225

تحصيل الحاصل عبارة عن تحصيل أمر في طول حصوله، وهو المحال، والأمر فيما نحن فيه ليس كذلك، وإنـّما هو تحصيل في عرض تحصيل آخر، فيصبح كلّ منهما بالفعل جزءاً للعلّة، فالعبد يوجد له محرّك إلى ترك جباية الضرائب في نفسه، والمولى يوجد محرّكاً آخر لذلك في عرض المحرّك الأوّل، وهو تكليفه بذلك، ولا علاقة لهذا بباب تحصيل الحاصل.

هذا تمام الكلام في أصل مسألة الخروج عن محلّ الابتلاء. ولنكمل هذا البحث بذكر اُمور: ـ

 

الخروج عن الابتلاء في موارد الايجاب

 

الأمر الأوّل: أنّ المحقّق العراقي (رحمه الله) ذكر: أنّ التكليف التحريمي مشروط بعدم كون الفعل أجنبيّاً عن المكلّف، وفسّر الأجنبيّة ـ كما مضتِ الإشارةُ إليه ـ بكون الفعل متوقّفاً على مقدّمات طويلة وصعبة، بحيث يعدّ الفعل عرفاً وعادة خارجاً عن تحت القدرة، وذكر: أنـّه كما يشترط في التحريم عدم كون الفعل أجنبياً عن المكلّف، كذلك يشترط في الإيجاب عدم كون الفعل أجنبياً عن المكلّف، فكما لا يصحّ أنْ يقال للفقير المستضعف لا تأخذ الضرائب من الناس، كذلك لا يصحّ أمره بأخذ


التكليف وداعويّته، والمفروض استحالتها، والجواب ينحصر ببيان أنّ هذا ليس تحصيلاً للحاصل؛ لأنـّه تحصيل في عرض تحصيل آخر، وليس تحصيلاً في طول الحصول.

هذا كلّه إذا قلنا: إنّ الحكم عبارة عن داعي البعث والتصدّي له، أو قل: إرادة الفعل إرادة تشريعيّة، أمـّا إذا قلنا: إنّ الحكم بنفسه بعث كما يقوله المحقّق الأصفهانيّ (رحمه الله)(1): فينصبّ الإشكال ابتداءً على نفس الحكم، فيقال: إنـّه تحصيل للحاصل، ولكن عندئذ ـ أيضاً ـ لا يمكن الجواب عنه بأنّ هدف المولى تمكين العبد من قصد القربة، فإنّ أصل البعث يجب أنْ يصبح ممكناً حتّى يقال بعد ذلك: إنّ الهدف من هذا البعث هو تمكين العبد من قصد القربة، في حين أن صاحب الإشكال يقول: إنّ أصل البعث غير ممكن؛ لأنـّه تحصيل للحاصل، فينحصر ـ أيضاً ـ جوابه في القول بأنّ هذا تحصيل في عرض تحصيل آخر، وليس تحصيلاً في طول الحصول، كي يكون مستحيلاً.


(1) راجع نهاية الدراية: ج 2، ص 42 ـ 43.

226

الضرائب منهم، وكما يقبح الأوّل ويستهجن كذلك الحال في الثاني(1).

أقول: تارةً يفترض أنـّه حيث كان الفعل متوقّفاً على مقدّمات طويلة وصعبة، يحصل للإنسان الجزم بعدم قدرته على إحدى المقدّمات في ظرفها إجمالاً، فهذا ينبغي أنْ يفترض خارجاً عمّا نحن فيه، لأنـّه في الحقيقة رجوع إلى عدم القدرة العقليّة، غاية الأمر أنّ حصول القطع بعدم القدرة يكون هنا بملاك حساب الاحتمالات، فقد يحصل لأحد مثل هذا العلم الإجمالي بلحاظ كثرة المقدّمات وصعوبتها، وعندئذ يقطع بعدم القدرة عقلاً على الفعل، وسقوط التكليف بهذا السبب، واُخرى يفترض أنّ جميع المقدّمات على كثرتها وصعوبتها داخلة تحت القدرة عقلاً، بحيث لو عمل العبد في سبيل تحصيلها، حصل على المطلوب في نهاية الشوط، فهنا لا نسلّم عدم صحّة ايجاب ذلك عليه، فإنّ صحّة ذلك وعدمها تدور مدار مولويّة المولى في مثل هذا العمل، وثبوت حقّ الطاعة له على عبده، فإنْ فرض ثبوت حقّ الطاعة له على العبد حتّى في العمل المتوقّف على مقدّمات كثيرة بعيدة وصعبة، ما دام قادراً عليها، كما هو ثابت للمولى الحقيقي ـ جلّ شأنه ـ فله أنْ يأمر بذلك، وهو يأمر بذلك في فرض شدّة الاهتمام بالفرض، كما أمر نبيّنا (صلى الله عليه وآله)بنشر الدين، وفتح العالم، بالمقدار الذي صدر منه (صلى الله عليه وآله)، مع أنـّه في بداية الأمر لو تصوّر أحدٌ شخصاً اُمّيّاً، في جزيرة العرب يفكر في فتح العالم، وإذلال كسرى وقيصر، لاستهزأ به، وإنْ فرض عدم ثبوت مثل هذا الحقّ له لم يصحّ مثل هذا التكليف، من باب عدم المولويّة رغم القدرة، لا من باب عدم القدرة، وهذا هو الحال في المولويّات العرفيّة، فالأب مثلاً له مولويّة وحقّ الطاعة على الإبن في أمره بسقيه الماء، لكن ليست له المولويّة وحقّ الطاعة في عمل موقوف على مثل هذه المقدّمات الصعبة البعيدة المدى، فلا يصحّ منه أنْ يأمر ابنه بذلك، إلّا من باب الإرشاد والنصح، فلعلّ ملاحظة حال المولويّات العرفيّة أوجبت تخيل القبح والاستهجان على الإطلاق

