709

والخلاصة: أنّ نسبة هذه التقييدات إلى نفي الحرج على حدّ سواء، ونسبتها إلى حفظ ملاك الواقع ليست على حدّ سواء، وإنّما الأقرب إلى ذلك هو القيد الأوّل، فرضا المولى بشرب الماء الأوّل مع ملاحظة القيد الأوّل وهو شرب الثاني ـ وذلك بأن لا يشرب الثاني ـ يصبح متيقّناً، فيؤخذ به، وسائر القيود تدفع بالإطلاق.

إن قلت: إنّنا نحتمل كون الخارج من تحت الحرمة أضيق من مجرّد فرض عدم شرب الماء الآخر بأن يكون الخارج من إطلاق الحرمة هو خصوص فرض عدم شرب الماء الآخر منضمّـاً إلى ذهابه إلى مكان كذا مثلاً، وذلك بدعوى أنّه كلّما فرضت دائرة الخروج من الحرمة أضيق كان ذلك أوفق بحفظ ملاك الواقع.

قلت: بعد تسليم(1) ما ذكر نقول: إنّ هذا الاحتمال يأتي بعينه في جانب نقيض ذاك القيد الإضافيّ، وهو عدم الذهاب إلى مكان كذا مثلاً، ولا نحتمل انحفاظ إطلاق الحرمة عند عدم شرب الآخر لكلتا حالتي وجود وعدم ذاك الشيء، وهو الذهاب إلى مكان كذا مثلاً، وإلّا لعاد العسر والحرج، فإطلاقها لكلّ واحدة من الحالتين يعارض إطلاقها للحالة الاُخرى ويتساقطان، وبالتالي لا يبقى دليل على الحرمة عند عدم شرب الآخر(2).

 


(1) أي: بعد فرض تسليم كون ذلك أحفظ لملاك الواقع. ولعلّ هذا إشارة إلى أنّ هذا لا يؤدّي إلى حفظ الواقع إلّا في فرض تحمّل المكلّف الأمر الحرجيّ، كما إذا لم يذهب إلى المكان الفلانيّ وتحمّل العطش، ولا إشكال أنّ هذا خلاف الفهم العرفيّ من دليل نفي العسر والحرج.

(2) إن قلت: عين هذا البيان يأتي بالنسبة لشرب الماء الطاهر في الزمان الثاني، وتوضيح ذلك: أنّه لو شرب الماء الطاهر في الزمان الأوّل فلا إشكال في حرمة شرب الماء النجس عليه. أمّا على تقدير عدم شربه للماء الطاهر في الزمان الأوّل، ففرض كون شربه للماء الطاهر في

710

وإن قلنا بالثاني ـ أعني: حكومة دليل نفي العسر والحرج على الاحتياط ـ: فإن قلنا بأنّ العلم الإجماليّ ليس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة وإنّما هو مقتض لذلك، فلا مجال لتوهّم استلزام سقوط العلم الإجماليّ عن المنجّزيّة بالنسبة لحرمة المخالفة القطعيّة لأجل سقوطه عن تنجيز وجوب الموافقة القطعيّة في المقام، فترك الاحتياط وإن جاز بلحاظ بعض الأطراف لكن يبقى تنجيز العلم بلحاظ المخالفة القطعيّة ثابتاً على حاله، فلا يجوز ارتكاب تمام الأطراف.

وإن قلنا بأنّ العلم الإجماليّ علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة تأتي هنا شبهة المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): من أنّ الترخيص في المخالفة الاحتماليّة يستلزم انتفاء التكليف؛ إذ لولاه لم يكن مجال للترخيص ولو بمستوى المخالفة الاحتماليّة، وإذا انتفى التكليف جاز ارتكاب تمام الأطراف.

 


الزمان الثاني موجباً لحرمة شربه للماء النجس في الزمان الأوّل ليس بأولى من فرض كون عدم شربه للماء الطاهر في الزمان الثاني موجباً لحرمة شربه للماء النجس في الزمان الأوّل، وحرمته في كلا الفرضين غير محتمل، فيتعارض الإطلاقان في دليل الحرمة ويتساقطان.

قلت: إن فرض كون شربه للماء الطاهر في الزمان الثاني عند ما لم يشربه في الزمان الأوّل موجباً لحرمة شربه للماء النجس في الزمان الأوّل أحفظ للملاكات الواقعيّة من العكس، وذلك إمّا ببيان أن هذا يؤدّي إلى أن لا يجمع بين شرب الإناءين فيحتمل عدم وقوع شرب النجس، وإمّا ببيان أنّه لو كان له داع آخر إلى شرب الماء الطاهر غير داعي رفع الحرج في الزمان الأوّل، من قبيل ما لو فرض أنّ الماء الطاهر كان عذباً، اشتهى شربه بخلاف الماء النجس، ففرض حرمة شرب النجس عليه على تقدير شربه للطاهر ولو في الآن الثاني يدفعه نحو أن يشرب الماء العذب في الزمان الأوّل ويستغني عن الماء الآخر، بينما لو فرض العكس فقد يشرب الماء النجس أوّلاً ثُمّ يشرب الماء الطاهر العذب.

711

لكنّا نقول ـ بقطع النظر عن بطلان المبنى: من كون العلم الإجماليّ علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة ـ: إنّه بعد أن وقع التنافي بين الترخيص والتكليف الفعليّ جاء ما ذكرناه في فرض حكومة دليل نفي العسر والحرج على أصل التكليف: من أنّ الأمر دائر بين نفي التكليف رأساً ونفي إطلاقه، والمتعيّن هو الثاني؛ لأنّ الضرورات تقدّر بقدرها، فيأتي حرفاً بحرف كلّ ما ذكرناه هناك؛ إذ قد آل الأمر هنا أيضاً إلى التصرّف في التكليف الواقعيّ، غاية الأمر أنّه على المبنى الأوّل في نفي العسر والحرج كان الدليل حاكماً على التكليف ابتداءً، وعلى هذا المبنى يكون رافعاً للاحتياط التامّ، وبالتالي يرفع التكليف؛ لما فرض: من كون العلم به علّة تامّة لوجوب الاحتياط التامّ، فعلى كلا التقديرين نقول: لا وجه لرفع التكليف رأساً؛ لأنّ المقدار المنافي للترخيص في ترك الاحتياط التامّ هو إطلاقه لا أصله.

ثُمّ إنّ المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) لا يفرّق في القول بسقوط العلم الإجماليّ عن التنجيز رأساً بطروّ الاضطرار إلى أحد الفردين لا بعينه بين الاضطرار الحقيقيّ بمعنى انتفاء القدرة حقيقة، والاضطرار بمعنى العسر والحرج، بينما لو تمّ كلامه فإنّما يتمّ في مورد العسر والحرج على الواقع مباشرة، أو من باب منافاة التكليف الفعليّ للترخيص في المخالفة الاحتماليّة لكون العلم علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة. وشيء من الوجهين لا يتمّ في موارد انتفاء القدرة التكوينيّة، أمّا الأوّل فلأنّ دليل نفي العسر والحرج لا علاقة له بباب العجز وانتفاء القدرة، كي يكون حاكماً على التكليف الواقعيّ ونافياً له. وأمّا الثاني فلأنّ الترخيص فيه ليس شرعيّاً مستفاداً من دليل نفي العسر والحرج كي ينافي فعليّة التكليف، وإنّما هو ترخيص عقليّ بملاك عدم القدرة على الامتثال القطعيّ، ومن الواضح أنّه لدى العجز عن الامتثال القطعيّ ينتقل إلى الامتثال الاحتماليّ كما هو الحال في باب العلم

712

التفصيليّ؛ إذ لا إشكال في أنّه لو علم تفصيلاً بوجوب الصلاة إلى القبلة ولم يتمكّن من امتثاله القطعيّ بالصلاة إلى جميع الجهات المحتمل كونها قبلة ـ مثلاً ـ يتنزّل إلى الامتثال غير القطعيّ، وإذا لم يكن ثبوت التكليف منافياً لعدم لزوم الامتثال القطعيّ لأجل العجز في باب العلم التفصيليّ فكذا الأمر في باب العلم الإجمالي؛ إذ ليس بأشدّ حالاً من العلم التفصيليّ.

وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه: أنّ فرض الاضطرار في باب الانسداد إلى المخالفة في بعض الأطراف لا بعينه لا يوجب سقوط العلم الإجماليّ عن التنجيز رأساً.

بقي الكلام في أنّ التنجيز الذي سلّم بقاؤه للعلم الإجماليّ بعد الاضطرار إلى بعض الأطراف لا بعينه هل يوجب على الإنسان الموافقة بالنسبة لبعض الأطراف تخييراً، أو يوجب اختيار خصوص المظنونات وصرف الترخيص إلى الموهومات والمشكوكات ؟ وهذا وإن كان راجعاً إلى بحث المقدّمة الخامسة لكنّنا نذكره هنا لشدّة ارتباطه والتصاقه بما تكلّمنا فيه، فنقول:

تارةً: يفترض عدم احتمال أهمّـيّة بعض الموهومات على تقدير ثبوتها في الواقع من المظنونات على تقدير ثبوتها في الواقع، واُخرى: يفرض احتمال ذلك أو القطع به:

أمّا على الفرض الأوّل: فتارةً نتكلّم بناءً على حكومة دليل نفي العسر والحرج على التكليف الواقعيّ، واُخرى نتكلّم بناءً على حكومته على حكم العقل بوجوب الاحتياط:

أمّا على المبنى الأوّل: فنقول: قد مضى أنّ الاضطرار لم يرفع أصل التكليف وإنّما رفع إطلاقه، وقيّده بمقيّد، ونقول هنا: إنّ التقييد في ذلك يتصوّر بدواً بإحدى صور، فلو فرض ـ مثلاً ـ العلم الإجماليّ بنجاسة أحد الماءين وهو مضطرّ إلى

713

شرب أحدهما وكان أحدهما مظنون النجاسة والآخر موهوم النجاسة، فالتقييد المفروض في المقام لرفع العسر والحرج يتصوّر بأحد وجوه ثلاثة: فإمّا أن تقيّد الحرمة في أيّ منهما كانت بفرض شرب الآخر، أو تقيّد الحرمة على تقدير كونها في الموهوم بفرض شرب المظنون، أمّا على تقدير كونها في المظنون فتبقى على إطلاقها، أو بالعكس بأن تقيّد الحرمة على تقدير كونها في المظنون بفرض شرب الموهوم، ولو كانت في الموهوم تبقى على إطلاقها. فعلى الأوّل يتخيّر في شرب أحدهما، وعلى الثاني يتعيّن الترخيص في الموهوم؛ إذ على تقدير شرب المظنون يعلم بحرمة أحدهما، وإذا شرب المظنون بمحض اختياره فقد حصل له العلم عادة ولو في الآن المتّصل بشربه أنّه سوف يشربه (إلّا في فرض نادر). إذن هو يعلم بفعليّة إحدى الحرمتين. وعلى الثالث يتعيّن الترخيص في المظنون.

والثالث لا يكون محتملاً في قبال الثاني، فإنّنا لا نحتمل أنّ المولى يهتمّ دائماً بجانب ما هو موهوم عندنا دون المظنون، بل إمّا أن يهتمّ بجانب المظنون، أو يجعلنا بالخيار.

وليس التقييد هنا من باب دخل القيد في الملاك الواقعيّ للحرمة كي يقال: ما يدرينا أنّ التقييد هل هو بالشكل الثاني أو الثالث ؟! وإنّما هو من باب رفع العسر والحرج، والتحفّظ على ملاك الواقع بقدر الإمكان، وعندئذ لا نحتمل أن يكون اهتمام المولى بجانب الموهوم دائماً.

فالأمر دائر بين الاحتمال الثاني والاحتمال الأوّل. وإذا كان الأمر كذلك تعيّن الثاني؛ لأنّ تقييد الحرمة على تقدير كونها في طرف الموهوم بفرض ارتكاب المظنون ثابت على كلّ حال، وتقييدها على تقدير كونها في طرف المظنون بفرض ارتكاب الموهوم مشكوك، فنتمسّك بالإطلاق، فيتعيّن بذلك تطبيق دفع الاضطرار

714

على ارتكاب الموهوم والاحتياط في جانب المظنون(1).

وأمّا على المبنى الثاني ـ وهو حكومة دليل نفي العسر والحرج على حكم العقل بالاحتياط التامّ لا الواقع ـ: فنقول: إنّ الأمر دائر بين الترخيص في طرف الموهوم فحسب على تقدير ترك مخالفة المظنون، والترخيص في كلّ منهما على تقدير ترك الآخر. أمّا الترخيص في طرف المظنون فحسب على تقدير ترك مخالفة الموهوم فغير محتمل؛ لما مرّ: من عدم احتمال اهتمام المولى بالموهومات فحسب. إذن فالترخيص في الموهوم على تقدير ترك مخالفة المظنون متيقّن بخلاف الترخيص في المظنون على تقدير ترك مخالفة الموهوم، فنبقى نتمسّك


(1) قد يقال: إنّ دليل نفي العسر والحرج حينما يرفع الإطلاق لا يبقى لنا دليل على ثبوت الملاك؛ لأنّ الملاك يعرف بالخطاب، فإذا أمكن رفع العسر بتقييد الحرمة على تقدير كونها في طرف الموهوم، وأمكن دفعه بتقييدها على تقدير كونها في طرف المظنون، لا يمكن رفض احتمال تقييدها في طرف المظنون وحده بحجّة عدم دخل القيد في الملاك الواقعيّ للحرمة.

والجواب: أنّ المقصود هو أنّنا نقطع بأنّ المولى لا يقيّد الحكم على تقدير وجودهفي طرف المظنون بسبب نفي العسر والحرج من دون تقييده في طرف الموهوم كذلك؛لأنّ هذا معناه ترجيح تفويت المظنون على تفويت الموهوم ومن دون دخل القيد في الملاك الواقعيّ للحرمة، إذن فدليل نفي العسر والحرج لا يصلح لتقييد الحكم في طرف المظنون وحده، وبالتالي نتمسّك بإطلاق دليل الحكم على تقدير كونه في طرف المظنون، وبه نثبت الملاك، ويكون هذا الإطلاق منضمّـاً إلى دليل نفي العسر والحرج مقيّداً لإطلاق الحكم على تقدير كونه في طرف الموهوم، بينما لا يمكن أن يكون الإطلاق في طرف الموهوم منضمّـاً إلى دليل نفي العسر والحرج مقيّداً لإطلاق الحكم على تقدير كونه في طرف المظنون؛ لما عرفت: من أنّ دليل نفي العسر والحرج لا يمكن أن يقيّد طرف المظنون فحسب.

715

بتنجيز العلم الإجماليّ بالنسبة للمقدار الزائد على القدر المتيقّن من الترخيص.

فتحصّل: أنّه على كلا المبنيين يكون الظنّ مرجّحاً لأحد التكليفين المنجّزين على الآخر، وهو المعنى الرابع من معاني حجّيّة الظنّ الذي ذكرناه فيما سبق في توجيه كلام المحقّق النائينيّ(قدس سره)، وشبّهنا المقام هناك بقيام الأمارة على وجوب الإزالة وعلى وجوب صلاة العيد، والظنّ بأحدهما مع عدم إمكان الجمع بينهما.

