734

التي شرحناها: من إمكان الاقتصار على المظنونات حتّى مع إمكان ضمّ شيء من غير المظنونات إليها لكفاية ترك الباقي في نفي العسر والحرج؛ وذلك لأنّ البراءة العقليّة هنا ساقطة في نفسها بسبب العلم الإجماليّ لا بالتعارض، فلا يمكن الاستفادة منها لنفي تنجيز الزائد على المظنونات. إذن فالأثر العمليّ للحكومة هنا عين الأثر العمليّ للتبعيض في الاحتياط.

وبما ذكرناه ظهر ما هو التحقيق في بيان مباني الكشف والحكومة والتبعيض في الاحتياط، وأنّ الكلمات التي أفادها الأكابر في ذلك غير صحيحة.

 

4 ـ نفي الرجوع إلى الاحتياط وغيره:

المقدّمة الرابعة: بطلان وجوب الاحتياط وسائر ما تخطر بالبال مرجعيّته ممّا يفترض قيام دليل عليه في نفسه، أو الرجوع إلى القرعة، أو نحو ذلك، ولنتكلّم هنا في مقامين:

الأوّل: في وجه بطلان وجوب الاحتياط.

والثاني: فيما تخطر بالبال مرجعيّته بعد عدم وجوب الامتثال القطعيّ ممّا يفرض قيام دليل عليه في نفسه.

 

عدم وجوب الاحتياط:

المقام الأوّل: في وجه بطلان وجوب الاحتياط، وقد ذكر لذلك وجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: التمسّك بقاعدة نفي العسر والحرج باعتبار أنّ الاحتياط في تمام الأطراف حرج على المكلّف. وقد تمسّك بذلك الشيخ الأعظم(قدس سره)، ولكن اعترض عليه المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) اعتراضاً مبنائيّاً، حيث ذهب إلى أنّ معنى نفي الضرر أو الحرج هو نفي الحكم بلسان نفي الموضوع الضرريّ أو الحرجيّ، لا نفي الحكم

735

الذي ينشأ منه الضرر والحرج، وأنّه على هذا المبنى لا يمكن تطبيق قاعدة نفي العسر والحرج في المقام.

وتوضيح ذلك بنحو تتّضح حقيقة الحال في المقام هو: أنّ هناك مباني ثلاثة في تفسير معنى قاعدة لا ضرر التي اُلحقت بها قاعدة نفي العسر والحرج:

المبنى الأوّل: ما هو ظاهر كلمات الشيخ الأعظم(قدس سره) وصريح كلمات المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، وهو: أنّ المنفيّ في قوله: «لا ضرر ولا ضرار» ـ بعد عدم إمكان تفسيره بنفي الضرر التكوينيّ خارجاً ـ هو الحكم الناشئ منه الضرر، وذلك بلسان نفي الحكم، حيث إنّ عنوان النتيجة قد يجعل عنواناً ثانويّاً لذي النتيجة، فالنفي في لسان الدليل انصبّ على الحكم بعد ملاحظة تقمّصه بعنوان الضرر إشارة إلى ما هي النكتة في نفيه، وهي كونه ضرريّاً.

المبنى الثاني: ما ذهب إليه المحقّق الخراسانيّ(قدس سره)، وهو: أنّ المنفيّ واقعاً وإن كان هو الحكم لكنّه ليس لسان الدليل هو لسان نفي الحكم، بل هو ينفي الحكم بلسان نفي الموضوع الذي هو عبارة عمّا يشتمل على الضرر.

المبنى الثالث: ما هو مختار لنا في فهم قاعدة لا ضرر، وهو: أنّ المنفيّ هو الضرر بوجوده التكوينيّ، إلّا أنّه ليس المنفيّ هو مطلق الضرر التكوينيّ، بل الضرر التكوينيّ الناشئ من الشريعة، الإسلاميّة.

وهل المنفيّ هو خصوص الضرر الناشئ من الشريعة، أو أنّ النفي شمل كلّ ضرر تكوينيّ يترقّب نفيه من ناحية الشريعة ؟ وما هي الثمرات التي تترتّب على هذين الوجهين ؟ لا مجال للتعرّض لذلك هنا.

وتحقيق هذه المباني وذكر تمام إشكالاتها إثباتاً ونفياً، وأنّ كلّ ما نختاره من هذه المباني في قاعدة لا ضرر هل يسري إلى قاعدة نفي العسر والحرج، أو لا ؟ يأتي إن شاء الله بيانه في بحث قاعدة لا ضرر في آخر بحث أصالة البراءة.

736

والآن نتكلّم على كلّ واحد من تلك المباني في أنّ القاعدة هل ترفع وجوب الاحتياط، أو لا؟

أمّا على المبنى الأوّل ـ وهو كون المنفيّ هو الحكم الضرريّ وبلسان نفي الحكم ـ: فيمكن تطبيق القاعدة على المقام بأحد تقريبات ثلاثة:

التقريب الأوّل: تطبيقها على نفس التكليف الواقعيّ؛ لأنّه أدّى إلى العسر والحرج من حيث كونه معلوماً؛ إذ مادام التكليف باقياً يستتبع وجوب الاحتياط عقلاً، ووجوب الاحتياط يستتبع العسر والحرج.

وهذا هو التقريب المنحصر في المقام(1) بناءً على كون العلم الإجماليّ علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة، وأمّا بناءً على الاقتضاء فعلّة الحرج مركّبة من جزءين: أحدهما التكليف الواقعيّ، والآخر عدم الترخيص في المخالفة الاحتماليّة، فيكفي في رفع العسر والحرج إثبات الترخيص بأحد التقريبين الآخرين.

التقريب الثاني: تطبيقها على نفس عدم الترخيص الشرعيّ لكونه مؤدّياً إلى الحرج، فيثبت الترخيص.

ويمكن توهّم الإشكال على هذا التقريب بناءً على ما بنوا عليه: من أنّ قاعدة لا ضرر لا تنفي الأعدام، وإنّما تنفي الوجودات، فيقال: إنّ عدم الترخيص ليس حكماً وجوديّاً حرجيّاً، وإنّما هو عدم حرجيّ، فلا ينفى بالقاعدة.

ولكن التحقيق: أنّ رفع عدم الترخيص مرجعه بحسب الدقّة إلى رفع الحكم لا إلى رفع عدم الحكم؛ وذلك لما ذكرناه في الجمع بين الأحكام الظاهريّة والواقعيّة:


(1) ولو بأن يصار إلى التقريب الثالث ـ وهو رفع الاحتياط العقليّ ـ ويقال مرّة اُخرى: إنّ رفع الاحتياط العقليّ يكون برفع منشئه وهو التكليف الواقعيّ.

737

من أنّ الترخيص الظاهريّ من قِبَل المولى مرجعه إلى إبراز المولى عدم شدّة اهتمامه بالتكاليف الواقعيّة بحيث يرضى بمخالفتها في ظرف الشكّ، فالترخيص هو نقيض شدّة الاهتمام، وشدّة الاهتمام أمر وجوديّ ثابت من قِبَل المولى مؤدّ إلى وجوب الاحتياط عقلاً المؤدّي إلى الحرج، فتنتفي بقاعدة نفي الحرج.

وإذا دار الأمر بين هذا التقريب والتقريب الأوّل تعيّن هذا التقريب؛ لأنّ الأمر دائر بين انتفاء اهتمام المولى بتكليفه مع ثبوت أصل التكليف، وانتفاء اهتمام المولى به بنحو السالبة بانتفاء الموضوع بأن يكون أصل التكليف منتفياً، ومقتضى إطلاق دليل التكليف الواقعيّ ثبوته في المقام، فمقتضى الجمع بين إطلاق دليل التكليف الواقعيّ، ودليل نفي العسر والحرج هو صرف الثاني إلى نفي عدم الترخيص لا إلى نفي الواقع(1).