 

الشكّ في الخروج عن الابتلاء

الأمر الثاني: إذا شكّ في بعض الأطراف في خروجه عن محلّ الابتلاء أو


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 339.

227

دخوله فيه، فهل العلم الإجماليّ يكون منجّزاً للطرف المقطوع دخوله في محلّ الابتلاء، أو لا ـ بعد البناء على عدم التنجيز في فرض القطع بالخروج عن محلّ الابتلاء ـ؟ .

الصحيح: أنّ الأمر يختلفُ باختلافِ المباني في وجه سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز بخروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء:

 

على المبنى المختار

فإن بنينا على المبنى المختار: من أنّ الوجه في جريان الأصل في الطرف الداخل في محلّ الابتلاء، هو سقوط الأصل في الطرف الآخر بالارتكاز ـ بالتقريب الذي عرفت ـ، فالصحيح هنا هو التفصيل بين عدّة فروض للشكّ في الخروج عن محلّ الابتلاء، فإنّ الشكّ في ذلك يمكن افتراضه بعدّة أنحاء: ـ

الأوّل: أنْ يكون الشكّ على أساس الشبهة المصداقيّة، كما لو شككنا في أنّ هذا الإناء هل هو موجود في مكان قريب يسهل تناوله، أو هو موجود في الصين ويصعب تناوله، بحيث يتمّ الانصراف العادي عنه، وفي هذا القسم يجري الأصل في الإناء المقطوع دخوله في محلّ الابتلاء بلا معارض، لأنّ الأصل في الإناء الآخر غيرُ جار؛ لابتلاء الإطلاق فيه باحتمال القرينة المتّصلة، وهي الارتكاز؛ لأنّ ذاك الإناء لو كان خارجاً عن محلّ الابتلاء فهو خارج عن إطلاق دليل الأصل بالارتكاز، فما دمنا نحتمل خروجه عن محلّ الابتلاء إذن نحتمل خروجه عن الإطلاق بالقرينة الارتكازية كالمتّصل، واحتمال القرينة المتّصلة لا ينفى بالأصل، فإذا سقط هذا الأصل باحتمال القرينة المتّصلة جرى الأصل في الطرف الداخل في محلّ الابتلاء بلا معارض.

الثاني: أنْ يكون الشكّ مفهوميّاً، بمعنى أنّ ثبوت الارتكاز ونكتته وإنْ كان واضحاً لدى العرف وجوداً أو عدماً، ولكنّنا شككنا فيما هو فهم العرف في المقام، فلم نعرف أنّ هذا المقدار من البعد عن معرضيّة التناول هل يكفي في انتفاء فرض التزاحم بين الأغراض اللزوميّة والترخيصيّة لدى العرف، فيوجب ذلك عندهم انصراف دليل الأصل عن المورد أو لا ؟ وهذا يعني أنـّنا إذن نحتمل أنّ العرف يرى التعارض بين الأصلين في المقام ثابتاً، وبالتالي يرى دليل الأصل مُجملاً(1)، ومع


(1) هذا فيما إذا كان دليلُ الأصلين واحداً، أمّا إذا كان دليل أحد الأصلين غير الآخر، فلا

228

احتمال الإجمال لا معنى للتمسّك بإلاطلاق، إذن لا يجري الأصل ـ عندئذ ـ في الطرف الداخل في محلّ الابتلاء.

الثالث: أنْ يكون الشكّ مفهوميّاً أيضاً، ولكن لا بمعنى شكّنا في فهم العرف، بل بمعنى شكّ العرف نفسه في الارتكاز ونكتته، وذلك بأنْ يشكّ العرف في ثبوت التزاحم وعدمه في المقام بين الأغراض اللزوميّة والترخيصيّة، على أساس أنّ ذلك أمر مشكك في الخفاء والجلاء، فقد ينتهي في الخفاء إلى شكّ العرف في ذلك على حدّ شكّه فيما هو من أوضح المفاهيم العرفيّة من قبيل الماء، فالمعنى العرفي للماء وإن كان له تعيّن واقعي، ولكن نفس العرف حينما ينظر في درجة من درجات اختلاط الماء مع التراب بالنسبة إلى مفهوم الماء يشكّ في أنـّه هل ينطبق على هذا المصداق أو لا؟ فإنْ كان الشكّ في الارتكاز من هذا القبيل جرى الأصل في الطرف المقطوع دخوله في محلّ الابتلاء؛ لعدم ابتلائه بالمعارض؛ لأنّ احتمال العرف للارتكاز في الطرف الآخر يمنعه عن التمسّك بإلاطلاق فيه على أساس أنّ احتمال القرينة المتّصلة يبطل الإطلاق ولا يُنفى بالأصل(1) .

