657

واستيعاب الكلام لتمام الجهات في هذا المقام موكول إلى بحث كبراه الذي يأتي ـ إن شاء الله ـ في محلّه حتّى يسهل التكلّم فيه بعد الاطّلاع على مباني البحث: من اقتضاء العلم الإجماليّ أو علّيّته، ونحو ذلك، وثمراتها.

 

مع الأصل اللفظيّ الفوقانيّ:

المبحث الثاني: في ملاحظة هذا الخبر مع أصل لفظيّ فوقانيّ كأصالة العموم والإطلاق في الكتاب والسنّة القطعيّة، فإن فرض توافقهما فلا ثمرة في المقام، وإن فرض تخالفهما: فإمّا أن يكون الخبر إلزاميّاً والعامّ ترخيصيّاً، أو بالعكس، أو أن يكون كلاهما إلزاميّين بأن يدلّ أحدهما على الوجوب والآخر على التحريم، فهنا ثلاث صور:

الصورة الاُولى: أن يكون الخبر إلزاميّاً والعامّ ترخيصيّاً. وقد ذكر المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) وغيره من المحقّقين أيضاً ـ على ما أتذكّر ـ: أنّه لا يعمل بخبر الواحد؛ لأنّ العمل به إنّما هو من باب منجّزيّة العلم الإجماليّ، وأصالة الاشتغال، ومن المعلوم أنّ هذا الأصل لا يقاوم في مقابل العموم الترخيصيّ المقطوع بحجّيّته.

وأورد على ذلك السيّد الاُستاذ بأنّنا نعلم إجمالاً بتخصيص بعض تلك العمومات الفوقانيّة، فيقع التعارض بين تلك الاُصول اللفظيّة والتساقط، فلا يمكن التمسّك بأيّ عامّ، أو مطلق ترخيصيّ.

أقول: دعوى مثل هذا العلم الإجماليّ تحتاج إلى حساب دقيق في الفقه لتصفية مقدار ما عندنا من العمومات والمطلقات الثابتة بالدليل القطعيّ، وما في قبالها: من أخبار آحاد مخصّصة ومقيّدة، ومدى كثرتها، لكي نرى هل يتقوّى عندنا احتمال التخصيص حتّى يصل إلى درجة العلم أو لا ؟ وفي أكبر الظنّ: أنّ مثل هذا العلم الإجماليّ غير موجود، فإنّنا لو أفرزنا العمومات والمطلقات

658

الترخيصيّة الثابتة بالدليل القطعيّ لم يكن لنا علم بتخصيصها بأكثر من المخصّصات المعلومة تفصيلاً بالإجماع ونحوه من الأدلّة القطعيّة، أو بأخبار الآحاد المتراكمة التي يحصل منها الظنّ الاطمئنانيّ، فإنّنا وإن كنّا نعلم إجمالاً بورود مخصّصات أو مقيّدات من الأئمّة(عليهم السلام)أزيد من المقدار المعلوم بالتفصيل، لكن لا نعلم كون بعض تلك المخصّصات والمقيّدات غير المعلومة بالتفصيل مخصّصاً ومقيّداً للعمومات والإطلاقات القطعيّة، فلعلّها جميعاً مخصّصة ومقيّدة لما لم يصلنا بنحو القطع، فأصالة العموم والإطلاق في القطعيّات سليمة عن المعارض؛ إذ لا تجري أصالة العموم والإطلاق في غير القطعيّات المفروض عدم ثبوت حجّيّتها كي يقع التعارض بينهما.

ولو سلّمنا القطع بوجود تخصيص زائد للعمومات والإطلاقات القطعيّة فهذه التخصيصات الاُخرى غالباً لها علوم إجماليّة صغيرة، وينحصر تأثيرها في دائرة تلك العلوم الإجماليّة الصغيرة، فمثلاً في قوله تعالى: ﴿أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْع﴾ نعلم ببعض المخصّصات القطعيّة، وهو ما دلّ على أن لا يكون البائع مكرهاً، وتوجد بعض المخصّصات الظنّيّة كشرط البلوغ، أو ماليّة العين مثلاً، فلو ظننّا بشرط البلوغ وبطلان بيع الصبيّظنّاً معتدّاً به إمّا باعتبار ورود رواية على ذلك، أو باعتبار فرض الشهرة، أو الإجماع، أو نحو ذلك، وظننّا أيضاً بشرط الماليّة وبطلان بيع ما لا توجد له ماليّة، وهكذا، جمعنا ثلاثة أو أربعة من مثل هذه الموارد، فعندئذ يحصل الاطمئنان بوجود تخصيص في بعض هذه الموارد(1)، ويقتصر أثر هذا العلم أو الاطمئنان الإجماليّ على مورده.

 


(1) وهذا الاطمئنان إنّما يكون منجّزاً لو كان ناتجاً عن المضعّف الكيفيّ الموجب لكون الاستبعاد منصبّاً ابتداءً على مجموع الأطراف منقسماً منه إلى كلّ فرد منالأطراف.

659

وبكلمة اُخرى: لو سلّمنا وجود تخصيص زائد معلوم فلا نسلّم به بأكثر من هذا المقدار، وهو العلوم الإجماليّة الصغيرة المخصوصة بموارد معيّنة، ولا يوجد لنا علم إجماليّ يقع كلّ ما احتملت مخصّصيّته طرفاً له.

الصورة الثانية: أن يكون الخبر ترخيصيّاً والعامّ إلزاميّاً، وعندئذ يؤخذ أيضاً بالعامّ، فإنّ الخبر الترخيصيّ لم يؤخذ به في مقابل أصالة الاشتغال، فما ظنّك بمعارضته لأصالة العموم أو الإطلاق في الدليل القطعيّ الصدور ؟!