ولا يخفى أنّه يجب أن يكون المراد من ترجيح الظنّ لأحد التكليفين المنجّزين على الآخر فيما نحن فيه ما ظهر من بياناتنا هنا، وليس المقصود من تشبيهنا للمقام بمثال قيام الأمارة على وجوب الإزالة وصلاة العيد دعوى التماثل التامّ في المقام، وتوضيح ذلك: أنّه في مثال الأمارة يكون التكليفان المنجّزان على تقدير صدق الأمارتين تامّين في مرحلة الجعل، وإنّما التزاحم والترجيح يكونان بحسب عالم الامتثال على ما يراه المذاق المشهور في علم الاُصول، كما هو الحال أيضاً في نظرهم في التكليفين المنجّزين بالعلم، بفرق أنّه مع العلم لا معنى للترجيح بالظنّ، ومع الأمارة هناك مجال للترجيح بالظنّ. وأمّا فيما نحن فيه فليس هناك مجال لدعوى كون التزاحم والترجيح بحسب عالم الامتثال؛ إذ من الواضح أنّه لا يوجد هنا حكمان منجّزان وإنّما هنا حكم واحد منجّز دار الأمر بين تقييدين له في عالم الجعل بقانون رفع العسر والحرج، أو بين ترخيصين جعليّين بقانون رفع العسر والحرج، وصار الظنّ مرجّحاً لأحد الجعلين في عالم التقييد أو الترخيص.

وأمّا على الفرض الثاني ـ وهو القطع بأهمّـيّة بعض الموهومات أو احتمالها على تقدير ثبوتها في الواقع من المظنونات على تقدير ثبوتها في الواقع، ومثاله ما لو احتملنا أو قطعنا بأهمّـيّة حقوق الناس من حقوق الله مثلاً، وبما أنّ احتمال حقوق الناس وحقوق الله منتشر في المظنونات والموهومات معاً، إذن نحتمل أو

716

نقطع بأهمّـيّة بعض الموهومات على تقدير مصادفتها للواقع من بعض المظنونات على تقدير المصادفة ـ: فهنا أيضاً تارةً نتكلّم على مبنى حكومة دليل نفي العسر والحرج على الواقع، واُخرى على مبنى حكومته على وجوب الاحتياط:

أمّا على المبنى الأوّل ـ وهو حكومة دليل نفي العسر والحرج على الواقع ـ: فتارةً نفترض القطع بأهمّـيّة حقوق الناس من حقوق الله مثلاً، أو احتمال ذلك من دون احتمال العكس، واُخرى نفترض أنّنا كما نحتمل أهمّـيّة حقوق الناس من حقوق الله كذلك نحتمل العكس:

فإن قطعنا بأهمّـيّة حقوق الناس من حقوق الله أو احتملنا ذلك من دون احتمال العكس، فالأمر دائر بين التقييد في التكاليف الواقعيّة بحكومة قاعدة نفي العسر والحرج في خصوص دائرة الموهومات بنكتة ترجيح المظنونات بأهمّـيّة الاحتمال، أو في خصوص دائرة حقوق الله بنكتة ترجيح حقوق الناس بأهمّـيّة المحتمل، ويحتمل التخيير بين ترك الموهومات وترك حقوق الله، ولا سبيل إلى جواز ترك الموهومات وحقوق الله جميعاً، كما لا سبيل إلى التقييد في جميع التكاليف إطلاقاً؛ لأنّ الضرورة تتقدّر بقدرها.

وعندئذ نقول ـ بعد فرض عدم كفاية ترك خصوص الموهومات من حقوق الله في نفي العسر والحرج، وإلّا وجب الاقتصار عليها ـ: إنّه لا إشكال في تطبيق مقدار من رفع العسر والحرج على ترك الموهومات من حقوق الله، كما لا إشكال في أنّ من اللازم على المكلّف التحفّظ على المظنونات من حقوق الناس. وبعد هذا يبقى التردّد بين جواز ترك الموهومات من حقوق الناس عند الإتيان بمظنونات حقوق الله، وجواز ترك مظنونات حقوق الله عند الإتيان بموهومات حقوق الناس، فيقع التعارض بين إطلاق الدليلين ويتساقطان ويثبت له التخيير.

717

وإن احتملنا أهمّـيّة حقوق الناس من حقوق الله واحتملنا العكس أيضاً قلنا: المفروض أيضاً عدم كفاية ترك خصوص الموهومات من إحدى الطائفتين، وإلّا فلا إشكال في وجوب التحفّظ على المظنونات جميعاً مع التخيير بين ترك الموهومات من هذه الطائفة والموهومات من تلك الطائفة؛ لوقوع التعارض والتساقط بين الإطلاقين في قسمي الموهومات، وعندئذ نقول: إنّ وظيفة المكلّف هنا الإتيان بالمظنونات جميعاً، وتطبيق رفع العسر والحرج على ترك الموهومات، والوجه في ذلك: أنّه يعلم إجمالاً بالتقييد في أحد القسمين من الموهومات، ويعلم إجمالاً بالتقييد في القسم الآخر من الموهومات أو أحد قسمي المظنونات، وليس له علم إجماليّ بالتقييد في أحد قسمي المظنونات، فيتمسّك بالإطلاق في كلا قسمي المظنونات، ولا يعارض ذلك بالإطلاق في جانب الموهومات؛ لأنّ الإطلاقين في قسمي الموهومات متعارضان ومتساقطان.

إن قلت: إنّ الإطلاق في كلّ واحد من قسمي الموهومات وإن كان معارضاً بالإطلاق في الآخر لكنّنا بعد القطع بالتقييد في أحدهما نجري الإطلاق في القسم الآخر بعنوان (القسم الآخر)، لا بعنوان أحدهما معيّناً حتّى يعارض بالإطلاق في الآخر.

قلت: لا إشكال في جواز التمسّك بالإطلاق أو العموم في عنوان القسم الآخر عند ما يثبت هناك تعيّن في الواقع للقسم الأوّل الخارج من الإطلاق، أو العموم، كما لو أخرجت رواية فرداً من تحت العامّ فعلم أنّ الملحوظ فيها أحد الفردين معيّناً في الواقع وإن كنّا لا نعرفه بالخصوص، فهنا لا إشكال في إجراء أصالة الإطلاق في عنوان الفرد الآخر، أي: الفرد الذي هو غير ما قصده الراوي، أمّا إذا كان المخرج لأحد الفردين على حدّ سواء، كما لو قام الإجماع على عدم دخول الفردين معاً تحت الإطلاق وكما فيما نحن فيه؛ لأنّ المخرج لأحد الفردين إنّما هو

718

دليل نفي العسر والحرج الذي تكون نسبته إلى الفردين على حدّ سواء، فهناك بحث في أنّه هل يمكن التمسّك بالإطلاق لإثبات الحكم في الفرد الآخر إمّا بعنوان (الفرد الآخر)، أو بدعوى إجراء أصالة الإطلاق بالنسبة لكلّ فرد على تقدير خروج الفرد الآخر، أو لا ؟

فقد يقال بعدم إمكان ذلك، أمّا بلحاظ عنوان (الفرد الآخر) فلعدم ثبوت تعيّنه في الواقع، وأمّا بلحاظ أصالة الإطلاق بالنسبة لكلّ فرد على تقدير خروج الآخر؛ فلأنّه إن قصد بذلك التبعيض في الدلالة، فهذا غير معقول؛ لأنّ المفروض تماميّة الدلالة فيها. وإن قصد بذلك التبعيض في المدلول ثبوتاً، لزم من ذلك دخول كلا الفردين ثبوتاً على تقدير خروجهما، وهو محال. وإن قصد بذلك التبعيض في الحجّيّة، فهذا موقوف على مساعدة دليل الحجّيّة على ذلك. فلو كان دليل الحجّيّة عبارة عن السيرة العقلائيّة فقد يدّعى عدم مساعدة الارتكاز العقلائيّ على مثل هذا التبعيض في الحجّيّة، خصوصاً حينما يكون الفرد الخارج خارجاً بالحكومة لا بالقطع، فتلزم من حجّيّة كلا الإطلاقين وإن كان بنحو التبعيض في الحجّيّة مع حجّيّة الدليل الحاكم حجّيّة الحاكم والمحكوم معاً.