الرابع: أنْ يشكّ العرف في نكتة الارتكاز وهي التزاحم، بمعنى أنّ العرف يرى تزاحماً في المقام بين الأغراض ـ ولو ضئيلاً ـ وليس شاكّاً في أصل صدق التزاحم، كما هو الحال في القسم السابق، ولكنّه يحتمل على أساس ضئآلة التزاحم أنّ المولى لا يرى هذا تزاحماً، ولا يلحظه، أي أنْ تكون نسبة المولى إلى هذا التزاحم الضئيل، كنسبة العرف إلى ما هو أضأل من هذا من التزاحم الموجود في مورد القطع بالخروج عن محلّ الابتلاء، والذي لا يلحظه العرف ولا يراه.

وفي هذا القسم لا يجري الأصل في الطرف المقطوع دخوله في محلّ الابتلاء؛ لابتلائه بالمعارض، وهو الأصل في الطرف الآخر؛ لعدم انصراف الإطلاق عنه؛ لأنّ الشكّ ليس في أصل الارتكاز العرفي، بل الارتكاز الموجب للانصراف منتف عند العرف، غاية ما هناك أنّ العرف احتمل وجود نكتة الارتكاز لدى المولى، وهذا الاحتمال لايمنع عن التمسّك بالإطلاق.

 


يأتي فيه هذا الكلام؛ لعدم الإجمال عند انفصال المعارض.

(1) وإنْ شئت فقل: إنّ هذا داخل في احتمال قرينيّة المتّصل، على أساس أنّ هذا المستوى من البعد عن معرضيّة التناول حالة مكتنفة بالكلام صالحة للقرينيّة، ولئن شككنا في أنـّه هل يجوز نفي احتمال القرينة المتّصلة بالأصل أو لا، فلا خلاف بينهم في عدم جواز نفي احتمال قرينيّة المتّصل، أو صلاحيّته للقرينيّة بالأصل.

229

قد تقول: لا ينبغي التفريق بين القسم الأوّل والقسم الثاني من هذه الأقسام الأربعة في الحكم، فإمّا أنْ نقول بجريان الأصل في الطرف المقطوع دخوله في محلّ الابتلاء في كلا القسمين، أي: سواء كانت الشبهة مصداقية أو كانت الشبهة مفهومية، بمعنى شكّنا في أنّ العرف هل يرى تزاحماً وارتكازاً لانصراف الإطلاق بالنسبة للفرد الآخر، أو لا ؟ ففي كلا القسمين يكون احتمال وجود المعارض للأصل الجاري في الفرد المقطوع دخوله في محلّ الابتلاء ثابتاً، أمّا في الشبهة المصداقية، فلأنـّه على تقدير دخول الفرد الآخر ـ أيضاً ـ في محلّ الابتلاء يكون الإطلاق بالنسبة له تامّاً، ويكون معارضاً لإطلاق الأصل للفرد المقطوع دخوله في محلّ الابتلاء، والمفروض أنـّنا نحتمل دخوله في محلّ الابتلاء، وأمـّا في الشبهة المفهومية بالمعنى الذي عرفت، فلأنـّه على تقدير جزم العرف بعدم الارتكاز يكون الإطلاق أيضاً ثابتاً في الفرد الذي شككنا في دخوله في محلّ الابتلاء، فيتعارض الأصلان، والمفروض أنـّنا نحتمل جزم العرف بعدم الارتكاز.

وعندئذ، فإنْ قلنا بأنّ احتمال المعارض المتّصل كاحتمال القرينة المتّصلة لا ينفى بالأصل، فلا بدّ من القول بسقوط الأصل في كلا القسمين، وإنْ قلنا بأنّ احتمال المعارض المتّصل ينفى بالأصل، وليس كاحتمال القرينة المتّصلة، فلا بدّ من إجراء الأصل في الفرد المقطوع دخوله في محلّ الابتلاء في كلا القسمين، فلا مبرّر للتفصيل بينهما.