وهنا أيضاً استشكل السيّد الاُستاذ بأنّنا نعلم إجمالاً بورود بعض المخصّصات الترخيصيّة على تلك العمومات الإلزاميّة، فتتساقط الاُصول اللفظيّة في تلك القطعيّات بالتعارض.

ولكن رغم ذلك قال السيّد الاُستاذ بوجوب العمل بالعامّ، لا من باب الحجّيّة، بل من باب العلم الإجماليّ بإرادة العامّ ولو في بعض هذه العمومات، وأنّنا لا نحتمل أنّ العامّ ليس مراداً في شيء منها.

أقول: لا يمكن المساعدة على شيء من الدعويين:

أمّا الدعوى الاُولى ـ وهي دعوى العلم الإجماليّ بالتخصيص ـ فالإشكال فيها هو الإشكال في الفرض السابق.

وأمّا الدعوى الثانية ـ وهي دعوى العلم الإجماليّ بإرادة العموم في بعض


أمّا لو كان ناتجاً عن المضعّف الكمّيّ فحسب، ومنصبّاً ابتداءً على كلّ فرد من الأطراف، وبالتركيب بين هذه الاستبعادات الظنّيّة تولّد الاطمئنان بعدم المجموع، فهذا الاطمئنان لا يزيد عقلائيّاً على أصل الظنون التي تركّب منها، ولا يمنع عن التمسّك في كلّ مورد من موارد تلك الظنون بالأصل اللفظيّ أو العمليّ النافي للتكليف في مورده.

660

الموارد ـ فيرد عليها: أنّه هل المقصود بكون العامّ مراداً في بعض هذه العمومات هو العلم الإجماليّ بإرادة العامّ في قبال هذه الأخبار المخصّصة، أو العلم الإجماليّ بإرادة العامّ في قبال كلّ ما يتصوّر كونه تخصيصاً له ؟

فإن كان المقصود هو الأوّل فمرجع هذا إلى دعوى العلم الإجماليّ بكذب بعض المخصّصات الترخيصيّة، وهذا خلاف الوجدان، فإنّنا نحتمل أنّ تمام ما ورد في الكتب الأربعة: من الأخبار الترخيصيّة غير المبتلاة بالمعارض والتي يحتمل صدورها من المعصوم، صادراً كلاًّ من المعصوم، فلا علم لنا بأنّ العامّ صادق في بعض هذه الموارد، وأنّ بعض هذه الأخبار كاذبة.

وإن كان المقصود هو الثاني ـ أعني: العلم بإرادة العموم في قبال التخصيص من كلّ جهة ـ فلا إشكال في ثبوت هذا العلم؛ إذ فرض التخصيص من كلّ جهة يستلزم إلغاء أصل الدليل العامّ رأساً إلّا أنّ هذا لا أثر له في المقام، فإنّ العلم الإجماليّ بالتخصيص الموجب لتعارض العمومات وتساقطها ـ كما فرض ـ كان في العمومات المقابلة للتخصيصات الواردة في أخبار الآحاد، فهي متساقطة بحسب الفرض، وباقي العمومات باقية على حجّيّتها، والعلم الإجماليّ بصدق بعض العمومات المتردّدة بين ما هو حجّة وما هو غير حجّة لا يوجب ضرورة الاحتياط في دائرة غير الحجّة؛ إذ من المحتمل أن تكون العمومات الصادقة كلّها في دائرة العمومات التي هي حجّة بالفعل(1). فتحصّل: أنّه بعد سقوط أصالة العموم بالعلم الإجماليّ بالتخصيص


(1) نعم، كان بإمكان السيّد الخوئيّ أن يقول بضرورة الاحتياط في دائرة العمومات المقابلة للتخصيصات الواردة، ببيان: أنّنا وإن علمنا إجمالاً بصدق خمسة من التخصيصات مثلاً، ولكنّنا نجري على الإجمال أصالة العموم فيما عدا العموماتالخمسة

661

ـ بحسب فرضه ـ لا يوجد علم إجماليّ منجّز، فيكون العمل على طبق الأخبار النافية.

الصورة الثالثة: أن يكون الخبر والعامّ أحدهما إيجابيّاً والآخر تحريميّاً، وهنا أيضاً يرجع إلى العامّ ولا أثر للخبر، فإنّ الأخذ به إنّما يكون لأصالة الاشتغال الساقطة في قبال الدليل الاجتهاديّ.

هذا. ولو سلّمنا ما مضى عن السيّد الاُستاذ: من العلم الإجماليّ بتخصيص بعض العمومات، والعلم الإجماليّ ببقاء بعضها على عمومه، تأتّى فيما نحن فيه القول بأنّ العلم والخبر كلّ منهما غير حجّة في نفسه، وكلّ منهما طرف لعلم إجماليّ بالإلزام، والعلمان الإجماليّان متعاكسان في مادّة الاجتماع، ويكون ذلك من معارضة خبر إلزاميّ لأصالة الاشتغال، ولا يؤثّر العلمان في مادّة الاجتماع، ويؤثّران في مادّتي الافتراق.

 

مع التعارض بين خبرين:

المبحث الثالث: في التعارض بين خبرين، فإن كان أحدهما إيجابيّاً والآخر تحريميّاً تساقطا، فإنّ كلاًّ منهما وإن كان مقتضى طرفيّته لعلم إجماليّ بالإلزام التنجيز، لكن تنجيزهما معاً غير ممكن، وتنجيز أحدهما ترجيح بلا مرجّح ولا معنى لحقّ المولويّة في هذا المورد.

 


التي قابلت تلك التخصيصات الخمسة، وبهذا يثبت تعبّداً بقاء قسم من العمومات المقابلة للتخصيصات على عمومها، وهذا يوجب علينا الاحتياط في دائرة جميع تلك العمومات؛ لعدم تعيّن المخصّص منها من غير المخصّص. وهذا البيان وإن أمكن النقاش فيه فلسفيّاً لعدم العلم بتعيّن تلك الخمسة ولا ما عداها في الواقع، ولكنّه بيان مقبول عرفاً، وبالتالي يوجب البناء تعبّداً على حجّيّة بعض هذه العمومات وعلى ما يلزمه من وجوب الاحتياط.