وقد يقال بإمكان ذلك بدعوى مساعدة الارتكاز العقلائيّ على مثل هذا التبعيض في الحجّيّة تحت عنوان (الفرد الآخر) مثلاً.

فإن قلنا بالأوّل لم يبق مجال لهذا الكلام في المقام، وإن قلنا بالثاني فالصحيح أنّ التمسّك بالإطلاق في خصوص المقام غير تامّ؛ لأنّ إطلاق الحكم في أحد قسمي الموهومات بعنوان القسم الآخر ـ مثلاً ـ لا أثر له، فلا تتعقّل حجّيّته، فإنّه لا يولّد علماً تفصيليّاً بالتكليف، ولا علماً إجماليّاً به، أمّا الأوّل فواضح، وأمّا الثاني فلأنّ من المحتمل كون التكليف في الموهوم الأوّل

719

الذي فرض سقوطه(1).

إن قلت: إنّنا كما نعلم إجمالاً بسقوط الإطلاق في أحد الموهومين كذلك نعلم إجمالاً بسقوط الإطلاق في الموهوم من حقوق الله، أو في المظنون من حقوق الناس، ونعلم إجمالاً بسقوط الإطلاق في الموهوم من حقوق الناس، أو في المظنون من حقوق الله؛ لأنّ المفروض أنّ سقوط الإطلاق في أحد الموهومين لا يكفي لرفع العسر والحرج، فإمّا أنّ إطلاق الموهوم الآخر أيضاً ساقط، أو أنّ إطلاق الموهوم الآخر غير ساقط لأهمّـيّته بدرجة مانعة عن سقوط إطلاقه، وهذا يستلزم عدم سقوط مظنونه أيضاً، وتعيّن السقوط في مظنون الآخر، فالإطلاق في الموهوم من كلّ واحد من القسمين يعارض الإطلاق في المظنون من القسم الآخر، فلا وجه لفرض الأخذ بالمظنونين بعد إسقاط الموهومين، فإنّ كلّ واحد


(1) قد يقصد من يتمسّك بإطلاق القسم الآخر بعنوان (القسم الآخر) أن يحقّق بهذا معارضاً لأحد قسمي المظنونات، كي يتساقطا وبالتالي يتمّ التخيير بين الموهومات والمظنونات، فإن كان هذا هو المقصود لم يكف لدفعه القول بأنّ الإطلاق في القسم الآخر بهذا العنوان لا يولّد علماً تفصيليّاً ولا إجماليّاً، فلا أثر له فلا يكون حجّة؛ وذلك لأنّ التعارض مع أحد قسمي المظنونات بمعنى التكاذب ليس فرع الحجّيّة، وإذا حصل التكاذب قبل الحجّيّة وكان أحد المتكاذبين يثبت أثراً شرعيّاً فلا محالة المتكاذب الآخر ينفيه، وكانت نسبة دليل الحجّيّة إلى المتكاذبين على حدّ سواء، فيدور الأمر بين حجّيّة الموهومات وحجّيّة المظنونات، فيتعارضان ويتساقطان. والجواب عندئذ أن يقال: إنّ هذا التقريب يؤدّي إلى سقوط أحد قسمي المظنونات، ولا يؤدّي إلى سقوط كلا قسميها؛ لعدم تكاذب بين المظنونات بقسميها، فيبقى أحد قسمي المظنونات غير المعيّن حجّة، ولأجل العلم الإجماليّ بحجّيّة أحد القسمين نضطرّ أن نعمل بالمظنونات جميعاً، ونطبّق رفع العسر والحرج على ترك الموهومات.

720

من الموهومين يعارض في عرض واحد موهوم القسم الآخر ومظنونه.

قلت: لمّا كان الموهومان بنفسهما متعارضين ولم يكن المظنونان كذلك، تعيّن تقديم كلّ مظنون على ما يعارضه من الموهوم؛ إذ لا يلزم من تقديمه عليه دون العكس ترجيح بلا مرجّح؛ لأنّ ذلك الموهوم بنفسه لا يقبل التقدّم على ما يعارضه من المظنون، أي: أنّه بقطع النظر عن كون تقديمه على المظنونان ترجيحاً له عليه بلا مرجّح لا يمكن تقديمه عليه؛ لأنّ تقديمه على ما يعارضه من المظنون دون تقديم الموهوم الآخر على ما يعارضه من المظنون ترجيح بلا مرجّح، وتقديم كلا الموهومين في الإطلاق على المظنونين غير ممكن؛ لفرض القطع بكذب إطلاق أحدهما، وهذا بخلاف ما لو قدّمنا المظنونين على الموهومين؛ لعدم القطع بكذب أحدهما.

والخلاصة: أنّ تقديم الموهومين على المظنونين غير محتمل، وتقديم أحدهما ترجيح بلا مرجّح، فلا يعقل تقديم أيّ واحد من الموهومين على ما يعارضه من المظنون، وبالتالي ينجو تقديم كلّ واحد من المظنونين على ما يعارضه من الموهوم عن مشكلة الترجيح بلا مرجّح؛ لأنّ تقديم الموهوم عليه أصبح غير ممكن بقطع النظر عن عدم ترجيح له على ذاك المظنون.

وأمّا على المبنى الثاني ـ وهو حكومة دليل نفي العسر والحرج على وجوب الاحتياط لا الواقع ـ: فهنا أيضاً تارةً يفرض القطع بأهمّـيّة حقوق الناس مثلاً،أو احتمالها من دون احتمال أهمّـيّة حقوق الله، واُخرى يفرض احتمال أهمّـيّة حقوق الناس من حقوق الله مع احتمال العكس أيضاً:

فإن فرض القطع بأهمّـيّة حقوق الناس بدرجة لا يرضى المولى بتفويتها عند فرض التزاحم (والمفروض عدم كفاية ترك الموهومات من حقوق الله لرفع العسر والحرج، وإلّا لزم الاقتصار عليه)، فعندئذ نقطع بعدم رضا الشارع بترك مظنونات

721

حقوق الناس، ونقطع برضاه بتطبيق نفي الحرج على ترك موهومات حقوق الله، ونبقى مردّدين بين مظنونات حقوق الله وموهومات حقوق الناس لا ندري هل الترخيص في مخالفة أحدهما بالخصوص، أو هو ترخيص تخييريّ، ولو وجب الاحتياط في ذلك بالعمل بهما معاً عاد العسر والحرج، فيجري دليل نفي العسر والحرج ثانياً لرفع هذا الاحتياط، وهكذا لا يمكن نفي العسر والحرج إلّا إذا انتهينا إلى التخيير، فهنا يعلم أنّ الترخيص يكون بنحو التخيير.

وإن شئت فقل: إنّ المنجّز الموجود في كلّ طرف لتنجيز خصوصيّة ذاك الطرف وهو الاحتمال غير المأمون من قبله ـ لسقوط المؤمّن وهو الأصل ـ لا يمكن أن يؤثّر أثره في كلّ طرف؛ لاستلزامه العسر والحرج المفروض عدمه، ولا في أحد الطرفين بالخصوص؛ للزوم الترجيح بلا مرجّح، فيسقط في كلا الطرفين عن التأثير، ولا يبقى تحت التنجيز عدا الجامع، ويكفي في امتثال الجامع الإتيان بأحد الطرفين، وهما موهومات حقوق الناس ومظنونات حقوق الله.