ولنا عن هذا الإشكال جوابان: ـ

الجواب الأوّل: أنـّنا لا نرى أنّ احتمال وجود المعارض المتّصل كاحتمال القرينة المتّصلة يبطل التمسّك بالظهور مطلقاً، ولا نرى أنـّه لا يبطل التمسّك بالظهور مطلقاً، بل نفصّل بين مورد الشبهة المفهوميّة والشبهة المصداقيّة، ففي مورد الشبهة المصداقية يُتمسّك بالعموم أو الإطلاق، ولكنْ في الشبهة المفهومية يكون حاله فيها حال احتمال القرينة المتّصلة، ويكون مضّراً بالظهور، فبهذا يثبت الفرق بين القسم الأوّل والقسم الثاني، ففي القسم الأوّل لمّا كانت الشبهة مصداقية جاز لنا التمسّك بالإطلاق لإثبات الترخيص الشرعي في الإناء المقطوع دخوله في محلّ الابتلاء، وفي القسم الثاني لمّا كانت الشبهة مفهومية، بمعنى شكّنا نحن فيما هو المفهوم لدى العرف، لم يمكن التمسّك بالإطلاق، ولا نفي احتمال المعارض بالأصل.

نعم، في القسم الثالث حينما كان الشكّ المفهومي شكّاً للعرف نفسه كان هذا ملحقاً بالقطع بعدم المعارض، فنحن نقصد هنا بالشبهة المفهوميّة ـ التي لا يمكن

230

التمسّك فيها بالعموم أو الإطلاق ـ خصوص القسم الثاني دون الثالث.

أمـّا ما هو السرّ في التفصيل بين الشبهة المصداقية والمفهومية بإمكان التمسّك بالإطلاق في الاُولى دون الثانية، فهذا ما يتضح بالبيان التالي: ـ

إنّ مقتضى الطبيعة الأصليّة عقلائيّاً في المتكلّم هو أنـّه إنْ لم يرد معنىً من المعاني فهو يختار أحد اُمور ثلاثة: ـ

1 ـ أنْ يسكت عنه، ولا يتكلّم بكلام له ظهور أوّلي في ذلك.

2 ـ أنْ يتكلّم بكلام له ظهور أوّلي في ذلك، ولكنّه ينصب قرينة على خلافه، ويبطل بذلك الظهور.

3 ـ أنْ يتكلّم بكلام له ظهور أوّلي في ذلك، من دون أنْ ينصب القرينة على الخلاف، ولكنّه ينصب ـ على الأقلّ ـ معارضاً لذلك الظهور، كي يفني الظهور بذلك.

فإنْ لم يفعل شيئاً من هذه الاُمور الثلاثة، وتكلّم بكلام ظاهر في معنى، فعدم إرادته لذلك المعنى يعني مخالفته للطبع العقلائي، فيحمل كلامه على كون ظاهره مراداً له.

وهذه الاُمور الثلاثة ليست في عرض واحد، بل الأوّل والثاني منها أوفق بالطبع العقلائي من الثالث، فإنّ مقتضى الطبع العقلائي لدى عدم إرادة معنىً من المعاني هو السكوت عن ذلك المعنى، أو الإتيان بالقرينة على الخلاف، وأمـّا الاكتفاء بالإتيان المعارض فهو انحراف عن الطبع العقلائي، وإن كان ترك القرينة والمعارض معاً أقوى انحرافاً عنه.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ الشكّ في المعارض المتّصل يكون على ثلاثة أقسام: ـ

القسم الأوّل: ما يكون من قبيل الشكّ في اكتناف الكلام بمعارض لم نسمعه أو سمعنا همهمة منه، فاحتملنا كونه نصباً للمعارض.

وفي هذا القسم يُتمسّك بالظهور الأوّلي للكلام، وينفى احتمال المعارض المتّصل بالأصل، ولا يكون حاله حال احتمال القرينة المتّصلة، وذلك لما عرفت من أنّ الاقتصار على نصب المعارض لدى عدم إرادة المعنى الأوّل، وإنْ كان خيراً من السكوت في الطبع العقلائي، لكنّه في نفسه انحراف عن الطبع العقلائي، لأنّ الطبع العقلائي يقتضي السكوت عن ذاك المعنى، أو نصب القرينة على الخلاف، وبما أنـّه لم يفعل شيئاً من هذين الأمرين كان الظهور الأوّلي لكلامه حُجّة لنا، وكان احتمال المعارض المتّصل منفيّاً بالأصل العقلائي، وهذا بخلاف احتمال القرينة المتّصلة، فهو لا ينفى بأصل عقلائي، لأنّ عدم إرادة المعنى مع نصب القرينة على خلاف ذاك

231

المعنى ليس على خلاف الطبع العقلائي.

القسم الثاني: ما يكون الشكّ فيه من قبيل الشكّ المفهومي، كما لو فرضنا فيما نحن فيه الشكّ في دخول أحد الإناءين في محلّ الابتلاء بنحو الشبهة المفهوميّة، بمعنى شكّنا في فهم العرف في مدى ما يكفي من البُعد عن معرضيّة التناول لصدق الخروج عن محلّ الابتلاء، أو لعدم تصوير التزاحم بين الأغراض.