662

وإن كان أحدهما ترخيصيّاً والآخر إلزاميّاً فالصحيح أنّه لابدّ من الأخذ بالخبر الإلزاميّ ولا عبرة بالخبر الترخيصيّ؛ لأنّ الأوّل طرف للعلم الإجماليّ الأوّل المنجّز، والثاني طرف للعلم الإجماليّ الثاني الذي لا أثر له.

وهناك وجه للقول بعدم تأثير الخبر الإلزاميّ الذي في قباله خبر ترخيصيّ يمكن أن يذكر من قِبَل المستدلّين بذلك التقريب العقليّ، وهو أن يقال: إنّ لنا مضافاً إلى العلوم الإجماليّة الثلاثة الماضية التي يقال بانحلال الأوّل منها بالثاني، والثاني بالثالث، علماً إجماليّاً رابعاً في خصوص دائرة الأخبار الإلزاميّة غير المبتلاة بالمعارض، ويدّعى من قبل ذاك المستدلّ انحلال العلم الثالث بالرابع كما انحلّ العلم الثاني بالثالث إن ساعد وجدانه على كون المعلوم بالعلم الرابع بمقدار المعلوم بالعلم الثالث، فبالتالي لا يجب الاحتياط في دائرة الأخبار الإلزاميّة المبتلاة بالمعارض.

لكنّك عرفت أنّ انحلال العلم الثاني بالثالث ممنوع حتّى مع تساوي المعلومين، وكذلك الأمر هنا(1).

 


(1) لا يخفى أنّه لو سلّم في المقام تساوي المعلومين فلابدّ من انحلال العلم الثالث بالرابع، ولا يمكن قياسه بالعلم الثاني والثالث؛ لأنّ النسبة بين الأخبار الإلزاميّة غير المبتلاة بالمعارضة مع الأخبار الإلزاميّة المبتلاة بها هي التباين لا العموم من وجه، بخلاف النسبة بين الأخبار والشهرات مثلاً، والعلم الثاني إنّما لم ينحلّ بالثالث رغم فرض تساوي المعلومين؛ لأنّ النسبة بين الأخبار والشهرات كانت عموماً من وجه، فأمكن دعوى أنّ المعلوم بالإجمال في الأخبار وإن كان بقدر المعلوم بالعلم الثاني لكن الشهرات أيضاً فيها قدر معلوم بالإجمال مردّد بعضه بين مادّة الافتراق ومادّة الاجتماع، واحتمال انطباقه على مادّة الاجتماع أوجب أن لا يكون المعلوم بالعلم الثاني أكثر من المعلوم بالعلم

663

هذا تمام الكلام في هذا التقريب العقليّ في المقام. ونغضّ النظر عن سائر الوجوه العقليّة المذكورة هنا ومناقشتها.

وإلى هنا تمّ كلامنا في الأمارات التي قام الدليل الصحيح على حجّيّتها في مقام إثبات الأحكام الشرعيّة.

 

 


الثالث، واحتمال انطباقه على مادّة الافتراق أوجب عدم الانحلال. أمّا في المقام، فلو فرض العلم الإجماليّ بصدق بعض الأخبار الإلزاميّة المبتلاة بالمعارض كان هذا مساوقاً لكون المعلوم بالعلم الثالث أكثر من المعلوم بالعلم الرابع؛ إذ لا توجد مادّة اجتماع بين المبتلاة بالمعارض وغير المبتلاة بالمعارض كي يحتمل الانطباق على مادّة الاجتماع، ولو لم يفرض العلم الإجماليّ بصدق بعض الأخبار الإلزاميّة المبتلاة بالمعارض صحّ القول بانحلال العلم الثالث بالعلم الرابع بعد فرض تساوي المعلومين.

665

الأمارات الظنّيّة

5

 

 

 

الظنّ

(مقدّمات الانسداد)

 

 

○معنى الكشف والحكومة.

○تنقيح الكلام في مقدّمات الانسداد.

○تلخيص مباني الكشف والحكومة.

 

 

 

667

 

 

 

 

 

 

 

قد تدّعى حجّيّة مطلق الظنّ في استنباط الأحكام الشرعيّة، ويستدلّ على ذلك بوجوه، وشيء منها لا يمكن المساعدة عليه، ونحن نقتصر من بينها على ذكر ما يسمّى بدليل الانسداد، فنقول:

قد اُ لّف دليل الانسداد من مقدّمات تذكر بعنوان محاولة إثبات حجّيّة مطلق الظنّ بها، ويبحث عن تماميّة ذلك وعدمها.

وذكر المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): أنّ مقدّمات الانسداد خمس:

1 ـ العلم الإجماليّ بالتكليف.

2 ـ انسداد باب العلم والعلميّ، أي: الحجّة في مقام إثبات التكليف.

3 ـ عدم جواز إهمال الأحكام.

4 ـ عدم جواز الرجوع إلى الاُصول في تمام الموارد من قبيل: البراءة، والاستصحاب، والتخيير، أو الرجوع إلى مجتهد يؤمن بالانفتاح، وعدم وجوب الاحتياط في جميع الموارد.

5 ـ عدم جواز الرجوع إلى الوهم في قبال الظنّ(1).


(1) الموجود في الكفاية هو عدم جواز الرجوع إلى الوهم أو الشكّ.