وإن فرض احتمال أهمّـيّة حقوق الناس من حقوق الله دون احتمال العكس، فعندئذ نقطع بالترخيص في تطبيق رفع الاضطرار على موهومات حقوق الله، ونعلم أنّنا زائداً على هذا إمّا مرخّصون في مظنونات حقوق الله، أو مرخّصون في موهومات حقوق الناس، أو مخيّرون بينهما، أو مخيّرون بين مظنونات حقوق الناس وموهومات حقوق الناس، وعليه لابدّ من الاحتياط في مظنونات حقوق الناس؛ إذ لا يحتمل الترخيص التعيينيّ بالنسبة لها، والقدر المتيقّن في الترخيص التخييريّ غيرها، ونبقى بعد هذا مردّدين بين مظنونات حقوق الله وموهومات حقوق الناس، ويثبت التخيير بينهما بالبيان الماضي في فرض القطع بأهمّـيّة حقوق الناس.

وإن فرض احتمال أهمّـيّة حقوق الناس من حقوق الله مع احتمال العكس

722

أيضاً، فهنا نعلم إجمالاً بأنّ الترخيص إمّا يكون ثابتاً في موهومي كلتا الطائفتين، أو في إحدى الطائفتين موهومها ومظنونها، أو يكون بنحو التخيير(1)، ويتعيّن التخيير؛ إذ لولاه ابتلينا ثانية بالاحتياط ولم ننج من العسر والحرج، أو قل: إنّ المنجّز لخصوصيّة كلّ طرف وهو الاحتمال غير المأمون من قبله لا يمكن أن يؤثّر أثره في كلا الطرفين ولا في طرف واحد بنفس البيان الماضي.

هذا بناءً على أنّ المنجّز للخصوصيّة في كلّ طرف هو الاحتمال غير المأمون من قبله لا نفس العلم الإجماليّ، وهذا هو لازم القول بقاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ لأنّ العلم الإجماليّ ليس بياناً لأكثر من الجامع، فعندئذ لا نكتة لوجوب الالتزام بجميع المظنونات من الطائفتين وتطبيق نفي الاضطرار على الموهومات من الطائفتين.

لا يقال: إنّنا نفترض أنّ الظنّ هنا يصبح منجّزاً لخصوص ما تعلّق به.

فإنّه يقال: هذا مناف لما هو المفروض من مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ إذ على هذا المسلك لا معنى لكون الظنّ في المقام منجّزاً؛ إذ لو فرض تنجيزه تنجيزاً ذاتيّاً فالتنجيز الذاتيّ مخصوص بالكشف التامّ، ولو فرض تنجيزه تنجيزاً شرعيّاً فهو بحاجة إلى دليل مفقود، ومع فقده يكون المرجّح هو قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وحتّى لو لم نؤمن بقاعدة قبح العقاب بلا بيان فالتنجيز الشرعيّ ما لم يدلّ عليه الدليل منفيّ بالبراءة الشرعيّة التي هي في مستوى البراءة العقليّة، أو التي هي في مستوى


(1) أمّا احتمال كون الترخيص في مظنوني كلتا الطائفتين فحسب فغير وارد، فلابدّ من الالتزام بالمظنونات في إحدى الطائفتين؛ إذ لا مانع من تنجيز الاحتمال للجامع بينهما، ونبقى مخيّرين بين مخالفة موهومات كلتا الطائفتين، ومخالفة إحدى الطائفتين مظنونها وموهومها.

723

أعلى منها. وسيأتي في محلّه ـ إن شاء الله ـ شرح المستويين من البراءة الشرعيّة.

أمّا بناءً على مسلكنا: من أنّ العلم الإجماليّ كاف لتنجيز الواقع؛ لإنكارنا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان من أساسها، فالصحيح في المقام أنّه بعد سقوط الامتثال القطعيّ بالعسر والحرج يتنزّل العقل من الامتثال القطعيّ إلى الامتثال الظنّيّ.

وقبل أن نختم الكلام في هذه الجهة الاُولى ـ وهي في البحث عن انحلال العلم الإجماليّ في المقام ـ نشير إلى أنّه بقي هنا وجهان آخران يمكن أن يذكرا لفرض انحلال العلم الإجماليّ في المقام، نذكرهما كبيان كبرى كلّيّة، ويكون تحقيقهما صغرويّاً مربوطاً بالدقّة في كلّ واحدة واحدة من المسائل في بحث الفقه:

الوجه الأوّل: أن ينحلّ العلم الإجماليّ بالعلم باهتمام المولى بالتكليف في طرف الشكّ على فرض وجوده في عدّة من الشبهات لا تقلّ عن عدد المعلوم بالإجمال، وذلك في شبهات معيّنة، أو ضمن دائرة أوسع من الشبهات، بأن نعلم إجمالاً باهتمام المولى ببعضها على تقدير وجود الحكم فيها ممّا لا يقلّ عن المعلوم بالإجمال، فالبراءة تجري عندئذ في غير دائرة الشبهات التي يعلم بالاهتمام بالحكم فيها، أو في ضمنها على تقدير الوجود بلا معارض؛ لما عرفت في بحث الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ: من أنّ روح البراءة عبارة عن عدم اهتمام المولى بتكليفه في ظرف الشكّ ورضاه بالمخالفة، وروح الاحتياط عبارة عن اهتمامه به في ظرف الشكّ، فالعلم بالاهتمام على تقدير الوجود يساوق العلم بعدم جريان البراءة في الشبهات التي علمنا بالاهتمام فيها، ويساوق تعارض البراءات وتساقطها فيما لو تردّدت تلك الشبهات في دائرة أوسع من الشبهات، فتبقى البراءة في غير تلك الشبهات أو غير تلك الدائرة الأوسع بلا معارض.

الوجه الثاني: أن ينحلّ العلم الإجماليّ بدوران الأمر في الاهتمام بين التعيين والتخيير، بيان ذلك: أنّه لا إشكال في اهتمام المولى بالتكليف المعلوم بالإجمال

724

في المقام بمقدار عدم المخالفة القطعيّة، ولكن الأمر دائر بين الاهتمام بنحو التخيير بأن يرضى المولى بتحفّظ العبد على التكليف المحتمل في أحد طرفي العلم الإجماليّ والاهتمام التعيينيّ، فإذا فرضنا أنّنا احتملنا الاهتمام التعيينيّ في أحد الجانبين بالخصوص، ولم نحتمل اختصاص الاهتمام بالجانب الآخر؛ لعلمنا بأنّ الثاني ليس بأهمّ من الأوّل؛ لأنّ الأوّل من الدماء، والثاني من الأموال مثلاً، فالبراءة في الجانب الأوّل لا تجري للقطع بالاهتمام به تعييناً أو تخييراً بناءً على أنّ البراءة إنّما تنفي الاهتمام دائماً بنحو التعيين، وتجري في الجانب الآخر؛ لعدم القطع بالاهتمام به لا تعييناً ولا تخييراً؛ إذ نحتمل أن يكون التعيين في الأوّل فقط، وتكون البراءة في الجانب الآخر سليمة عن المعارض.

فهاتان كبريان لانحلال العلم الإجماليّ في المقام، وتحقيق انطباقها على الفقه موكول إلى التتبّع والتأمّل في بحث الفقه، والذي يقرب من النفس جدّاً انطباق إحداهما أو كلتيهما في الفقه، فإنّ درجة احتمالنا لاهتمام المولى بالتكليف تختلف باختلاف المسائل جدّاً، فإن لم تنطبق الكبرى الاُولى بأن نعلم بتجميع عدّة مسائل معيّنة بثبوت الاهتمام في ضمنها إجمالاً(1) فلا أقلّ من انطباق الكبرى الثانية من دوران الأمر في بعض الموارد في الاهتمام بين التعيين والتخيير. هذا تمام الكلام في الجهة الاُولى.