التقريب الثالث: تطبيق القاعدة على وجوب الاحتياط العقليّ.

واُشكل على ذلك بأنّ القاعدة ليست ناظرة إلى الأحكام العقليّة، وليس المراد من الإشكال هنا أنّ الحكم العقليّ غير قابل للرفع شرعاً حتّى يقال بأنّه قابل للرفع بإثبات الترخيص، بل المراد كونه خلاف ظاهر الدليل؛ لأنّ الدليل ظاهر في النظر إلى الأحكام المجعولة شرعاً لا إلى أحكام العقل.

وهذا يدور مدار الاستظهار من القاعدة، ولا تبعد دعوى الإطلاق.

وإذا دار الأمر بين هذا التقريب والتقريب الأوّل تعيّن أيضاً هذا التقريب؛ لما مضى: من إطلاق دليل التكليف الواقعيّ.


(1) ولكن إن لم يترتّب أثر عمليّ على إطلاق دليل التكليف لكون رفعه ورفع عدم الترخيص سيّان في الأثر لم يبق لدينا وجه لحجّيّة هذا الإطلاق، فإنّ حجّيّة الظهور كأيّ حجّيّة تعبّديّة اُخرى إنّما تعقل بلحاظ ما تنتهي إليه من الأثر العمليّ.

738

وأمّا على المبنى الثاني ـ وهو كون نفي الحكم بلسان نفي الموضوع الضرريّ ـ فقد ذكر المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): أنّ القاعدة لا تنطبق فيما نحن فيه؛ لأنّ موضوع الحكم الشرعيّ فيما نحن فيه ليس حرجيّاً؛ إذ لا يوجد أيّ حرج في الالتزام بالموضوعات التي تعلّق بها التكليف الإلزاميّ، فإنّها محدودة، ولو كان المكلّف عالماً بها لأتى بها بلا وقوع في الحرج. نعم، نفس عنوان الاحتياط والجمع بين المحتملات حرجيّ لكنّه ليس موضوعاً لحكم شرعيّ، وإنّما هو موضوع لحكم العقل بوجوب الاحتياط.

والتحقيق: أنّ هذا الإشكال في غير محلّه بقطع النظر عن بطلان أصل مبناه في تفسير القاعدة؛ وذلك لأنّه يرد عليه:

أوّلاً: أنّه من الممكن أن يدّعى في المقام شمول القاعدة للاحتياط والجمع بين المحتملات الذي هو موضوع لحكم العقل بالوجوب، فإنّه موضوع حرجيّ، فالشارع يرفع هذا الحكم العقليّ بلسان رفع موضوعه الحرجيّ.

ولا محذور في ذلك إلّا توهّم أنّ القاعدة حيث إنّها تنفي الحرج في الدين فهي ناظرة إلى الدين وأحكام الدين لا إلى أحكام حاكم آخر غير صاحب الدين، والحكم بالاحتياط في المقام حكم للعقل لا للشارع.

وهذا التوهّم غير صحيح؛ وذلك لأنّ حكم العقل بوجوب الاحتياط ليس حكماً تشريعيّاً من قِبَل حاكم تشريعيّ آخر كسلطان من السلاطين ـ مثلاً ـ له تشريعه وجعله للأحكام، وليس حكم العقل بابه باب التشريع والجعل، بل مرجعه إلى إدراك العقل حقّاً واقعيّاً ثابتاً للمولى على العبد، وهذا الحقّ ليس أمراً مجعولاً للعقل، بل هو أمر واقعيّ ثابت في الخارج ومنتزع عن التكليف المعلوم بالإجمال كالجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة والسببيّة المنتزعة من التكاليف الشرعيّة، فمنشأ انتزاع هذا الحقّ ومنشأ ثبوته بالنحو المناسب له من الثبوت هو التكليف المعلوم

739

بالإجمال، فهذا الحقّ يكون من الدين، كما أنّ من الدين جزئيّة السورة للصلاة، ومانعيّة الضحك عنها، وشرطيّة الطهارة لها، وسببيّة الزوال لوجوب صلاة الظهر، التي سوف يأتي ـ إن شاء الله ـ أنّها عبارة عن اُمور واقعيّة منتزعة عن الأحكام المجعولة شرعاً، فدعوى شمول القاعدة لمثل هذا الحكم العقليّ في المقام تامّة في نفسها بحسب الاستظهار العرفيّ، ومرجع رفع الاحتياط الحرجيّ إلى رفع حكم العقل وهو وجوب الاحتياط، ومرجع رفع وجوب الاحتياط عقلاً إلى رفع منشأ انتزاعه، ورفع منشأ انتزاعه يكون بجعل الترخيص ظاهراً، من قبيل رفع الجزئيّة، فإنّ الجزئيّة يشملها لسان دليل الرفع ورفعها برفع منشأ انتزاعها.

وثانياً: أنّنا لئن سلّمنا أنّ دليل نفي العسر والحرج لا يشمل الحكم العقليّ فبإمكاننا أن نجريه في المقام لنفي جعل وجوب الاحتياط شرعاً، ونفي جعله بدليل نفي العسر والحرج يدلّ عرفاً على نفي منشأه، وهو اهتمام المولى بتكليفه في ظرف التردّد والإجمال(1)، فهناك فرق بين ما لو فرضنا مجرّد قطع خارجيّ بعدم جعل وجوب الاحتياط، وبين ما لو دلّ دليل نفي العسر والحرج على عدم جعله، فلو كان لدينا مجرّد قطع خارجيّ بعدم جعل وجوب الاحتياط، كما لو كنّا حاضرين لدى المولى فرأيناه لم يجعل وجوب الاحتياط، لم يكف هذا لرفع اليد عن الاحتياط عملاً؛ لأنّ احتمال اهتمام المولى بغرضه الواقعيّ في مقام التزاحم بينه وبين مصلحة التسهيل ـ مثلاً ـ كاف في حكم العقل بوجوب الاحتياط، إمّا لتعارض البراءات العقليّة وتساقطها، أو لأنّ العلم الإجماليّ يوجب بنفسه الامتثال القطعيّ ما لم يحرز عدم الاهتمام من المولى بغرضه بسبب التزاحم مع التسهيل مثلاً. أمّا حينما يدلّ دليل نفي العسر والحرج على عدم جعل الاحتياط، فهو يدلّ


(1) أو قل: فعليّة الحكم على كلّ تقدير وفق تعبير المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله).

740

عرفاً على نفي منشأه وهو الاهتمام بالغرض لدى التزاحم بمصلحة الترخيص، ومع ثبوت نفي الاهتمام لا يبقى مجال لحكم العقل بوجوب الاحتياط.

وثالثاً: أنّ كلّ واحد من التكاليف المحتملة وإن لم يكن الإتيان به بنفسه حرجيّاً لكن الإتيان به في ظرف الإتيان بالآخر حرجيّ. فمثلاً إذا اضطرّ إلى شرب أحد الماءين وهو يعلم بنجاسة أحدهما بالخصوص، وإن لم يكن في نفسه حرجيّاً عليه، ولكن تركه في حال ترك الآخر حرجيّ عليه، وعندئذ إن كان تركه للآخر بمجرّد اشتهاء نفسه من دون وجود حكم عقليّ ناشئ من ناحية الحقّ المولويّ والحكم الشرعيّ لم يفت أحد من الفقهاء بجواز شربه لهذا الماء بمجرّد الحرج، مثاله: ما لو علم بنجاسة أحدهما بالخصوص لا بنحو الإجمال فترك الآخر الذي هو طاهر اشتهاءً، فهنا لا يفتى في الفقه بجواز شربه للماء النجس ولو فرض إراقته للماء الآخر مثلاً. ووجه ذلك واضح بناءً على كون القاعدة نافية للحكم الضرريّ، أو الحرجيّ، أو الضرر والحرج الناشئين من الحكم، فإنّ الضرر عندئذ لا يسند عرفاً إلى حكم الشارع؛ لأنّ الشارع إنّما أوجب عليه الجامع بين حصّتي ترك هذا الماء، أي: الترك المقرون بترك الآخر، والترك المقرون بشرب الآخر، وهو أعدم إحدى الحصّتين باشتهاء نفسه وحصر قدرته في الحصّة الاُخرى الحرجيّة، فصار امتثال الجامع حرجيّاً عليه(1).