668

وهذا التأليف لصورة الدليل ومقدّماته لا يخلو من مؤاخذات، فترى أنّ المقدّمة الاُولى ـ وهي العلم الإجماليّ بالأحكام ـ ليست مقدّمة في عرض سائر المقدّمات، ويتمّ دليل الانسداد بدونها، وإنّما هي دليل من أدلّة ما يقال في المقدّمة الرابعة: من عدم جواز الرجوع إلى الاُصول النافية. وأنّ المقدّمة الثالثة وهي عدم جواز إهمال الأحكام: إن اُريد بها ترك امتثالها بنفيها بالأصل، فهي راجعة إلى ما في المقدّمة الرابعة: من عدم جواز الرجوع إلى الاُصول النافية. وإن اُريد بها وجوب تحديد الموقف العمليّ في قبال تكاليف المولى ولو بإجراء البراءة، وحرمة إهمالها بمعنى ترك تحديد الموقف العمليّ تجاهها، فهذا عبارة اُخرى عن مولويّة المولى وثبوت حقّ الطاعة له علينا، وأنّه ليس حاله بالنسبة لنا حال إنسان اعتياديّ، وهذا مسلّم ومفروغ عنه قبل علم الاُصول، وليس ممّا يبحث عنه في دليل الانسداد، ولا ينبغي جعله مقدّمة من مقدّمات دليل الانسداد(1). وإن اُريد بها أنّ الأحكام باقية، ولم تنسخ، ولم ترفع بواسطة انسداد باب العلم والعلميّ، ورد عليه ما أوردناه على المقدّمة الاُولى.

وعلى أيّ حال، فالذي ينبغي أن يقال في مقام ترتيب صورة دليل الانسداد: إنّه بعد أن فرغنا قبل علم الاُصول في ثبوت أحكام علينا، وثبوت حقّ الطاعة للشارع في أحكامه، ووجوب تحديد الموقف العمليّ تجاهها لابدّ من تأسيس هذا الموقف، وطريقة الخروج عن عهدة المولويّة على أحد الاُسس الآتية:

1 ـ على أساس القطع.

2 ـ على أساس الحجّة.

3 ـ على أساس إجراء الاُصول بالنسبة لكلّ مورد مورد.


(1) وإلّا فإثبات وجود الله أيضاً مقدّمة من مقدّمات دليل الانسداد.

669

4 ـ على أساس الاحتياط التامّ.

5 ـ على أساس التقليد.

6 ـ على أساس الأخذ بما يقابل الظنّ وهو الوهم.

7 ـ على أساس الظنّ.

والحصر وإن لم يكن عقليّاً لكنّه شبيه بالحصر العقليّ بعد وضوح بطلان غير هذه الاُمور السبعة.

فإذا أبطلنا تمام الشقوق الستّة الاُولى انحصر الأمر في السابع وهو الظنّ.

671

 

 

 

 

 

 

 

معنى الكشف والحكومة

ثُمّ إنّ دليل الانسداد تارةً يؤلّف بشكل ينتج الكشف، واُخرى يؤلّف بشكل ينتج الحكومة، وقبل درس ذلك ينبغي فهم معنى الكشف والحكومة:

أمّا الكشف: فواضح، وهو: أنّ العقل يكشف بواسطة هذه المقدّمات عن جعل الشارع حكماً ظاهريّاً بحجّيّة الظنّ ومنجّزيّته.

وأمّا معنى الحكومة: فهو على ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) حكم العقل عند الانسداد بحجّيّة الظنّ بمعنى منجّزيّته ومعذّريّته، كحكمه بمنجّزيّة القطع ومعذّريّته.

وأورد على ذلك السيّد الاُستاذ بأنّ العقل ليس جاعلاً ومشرّعاً كي يحكم بحجّيّة الظنّ، وإنّما شأنه درك لزوم امتثال المولى وعدم مخالفته، ومن هنا فسّر السيّد الاُستاذ الحكومة بتفسير آخر.

وأمّا المحقّق النائينيّ(رحمه الله) فهو أيضاً لم يقبل بتفسير المحقّق الخراسانيّ للحكومة، وفسّرها بتفسير آخر. وإشكاله على تفسير المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) هو: أنّ الحجّيّة كانت من ذاتيّات القطع لا من ذاتيّات الظنّ، لكون القطع كشفاً تامّاً، والظنّ كشفاً ناقصاً، وما يكون أمراً خارجاً عن ذاتيّات شيء يستحيل أن يدخل في وقت من الأوقات في ذاتيّاته، فحجّيّة الظنّ دائماً لا تعقل إلّا بالجعل.

672

وبالإمكان أن يجعل مجموع الإشكالين ـ أعني: إشكال السيّد الاُستاذ، وإشكال المحقّق النائينيّ ـ إشكالاً واحداً ذا شقّين، بأن يصاغ الإشكال على المحقّق الخراسانيّ ببيان: أنّه هل المراد من حكم العقل بحجّيّة الظنّ عند الانسداد جعله للظنّ حجّة، أو إدراكه الحجّيّة بذاته لا بجعل جاعل ؟ فعلى الأوّل يرد عليه: أنّه ليس من وظيفة العقل الجعل والتشريع، وعلى الثاني يرد عليه: أنّ الحجّيّة التي لم تكن من ذاتيّات الظنّ ـ لكونه كشفاً ناقصاً ـ يستحيل أن تصبح من ذاتيّاته لدى عروض الانسداد، بل لعلّ هذا هو المقصود للمحقّق النائينيّ(رحمه الله)، فإنّه يستفاد كلا شقّي الإشكال من تقرير الشيخ الكاظميّ(قدس سره)(1).