 

دور العلم الإجماليّ في دليل الانسداد:

الجهة الثانية: فيما هو دور هذا العلم الإجماليّ في دليل الانسداد وأثره في اقتناص النتيجة منه.

ذهب المحقّق العراقيّ(رحمه الله) إلى أنّ هذا العلم الإجماليّ يستحيل أن يحقّق ما


(1) أمّا المقدار المعلوم تفصيلاً الاهتمام به فأفاد(رحمه الله): أنّه أقلّ من المعلوم الإجماليّ.

725

أراده الانسداديّ: من المنع عن جريان البراءة في الأطراف في عرض الإجماع والضرورة، فإن لم تكن لدينا ضرورة أو إجماع على نفي جواز الترك بقطع النظر عن العلم الإجماليّ وصلت النوبة إلى جعل العلم الإجماليّ مانعاً عن جريانها، وإلّا فلا.

وذهب أيضاً إلى أنّه لو كان دليلنا على منع البراءة عبارة عن مثل الإجماع والضرورة كان هناك مجال للتوصّل إلى حجّيّة الظنّ بالكشف أو الحكومة، وذلك بضمّ باقي المقدّمات إلى ذلك. أمّا لو كان دليلنا على ذلك هو العلم الإجماليّ فلا سبيل إلى حجّيّة الظنّ بالكشف أو الحكومة، وإنّما النتيجة هي التبعيض في الاحتياط(1). إذن فللمحقّق العراقيّ(رحمه الله) دعاوى ثلاثة:

1 ـ عدم حصول غرض الانسداديّ من المنع عن البراءة بسبب العلم الإجماليّ في عرض الإجماع والضرورة.

2 ـ انتهاء الإجماع والضرورة بالضمّ إلى باقي المقدّمات إلى الكشف أو الحكومة.

3 ـ عدم انتهاء العلم الإجماليّ إلى الكشف أو الحكومة وتعيّن التبعيض في الاحتياط.

ونحن نتكلّم عن هذه الدعاوى تباعاً في مقامات ثلاثة:

المقام الأوّل: في الدعوى الاُولى، وهي: أنّ العلم الإجماليّ إنّما يحقّق هدف الانسداديّ من المنع عن جريان البراءة لو لم يكن بقطع النظر عنه إجماع أو ضرورة، فليس العلم الإجماليّ محقّقاً للمقصود في عرض الإجماع والضرورة.

والوجه في ذلك: أنّ الإجماع والضرورة يكشفان لا محالة عن وجود منجّز في


(1) راجع المقالات، ج 2، ص 41 و42.

726

المقام؛ إذ بدون المنجّز لا يصحّ العقاب وتستحكم قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فلا يعقل الإجماع أو الضرورة على عدم جواز الترك، والمفروض أنّ هذا المنجّز ليس هو العلم الإجماليّ؛ لأنّنا فرضنا أنّ الإجماع والضرورة قاما على عدم جواز الترك بقطع النظر عن العلم الإجماليّ، عندئذ نقول: إنّ هذا المنجّز الشرعيّ يحلّ العلم الإجماليّ لا محالة ولا يبقى مانع عن جريان البراءة في غير دائرة ذاك المنجّز.

والتحقيق: أنّ هذا الكلام لا يمكن المساعدة عليه، فإنّه إن أراد بذلك كون هذا المنجّز موجباً لحلّ العلم الإجماليّ بقطع النظر عن ضمّ باقي المقدّمات إلى هذه المقدّمة واستنتاج حجّيّة الظنّ منها، قلنا: إنّ مجرّد قيام الإجماع والضرورة على عدم جواز الترك التامّ لا يوجب انحلال العلم الإجماليّ؛ لأنّ مصبّ الإجماع أو الضرورة إنّما هو فرض الجمع بين التروك لا ترك طائفة خاصّة، فالمنجّز الذي يكشف عنه هذا الإجماع أو الضرورة ليس هو منجّزاً تعيينيّاً لبعض الأطراف، بل هو مردّد بين المنجّز التعيينيّ والمنجّز التخييريّ، وإذا تردّد الأمر بينهما فالقدر المتيقّن هو التخييريّ، والتعيين مؤونة زائدة باقية تحت قبح العقاب بلا بيان، وإذا كان المنجّز منجّزاً على سبيل التخيير والترديد بين الأطراف لم يكن مجال لتوهّم حلّ العلم الإجماليّ الترديديّ بذلك، فإنّ الترديديّ لا يحلّ بترديديّ آخر مثله.

وإن أراد بذلك أنّه بعد أن يضمّ هذا الإجماع والضرورة إلى سائر المقدّمات وتستنتج منها حجّيّة الظنّ، فحجّيّة الظنّ تحلّ العلم الإجماليّ ولا يبقى مانع من جريان البراءة في باقي الأطراف، قلنا ـ بقطع النظر عن عدم إمكان ضمّ ذلك إلى باقي المقدّمات، واستنتاج حجّيّة النظر منها على ما سيأتي إن شاء الله في المقام الثاني ـ: إنّه لم يتعلّق للانسداديّ غرض بإبطال جريان البراءة بعد إثبات حجّيّة الظنّ، وإنّما تعلّق غرضه بإبطال جريان البراءة بقطع النظر عن حجّيّة الظنّ وفي الرتبة السابقة عليها حتّى يثبت بذلك حجّيّة الظنّ، ومن الواضح أنّه في المرتبة

727

السابقة على حجّيّة الظنّ لا يكون العلم الإجماليّ منحلاًّ، فيصلح للمنع عن جريان البراءة.

المقام الثاني: في الدعوى الثانية، وهي وقوع الإجماع والضرورة في طريق إثبات النتيجة المقصودة من حجّيّة الظنّ على أساس الكشف أو الحكومة، وذلك بضمّه إلى سائر مقدّمات دليل الانسداد.

والصحيح: أنّ هذا أيضاً لا يمكن المساعدة عليه؛ وذلك لأنّه لا يمكن ضمّ هذا الإجماع والضرورة إلى المقدّمة الأخيرة القائلة بقبح ترجيح المرجوح على الراجح حتّى تثبت بذلك حجّيّة الظنّ، فإنّ الإجماع والضرورة لا يدلاّن على وجود منجّز مردّد أمره بين كونه في المظنون أو في الموهوم حتّى يعيّن في الأوّل بقاعدة قبح ترجيح المرجوح على الراجح، وإنّما يدلاّن ـ كما مضى ـ على وجود منجّز تخييريّ؛ لكون التعيين مؤونة زائدة باقية تحت قاعدة قبح العقاب بلا بيان، ولم يصلنا شيء أكثر من التنجيز التخييريّ لا بمنجّز عقليّ؛ لأنّ المفروض قطع النظر عن العلم الإجماليّ، ولا بمنجّز شرعيّ؛ لعدم الدليل عليه. وهذا المنجّز التخييريّ نسبته إلى المظنون والموهوم على حدّ سواء، فلا يلزم من ذلك ترجيح المرجوح على الراجح، فنبقى نحن والاحتياط التبعيضيّ التخييريّ ولا تصل النوبة إلى حجّيّة الظنّ أصلاً.

إن قلت: إنّنا لو ضممنا هذا الإجماع والضرورة إلى ما قد يدّعى من الإجماع على عدم كون طريق الامتثال في الشريعة منحصراً بالاحتياط بالنسبة لجلّ الأحكام، أنتج ذلك حجّيّة الظنّ على الكشف.