(1) لا ينبغي الإشكال في أنّه بعد إراقة الماء الطاهر تكون حرمة شرب النجس عليه حرجيّة ويسند الحرج إلى الحكم عرفاً، ولكن مع هذا لا تجري في ذلك قاعدة نفي العسر والحرج؛ لأنّ جريانها لا يؤمّنه من العقاب؛ لأنّ حرمة شرب النجس كانت فعليّة عليه من قبل إراقة الماء الطاهر، فلو شرب الماء النجس بعد الإراقة فقد خالف حكماً كان آناً مّا فعليّاً وغير حرجيّ عليه، وإن أصبح بعد ذلك حرجيّاً عليه بسوء اختياره.

741

وأمّا بناءً على كون القاعدة نافية للموضوع الضرريّ فصاحب هذا المبنى أيضاً لا يقول بجريان القاعدة في المقام، إمّا لتخيّل عدم صدق ضرريّة الموضوع عند إعدامه بنفسه للحصّة الاُخرى، أو للانصراف مثلاً(1). وعلى أيّة حال، ففي هذا الفرض لا يشكّ فقهيّاً في عدم جريان القاعدة. وأمّا إذا كان تركه للآخر من ناحية الحقّ المولويّ والحكم الشرعيّ الذي صار موجباً لذلك، كما لو علم إجمالاً بنجاسة أحدهما فترك أحدهما احتياطاً، فهنا يكون ترك أحدهما في ظرف ترك الآخر حرجيّاً عليه، ويستند الضرر إلى نفس الحكم الشرعيّ، حيث إنّ امتثاله في ضمن هذه الحصّة للحكم الشرعيّ بالجامع حرجيّ، ورفع يده عن الحصّة الاُخرى كان ناشئاً من قبل الشارع، كما لا مجال للانصراف هنا أيضاً. فعلى تقدير كون الحرمة ثابتة في هذا الجانب تكون مرفوعة بنفي الحرج في فرض ترك الآخر.

وهذا هو الذي ينبغي أن يقال في مقام الإشكال على صاحب الكفاية، لا ما أفاده السيّد الاُستاذ في هذا المقام: من أنّه لمّا كانت الوقائع تدريجيّة فهو يعمل بكلّ تكليف محتمل إلى أن يصير إتيان الباقي حرجيّاً عليه، فتجري القاعدة بالنسبة لباقي التكاليف المحتملة.

إذ يرد على هذا الكلام ـ بقطع النظر عن أنّه قد تكون الوقائع التي ينشأ من مجموعها الحرج عرضيّة، كما في ترك اُمور كثيرة في عرض واحد يحتمل في كلّ واحد منها الحرمة ويكون ترك الجميع عليه حرجيّاً ـ: أنّه ليست العبرة


(1) الوجه الصحيح لعدم جريان القاعدة في المقام ما قلناه في التعليق السابق: من أنّ دليل نفي الحرج لا يؤمّنه من العقاب؛ لفعليّة الحكم عليه ولو آناً مّا من دون حرج وإن أصبح حرجيّاً عليه بعد ذلك بسوء اختياره، وانصراف دليل نفي العسر والحرج عن المقام يكون بملاك هذه النكتة.

742

بالتدريجيّة والعرضيّة، وإنّما العبرة بكون ترك ما تركه أمراً اشتهائيّاً أو منتسباً إلى الشارع. فعلى الأوّل لا تجري القاعدة ولو كانت الوقائع تدريجيّة. وعلى الثاني تجري القاعدة ولو كانت الوقائع عرضيّة. هذا إذا كانت تدريجيّة الوقائع بمعنى عدم فعليّة تمام تلك الأحكام في عرض واحد لعدم وجود موضوعاتها إلّا تدريجيّاً(1).

وأمّا إذا فرضنا موضوعات موجودة في عرض واحد، فكانت أحكامها فعليّة في عرض واحد، ولكن كان ظرف امتثالها أو عصيانها تدريجيّاً، فالأمر هنا أوضح، فإنّه وإن كان امتثال الواقعة الأخيرة حرجيّاً عليه لكنّه لو كان تركه في الوقائع السابقة اشتهائيّاً ومن دون وجود إلزام ينتهي بوجه من الوجوه إلى الشارع يكون ملزماً فعلاً بالامتثال في هذه الواقعة الأخيرة، أي: أنّه لو أراد التخلّص من العقاب فلابدّ له من الامتثال في هذه الواقعة ولو فرض جريان القاعدة في مثل هذا الفرض؛ وذلك لأنّ هذا التكليف قد صار فعليّاً عليه آناً مّا، وإنّما جاء الترخيص من قبل المولى لأنّه هو جعل المولى بسوء اختياره مضطرّاً إلى الترخيص من باب إيجاده للمزاحمة بين ملاك التكليف وملاك نفي الحرج، وهذا ليس رافعاً


(1) الظاهر أنّ التدريجيّة في هذا الفرض تكفي في شمول دليل نفي العسر والحرج للواقعة الأخيرة حتّى ولو فرض أنّ العمل في الواقعة الاُولى كان اشتهائيّاً من دون وجود إلزام منته بمناشئه إلى الشارع، وقد مضى من اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحثه المقدّمة الثالثة لدى مناقشته لما ذهب إليه المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من أنّ الاضطرار إلى طرف غير معيّن مسقط للعلم الإجماليّ عن التنجيز: إنّ العبد لو حقّق بسوء اختياره شرطاً لحكم يوجب العسر مقدّماً على زمان امتثاله كان الحكم حرجيّاً رغم كون تحقّق شرطه بسوء الاختيار، ولعلّه لهذا لم ينعكس الإشكال في فرض التدريجيّة بهذا الشكل في المقام في تقرير السيّد الهاشميّ حفظه الله.

743

لاستحقاق العقاب(1).

وأمّا على المبنى الثالث ـ وهو نفي الضرر التكوينيّ الناشئ من قبل الشريعة ـ: فتطبيق القاعدة على ما نحن فيه واضح، فإنّ الاحتياط ضرر تكوينيّ ناشئ من الشريعة، ويكون نفيه بنفي أحد مبادئه، أي: إمّا بنفي الواقع، أو بنفي وجوب الاحتياط، ومقتضى الجمع بين دليل نفي الحرج ودليل الحكم الواقعيّ هو أن يكون الحكم الواقعيّ محفوظاً، ويكون المنفيّ هو وجوب الاحتياط.

فظهر من جميع ما ذكرناه: أنّ التمسّك بالقاعدة في المقام لنفي وجوب الاحتياط تامّ على جميع المباني الثلاثة. هذا تمام الكلام في الوجه الأوّل من الوجوه التي استدلّ بها على عدم وجوب الاحتياط.

