّ هذا خلاف فرض جعل الطريقيّة.

واُخرى يفرض بمعنى اعتبار الأمارة علماً على نحو مجاز السكّاكىّ (وهذا هو المفروض في جعل الطريقيّة)؛ فإنّ المدلول المطابقىّ للكلام من اعتبار الأمارة علماً لا شكّ فيه كي يتمسّك بالإطلاق، وما فيه الشكّ من ترتّب آثار القطع الموضوعىّ وعدمه ليس مدلولاً مطابقيّاً للكلام، وإنّما يستفاد ترتّب الآثار بالنظر الذي صار منشأً لجعل الطريقيّة واعتبار الأمارة علماً، فهو تابع سعة وضيقاً لدائرة ذلك النظر، وهو ليس مدلولاً مطابقيّاً للكلام حتّى تثبت سعته بالإطلاق.

هذا في أمارة وردت في مورد كان للعلم فيه أثران: أثر القطع الطريقىّ، وأثر القطع الموضوعىّ، وأمّا في أمارة وردت في مورد لم يكن له إلّا أثر القطع الموضوعىّ، فيمكن أن يقال: إنّ النظر إلى أثر القطع الموضوعىّ لم يكن مدلولاً مطابقيّاً، لكنّه ملازم لما هو مدلول مطابقىّ، وهو اعتبار هذه الأمارة علماً؛ إذ لولاه لكان هذا الاعتبار لغواً، فنثبت هذا الاعتبار بالإطلاق، ويدلّ ذلك بالملازمة على ترتّب أثر القطع الموضوعىّ.

ولكنّ التحقيق: عدم تماميّة هذا الإطلاق؛ وذلك لأنّ كلّ إطلاق مقيّد ـ بتقييد لبّيّ كالمتّصل ـ بثبوت الأثر، وثبوت الأثر هنا موقوف على النظر، فلا يمكن إثبات النظر بنفس الإطلاق، ولا يمكن الاستدلال على ثبوت الأثر بالإطلاق؛ لأنّه تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة(1).

 


(1) والصحيح: أنّ أصل فرض كون الجعل والاعتبار موجباً لسريان الأثر الذي موضوعه هو الفرد الوجدانىّ إلى الفرد الاعتبارىّ غير صحيح ما لم يرجع إلى التنزيل، أو يفرض أنّ الموضوع من أوّل الأمر كان هو

333

تنبيهات

وينبغي التنبيه على اُمور:

الأوّل: لا إشكال في أنّ حكومة دليل حجّيّة الأمارة على أدلّة أحكام ما تعلّق به العلم إنّما تكون بلحاظ مرحلة التنجيز من دون تحقّق توسعة وضيق في مرحلة الواقع، ومن هنا لا بأس باستعمال مصطلح الحكومة الظاهريّة في المقام، بأن يقال: إنّ حكومة الأمارات على الأحكام الواقعيّة بالنسبة إلى قيامها مقام القطع الطريقىّ حكومة ظاهريّة.

وأمّا حكومة دليل حجّيّة الأمارات على أدلّة أحكام القطع الموضوعىّ لو قلنا بها، فليست حكومة ظاهريّة، وإن كان ذلك ظاهر كلام المحقّق النائينىّ(رحمه الله) وصريح كلام المحقّق الإصفهانىّ(قدس سره). فإذا قامت الأمارة على حياة ولد زيد مع فرض حكم الشارع على زيد بالتصدّق عند العلم بحياته(1)، لم يكن وجوب التصدّق الثابت له حكماً ظاهريّاً، بل هو حكم واقعىّ، ويكون موضوع وجوب التصدّق واقعاً أعمّ من علمه بحياة ولده وقيام


الجامع بين الفرد الوجدانيّ والفرد التعبّديّ. فإذا فرض الأوّل، كفانا إطلاق التنزيل لو كان الدليل لفظيّاً فيه إطلاق، وإذا فرض الثاني، لم نحتج في الحكومة إلى النظر، وإن لم يفرض لا هذا ولا ذاك، لم تقم الأمارة مقام القطع الموضوعىّ.