قلت: هذا الإجماع المدّعى إنّما هو ناظر إلى المقدار الثابت تنجيزه، ويفترض أنّ ذاك المقدار الثابت تنجيزه هناك طريق آخر لامتثاله غير الاحتياط، ولا أقلّ من احتمال ذلك، ولا ينظر إلى تنجيز إضافيّ على ما هو ثابت لولاه، فلو افترض

728

شمول هذا الإجماع للفرض الذي نتكلّم عنه ثبتت الحجّيّة التخييريّة، أي: أنّ المقدار الذي يجب أخذه يكون على سبيل التخيير، وأيّ جانب اختاره المكلّف كان ذلك حجّة له بحيث يمكن قصد الوجه، أمّا فرض ثبوت حجّيّة الظنّ هنا بهذا الإجماع فهذا يعني زيادة في التنجيز، وهي خارجة عن عهدة هذا الإجماع المدّعى. إذن فالإجماع والضرورة لا يقعان في طريق إثبات الكشف أو الحكومة.

نعم، هذا الذي ذكرناه إنّما هو مبنيّ على مسلك القوم في قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

أمّا على مسلكنا فيمكن التوصّل إلى حجّيّة الظنّ. توضيح ذلك: أنّنا نعتقد أنّ عنوان عدم البيان ليس هو بنفسه موضوع قبح العقاب، وإنّما يكون موضوعه الحقيقيّ عبارة عن عدم الحقّ، أي: أنّه يقبح على المولى عقابه للعبد على ما ليس له عليه حقّ المولويّة والامتثال، وعندئذ فإذا أردنا الانسياق مع المشهور في البراءة العقليّة قلنا: إنّ الذي تعلّق به حقّ المولويّة إنّما هو التكليف المعلوم والمبيّن دون التكليف المشكوك، وإذا كان الأمر كذلك، أي: لم يكن قبح العقاب من ذاتيّات عدم البيان، ولم تكن الحجّيّة من ذاتيّات العلم، بل دار مدار ثبوت حقّ المولويّة وعدمه، فمن المعقول أن يقال: إنّه إنّما يكون حقّ المولويّة منصبّاً على خصوص دائرة المعلومات دون المظنونات وغيرها بالنسبة للعبد الذي يكون باب العلم إلى أحكام مولاه منفتحاً عليه، فيؤدّي حقّ المولويّة بالنسبة له إلى امتثال العلميّ، أمّا الذي انسدّ عليه باب العلم بأحكام مولاه جلاًّ أو كلاًّ، ولم يتنجّز عليه الامتثال العلميّ، فحقّ المولويّة بالنسبة له ينصبّ على دائرة المظنونات، وبكلمة اُخرى: إنّ مقتضى عبوديّة العبد ثبوت حقّ الطاعة عليه للمولى، فإن لم يتمثّل ذلك في التكاليف المعلومة لعدم العلم يتمثّل في التكاليف المظنونة، وبهذا تثبت حجّيّة الظنّ على نحو الحكومة، فإذا ضمّ ذلك إلى دعوى الإجماع على أنّ ما ثبت

729

تنجيزه لا ينحصر امتثاله في الشريعة بالاحتياط ثبتت حجّيّة الظنّ على نحو الكشف.

نعم، هذا موقوف على عدم جريان البراءة الشرعيّة في الأطراف؛ إذ إنّما يحكم العقل بتنجيز الظنّ مع عدم الترخيص الشرعيّ في المخالفة، وأثر هذا الإجماع والضرورة هو المنع عن إجراء البراءة الشرعيّة في الأطراف بناءً على أنّ التنجيز التخييريّ يوجب التعارض بين البراءات والتساقط.

المقام الثالث: في الدعوى الثالثة من كون العلم الإجماليّ عقيماً في المقام لا ينتج الكشف ولا الحكومة.

وبيان ذلك: إنّنا إن لم نقل بمنجّزيّة العلم الإجماليّ، فحاله حال الشكّ البدويّ ولا أثر له، وإن قلنا بمنجّزيّته فالتكليف بعد أن تنجّز بالعلم الإجماليّ لا يعقل تنجّزه بالظنّ.

أقول: إن كان مراده(قدس سره) أنّ حجّيّة الظنّ مساوقة لانحلال العلم الإجماليّ، وانحلال العلم الإجماليّ مساوق لعدم منجّزيّته، فلا يعقل الجمع بين منجّزيّة العلم الإجماليّ وحجّيّة الظنّ، فقد ظهر بطلان ذلك ممّا سبق؛ لأنّ الانسداديّ إنّما يقصد إسقاط البراءة في المرتبة السابقة على حجّيّة الظنّ كي يتوصّل بذلك إلى حجّيّة الظنّ، فتكفيه منجّزيّة العلم الإجماليّ بقطع النظر عن حجّيّة الظنّ وفي المرتبة السابقة عليها، وهذه ثابتة؛ لأنّ منجّزيّة الظنّ لا تحلّ العلم الإجماليّ في المرتبة السابقة على نفسها.

وإن كان مراده أنّ الحكم الواحد لا يتنجّز بمنجّزين، فالأحكام المنجّزة بالعلم الإجماليّ لا يعقل تنجيزها بالظنّ، وإلّا لزم اجتماع منجّزين على منجّز واحد، أو كان مراده (حتّى مع فرض الالتفات إلى إمكان اجتماع علّتين على معلول واحد وصيرورة كلّ منهما جزء علّة، وأنّ اجتماع منجّزين على منجّز واحد يكون من

730

هذا القبيل): أنّ الأحكام التي تنجّزت بالعلم لا أثر للبحث عن تنجيزها بالظنّ وعدمه مادامت هي منجّزة بالعلم، والفرض إنّما هو بيان حجّيّة الظنّ ومنجّزيّته لما لم يتنجّز بالعلم.

ورد عليه: أنّ غرض الانسداديّ القائل بحجّيّة الظنّ بالكشف أو الحكومة ليس هو تنجيز الظنّ بالنسبة للمعلوم بالإجمال، وإنّما غرضه هو تنجيزه بالنسبة للمظنون، ونقطة التنجيز ليست متّحدة، ويظهر أثر ذلك فيما إذا كانت المظنونات أكثر من المقدار المعلوم بالإجمال كما هو كذلك في المقام، فهذه الظنون تكون حجّة بمعنى أنّه لو خالفها استحقّ العقاب عليها جميعاً ولو في خصوص فرض المصادفة للواقع، بينما تنجيز العلم الإجماليّ لا يحقّق العقاب بأكثر من مقدار المعلوم بالإجمال.

هذا إذا قلنا: إنّ العلم الإجماليّ ينجّز واقع المعلوم بالإجمال، أمّا إذا قلنا: إنّه إنّما ينجّز الجامع(1) فالأمر أوضح؛ لأنّ الظنّ بالخصوصيّة ينجّز الخصوصيّة، وهي غير ما تنجّز بالعلم.

نعم، كان بإمكان المحقّق العراقيّ(رحمه الله) أن يثبت عقم العلم الإجماليّ مبنيّاً على مباني اُستاذه صاحب الكفاية(قدس سره)، وذلك بأن يقال: إنّنا إمّا أن نفرض قيام دليل من إجماع أو قاعدة نفي العسر والحرج على عدم وجوب الاحتياط التامّ، أو لا: فإن لم نفرض ذلك لم تصل النوبة إلى حجّيّة الظنّ، وإن فرضنا ذلك كان هذا من باب الترخيص والاضطرار في بعض الأطراف غير المعيّنة، وهذا عند صاحب الكفاية يسقط العلم الإجماليّ عن التأثير، هذا تمام الكلام مع المحقّق العراقيّ(رحمه الله).