الوجه الثاني: دعوى الإجماع على عدم وجوب الاحتياط التامّ في تمام الأطراف، وهذا الإجماع وإن كان لا ينبغي الشكّ فيه فإنّه يحصل القطع به بمراجعة كلماتهم وكشف ذوقهم العامّ في الفقه وكيفيّة استنباطهم في مسائل مختلفة


(1) لا يخفى أنّه لو فرض العسر والحرج مزاحماً لملاك المتعلّق ورافعاً له لم يبق مجال للامتثال بعد صيرورة الفعل حرجيّاً بسوء اختياره، واختصّ الوجوب بالحصّة غير الحرجيّة، وبإفنائها تمّ العصيان، ولو فرض أنّ العسر والحرج إنّما يرفع الحكم بنكتة أنّ المولى يحبّ أن لا يكون العبد ملزماً بما فيه الحرج ومحرجاً عقلاً بسبب وجوبه من دون أن يكون انتخاب العبد بمحض اختياره للفرد الحرجيّ منافياً لأغراض المولى كان مجال الامتثال باقياً، ولابدّ من الامتثال؛ لما أفاده اُستاذنا(رحمه الله): من أنّ التكليف صار فعليّاً عليه آناً مّا، ولكن فرض شمول نفي العسر والحرج لهذا المورد لا معنى له؛ لأنّ نفي العسر والحرج إنّما هو بملاك رفع الملزميّة عن العبد والإحراج العقليّ، والمفروض أنّ هذا الإلزام أو الإحراج واقع لا محالة بسوء اختياره، فما معنى نفي العسر والحرج عنه ؟!

والقدر المتيقّن من ظاهر دليل نفي العسر والحرج عرفاً إنّما هو الثاني.

744

والتصريح أو التلويح لبعضهم بذلك لكن هذا الإجماع ليس وجهاً قائماً برأسه، فإنّ من المحتمل استناده في المقام إلى قاعدة نفي العسر والحرج ونحو ذلك من القواعد النافية للعناوين الثانوية التي تنطبق على الاحتياط التامّ في أطراف هذا العلم الإجماليّ، كما أنّ من المحتمل أن يكون هذا الإجماع بنكتة الإجماع بتقريبه الآخر الذي سيأتي في الوجه الثالث وهو الإجماع على جعل طريق تفصيليّ في الشريعة للامتثال. والخلاصة أنّ هذا الإجماع نحتمل أن يكون مدركه أحد الوجهين الآخرين فلا يكون وجهاً مستقلاًّ.

الوجه الثالث: دعوى الإجماع على أنّ الشريعة لم تبن على الاحتياط، لا بمعنى نفي جواز الاحتياط ولا بمعنى نفي وجوب الاحتياط فقط، بل بمعنى أنّ الاحتياط ليس هو الطريق المنحصر للامتثال فيها، بل جعلت الشريعة لنا طريقاً آخر غير الاحتياط.

ودعوى الاطمئنان بثبوت هذا الإجماع كدعوى الاطمئنان بالإجماع السابق غير مجازفة وإن لم يمكن إثباتهما بالبرهان؛ لأنّ هذه المسألة لم يتعرّض لها صريحاً في كلمات أكثر العلماء قدّس الله أسرارهم، فكيف يمكن إثبات ذلك بالصريح من كلماتهم أو الاستظهار منها ؟!

بل دعوى الاطمئنان بصحّة مصبّ هذا الإجماع في نفسه بقطع النظر عن نفس الإجماع غير مجازفة.

بل في بعض الموارد لا معنى للاحتياط ولابدّ من تعيين الوظيفة، وذلك في موارد الأحكام المرتبطة بإدارة العباد والبلاد وتنظيم شؤونهم، كمقام القضاء، وإقامة الحدود، وإقامة العدل فيما بين الناس ونحو ذلك، فإنّه في مثل ذلك لابدّ من جعل قانون متعيّن والمشي على طبقه، والاحتياط إنّما يعقل في الامتثال في موارد الأعمال الشخصيّة، كالطهارة والصلاة لا في الاُمور الراجعة إلى تنظيم البلاد والعباد.

745

 

إبطال المراجع الاُخرى المحتملة:

المقام الثاني: في إبطال سائر ما تحتمل مرجعيّته عند الانسداد في مقام الامتثال ممّا يفرض قيام دليل عليه في نفسه، فنقول:

أمّا الاستصحاب: فهو إمّا يكون مثبتاً للتكليف، أو نافياً له:

أمّا الاستصحاب النافي: فحاله بعد فرض قيام الدليل عليه في نفسه حال البراءة التي فرغ الانسداديّ عن عدم جواز إجرائها لمحذور منجّزيّة العلم الإجماليّ وغيرها، حيث أوجبت تلك المحاذير تساقط الاُصول المؤمّنة.

وأمّا الاستصحاب المثبت: فيقع الكلام فيه من ناحيتين:

الاُولى: في أنّه هل هناك مقتض للتمسّك بالاستصحاب بحسب مقام الإثبات، أو لا ؟ والظاهر أنّه ليس هناك مقتض للاستصحاب أصلاً، فإنّ دليله إنّما هو ظاهر أخبار آحاد، والمفروض عدم حجّيّة ذلك، وإلّا لم يكن انسداد فكيف يمكن فرض الاستصحاب مرجعاً لدى الانسداد ؟!

الثانية: أنّه بعد فرض وجود المقتضي للاستصحاب ـ كما لو كان دليل الاستصحاب دليلاً قطعيّاً ـ هل هناك مانع عن التمسّك بالاستصحاب في المقام، أو لا ؟ والمانع المتصوّر في المقام إمّا ثبوتيّ أو إثباتيّ:

أمّا المانع الثبوتيّ: فهو مخالفته للعلم الإجماليّ بانتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف، حيث إنّ الانسداديّ لمّا لم تتمّ عنده أمارة معتبرة يثبت بها في كثير من الموارد انتقاض الحالة السابقة كثرت عليه موارد الاستصحاب، فلو لوحظت مجموع تلك الموارد حصل العلم الإجماليّ بالانتقاض في بعضها، فإجراؤه في تمام تلك الموارد خلاف العلم الإجماليّ، وفي بعضها دون بعض ترجيح بلا مرجّح.

746

وهذا المحذور غير صحيح كبرويّاً؛ لما سنحقّقه ـ إن شاء الله ـ في محلّه: من أنّ الاُصول ـ سواء الاستصحاب وغيره ـ إنّما لا يمكن إجراؤها في أطراف العلم الإجماليّ إذا لزم من ذلك المخالفة العمليّة القطعيّة لا مطلقاً، ولا يلزم من الاُصول المثبتة للتكليف ذلك، فإنّها دائماً في صالح المولى لا العبد.

على أنّه لو سلّمنا هذا المحذور كبرويّاً ففي المقام في غير باب المعاملات ننكر العلم الإجماليّ بالخلاف؛ لأنّ الشبهات الحكميّة التي يكون الشكّ فيها في البقاء في غير المعاملات، كالشكّ في بقاء نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال التغيّر، وحرمة دخول الحائض في المسجد بعد النقاء وقبل الغسل، ووجوب الصوم بعد غروب القرص وقبل ذهاب الحمرة، ونحو ذلك من الشبهات لو جمعناها لم يكن لنا علم إجماليّ بالانتقاض في بعضها، ولا موجب لعلم إجماليّ من هذا القبيل.

نعم، في الشبهات في موارد المعاملات يوجد علم إجماليّ بالخلاف؛ إذ بعد فرض انسداد باب العلم والعلميّ وعدم التمسّك بالأخبار وظواهر الآيات وبإطلاق أو عموم، سنشكّ في ترتّب الأثر على أيّ معاملة تقع بحسب الخارج، ومن الواضح أنّنا نعلم إجمالاً بأنّه يوجد في الشريعة نكاح وبيع وإجارة، ونحو ذلك، والقدر المتيقّن منها لا يفي بحلّ مثل هذا العلم الإجماليّ.