وهنا الصحيح: أنّ احتمال المعارض المتّصل ملحق باحتمال القرينة المتّصلة، ولا يمكن فيه التمسّك بالعامّ؛ لعدم إمكان نفي المعارض بالأصل؛ وذلك لأنّ نفي المعارض هنا يعني نفي دخول ذاك الإناء في محلّ الابتلاء في نظام العرف، وإثبات ذلك بالتمسّك بالظهورات والاُصول العقلائية اللفظية غير ممكن؛ لأنّ القانون العامّ في التمسّك بتلك الاُصول والظهورات يقتضي أنـّه مهما كانت جهة الشكّ مربوطة بنطاق آخر غير نطاق نفس إرادة المتكلّم، كنطاق اللغة أو العرف لم يتمسّك فيه بالظهور، ولهذا لا يتمسّك باصالة الحقيقة في موارد الشكّ في الاستناد رغم أنّ ظاهر الحال هناك أيضاً كون الاستعمال حقيقياً، لا مجازياً.

القسم الثالث: ما يكون الشكّ فيه من قبيل الشبهة المصداقيّة، كما لو فرضنا فيما نحن فيه الشكّ في دخول أحد الإناءين في محلّ الابتلاء بنحو الشبهة المصداقية، كما لو لم نعلم أنّ هذا الإناء: هل هو قريب منّا، أو هو واقع في الصين وخارج عن معرضيّة التناول بالنسبة لنا ؟ وفرضنا أنّ الارتكاز العرفي قائم على المناقضة بين الحكم الواقعي والترخيصين، ولو فرض عدم وصول أحدهما إلى العرف، فهنا وإن كان أحد الترخيصين مشكوكاً فيه؛ للشكّ في الدخول في محلّ الابتلاء، لكن على تقدير ثبوته واقعاً يعارض الترخيص الآخر، فالشكّ في ذلك شكّ في المعارض المتّصل.

والصحيح هنا: جواز التمسّك بالعامّ والأخذ بالظهور الأوّلي للكلام في الإناء المعلوم الدخول في محلّ الابتلاء؛ وذلك لا لنكتة التمسّك بأصالة عدم المعارض، لكي يرد عليها ما ورد في القسم السابق من أنّ منشأ الشكّ مربوط بنطاق آخر، وهو هنا نطاق وضع الإناء المشكوك دخوله في محلّ الابتلاء، بل لنكتة اُخرى وهي أنـّه حتّى لو كان الإناء المشكوك داخلاً واقعاً في محلّ الابتلاء، فالظهور الأوّلي الحاكم بالترخيص في الإناء الآخر لم يجعل المولى له معارضاً ظاهر المعارضة؛ لأنّ الكلام ليس له ظهور في رفع الشبهة المصداقيّة.

نعم، على تقدير كون ذاك الإناء داخلاً في محلّ الابتلاء يكون للكلام ظهور

232

في الترخيص فيه، وهذا الظهور يكون معارضاً، لكن هذه المعارضة مخفيّة حتّى على نفس المولى بما هو مولى، لأنّ المولى ليس المفروض فيه ـ بقطع النظر عن علم الغيب ـ أنْ يكون مطّلعاً على حال المصداق، وهذا بخلاف الشبهة المفهوميّة التي يكون الشكّ فيها شكّاً لنا، لا للعرف، فإنّ المولى هناك على تقدير المعارضة قد نصب معارضاً واضح المعارضة، ومن الواضح: أنّ الطبع العقلائي الذي يتطلّب نصب المعارض ـ على أقلّ تقدير ـ لدى عدم إرادة المعنى الذي كان للكلام ظهور أوّليّ فيه لا يكتفي بمعارض مخفيّ المعارضة حتّى على نفس المولى، وإنـّما المقصود بذلك نصب معارض يعلم المتكلّم نفسه بمعارضته، وما دام المعارض في مورد الشبهة المصداقيّة غير معلوم المعارضة حتّى لدى المتكلّم، فلنا أنْ نأخذ بالإطلاق في الإناء المعلوم الدخول في محلّ الابتلاء، وليس ارتكاز المناقضة بين الواقع والأصلين قرينة على خروج هذا الإناء عن إطلاق دليل الأصل، حتّى يدخل ذلك في احتمال القرينة المتّصلة، وإنـّما هو قرينة على عدم إرادة الأصلين معاً، فيقع التعارض بين الأصلين، فهو داخل في احتمال المعارض، وحيث إنـّه لا يحتمل معارض نصبه المولى، وهو عالم به بما هو مولىً، إذن يؤخذ بظاهر الكلام في الإناء الداخل يقيناً تحت الابتلاء، ويثبت بذلك أنّ الأصل في الطرف الآخر مقيّد بفرض العلم بالدخول في محلّ الابتلاء، فإنـّه وإنْ كان دخل العلم بالموضوع في الحكم خلاف الإطلاق، لكنّ ظاهر حال المولى حينما يفرض بنحو القضيّة الحقيقيّة العلم بدخول أحد الطرفين في محلّ الابتلاء والشكّ في الآخر أنّ الإطلاق بالنسبة للأوّل مراد له، وبالنسبة للثاني ليس مراداً له؛ لأنـّه إن لم يرد الثاني فعلى الأقلّ اعتمد على جعل المعارض، وهو الأصل في الأوّل، ولكن إنْ لم يرد الأوّل لم يعتمد حتى على جعل المعارض؛ لأنّ فرض الشكّ في الدخول في محلّ الابتلاء مساوق لفرض شكّ نفس المتكلّم في ذلك، المساوق لفرض شكّه هو في جعل المعارض(1) .