وعلى أيّ حال، فمقصود المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) كما يستفاد من عبارته ليس هو جعل العقل الحجّيّة للظنّ حتّى يرد عليه الشقّ الأوّل من الإشكال، وإنّما مقصوده هو إدراك العقل لحجّيّة الظنّ عند الانسداد على حدّ إدراكه لحجّيّة القطع، فإن ورد عليه إشكال فإنّما يرد عليه الشقّ الثاني من الإشكال. والصحيح عدم ورود هذا الشقّ من الإشكال عليه أيضاً، فإنّ حجّيّة القطع كما مضى منّا تفصيلاً ليس من اللوازم الذاتيّة للقطع بالمعنى الذي يقولونه، وإنّما هي مرتبطة بحقّ المولويّة، وواقع المطلب: أنّ للمولى حقّ الطاعة علينا، فلو فرضنا ـ مماشاةً في النتيجة مع الأصحاب ـ أنّ الداخل في دائرة هذا الحقّ هو خصوص التكاليف المعلومة أنتج ذلك كون القطع حجّة دون الظنّ والشكّ، والحجّيّة التي ثبتت للقطع بهذا النحو لا مانع من ثبوتها بهذا النحو للظنّ أحياناً، بأن يحكم العقل في بعض الأحيان بأنّ التكاليف المظنونة داخلة تحت دائرة حقّ المولويّة لنكتة مّا كدخول التكاليف المعلومة إطلاقاً في تلك الدائرة. والصحيح: أنّ ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من معنى الحكومة في غاية المتانة.


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 3، ص 102.

673

 

تفاسير اُخرى للحكومة:

بقي في المقام: بيان ما فسّر به السيّد الاُستاذ والمحقّق النائينيّ الحكومة بعد اعتقادهما ببطلان تفسير المحقّق الخراسانيّ لها:

أمّا السيّد الاُستاذ فقد فسّر الحكومة بالتبعيض في الاحتياط، وأنّه بعد أن تنجّز الحكم بالعلم الإجماليّ يحكم العقل ابتداءً بالاحتياط التامّ، وإذا جازت مخالفة الاحتياط في الطرف الموهوم والمشكوك لنكتة مّا اقتصر العقل على الحكم بالاحتياط في الطرف المظنون.

أقول: إن كان مقصود السيّد الاُستاذ جعل اصطلاح جديد للحكومة؛ لعدم معقوليّة المعنى المرتكز لدى الأصحاب، فله الأمر، ولكن المفروض أن يعبّر عندئذ بتعبير من قبيل: (إنّني اُسمّي التبعيض في الاحتياط بالحكومة، وأنّ الحكومة بمعناها المرتكز غير معقولة)، لا بمثل تعبير: (إنّ معنى الحكومة هو التبعيض في الاحتياط). وإن كان مقصوده تفسير الحكومة بالمعنى المصطلح لدى الأصحاب، فهو عجيب، فإنّ الحكومة ليست هي التبعيض في الاحتياط عند أحد، فإنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله)على ما في تقرير بحثه المكتوب بقلم نفس السيّد الاُستاذ، وتقريره الآخر الذي كتبه الشيخ الكاظميّ مصرّح بأنّ الحكومة غير التبعيض في الاحتياط، وبعض كلمات الشيخ الأعظم(رحمه الله)لا يخلو من إشعار بذلك، بل بعض كلماته لدى البحث عن تعميم الظنّ وإهماله صريح أو كالصريح في ذلك، وهو الذي فهمه منه تلميذه الميرزا الشيرازيّ الكبير(رحمه الله)وكذلك المحقّق النائينيّ(قدس سره)، ومدرسة الميرزا الشيرازيّ الكبير وكذلك مدرسة المحقّق النائينيّ تعتقدان أنّ من مفاخر الشيخ الأعظم إبطال دليل الانسداد بإبداء التبعيض في الاحتياط في قبال ما يستدلّ عليه بالانسداد من الكشف أو الحكومة. وهناك معركة مفصّلة دائرة بين الشيخ الأعظم

674

والمحقّق النائينيّ كتبها السيّد الاُستاذ بقلمه، وكذلك الشيخ الكاظميّ حول أنّ الشيخ الأعظم يرى أنّ دليل الانسداد لو تمّ فهو منتج للحكومة، والمحقّق النائينيّ يرى أنّه يستحيل إنتاجه للحكومة، فلو لم يكن عقيماً فهو ينتج الكشف، ولو كان عقيماً فالنتيجة هي التبعيض في الاحتياط. هذا حال الشيخ الأعظم والمحقّق النائينيّ(قدس سرهما)، وأمّا المحقّق الخراسانيّ فقد عرفت ما فسّر به الحكومة.

والخلاصة: أنّ شيئاً من الاتّجاهات العامّة في الاُصول لا يفسّر الحكومة بالتبعيض في الاحتياط.

وأمّا المحقّق النائينيّ فكلامه في تفسير الحكومة بنحو يباين التبعيض في الاحتياط مشوّش في كلا تقريريه خصوصاً في تقرير الشيخ الكاظميّ، ولعلّ هذا التشويش هو الذي أدّى بالسيّد الاُستاذ إلى القول بأنّ الحكومة هي التبعيض في الاحتياط.

وما يستخلص من تلك العبائر المشوّشة هو: أنّ التبعيض في الاحتياط يكون في مورد العلم الإجماليّ بأحكام عديدة دار أمرها بين عدّة أطراف، وثبت عندنا عدم وجوب الاحتياط في بعض تلك الأطراف، فنرفع اليد عن قاعدة وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجماليّ بمقدار ما ثبت من جواز الترك، ونلتزم بالاحتياط في باقي الأطراف، والحكومة تكون في مورد العلم بحكم واحد وتنجّزه بالعلم مع دوران أمر امتثاله بين الامتثال الظنّيّ والامتثال الوهميّ، كما لو علمنا بوجوب الصلاة إلى القبلة، ودار أمر القبلة بين القبلة المظنونة والقبلة الموهومة، فيتنزّل العقل ـ بعد فرض عدم وجوب ما تقتضيه القاعدة الأوّليّة: من الصلاة إلى كلتا الجهتين لضيق الوقت مثلاً ـ إلى الامتثال الظنّيّ، فهذه هي حجّة عقليّة للظنّ مرتبطة بباب الامتثال وعالم الطاعة بعد تنجّز التكليف، وهذه هي الحكومة لا ما ذكره المحقّق الخراسانيّ: من حكم العقل بحجّيّة الظنّ في عالم التنجيز.