وأمّا المانع الإثباتيّ: فهو أيضاً بلحاظ العلم الإجماليّ بانتقاض الحالة السابقة بناءً على ما أفاده الشيخ الأعظم(قدس سره): من أنّ هذا يوجب التناقض بين صدر رواية الاستصحاب الدالّ على السلب الكلّيّ وهو نفي نقض اليقين بالشكّ، وذيله الدالّ على الإيجاب الجزئيّ وهو النقض بيقين آخر؛ إذ لو لاحظنا مجموع الأطراف كان لدينا يقين إجماليّ بانتقاض بعضها، وهذا اليقين الإجماليّ مشمول لذيل الحديث، وبعد تساقط الصدر والذيل لا يبقى لنا دليل على الاستصحاب.

747

أقول: إنّ تحقيق أصل هذا المبنى صحّة وبطلاناً يأتي ـ إن شاء الله ـ في محلّه، ولو تمّ هذا المبنى كبرويّاً في موارد العلم الإجماليّ فلا مجال له في المقام في غير باب المعاملات؛ لما عرفت: من منع الصغرى، وهو العلم الإجماليّ بالانتقاض.

والمحقّق الخراسانيّ(قدس سره) تصدّى للجواب عن هذا المانع على تقدير مبنى الشيخ الأعظم(رحمه الله): من تناقض الصدر والذيل، فذكر: أنّ المجتهد الذي يجري هذه الاستصحابات لا يتحقّق في حقّه تمام الاستصحابات في عرض واحد؛ لأنّ كلّ استصحاب يتوقّف على يقين وشكّ، وهو لا يحصل له في زمان واحد الشكّ الفعليّ في تمام المسائل، وإن كانا بحيث لو التفت لشكّ، فإنّه في آن واحد لا يلتفت إلى جميع المسائل حتّى يحصل له الشكّ في البقاء في جميعها، وإنّما يلتفت إلى بعض المسائل ويشكّ ويستصحب غافلاً عن باقي المسائل، ثُمّ يلتفت إلى بعض آخر ويغفل عن المسألة السابقة، ويجري الاستصحاب في البعض الجديد وهكذا، ولا يمرّ عليه وقت يكون مشمولاً لصدر دليل الاستصحاب بلحاظ تمام هذه الشبهات حتّى يقع التعارض بين شمول الصدر للاستصحاب في جميعها وذيل الحديث الدالّ على الموجبة الجزئيّة، بل هو دائماً لا يكون مشمولاً للصدر إلّا بلحاظ شخص الواقعة التي يحاول أن يستنبط حكمها.

أقول: ظاهر عبارته(رحمه الله) أنّ هذه الاستصحابات ثابتة في حقّ نفس المجتهد، ونحن لا نريد الآن أن نتكلّم عن ذلك وأنّه هل يجري الاستصحاب بالأصالة أو بالنيابة ونحو ذلك.

وإنّما نتكلّم عمّا افترضه: من حلّ إشكال التناقض بين الصدر والذيل بعدم الالتفات دفعة واحدة إلى تمام المسائل وعدم فعليّة الشكّ فيها في وقت واحد، وهذا جوابه واضح، لا ندري كيف خفى على المحقّق الخراسانيّ(قدس سره)، بيان ذلك: أنّ هذا المجتهد في أوّل أوقات اجتهاده في تلك المسائل يكون على يقين بأنّ الحالة

748

السابقة في بعض المسائل التي سوف يلتفت إليها منقوضة، فهو مشمول لذيل الحديث بالفعل، وأمّا صدره فلئن سلّمنا ما ذكره(رحمه الله): من عدم ثبوت الشكّ في زمان واحد بالنسبة لتمام تلك المسائل وأنّه مهما يشتغل بمسألة يغفل عن الاُخرى، فهو لا يكون مشمولاً للصدر بلحاظ تمام تلك الشبهات في آن واحد، فلا شكّ في أنّه مشمول له بلحاظ تمامها في عمود الزمان تدريجاً، وهو من هذا الآن يعلم أنّ بعض الاستصحابات التي سوف يصير فعليّاً في حقّه يكون منقوضاً باليقين، فيعلم لا محالة بمناقضة الصدر الذي يكون مشمولاً له في تمامها تدريجاً والذيل الذي يأمر بالنقض باليقين الثابت له فعلاً، ولا يفرّق في حصول المعارضة بين عرضيّة الشمول بالنسبة لجميع الاستصحابات وطوليّته.

وعلى أيّة حال، فبناءً على جريان الاستصحابات المثبتة في حقّ الانسداديّ لا يؤثّر ذلك في سير دليل الانسداد ولا يضرّ بغرض الانسداديّ، فإن ضمّها إلى ما هو معلوم تفصيلاً لا ينتج انحلال العلم الإجماليّ؛ لقلّة مواردها.

وأمّا أصالة البراءة: فقد حملنا المقدّمة الثالثة على إبطالها وتكلّمنا فيها في ذلك مفصّلاً.

وأمّا أصالة التخيير: فإن اُريد بها أن يفتي الانسداديّ بالاحتياط في بعض الشبهات لا بعينها، وإعطاء الخيار بيد المكلّف في تطبيق الاحتياط على أيّ طرف شاء، فمثل هذا التخيير ليس له أصل ثابت بدليل من الأدلّة بقطع النظر عن الانسداد حتّى يرى أنّه هل نرجع إلى ذاك الدليل بعد الانسداد، أو لا؟ فالبحث عنه إنّما يناسب المقدّمة الخامسة دون هذه المقدّمة المعدّة لإبطال مرجعيّة شيء يفترض قيام دليل على مرجعيّته في نفسه.

وإن اُريد بها أصالة التخيير بمعناها المصطلح، أعني: التخيير عند دوران الأمر بين المحذورين الذي يرجع إليه الانفتاحيّ، فهذا أصل صحيح قام عليه

749

الدليل في نفسه. والصحيح: أنّه يجوز للانسداديّ أيضاً الرجوع إليه بنفسذلك الدليل، وهو: أنّ المعلوم إنّما هو الجامع بين الوجوب والحرمة، وهذاالعلم يستحيل تنجيزه لخصوص الوجوب أو الحرمة، على تحقيق يأتي في محلّه إن شاء الله.

نعم، يفترق الانسداديّ عن الانفتاحيّ بأنّه إن أدّى انسداده به إلى كثرة الشبهات التي يدور الأمر فيها بين المحذورين بحيث لم يحتمل تماثل تلك الشبهات وجوباً أو حرمة، دخل ذلك تحت قانون اشتباه الواجب بالحرام؛ إذ تولّد له علم إجماليّ آخر، وهو العلم بوجوب بعض هذه الاُمور وحرمة بعضها، فبناءً على أنّه لا يجوز في علم إجماليّ من هذا القبيل المخالفة القطعيّة لأحد الطرفين يثبت فيما نحن فيه أنّه لا يجوز له الإتيان بالجميع ولا ترك الجميع، بل لابدّ من التبعيض لئلاّ تلزم المخالفة القطعيّة.

ومرجعيّة أصالة التخيير لا تضرّ باقتناص حجّيّة الظنّ من مقدّمات دليل الانسداد لو تمّت في نفسها، ولا تهدم دليل الانسداد.

وأمّا التقليد: فقد يتوهّم مرجعيّته للانسداديّ بدعوى أنّه جاهل بحسب اعترافه في المقدّمة الثانية، فيجب عليه الرجوع إلى العالم الانفتاحيّ عملاً بقانون رجوع الجاهل إلى العالم.