 


(1) قلت لاُستاذنا الشهيد (رضوان الله عليه): إنّ بالإمكان التمثيل بمثال عرفيّ واضح يجسّد لنا عدم الفرق بين الشبهة المفهومية للمعارض المتّصل والشبهة المصداقية له في عدم جواز التمسّك بالعامّ، فلا يبقى ـ عندئذ ـ شيء عدا التفتيش عن النكتة الفنّيّة لذلك، وذلك المثال عبارة عمّا إذا قال المولى: «اكرم العلماءَ، ولا تكرم الفساقَ»، فقوله: «لا تكرم الفسّاق» معارض متّصل لعموم قوله: «اكرم العلماء»، وليس قرينة متّصلة؛ لأنـّه ليس أخصّ من الأوّل، وإنـّما النسبة بينهما عموم من وجه، فإذا شككنا في فسق عالم من العلماء نجد أنـّه ليس من الصحيح

233

الجواب الثاني: أنّ مختارنا في الشبهة المفهوميّة للمعارض المتّصل هو عدم جواز التمسّك بالعامّ، وأنّ حال احتمال المعارض المتّصل هو حال احتمال القرينة المتّصلة، كما وضّحنا ذلك في الجواب الأوّل.

فإن لم نفرّق في الأمر بين الشبهة المفهومية للمعارض المتّصل والشبهة المصداقية له، وألحقنا الشبهة المصداقية بالشبهة المفهومية في عدم جواز التمسّك فيها بالعامّ تنزّلاً عن الجواب الأوّل، كان لدينا في المقام جواب آخر وهو: أنّنا حتّى الآن فرضنا ارتكاز المناقضة عرفاً بين الحكم الواقعي والأصلين، حتّى إذا فرض عدم وصول أحدهما إلى العرف، لكنّنا نقول الآن: إنّ ارتكاز المناقضة إنّما يكون بين الحكم الواقعي والترخيص الشامل الواصل شموله إلى العرف بما هو عرف لكلّ الأطراف، فإذا كان أحد الترخيصين غير واصل إلى العرف بما هو عرف، فمجرّد وجوده الواقعي منضمّاً إلى الترخيص الآخر الواصل لا يناقض عرفاً الحكم الواقعي، فلا بأس إذن بالتمسّك بإطلاق دليل الأصل في كلّ واحد من الطرفين لإثبات


لدى الفهم العرفي التمسّك فيه بعموم (اكرم العلماء)، من دون فرق بين فرض الشبهة مفهوميّة، بأنْ كان مرتكباً للصغيرة، وشككنا في شمول مفهوم الفاسق لمن يرتكب الصغيرة، وفرضها مصداقية بأنْ شككنا في اقترافه للذنب وعدمه. فوعدني الاُستاذ الشهيد (رحمه الله) بالتفكير في ذلك إنْ سنحت له الفرصة، ثمّ لم يذكر لي شيئاً حول هذا الموضوع.

أقول: واقع المطلب هو أنـّه إذا كان العامّ بنحو القضية الحقيقية، لم يبقَ فرقٌ في عدم جواز التمسّك به بين الشبهة المفهومية لمعارضه المتّصل، والشبهة المصداقية؛ وذلك لأنـّه صحيح أنّ المولى لا يعلم في فرض الشبهة المصداقيّة بنصبه للمعارض، لكنّه في نفس الوقت ـ أيضاً ـ لا يعلم بأنّه هل أراد العموم في الفرد المشكوك، أو لا؟ إذ لو لم يكن ذاك الفرد مصداقاً للمعارض، فقد أراد العموم، وإن كان مصداقاً له، لم يرد العموم، وهو يعلم أنـّه إن لم يرد العموم، فقد نصب المعارض، فلا يرد أنـّه كيف اعتمد في المقام لإسقاط الظهور على نصب المعارض مع جهله هو بنصب المعارض، فإنّنا نقول: إنـّه يعلم بأنـّه على تقدير عدم إرادته للظهور قد نصب المعارض، ففي مثال (اكرم العلماء، ولا تكرم الفسّاق)، وإنْ لم يكن يعلم في العالم المشكوك فسقه بنحو الشبهة المصداقية بنصب المعارض، لكنّه يعلم بأنّه لو لم يكن مراداً من العموم؛ لكونه فاسقاً، فقد نصب المعارض، وفيما نحن فيه وإنْ لم يكن يعلم بنصب المعارض، وهو الأصل في الطرف المشكوك دخوله في محلّ الابتلاء بنحو الشبهة المصداقية، لكنّه يعلم بأنّ الأصل في الطرف المقطوع دخوله في محلّ الابتلاء لو لم يكن مراداً؛ لكون الفرد الآخر داخلاً في محلّ الابتلاء، فقد نصب المعارض.