(1) وافترضنا أنّ الخصوصيّات لم تتنجّز بالاحتمال غير المؤمّن عنه ولو لأجل لزوم العسر والحرج.

731

وأمّا تنقيح المطلب في نفسه فدور العلم الإجماليّ في المقام يختلف باختلاف المباني في العلم الإجماليّ، فبناءً على عدم منجّزيّته رأساً لا يكون له دور أصلاً لعدم إسقاطه للأصول كي ننتهي إلى حجّيّة الظنّ، وبناءً على منجّزيّته تكون هناك عدّة مباني في ذلك: كونه منجّزاً لحرمة المخالفة القطعيّة دون وجوب الموافقة القطعيّة، وكونه منجّزاً لحرمة المخالفة القطعيّة، ومنجّزاً أيضاً لوجوب الموافقة القطعيّة لكن لا بنفسه بل بواسطة تعارض البراءة العقليّة في الأطراف وتساقطها؛ لأنّ العلم الإجماليّ لا ينجّز بنفسه إلّا الجامع، وكونه منجّزاً بنفسه لوجوب الموافقة القطعيّة كما ينجّز حرمة المخالفة القطعيّة. والأمر يختلف باختلاف هذه المباني الثلاثة:

أمّا على المبنى الأوّل ـ وهو كون العلم الإجماليّ منجّزاً لحرمة المخالفة القطعيّة دون وجوب الموافقة القطعيّة ـ: فحال هذا العلم الإجماليّ هو حال ما مضى من الإجماع والضرورة، فإنّه منجّز تخييريّ كالإجماع والضرورة.

فإن قلنا بما مضى: من كون قبح العقاب وعدمه دائراً مدار حقّ المولويّة وعدمه لا مدار البيان وعدمه، وأنّ حقّ المولويّة إنّما ينصبّ على خصوص دائرة المعلومات عند ما ينتج الامتثال العلميّ، وفي غير هذه الحالة ينصبّ على دائرة المظنونات، ثبتت بذلك حجّيّة الظنّ على نحو الحكومة، وأثر العلم الإجماليّ في المقام إيقاع التعارض بين البراءات الشرعيّة في الأطراف والتساقط حتّى تصل النوبة إلى حكم العقل بحجّيّة الظنّ؛ إذ مع الترخيص من قِبَل المولى في المخالفة لا يحكم العقل بذلك.

وإذا ضممنا إلى ذلك دعوى الإجماع على عدم بناء الشرع على الاحتياط، أي: عدم انحصار طريق الامتثال في الشريعة بالاحتياط، ثبتت بذلك حجّيّة الظنّ على نحو الكشف.

732

وإذا لم نقبل فرض انبساط حقّ المولويّة على دائرة المظنونات لدى سقوط الامتثال العلميّ فلا سبيل إلى الكشف أو الحكومة، وننتهي إلى التبعيض في الاحتياط، وضمّ ذلك إلى دعوى الإجماع على عدم بناء الشريعة على الاحتياط لا يؤدّي إلى أكثر من الحجّيّة التخييريّة ولا يثبت الكشف، كما اتّضح ذلك ممّا مضى منّا في المقام الثاني: من مناقشتنا للمحقّق العراقيّ(رحمه الله).

وأمّا المبنى الثاني ـ وهو كون العلم الإجماليّ منجّزاً لوجوب الموافقة القطعيّة بواسطة وقوع المعارضة بين البراءات العقليّة في الأطراف وتساقطها ـ: فإن قلنا بالإجماع على عدم كون مبنى الشريعة على الاحتياط، أي: عدم انحصار طريقة الامتثال فيه، ثبت وجود حجّة من قِبَل الشارع، وهي مردّدة بين اُمور يكون المفروض إبطال ما عدا الظنّ منها ـ من الوهم، والقرعة، والتقليد، ونحو ذلك ـ في المقدّمات الآتية، فتثبت حجّيّة الظنّ على الكشف، وأثر العلم الإجماليّ تعارض الاُصول وتساقطها حتّى تصل النوبة إلى الكشف عن حجّيّة الظنّ؛ لأنّ التمسّك بالإجماع على ثبوت طريقة اُخرى في الشريعة للامتثال غير الاحتياط فرع لزوم الامتثال الذي هو فرع تساقط الاُصول.

وإن لم نؤمن بهذا الإجماع وقلنا: إنّ الإجماع إنّما هو قائم على بطلان الاحتياط التامّ، فإن آمنّا بما مضى: من تفسير قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وانبساط حقّ المولويّة عند سقوط الامتثال العلميّ على دائرة المظنونات، ثبتت حجّيّة الظنّ على الحكومة، وأثر العلم الإجماليّ هنا أيضاً هو إيقاع التعارض بين الاُصول وتساقطها حتّى تصل النوبة إلى حكم العقل بالحجّيّة؛ إذ مع الترخيص الشرعيّ في المخالفة لا يحكم العقل بذلك. وهذه الحكومة كافية في الاقتصار على المظنونات ونفي المشكوكات والموهومات حتّى إذا كان الاضطرار غير شامل لجميع المشكوكات والموهومات، أي: أمكن ضمّ قسم منها إلى المظنونات من

733

دون لزوم عسر وحرج، وذلك لا لجريان البراءة الشرعيّة في غير المظنونات (فإنّ حكم العقل بحجّيّة الظنّ إنّما كان في طول تعارض البراءة في المظنونات بالبراءة في غيرها وتساقطها؛ لكون جريانها في البعض دون البعض ترجيحاً بلا مرجّح، وعدم إمكان جريانها في الجميع، وليست حجّيّة الظنّ هي المرجّحة للبراءة في غير المظنونات؛ لأنّها ليست هي المانعة عن البراءة في المظنونات؛ إذ البراءة في المظنونات حاكمة عليها، أي: لو جرت لما وصلت النوبة إلى حكم العقل بحجّيّة الظنّ، وحجّيّة الظنّ معلولة لعدم البراءة في المظنونات، وما في طول عدم الشيء لا يعقل مانعيّته عن الشيء)، بل لجريان البراءة العقليّة في غير المظنونات، فإنّ حكم العقل بحجّيّة الظنّ لم يكن في طول سقوط البراءة العقليّة، وإنّما حجّيّة الظنّ عقلاً تعني أنّ البراءة العقليّة لا وجود لها في المظنونات، فهي من أوّل الأمر مخصوصة بغير المظنونات وتجري فيها بلا معارض.

وأمّا إن لم نؤمن بما مضى: من تفسير قاعدة قبح العقاب بلا بيان وانبساط حقّ المولويّة عند سقوط الامتثال العلميّ على دائرة المظنونات، فقد ثبت في المقام التبعيض في الاحتياط، وهل نحن مخيّرون بين الظنّ والوهم، أو يترجّح جانب الظنّ ؟ قد مضى الكلام في ذلك.

وأمّا على المبنى الثالث ـ وهو أنّ العلم الإجماليّ بنفسه ينجّز وجوب الموافقة القطعيّة كحرمة المخالفة القطعيّة ـ: فإن قلنا بالإجماع على عدم كون مبنى الشريعة على الاحتياط، وأنّها تجعل حتماً طريقاً آخر للامتثال، ثبت أيضاً حجّيّة الظنّ على الكشف، وإلّا فالعقل يتنزّل من الإطاعة القطعيّة إلى أيّ مرتبة أقرب إلى تحصيل الواقع رفع محذور العسر والحرج، فقد يتّفق ـ مثلاً ـ أنّه لا يكفي مجرّد الإتيان بالمظنونات، بل لابدّ من ضمّ بعض المشكوكات إليها؛ لعدم لزوم العسر والحرج بذلك، وهنا أيضاً ما مضى: من تقريب الحكومة، إلّا أنّها لا تفيدنا الفائدة