إلّا أنّ الصحيح أنّ هذا التوهّم باطل، ولا يجوز له الرجوع إلى مجتهد انفتاحيّ، سواء كان المراد بذلك المجتهد الانفتاحيّ المعاصر له، أو كان المراد به المجتهد الانفتاحيّ في زمن متقدّم يعتقد هذا الانسداديّ أو يحتمل أنّ دعوى الانفتاح في ذلك الزمان كانت في محلّها:

أمّا الأوّل: فلأنّ المفروض أنّ الانسداديّ يؤمن ببطلان نكتة إفتاء الانفتاحيّ، فليست لإفتائه كاشفيّة في المقام بالنسبة للانسداديّ، فلا يشمله دليل التقليد: من

750

الارتكاز وبناء العقلاء(1)، فإنّه لوحظت فيه نكتة الكاشفيّة.

وأمّا الثاني: فلأنّ هذا الانسداديّ إمّا نفرض قطعه ولو إجمالاً، أو احتماله لكون ذاك المجتهد السابق غير ملتفت إلى بعض النكات التي التفت إليها هذا الانسداديّ ممّا يكون دخيلاً في الحكم، أو نفرض أنّه لا يحتمل ذلك، وأنّه يعلم أنّ فكر ذاك المجتهد مطابق تماماً لفكره الصحيح عنده، وإنّما الفرق بينهما أنّ الأوّل وقع في عصر الانفتاح، وهذا وقع في عصر الانسداد، فلو كان واقعاً في ذاك العصر لكان انفتاحيّاً ولأفتى بكلّ ما أفتى به ذاك الانفتاحيّ، فإن فرض الأوّل لم يجز له التقليد أيضاً؛ لأنّ الارتكاز والسيرة العقلائيّة غير قائمين على رجوع شخص عارف لنكات إلى من يعلم أو يحتمل فقدانه لتلك النكات الدخيلة في الحكم، وإن فرض الثاني فمعنى ذلك أنّ إفتاء المجتهد السابق أصبح بالنسبة لهذا الانسداديّ كاشفاً قطعيّاً عن الواقع أو الحجّة المعتبرة، وهذا خلف المفروض في المقام، فإنّه خلف للانسداد وللتقليد معاً.

وأمّا القرعة ـ لو احتمل أحد مرجعيّتها في المقام، ولا تحتمل عادة ـ: فيرد عليها:

أوّلاً: أنّ دليل القرعة لو تمّ فهو ظهور أخبار آحاد، وليس حجّة في رأي الانسداديّ وإلّا لم يقل بالانسداد، وإنّما يمكن اقتراح مرجعيّتها بعد الانسداد لا بدليل سابق كاقتراح مرجعيّة الظنّ، وهذا ممّا يرتبط بالمقدّمة الخامسة لا بهذه المقدّمة.

وثانياً: ما هو محقّق في محلّه من عدم تماميّة دليل القرعة في مثل المقام في


(1) أمّا الدليل اللفظيّ فلا يتمّ منه ما عدا ظهور لبعض الأخبار الآحاد، والمفروض لدى الانسداديّ عدم حجّيّته، على أنّه منصرف أيضاً إلى نكتة الكاشفيّة المركوزة لدى العقلاء.

751

نفسه؛ لأنّ ما يستفاد من أخبار القرعة إنّما هو مرجعيّتها في الرتبة المتأخّرة عن أيّ وظيفة شرعيّة، بل وأيّ وظيفة عقليّة، حيث إنّ المأخوذ فيها عنوان تفويض الأمر إلى الله، وذلك ظاهر فيما ذكرناه، فإنّ التفويض إلى الله إنّما يكون عند عدم طريق من قبل الله تأسيساً أو إمضاء لحكم العقل. وأمّا مع وجود مثل هذا الطريق فلا يكون رفضه والتمسّك بالقرعة تفويضاً للأمر إلى الله، وإنّما هو رفع اليد عمّا فرضه الله تأسيساً أو إمضاء، وفيما نحن فيه يوجد بقطع النظر عن القرعة ملجأ آخر يلجأ إليه، حيث يثبت بمثل العلم الإجماليّ وقاعدة نفي الحرج ونحو ذلك التنجيز بالنسبة لبعض الاُمور والتعذير لبعض الاُمور(1). وتفصيل المطلب في تأخّر القرعة عن كلّ القواعد العقليّة والشرعيّة يُرجأ إلى مجال آخر.

 

5 ـ بطلان الرجوع إلى الوهم دون الظنّ:

المقدّمة الخامسة: بطلان الرجوع إلى الوهم دون الظنّ؛ لكونه ترجيحاً للمرجوح على الراجح، وهو قبيح مثلاً، وبهذا يبطل آخر الشقوق في القضيّة


(1) عنوان التفويض إلى الله وارد في بعض روايات القرعة، من قبيل ما عن أبي جعفر(عليه السلام) بسند تامّ عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «ليس من قوم تقارعوا ثُمّ فوّضوا أمرهم إلى الله إلّا خرج سهم المحقّ»(1). والمفهوم من تفويض الأمر إلى الله في تشخيص الواقع ليس هو افتراض عدم وجود طريق آخر لتعيين الوظيفة خاصّة إذا لم يؤدّ ذاك الطريق إلى أمر إلزاميّ، ولكن هناك أكثر من نكتة لصرف هذا الحديث عمّا نحن فيه، منها: أنّ المفهوم عرفاً من نسبة الأمر إلى قوم وفرض انقسامهم إلى المحقّ وغير المحقّ إنّما هو باب النزاع. وتمام الكلام نوكله إلى بحثنا المفصّل في ذلك في كتاب القضاء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل، ج 18، ب 13 من كيفيّة الحكم، ح 6، ص 188.

752

المنفصلة، ويتعيّن الرجوع إلى الظنّ. وتفصيل الكلام في ذلك: إنّك قد عرفت أنّ في فرض الانسداد مباني ثلاثة:

المبنى الأوّل: التبعيض في الاحتياط. وأساسه أنّه بقطع النظر عن لزوم العسر والحرج كان مقتضى القاعدة والعلم الإجماليّ الاحتياط التامّ، وبمقتضى العسر والحرج ترفع اليد عن الاحتياط بمقدار رفع العسر والحرج، ويبقى الاحتياط في أزيد من ذلك ثابتاً على حاله، فيدور الأمر بين الأخذ بالظنّ والأخذ بالوهم، لكن لا بمعنى الوهم المقابل لذلك الظنّ، بل بمعنى أنّ الأمر دائر بين الاحتياط فيما هو مظنون الوجوب أو في الشيء الآخر الذي هو موهوم الوجوب، وقد عرفت فيما مضى أنّ للقول بوجوب الاحتياط التامّ في نفسه في أطراف العلم الإجماليّ مسلكين:

المسلك الأوّل: أنّ العلم الإجماليّ بنفسه ينجّز مباشرة الموافقة القطعيّة، وعلى هذا لا إشكال في أنّه بعد تعذّر ذلك يتنزّل العقل إلى أقرب المراتب إلى ذلك، فأوّلاً لا يرفع العقل اليد إلّا عن الموهومات الضعيفة، فإن لم تكف لرفع العسر والحرج رفع اليد عمّا هو أقوى منها وهكذا.

المسلك الثاني: أنّ العلم الإجماليّ إنّما ينجّز بنفسه حرمة المخالفة القطعيّة دون وجوب الموافقة القطعيّة، ولكن البراءة العقليّة تتساقط في المقام ـ كالبراءة الشرعيّة ـ بالتعارض في الأطراف، فعندئذ تصبح الموافقة القطعيّة واجبة بقطع النظر عن العسر والحرج، وبالنظر إلى ذلك يرتفع عنه وجوب الموافقة القطعيّة، وعليه مضى فيما سبق تصوير وجه فنّيّ للزوم الاحتياط في المظنونات، وتطبيق الترخيص المستفاد من قاعدة نفي الحرج على الموهومات على كلا المبنيين في حكومة القاعدة، أعني: على مبنى حكومتها على الحكم الواقعيّ، وعلى مبنى حكومتها على وجوب الاحتياط.