(1) كنت قد كتبت العبارة هنا هكذا: (فإذا قامت أمارة على حياة ولد زيد الناذر للتصدّق عند العلم بحياته)، ثُمّ قرأتها بحضور اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، فأمرني بتبديلها إلى ما هو موجود فعلاً في المتن. وذكر في وجه ذلك: أنّ مثال النذر وقع في كلام الشيخ الأعظم(قدس سره)، لكنّ التحقيق: أنّه بناء على قيام الأمارة مقام القطع الموضوعىّ لا تقوم مقامه في باب النذر؛ وذلك لأنّ الموضوع لجعل الناذر إنّما هو القطع بحياة ولده، والشارع أمضى في دليل وجوب الوفاء بالنذر نفس ما جعله الناذر على نفسه، أي: جعل مثل جعله عليه، ولا معنى لحكومة دليل حجّيّة الأمارة على جعل الناذر، ولاعلى جعل الشارع: أمّا الأوّل فلأنّه لا معنى لحكومة كلام شخص على كلام جاعل آخر، وأمّا الثاني فلأنّ المفروض أنّ جعل الشارع في دليل الوفاء بالنذر إنّما كان بعنوان إمضاء جعل الناذر وبعنوان إيجاب الوفاء بالنذر، فالحكومة على هذا الجعل إنّما تكون بتبع الحكومة على جعل الناذر ونذره التي قد عرفت عدمها. نعم، لو ورد دليل على أنّ التصدّق عند قيام الأمارة على حياة الولد وفاء بالنذر تعبّداً، قلنا بوجوبه، لكنّ هذا غير ما هو المفروض في المقام: من أنّ الدليل إنّما دلّ على أنّ الأمارة القائمة على حياة الولد علم، فهذا إنّما يحكم على دليل وجوب الوفاء بالنذر بتبع حكومته على نذر الناذر، وقد قلنا: إنّ حكومته على نذر الناذر غير معقولة، فبالتالي لا تعقل حكومته على دليل وجوب الوفاء بالنذر؛ إذ لم يفرض التصدّق في هذا الدليل وفاءً بالنذر.

334

الأمارة عنده على حياته؛ إذ لو لم نفترض أنّ صورة قيام الأمارة على حياة الولد من دون علم بالحياة قد خرجت واقعاً من موضوع عدم وجوب التصدّق، ودخلت في موضوع وجوب التصدّق، لزم من ذلك أن يكون الحكم الواقعىّ ـ لمن لم يعلم بحياة ولده، ولكن قامت عنده الأمارة على حياة ولده ـ هو عدم وجوب التصدّق، وهذا الحكم واصل إليه بالقطع واليقين؛ لأنّ موضوعه ـ وهو عدم العلم ـ ثابت له وجداناً، فكيف يعقل جعل الحكم الظاهرىّ بشأنه؟!

ويمكن هنا فرض إشكال على ما ذكرناه: من دعوى الحكومة الواقعيّة، وهو: أنّهم ملتزمون بسقوط الأمارتين وكذا الأصلين عند العلم الإجمالىّ بكذب أحدهما، بلا فرق بين ما يترتّب عليها من آثار القطع الطريقىّ وما يترتّب عليها من آثار القطع الموضوعىّ، في حين أنّه لو كانت الحكومة بلحاظ آثار القطع الموضوعىّ واقعيّة، يلزم عدم سقوطهما بهذا اللحاظ؛ إذ محذور جعل الحجّيّة لكليهما هو لزوم طرح الحكم المعلوم بالإجمال، وهذا المحذور منتف بالنسبة إلى آثار القطع الموضعىّ بناءً على كون الحكومة واقعيّة؛ لأنّ الحكومة الواقعيّة تصرّف في نفس دائرة موضوع الحكم الواقعىّ، فلا يلزم طرح حكم أصلاً، في حين أنّ هذا خلاف ما هو المسلّم عندهم.

والتحقيق في المقام: أنّنا بالنسبة إلى الاُصول نلتزم بذلك ولا نتحاشى منه؛ لأنّ الاُصول إنّما تتساقط في أطراف العلم الإجماليّ للزوم طرح حكم إلزامىّ، فلا بأس بجريانها إذا لم يلزم من ذلك طرح حكم إلزاميّ، سواء لزم منه طرح حكم غير إلزاميّ، كما في مستصحبي النجاسة مثلاً، أو لم يلزم منه طرح حكم أصلاً، كما في المقام. وتحقيق ذلك يأتي في محلّه إن شاء الله.

وأمّا بالنسبة إلى الأمارات، فالمحذور الموجب للتساقط إضافة إلى لزوم طرح الحكم الإلزامىّ هو التكاذب الناتج عن حجّيّة مثبتات الأمارات والموجب لعدم إمكان الجمع بينهما، وهذا يثبت حتّى في غير موارد الحكم الإلزامىّ، ولكن بالنسبة إلى آثار القطع

335

الموضوعىّ بالإمكان أن يقال: لا محذور في الجمع بين التعبّدين: بأن يتعبّد الشخص بكونه عالماً بكذا، ويتعبّد بكونه عالماً بخلافه ـ أيضاً ـ على حسب اختلاف الأمارتين.

والتحقيق هنا: التفصيل بين ما إذا كان علمه بكذا موضوعاً لحكمه، وعلمه بخلافه موضوعاً لخلاف ذلك الحكم، فعندئذ يقع التعارض والتساقط، وما إذا لم يكن كذلك، فنلتزم بعدم التساقط بالنسبة إلى آثار القطع الموضوعىّ(1).