675

وأورد(قدس سره) إشكالين على ما اختاره الشيخ الأعظم(رحمه الله): من أنّ مقدّمات الانسداد لو تمّت أنتجت الحكومة، نذكرهما هنا؛ إذ قد يؤثّران في فهم مقصوده في الفرق بين الحكومة والتبعيض في الاحتياط:

الإشكال الأوّل: أنّ التنزّل من الامتثال القطعيّ إلى الامتثال الظنّيّ إنّما يكون بالحكومة حينما تنجّز التكليف وعجزنا عن امتثاله القطعيّ، فحكم العقل بالامتثال الظنّيّ. أمّا في المقام الذي علمنا فيه بأحكام مردّدة بين المظنونات والمشكوكات والموهومات، فالمبرّر للتنزّل إلى العمل بالمظنونات، إمّا هو الإجماع على بطلان الامتثال الاحتماليّ، أو عدم وجوب الاحتياط التامّ. فإن فرضنا الإجماع على بطلان الامتثال الاحتماليّ، فهنا يثبت الكشف؛ لأنّ العمل بالمظنونات إنّما يكون امتثالاً تفصيليّاً لا احتماليّاً إذا كان الظنّ أمارة شرعيّة، وإن فرضنا أنّ الإجماع لم يقم على بطلان الامتثال الاحتماليّ وإنّما قام على عدم وجوب الاحتياط التامّ، فلا محالة تصل النوبة إلى التبعيض في الاحتياط وليس الحكومة، فدليل الانسداد أمره دائر بين أن يكون عقيماً، أو أن ينتج الكشف.

الإشكال الثاني: أنّ العمل بالمظنونات ليس امتثالاً ظنّيّاً للأحكام حتّى يقال: إنّ هذا تنزّل من الامتثال القطعيّ إلى الامتثال الظنّيّ من باب الحكومة، وإنّما يحصل الامتثال الظنّيّ للأحكام إذا عمل بالمظنونات والمشكوكات معاً، فإنّ طرح مشكوك الوجوب يساوق الشكّ في الامتثال، والجمع بين الامتثال المظنون في مورد والامتثال المشكوك في مورد آخر ينتج الشكّ في الامتثال بلحاظ المجموع.

وقد ورد في أجود التقريرات الذي كتب في دورة متأخّرة عن الدورة التي كتبها الشيخ الكاظميّ جواب على هذا الإشكال سنبحثه فيما يأتي إن شاء الله.

وقبل أن نتعمّق أكثر من هذا فيما نحدس أن يكون هو مقصود المحقّق النائينيّ(رحمه الله)رغم تشويش العبائر في التقريرين نشير إلى تعبير ورد في تقرير الشيخ الكاظميّ

676

قد يؤيّد ما نريد توضيحه، وذلك أنّه وإن ورد عن المحقّق النائينيّ التعبير بالتفصيل بين فرض تعدّد الحكم ووحدته، وأنّ الحكومة إنّما تكون في الثاني، والتبعيض في الاحتياط يكون في الأوّل، ولكن هناك تعبير ورد في تقرير الشيخ الكاظميّ(1)مرّة أو مرّتين، وهو التعبير بالشبهة الموضوعيّة والشبهة الحكميّة، وأنّ حكم العقل بحجّيّة الظنّ على نحو الحكومة إنّما يأتي في الشبهة الموضوعيّة دون الحكميّة.

 

توجيهات فنّيّة لكلام المحقّق النائينيّ:

وبعد: يمكن أن يكون المقصود الذي انعكس في التقريرين بشكل مشوّش هو التفصيل بين كون الشبهة موضوعيّة أو حكميّة من دون نظر إلى كون الحكم واحداً أو متعدّداً(2)، وإذا كان مقصوده ذلك فهناك وجه فنّيّ لهذا التفصيل بحسب مباني


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 3، ص 90.

(2) وممّا يشهد لذلك أنّ أجود التقريرات ـ وهو الذي عبّر بدلاً عن الشبهة الموضوعيّة بتعبير «الحكم الواحد» ـ عطف على الحكم الواحد قوله: «أو ما يكون في حكمه كما إذا علم المكلّف بفوات صلوات متعدّدة»(1)، وما يعقل أن يفترض هو السرّ في جعل هذا كالحكم الواحد، هو أن يكون المقياس الحقيقيّ عند المحقّق النائينيّ ما شرحه اُستاذنا الشهيد: من تنجّز الواقع بحدّه الواقعيّ بالعلم، كما هو الحال في الحكم الواحد في الشبهات الموضوعيّة، وهذا المقياس موجود على رأي المحقّق النائينيّ في الصلوات الفائتة المردّدة بين الأقلّ والأكثر، حيث يعتقد(رحمه الله)أنّ العدد الواقعيّ الفائت هو الذي تنجّز بالعلم. إذن فالمقياس الحقيقيّ ليس في عنوان الحكم الواحد والمتعدّد، وإلّا فمثال الصلوات الفائتة يكون من المتعدّد لا الواحد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع أجود التقريرات، ج 2، ص 136.