234

الترخيص المقيّد بقيد عدم وصول فعليّة الترخيص الآخر إلى العرف(1) . وبهذا يتّضح الفرق في المقام بين الشبهة المصداقيّة والشبهة المفهوميّة؛ لأنـّه في مورد الشبهة المصداقيّة، لم يصل الترخيص في الفرد المشكوك دخوله في محلّ الابتلاء إلى العرف بما هو العرف؛ إذ ليس المفروض في العرف بما هو عرف أنْ يكون مطّلعاً على حال المصداق، إذن فالترخيص في الطرف المقطوع دخوله في محلّ الابتلاء لا معارض له، في حين أنـّه في فرض الشبهة المفهومية نقول: إنّ المفروض في العرف بما هو عرف أنْ يكون مطّلعاً على حال المفهوم، وقد فرضنا أنـّنا صدفة شككنا في المفهوم شذوذاً عن العرف، وأنّ المفهوم واضح لدى العرف، إذن فنحتمل وصول المعارض إلى العرف بما هو عرف، وقد فرضنا أنّ احتمال المعارض المتّصل في غير القسم الأوّل من الأقسام الثلاثة لا ينفى بالأصل.

نعم، لو لم نقبل أصل فكرة: أنّ احتمال المعارض المتّصل لا ينفى بالأصل في الشبهة المفهومية، وقلنا: إنّ احتمال المعارض المتّصل لا يمنع عن التمسّك بالعامّ حتى في الشبهة المفهومية، لم يبقَ فرق ـ عندئذ ـ بين فرض الشبهة المفهومية والمصداقية؛ لأنـّه ينتفي بذلك أساس كلا الجوابين اللذين شرحناهما، ويتّجه ـ عندئذ ـ جريان الأصل في الفرد المقطوع دخوله في محلّ الابتلاء؛ لعدم إحراز المعارض، سواء كان الشكّ مفهومياً أو مصداقياً.

هذا تمام الكلام بناءً على المبنى المختار في وجه سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز لدى خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء.

 


(1) لا يخفى: أنـّه على تقدير أنْ يكون الفرد المشكوك دخوله في محلّ الابتلاء داخلاً حقّاً في محلّ الابتلاء تكون أدلّة الاُصول التي لا تشمل في ذاتها أطراف العلم الإجماليّ ساقطة في المقام، ولا تبقى في المقام إلّا أصالة الحلّ وأصالة الحلّ ـ أيضاً ـ بناءً على كون مفادها تحليل الكلّ المشتمل على الحرام لا تقبل تقييدها في الأجزاء بقيد ما، على ما مضى شرحه من قبل اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في بحث الجواب على شبهة التخيير في جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي التي طرحها المحقّق العراقيّ (رحمه الله) فعندئذ يشكل تقييد كل من الأصلين بقيد عدم وصول فعلية الترخيص الآخر إلى العرف.

نعم، بما أنّ اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) اختار هناك أنّ الظاهر من حديث أصالة الحلّ أنّ مفاد كلمة (الشيء) الوارد فيه هو الكلّي وليس الكل، فهذا الإشكال غير وارد عليه.

235

على المبنى المشهور

أمـّا إذا بنينا في ذلك على المبنى المشهور القائل بأنّ الوجه في عدم منجّزية العلم الإجمالي في فرض خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء، هو دورانه بين تكليف فعليّ وتكليف مشروط لم يحصل شرطه، فيمكن أنْ يقال في بداية الأمر: إنـّه يكفي في عدم العلم بالتكليف الفعليّ احتمال خروج أحد الطرفين عن محلّ الابتلاء؛ إذ يحتمل ـ عندئذ ـ عدم فعليّة التكليف على تقدير ثبوته في ذاك الطرف وإنْ كان يقطع بفعليّته على تقدير ثبوته في الطرف الآخر، ومن الواضح: أنّ احتمال عدم الفعليّة على أحد التقديرين المحتملين كاف في عدم الجزم بالفعلية؛ لأنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمتين .

إلّا أنـّه يُذكرُ في المقام مانعان عن التمسّك بالأصل:

المانع الأوّل: إطلاق دليل التكليف؛ لأنّ المفروض أنّنا لم نقطع بخروج ذاك الطرف عنه، فنتمسّك بإطلاق دليل التكليف، ويتشكّل لنا علم إجماليّ بتكليف يكون فعليّاً وجداناً على أحد التقديرين، وفعليّاً تعبّداً على التقدير الآخر.

وقد ظهرت مواقف ثلاثة تجاه التمسّك بهذا الإطلاق:

الأوّل: موقف المحقّق النائينيّ (رحمه الله) وهو الموافقة على التمسّك بهذا الإطلاق مطلقاً، أي: سواء كانت الشبهة مصداقيّة أو مفهوميّة(1) .

والثاني: موقف المحقّق الخراساني (رحمه الله) وهو عدم التمسّك به مطلقاً(2) .

والثالث: موقف المحقّق العراقي (رحمه الله) وهو التفصيل بين الشبهة المفهومية، فيتمسّك فيها بالإطلاق، والمصداقية فلا يتمسّك فيها به(3) .