753

المبنى الثاني: الحكومة. وأساسها أنّ العقل العمليّ يحكم بأنّ على الإنسان أداء حقّ العبوديّة بالنسبة لمولاه جلّ شأنه، وعند الانفتاح كان يؤدّي حقّ العبوديّة بامتثال التكاليف المعلومة، وبعد أن فرض انسداد باب العلم عليه ولم يتمكّن من امتثال التكاليف المعلومة بمقدار قضاء حقّ العبوديّة حكم عليه العقل بأداء حقّ العبوديّة بامتثال التكاليف المظنونة، وعندئذ لا إشكال في ترجيح الظنّ على الوهم، ويجب على هذا المبنى أن يكون المقصود من كون تقديم الوهم ترجيحاً للمرجوح على الراجح وهو قبيح: أنّه لو اقتصر في مقام الامتثال على الإتيان بالتكاليف الموهومة حكم عليه العقل العمليّ بقبح ذلك، أي: بعدم خروجه عن عهدة حقّ العبوديّة.

المبنى الثالث: الكشف. وأساسه دعوى الإجماع والقطع بأنّه ليس بناء الشريعة على الاحتياط، لا بمعنى حرمته أو وجوب قصد الوجه ونحو ذلك، بل بمعنى أنّ الشريعة تجعل دائماً طريقاً آخر للامتثال غير الاحتياط، فيقع الكلام عندئذ في أنّ الطريق الذي جعله الشارع هل هو الظنّ، أو الوهم ؟ وأنّه على الأوّل هل الطريق هو الظنّ الشخصيّ كما هو غرض الانسداديّ، أو الظنّ النوعيّ ؟ فالكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في أنّ الطريق المجعول هل هو الظنّ، أو الوهم ؟ والمحتملات في المقام ثلاثة: جعل الحجّيّة للظنّ، وجعلها للوهم، وجعل الحجّيّة التخييريّة بينهما، وذلك معقول، فإنّه قد يكون مقدار اهتمام المولى بأغراضه بدرجة تحصل بمجرّد جعل الحجّيّة التخييريّة بينهما ويكفي في الوصول إلى أغراضه بمقدار اهتمامه العمل بإحدى الطائفتين.

وقد جعلت هذه المقدّمة لإبطال الشقّ الثاني وهو حجّيّة الوهم، وهنا يجب أن تجري قاعدة قبح ترجيح المرجوح على الراجح في حقّ المولى لا في حقّ العبد

754

كما في فرض الحكومة، فإنّ الكلام في جعل المولى للحجّيّة.

فنقول: بعد أن كان المفروض أنّ جعل الحجّيّة للظنّ أو الوهم ليس بملاك نفسيّ، وإنّما هو بملاك التحفّظ على أغراضه الواقعيّة، ليس من المعقول جعل المولى لرجحان الاحتمال الموصل إلى أغراضه وقوّته مانعاً عن الحجّيّة، فإنّه نقض للغرض، وهو محال أو قبيح مثلاً، وإذا بطلت بهذه المقدّمة الحجّيّة التعينيّة للوهم ودار الأمر بين الحجّيّة التخييريّة والحجّيّة التعيينيّة للظنّ أخذنا بالقدر المتيقّن، وهو حجّيّة الظنّ، فإنّه إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير في مثل المقام، أعني: باب جعل الحجّيّة بعد فرض تماميّة منجّز للتكاليف في المرتبة السابقة، وجب الأخذ بجانب التعيين، وبكلمة اُخرى: إنّ فرض التخيير بين الظنّ والوهم معناه تحكيم الوهم على ذلك المنجّز وتقديمه عليه من دون علم بحجّيّته، وهو غير جائز كما مضى في بحث أصالة عدم الحجّيّة عند الشكّ في الحجّيّة.

المقام الثاني: في أنّ الطريق المجعول هل هو الظنّ الشخصيّ أو الظنّ النوعيّ كخبر الثقة مثلاً، وبينه وبين الظنّ الشخصيّ عموم من وجه، فقد يوجد الخبر ولا يوجد ظنّ بالفعل، وقد يوجد ظنّ بالفعل صدفة من دون ما يفيد الظنّ النوعيّ كخبر الثقة، وقد يوجد خبر الثقة المورث للظنّ بالفعل مثلاً.

وقد ظهر بالعرض الذي عرضناه: أنّ ما في كلمات الأصحاب(قدس سرهم) من استنتاج انحصار الحجّيّة في الظنّ، أي: الظنّ الشخصيّ بإبطال حجّيّة الوهم، خلط بين المقامين، وكان المفروض الفصل بينهما، فإنّ إبطال حجّيّة الوهم وحده غير كاف لإثبات انحصار الحجّيّة في الظنّ الشخصيّ؛ إذ يبقى احتمال حجّيّة الظنّ النوعيّ. والمحقّق النائينيّ(رحمه الله) أفاد: أنّ الوهم لا يكون مرجعاً لعدم معقوليّة حجّيّته؛ إذ ليست فيه جهة كشف أصلاً حتّى يجعل حجّة. وهذا الكلام ـ بقطع النظر عن صحّته وبطلانه في نفسه ـ إمّا ناظر إلى خصوص إبطال مرجعيّة الوهم، أو مبنيّ على

755

الخلط بين المقامين(1). وعلى أيّ حال، فالمقصود أنّ هذا الوجه لو تمّ لا يثبت به تعيّن الظنّ الشخصيّ في قبال الظنّ النوعيّ، فلو لم نقبل باشتمال الوهم على الكشف وإمكان جعل الحجّيّة له فلا ينبغي الإشكال في أنّ الظنّ النوعيّ له جهة كشف ويعقل جعله حجّة.

وما يمكن أن يقال في تعيين الظنّ الشخصيّ في قبال الظنّ النوعيّ وجهان:

الوجه الأوّل: أن يقال: إنّ البناء العقلائيّ أو السيرة العقلائيّة في الأغراض المباشريّة عند فرض عدم الاهتمام بها إلى درجة لزوم إحرازها القطعيّ بالاحتياط ونحوه قائم على العمل بالظنّ الشخصيّ، أمّا العمل بما يفيد الظنّ النوعيّ إذا وجد في مورد ولم يفد ظنّاً شخصيّاً فلم نحرز بناءهم فيه على العمل به. وعندئذ فحجّيّة الظنّ الشخصيّ نثبتها بالإمضاء الثابت بعدم وصول الردع؛ لأنّ عملهم بالظنّ الفعليّ في تلك الأغراض المباشريّة لا يبقى وقفاً على خصوص تلك الأغراض، بل تشكّل سيرتهم خطراً على أغراض المولى ببعض التقريبات الماضية في بحث السيرة، فلو لم يكن الشارع راضياً بذلك لردع عن إعمال ذلك في الشريعة، ولم يصلنا ردع عن ذلك من قِبَل الشارع. نعم، لولا الانسداد لكنّا نقول بوجود الرادع، وهي العمومات الرادعة عن العمل بالظنّ أو أدلّة حجّيّة الأمارات والاُصول، لكن مع فرض الانسداد لم يصلنا مثل هذا الردع، وهذا


(1) نصّ العبارة الواردة في فوائد الاُصول ـ الجزء 3، ص 100 ـ ما يلي: «لابدّ في الطريق من أن يكون له جهة كشف وإراءة عن الواقع؛ ليمكن تتميم كشفه بجعله ونصبه طريقاً، وبحسب الدوران العقليّ ينحصر ذلك بالعلم والظنّ، والمفروض انسداد باب الأوّل، فلم يبق إلّا الثاني، فلا مجال لاحتمال نصب غير الظنّ طريقاً». والظاهر أنّ مقصوده بالظنّ هو الظنّ الشخصيّ، وهو مشتمل على نفس الخلط الواقع فيه الأصحاب في المقام.