677

المحقّق النائينيّ(قدس سره). وذلك بأن يقال: إذا كانت الشبهة موضوعيّة كما لو علم بوجوب الصلاة إلى القبلة، وشكّ في القبلة، فأصل الحكم قد تنجّز بالعلم التفصيليّ، والعقل يحكم أوّلاً بتحصيل الامتثال القطعيّ، ومع العجز عنه يحكم بتحصيل الامتثال الظنّيّ. وأمّا في الشبهة الحكميّة كما لو علم بوجوب الظهر أو الجمعة، وحصل الظنّ بوجوب الظهر، ولم يتمكّن من الجمع بينهما، فهنا لا تعقل حجّيّة الظنّ في مرحلة الامتثال، فهو إمّا أن يكون حجّة في مرحلة التنجيز وهي الحكومة بالمعنى الذي ذكره المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)ولم يقبله المحقّق النائينيّ(قدس سره)، أو أنّه لا حجّيّة فيه لا في مرحلة التنجيز ولا في مرحلة الامتثال، أي: لا يؤثّر الظنّ بنفسه مباشرة في تعيين الامتثال، وتوضيح ذلك: أنّ في تنجيز العلم الإجماليّ ـ بناءً على كونه مقتضياً لوجوب الموافقة القطعيّة لا علّة تامّة ـ مبنيين:

الأوّل: أنّ هذا العلم إنّما نجّز الجامع لأنّه المقدار المعلوم، وأمّا الطرفان فإنّما يتنجّزان بالاحتمال المقرون بانتفاء المؤمّن، والوجه في انتفاء المؤمّن هو تعارض الاُصول من الجانبين عقليّة وشرعيّة وتساقطها.

والثاني: أنّ هذا العلم بنفسه ينجّز كلا الطرفين تنجيزاً اقتضائيّاً، أي: موقوفاً على عدم ورود الترخيص في المخالفة الاحتماليّة.

والمبنى الأوّل هو صريح كلمات المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في تقرير السيّد الاُستاذ والمستشعر من بعض عبارات الشيخ الكاظميّ(قدس سره). والمبنى الثاني هو الظاهر من جلّ عبارات الشيخ الكاظميّ(رحمه الله). وعلى كلّ من المبنيين يمكن توجيه تفصيل المحقّق النائينيّ في المقام بوجه فنّيّ:

أمّا على المبنى الأوّل ـ وهو: أنّ العلم إنّما نجّز الجامع، وأمّا الخصوصيّتان فقد تنجّزتا بالاحتمال بعد تعارض الاُصول وتساقطها ـ فالوجه الفنّيّ لعدم تأثير الظنّ بنفسه في تعيين الامتثال هو: أنّ المقدار المنجّز بالعلم إنّما هو الجامع، وخصوصيّة

678

الفردين لولا الاضطرار إلى ترك أحدهما كانت تتنجّز بالاحتمال، ولكن مع الاضطرارلا يتنجّز شيء من الخصوصيّتين بذلك؛ إذ تنجيز الاحتمال لكلتا الخصوصيّتين غير معقول، ولأحدهما دون الاُخرى ترجيح بلا مرجّح، وتنجيز الظنّ لمتعلّقه خلف مبنى المحقّق النائينيّ، فإنّ هذا هو الحكومة عند الآخوند التي لم يقبل بها المحقّق النائينيّ، والامتثال إنّما هو فرع التنجيز الذي عرفت كونه مفقوداً في المقام، إذن فتعيين الظنّ للامتثال في جانبه الذي هو الحكومة عند المحقّق النائينيّ غير معقول في الشبهات الحكميّة، وإنّما كان معقولاً في الشبهات الموضوعيّة؛ لأنّ الواقع بتمامه كان قد تنجّز بالعلم. إذن فتعيّن جانب الظنّ للامتثال في الشبهة الحكميّة يجب أن يكون بوجه آخر، كأن يدّعى أنّ الرخصة في ترك الاحتياط التامّ بالإجماع إنّما انصبّت ابتداءً على المشكوكات والموهومات دون المظنونات.

فهذا وجه فنّيّ للتفصيل بين الشبهات الموضوعيّة والحكميّة، وافتراض كونه هو المقصود للمحقّق النائينيّ(رحمه الله)يكون بحاجة إلى التجاوز عمّا يوحي إليه عنوان تعدّد الحكم ووحدة الحكم المصرّح به في تقرير السيّد الاُستاذ والمفهوم تصريحاً أو تلويحاً(1) من تقرير الشيخ الكاظميّ، وتوجيهه بمعنى ينطبق على معنى الشبهة الموضوعيّة والحكميّة، وهذا توجيه معقول في المقام بأن يقال: إنّ المقصود بتعدّد الحكم ليس هو تعدّد الحكم المعلوم بالإجمال، بل تعدّد الشيء المنجّز، فيدخل مثل العلم الإجماليّ بحكم واحد كالظهر أو الجمعة ـ مثلاً ـ في فرض تعدّد الحكم؛ لأنّ الذي ينجّز في المقام حكمان: وجوب الظهر ووجوب الجمعة، وتنحصر وحدة الحكم


(1) استفادة التلويح بذلك من تقرير الشيخ الكاظميّ مشكل فضلاً عن التصريح.

679

في فرض الشبهة الموضوعيّة كالعلم بوجوب الصلاة إلى القبلة والشكّ في جهة القبلة.

وتعدّد الحكم بهذا المعنى الذي ذكرناه قد يوجد في الشبهة الموضوعيّة أيضاً، فتلحق في المقام بالشبهة الحكميّة لاشتراكها مع الشبهة الحكميّة في النكتة، وهي: أنّ المنجّز بالعلم إنّما هو الجامع لا الواقع بحدوده، مثاله: ما لو علمنا إجمالاً بنجاسة هذا الماء أو غصبيّة ذاك الماء، وكذلك ما لو علمنا إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين بناءً على مبنى من يقول بأنّ وجوب الاجتناب عن النجس ينحلّ إلى عدّة أحكام بعدد ما تتواجد من أفراد الموضوع خارجاً(1).

نعم، هذا التفسير الذي فرضناه لكلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله) لا يناسب المثال الموجود في كلام الشيخ الأعظم(رحمه الله)، حيث مثّل بالشبهة الحكميّة وهو دوران الأمر بين الظهر والجمعة، فبناءً على حمل كلام المحقّق النائينيّ على التفسير الذي ذكرناه، كان ينبغي أن لا يقتصر المحقّق النائينيّ في إشكاله على الشيخ برفض تطبيقه للحكومة على ما نحن فيه، بل يناقش أيضاً في أصل تصوير الشيخ للحكومة في المثال الذي ذكره.