الثاني: تترتّب على قيام الأمارة مقام القطع الموضوعىّ وعدمه ثمرات، لذكر كلّ واحد منها موضع خاصّ في الاُصول، إلّا أنّ هنا ثمرة لم يذكروها في موضع من مواضع الاُصول، فنحن نذكرها هنا: وهي عبارة عن جواز أو عدم جواز إسناد الحديث إلى الإمام مع عدم العلم بصدقه. والوجه في عدم الجواز أحد أمرين:

الأوّل: حرمة الكذب بمعنى الخبر المخالف للواقع، فنحن نعلم إجمالاً بأنّ هذا الإسناد أو نفيه كذب.

والثاني: حرمة إسناد ما لم يعلم أنّه من الشارع إليه، وهذا عنوان آخر غير الكذب، وهو المصطلح عليه بالتشريع؛ فإنّه أحد قسمي التشريع، وهو التشريع القولىّ في قبال التشريع العملىّ.

أمّا تطبيق حرمة الكذب على المقام وعدمه، فليس متفرّعاً على قيام الأمارات مقام القطع الموضوعىّ وعدمه، وإنّما هو متفرّع على حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات وعدمه، فالخبر الذي ينقل شيئاً عن الإمام(عليه السلام) يدلّ بالملازمة على أنّ إسناد ذلك الشيء إلى الإمام ليس كذباً، وهذا إخبار في الموضوعات، فبناءً على حجّيّة خبر الواحد في


(1) لايخفى أنّنا إن تصوّرنا القطع الموضوعىّ المأخوذ على وجه الكاشفيّة بالمعنى الذي احتملنا أن يكون مراد الشيخ الأعظم(رحمه الله): وهو أن يكون موضوع الحكم ابتداءً جامع الحجّة، أو جامع الكاشف الشامل للفرد التعبّديّ، فمتى ما تمّ التساقط بالنسبة إلى آثار القطع الطريقىّ، كان التساقط بالنسبة إلى آثار القطع الموضوعىّ واضحاً؛ إذ مع فرض التساقط بالنسبة إلى آثار القطع الطريقىّ لم تتمّ الحجّة أو الكاشف كي يكون موضوعاً لآثار القطع الموضوعىّ.

336

الموضوعات يثبت عدم انطباق حرمة الكذب في المقام، وبناءً على عدم حجّيّته فيها يأتي في المقام إشكال حرمة الكذب.

وأمّا تطبيق حرمة التشريع القولىّ على المقام وعدمه، فهو متفرّع على ما نحن فيه؛فإنّ إسناده إلى الإمام إسناد إليه بغير علم تكويناً، فإن قلنا بقيام الأمارة مقام العلم الموضوعىّ، فإسناده إليه إسناد عن علم تعبّديّ، فتنتفي الحرمة بهذا العنوان، وإلّا ـ كما هو الصحيح ـ ثبتت حرمة التشريع في المقام. وعلى هذا فلا يجوز إسناد شيء ممّا ورد في أخبارنا من خصوصيّات الصراط ـ مثلاً ـ والجنّة والنار وغير ذلك من الاُمور إلى الإمام(عليه السلام) ما لم يكن متواتراً عنه(عليه السلام)(1).

الثالث: لو قلنا بقيام الأمارة مقام القطع الموضوعىّ، فكما يترتّب عليها آثار العلم، وينتفي بها آثار عدم العلم، هل يترتّب عليها ـ أيضاً ـ آثار عدم الشكّ، وينتفي عنها آثار الشكّ، أو لا؟

الظاهر من كلام المحقّق النائينىّ(رحمه الله): هو ذلك.

والتحقيق في المقام: أنّ مجرّد قيام الأمارة مقام العلم الموضوعىّ لا يكفي في انتفاء آثار الشكّ بها؛ فإنّ الشكّ ليس عبارة عن عدم العلم مفهوماً وإن كان مساوقاً له مورداً،وإنّما هو أمر وجودىّ في مقابل العلم، وهو حالة نفسيّة خاصّة من الترديد والتحيّر، كما أنّ العلم ـ أيضاً ـ حالة نفسيّة خاصّة، فنحتاج في نفي آثار الشكّ بها إلى أحد أمرين:

الأوّل: أن يستظهر ذلك من الدليل في عرض استظهار ترتّب آثار العلم عليها.

والثاني: أن تدّعى الملازمة العرفيّة بين ترتّب أثر العلم تعبّداً وانتفاء أثر الشكّ تعبّداً، فبمجرّد استظهار أحدهما من الدليل يستفاد الآخر بالملازمة.


(1) أمّا الإخبار عن تلك الخصوصيّة من دون نسبتها إلى الإمام، فحرمته ـ من ناحية حرمة الكذب ـ وعدمها فرع حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات وعدمها، كما عرفت. وحرمته من ناحية حرمة الإخبار بغير علم فرع مجموع أمرين:

الأوّل: أن نقول: إنّ الحرمة لا تختصّ بالإسناد إلى الإمام بغير علم، بل تشمل مطلق الإخبار بغير علم.

والثاني: أن نقول بعدم قيام الأمارة مقام العلم الموضوعىّ.