756

يكشف عن الإمضاء، وأمّا حجّيّة الظنّ النوعيّ فلا دليل عليها، ويكفينا في ذلك عدم إحراز السيرة والبناء العقلائيّ على حجّيّته، فإنّ هذا كاف في الشكّ في حجّيّته، فنرجع في مورده الخالي عن الظنّ الشخصيّ إلى البراءة العقليّة. نعم، لو فرضنا عدم إحراز البناء على حجّيّة الظنّ النوعيّ لا إحراز عدمه أشكل الأمر عند تعارض الظنّين، أي: الظنّ الشخصيّ والظنّ النوعيّ.

وعلى أيّ حال، فهذا الوجه إضافة إلى ابتنائه على دعوى عدم إحراز بناء العقلاء في الأغراض الشخصيّة، أو فيما بين الموالي والعبيد على العمل بالظنّ النوعيّ أيضاً، وإلّا لم يصحّ الاقتصار على الظنّ الشخصيّ، يكون مبتنياً على القول بأنّه في مثل المقام لابدّ للشارع مع عدم الرضا من ردع واصل إلينا بالقطع أو الحجّة رغم الانسداد. أمّا لو قلنا بأنّ من المحتمل اقتصاره على الردوع الصادرة عنه ولو لم تصلنا في هذا الزمان بالقطع أو الحجّة لأجل الانسداد، فلا يثبت الإمضاء، ولا يتمّ هذا الوجه.

الوجه الثاني: أن يقال: إنّ مصبّ الإجماع الذي مضى دعواه على عدم ابتناء الشريعة على الاحتياط واشتمالها على جعل طريق ليس هو مجرّد جعل طريق ولو لم يصل؛ إذ لا فائدة فيه، وإنّما مصبّه هو جعل الطريق الواصل، وعلى هذا نقول: إذا دار الأمر بين جعل الحجّيّة للظنّ الفعليّ وجعلها للظنّ النوعيّ ولم يصلنا من الشارع بيان لتعيين أحدهما تعيّن الأوّل؛ لأولويّته في نظر العقل، أي: أنّه لو اُعطيت الحجّيّة بيد العقل لحكم بحجّيّة الظنّ الفعليّ، فإنّ الذي كان حجّة على الحكومة إنّما هو الظنّ الفعليّ لا النوعيّ، وهذا نظير ما يقال في باب الإطلاق المقاميّ: من أنّ المولى إذا قال مثلاً: (أحلّ الله البيع) وقلنا بكون البيع اسماً للصحيح فلم يتمّ الإطلاق اللفظيّ فيه، نثبت كون المقصود من البيع ما هو بيع عند العقلاء ما لم يرد الخلاف بالإطلاق المقاميّ؛ لأنّ المولى في مقام بيان غرضه

757

وطريقة البيع الذي أحلّه، فلو كان نظره إلى طريقة اُخرى غير ما بيد العقلاء لبيّنها، وكذلك نقول فيما نحن فيه: إنّ المولى في مقام إيصال ما جعله حجّة، فلو كان نظره إلى غير ما ينظر إليه العقلاء وهو الظنّ الفعليّ؛ لأنّه المعيّن عند الحكومة، لأوصله.

ويرد عليه:

أوّلاً: منع كون مصبّ الإجماع ذلك، وإنّما مصبّ الإجماع هو اشتمال الشريعة في نفسها على طريق آخر غير الاحتياط، وفائدة ذلك كون الشريعة بنفسها كاملة ومؤثّرة بالنسبة لمن يصله ذلك، وإن فرض عدم وصوله صدفة إلى هذا الانسداديّ.

وثانياً: أنّ المولى لو كان في مقام إيصال ما جعله حجّة لم يصحّ له أن يعتمد على حكم العقل بحجّيّة الظنّ الفعليّ على الحكومة، فإنّ الحجّيّة الثابتة لدى العقل على الحكومة مباينة للحجّيّة المقصود إثباتها على الكشف جوهراً وملاكاً، فإنّ الاُولى حجّيّة بمعنى تحديد الحقّ المولويّ على أساس التحسين والتقبيح المدركين بالعقل العمليّ، والثانية حجّيّة بمعنى جعل الشارع طريقاً ظاهريّاً على أساس درجة الاهتمام بالأغراض الواقعيّة عند التزاحم، فكيف يعقل جعل كون مصبّ الاُولى الظنّ الفعليّ دليلاً على كون مصبّ الثانية أيضاً ذلك ؟! وبكلمة شاملة: إنّ الاستفادة من طريق عقليّ أو عقلائيّ إنّما تمّ في إحدى حالات ثلاث:

الاُولى: أن يوجب ذلك ظهوراً لكلام الشارع، كما في مثال ﴿أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْع﴾.

والثانية: أن ينطبق عليه قوانين السيرة.

والثالثة: أن يكون حكم العقل في نفس دائرة الشيء الذي يراد إثباته في المقام.

والاُولى في المقام مفقودة؛ لعدم وجود كلام للشارع في المقام حتّى يتمسّك بظهوره، كما كنّا نتمسّك بظهور ﴿أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْع﴾ في انصرافه إلى البيع العقلائيّ. والثالث أيضاً مفقود؛ لما عرفت: من أنّ حكم العقل إنّما هو في دائرة غير مربوطة بما يكون المقصود إثباته، ولا ملازمة بينهما. والثاني رجوع إلى الوجه الأوّل الذي مضى.

758

فتحصّل: أنّ هذا الوجه غير صحيح، فإن تمّ الوجه الأوّل فهو، وإلّا شككنا في أنّ الطريق المجعول هل هو الظنّ الفعليّ أو النوعيّ، ولابدّ من إجراء دليلالانسداد ثانياً، ولابدّ من الانتهاء بالآخرة إلى الحكومة إن لم يكن قدر متيقّنكاف وهو مجمع الظنّين النوعيّ والشخصيّ؛ إذ لا تنحلّ هذه المشكلة بالكشف(1)، وإنّما تصل النوبة إلى الحكومة إن تمّت المقدّمات ثانية. أمّا إن قلنا: إنّه لا حرج في الاحتياط بالعمل بالظنّ الشخصيّ والنوعيّ معاً فلابدّ من الاحتياط، ولا يمكن إبطال ذلك بالإجماع على ثبوت طريقة اُخرى في الشريعة غير الاحتياط، فإنّ الحكومة حالها في ذلك حال الاحتياط، وليس العمل في الحكومة على غير الاحتياط(2).

هذا تمام كلامنا في المقدّمة الخامسة.

 


(1) بل إنّ مبرّر الكشف انفقد هنا من أصله؛ لأنّ الكشف كان على أساس الإجماع على اشتمال الشريعة على طريقة اُخرى للامتثال غير الاحتياط، وهي العمل بحجّة شرعيّة، وقد افترضنا أنّه ليس من اللازم وصول ذاك الطريق إلينا؛ إذ المهمّ بحسب الفرض اكتمال الشريعة في ذاتها وإن فرض نقص في المقدار الواصل إلينا صدفة، وهذا يعني أنّه في الانسداد الثاني لا نمتلك إجماعاً على وجود طريقة اُخرى غير الاحتياط لامتثال الطرق الاحتماليّة.

أمّا افتراض أنّ المشكلة لا تنحلّ في المقام بالكشف فليس إلّا منبّهاً إلى أنّ هناك خللاً في حساب من يقول بالكشف في المقام، وذاك الخلل هو عبارة عمّا شرحناه: من فقدان مبرّر الكشف.

(2) عرفت في التعليق السابق أنّنا في الانسداد الثاني نفقد الإجماع من أساسه.