وإذا تجاوزنا هذا أيضاً لم نجد في أجود التقريرات ما ينافي التوجيه الذي شرحناه لكلام المحقّق النائينيّ(قدس سره). نعم، نجد في تقرير الشيخ الكاظميّ(رحمه الله) أمرين ينافيان هذا التوجيه:

الأوّل: ما جاء في تقريره من تعليل بطلان الحكومة في المقام بأنّ الإجماع


(1) ولعلّ هذا هو السرّ في التعبير في أجود التقريرات بالحكم الواحد والمتعدّد بدلاً عن الشبهة الموضوعيّة والحكميّة، فإنّه في مثال العلم الإجماليّ بنجاسة هذا الماء أو غصبيّة ذاك، وكذلك العلم الإجماليّ بالنجاسة بناءً على الانحلال بعدد الأفراد الخارجيّة لا يصدق عنوان الشبهة الحكميّة، ولكن يصدق عنوان تعدّد الشيء المنجّز.

680

منعقد على بطلان الامتثال الاحتماليّ(1)، بينما نتيجة التوجيه الذي ذكرناه هي القول بعدم معقوليّة الحكومة في نفسها في الشبهات الحكميّة بغضّ النظر عمّا هو مفاد الإجماع.

والثاني: ما جاء في تقريره أيضاً من أنّه بناءً على تنزّل العقل من الاحتياط التامّ إلى التبعيض في الاحتياط يعيّن العقل الأخذ بجانب الظنّ(2)، وهذا ينافي ما ذكرناه في الوجه الماضي: من عدم حجّيّة الظنّ في تعيينه لمورد الامتثال، وأنّ تعيّن العمل بالمظنون يجب أن يكون بنكتة اُخرى.

وأمّا على المبنى الثاني ـ وهو: أنّ العلم الإجماليّ يقتضي بنفسه تنجيز كلتا الخصوصيّتين ـ فهناك وجهان فنّيّان لتوجيه التفصيل بين الشبهة الموضوعيّة والشبهة الحكميّة:

الوجه الأوّل: أن يقال ـ بعد البناء على أنّ الاضطرار إلى ترك أحد الفردين يؤدّي إلى استحالة تنجيز العلم الإجماليّ لكلتا الخصوصيّتين المفروض الترخيص في إحداهما ـ: إنّ العلم الإجماليّ يسقط بطروّ الاضطرار إلى أحد الفردين عن تنجيزه لأيّ واحدة من الخصوصيّتين إذا كانت نسبة العلم الإجماليّ إليهما على حدّ سواء؛ وذلك لأنّ تنجيزه لهما معاً محال بحسب الفرض، وتنجيزه لإحداهما دون الاُخرى ترجيح بلا مرجّح. أمّا إذا كان العلم الإجماليّ أقرب إلى إحدى الخصوصيّتين بأن كان أحد الفردين مظنوناً والآخر موهوماً، فهنا العلم الإجماليّ ينجّز خصوص الجانب الذي يكون أقرب إليه دون الجانب الآخر، ولا يلزم الترجيح بلا مرجّح؛ لأنّ الظنّ هنا هو المرجّح، وهذا يعني أنّ تعيّن الأخذ بالجانب


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 3، ص 90.

(2) المصدر السابق، ص 92.

681

المظنون كان بحكم العقل بلا حاجة إلى نكتة خارجيّة، ولكنّ فرقه عن العمل بالظنّ في الشبهة الموضوعيّة هو: أنّ الظنّ ليس هو الذي عيّن بنفسه مورد امتثال تكليف منجّز كما في الشبهة الموضوعيّة، وإنّما دوره دور ترجيح أحد التنجيزين لنفس العلم على التنجيز الآخر له عند تعارضهما بالاضطرار إلى ترك أحد الفردين، فقد تعيّن الامتثال الظنّيّ لا لحجّيّة الظنّ في عالم الامتثال، بل لتنجيز العلم الإجماليّ خصوص الجانب المظنون، وحجّيّة الظنّ في عالم الامتثال هي التي نسمّيها بالحكومة، أمّا العمل بالظنّ في الشبهات الحكميّة لأجل الترجيح الذي عرفت، فهو تبعيض في الاحتياط وإن كان العقل هو الذي حكم بضرورة العمل بالظنّ.

وبهذا البيان ترتفع المنافاة بين توجيهنا لكلام المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، والأمر الثاني من الأمرين اللذين نقلناهما عن تقرير الشيخ الكاظميّ(قدس سره).

الوجه الثاني: مبنيّ على القول بأنّ العلم الإجماليّ لا يسقط بطروّ الاضطرار إلى أحد الفردين عن تنجيزه للخصوصيّتين، بل تبقى الخصوصيّتان منجّزتين حتّى بعد الاضطرار، ويقع التزاحم بين تكليفين احتماليّين منجّزين، وهو يشبه التزاحم بين التكليفين المنجّزين بالقطع، كما في مثال الإزالة والصلاة في الوقت مع العجز عن الجمع بينهما، إلّا أنّ التزاحم هنا ليس بين تكليفين قطعيّين، بل بين تكليفين محتملين، ويرجع عندئذ إلى مرجّحات باب التزاحم، فكما أنّ الأهمّـيّة مرجّحة في باب تزاحم التكليفين القطعيّين، كذلك هي مرجّحة في تزاحم التكليفين المحتملين المنجّزين. والأهمّـيّة تارةً تكون باعتبار المحتمل بمعنى أقوائيّة الغرض، واُخرى باعتبار الاحتمال بمعنى أقوائيّة الاحتمال لكون هذا مظنوناً وعدله الآخر موهوماً، فيقدّم المظنون بحكم العقل، ولكن لا لأجل كون الظنّ ابتداءً معيّناً لمورد الامتثال بعد التنزّل عن الامتثال القطعيّ كما في الشبهات