والموقف الأوّل والأخير تطبيق لمبنى المحقّق النائيني والعراقي(رحمهما الله)العامّ على المقام، حيث إنّ المحقّق العراقي بنى في المخصّص المنفصل على التفصيل بين الشبهة المفهومية والمصداقية، بالتمسّك بالعامّ في الاُولى دون الثانية، فطبّق ذلك على المقام، والمحقّق النائيني بنى على التمسّك بالعامّ حتّى في الشبهة المصداقية إذا كان المخصّص لبّيّاً، فطبّق ذلك على المقام.

ويقع الكلام في وجه القول الوسط، حيث يبدو عدم ملائمته للمباني


(1) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 253 ـ 255، وفوائد الاُصول: ج 4، ص 19 ـ 21.

(2) راجع الكفاية: ج 2، ص 223 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق المشكيني.

(3) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 342 ـ 343.

236

المختارة في سائر موارد شبهات المخصّص، فما هي النكتة الثابتة فيما نحن فيه التي جعلته يشذّ عن سائر الموارد، وأوجبت عدم التمسّك بالإطلاق فيه مطلقاً؟ وقد ذُكِرَ لذلك تقريبان: ـ

التقريب الأوّل: ما في كلام المحقّق الخراساني(رحمه الله) في الكفاية، وهذا التقريب ـ إذا أخذنا بعبارة الكفاية على بساطتها وإجمالها ـ يكون عبارة عن أنـّه لو تمّ ثبوتاً إمكان إطلاق الحكم، وشككنا في التقييد والإطلاق، بنينا على الإطلاق في عالم الإثبات، أمـّا مع الشكّ في أصل إمكان كون الحكم مطلقاً ثبوتاً، فلا معنى للتمسّك بالإطلاق إثباتاً، فإنّ مقام الإثبات فرع مقام الثبوت، ومع الشكّ في إمكان الشيء لا يمكن إثباته بالإطلاق.

وأجاب عن ذلك المحقّق النائيني (رحمه الله)حلاّ ونقضاً:

أمـّا الحلّ: فبأنـّه ليس من شرائط الأخذ بإطلاق الكلام إثباتاً إحراز إمكان مفاده ثبوتاً مسبقاً على الأخذ به، بل بمجرّد احتمال الإمكان يأتي احتمال صدق الإطلاق الإثباتي، ومع احتمال الصدق يصبح حُجّة بدليل حجّيّة الظهور، ويثبت تعبّداً بالمدلول الالتزامي لذاك الظهور إمكان مفاده ثبوتاً.

وأمـّا النقض: فبأنّه لو كان من شرط الأخذ بالإطلاق إحرازُ إمكان مفاده، لبطل جميع الإطلاقات، فمثلاً لا يمكن الأخذ بإطلاق ﴿ أحل الله البيع﴾ لإثبات جعل صحّة البيع المعاطاتي، مع احتمال كون جعل صحّته مشتملاً ثبوتاً على مفاسد قبيحة على المولى، ولا يصدر القبيح من المولى، فقد شككنا في أصل صحّة هذا الجعل ثبوتاً، فكيف نتمسّك بالإطلاق في مقام الإثبات؟!

وما أفاده المحقّق النائيني (رحمه الله) نقضاً وحلاّ متينٌ، ووارد على هذا الوجه، بناءً على الأخذ فيه بنفس البيان الساذج الذي ذكرناه.

إلّا أنّ المحقّق العراقي (رحمه الله) فسّر(1) عبارة المحقّق الخراساني ببيان آخر أعمق، يسلم عمّا أورده عليه المحقّق النائيني، وهو: أنّنا إنّما نأخذ بالإطلاق لدى فرض جعل الحجّية للإطلاق، وجعل الحجّية حكم ظاهري، حاله حال الحكم الواقعي في كونه مشروطاً بالدخول في محلّ الابتلاء، وأيّ فرق في ذلك بين وجوب الاجتناب الواقعي ووجوب الاجتناب الظاهري؟! فمع الشكّ في الدخول في محلّ الابتلاء يشكّ في أصل معقوليّة جعل الحجّيّة للإطلاق في المقام.


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 345 ـ 346.

237

هذا ما أفاده المحقّق العراقي(رحمه الله) تفسيراً لكلام المحقق الخراساني(قدس سره) .

ولو اُورد على هذا الكلام: بأنـّنا نحرز في المقام إمكان الحكم الظاهري بنفس دليل الحكم الظاهري؛ لأنـّه دليل قطعي، وهذا هو الحال في كلّ حكم ظاهري، فمع احتمال قبحه ثبوتاً، وكون المصلحة في عدم جعله تثبت صحّته ثبوتاً بنفس دليله، والمفروض في الأحكام الظاهرية أنـّه يجب انتهاؤها إلى دليل قطعي، وبه ينتهي الإشكال.

أجبنا عن ذلك بأنّه في المقام لا يوجد دليل قطعي على حُجّيّة هذا الظهور، لأنّ دليله هو السيرة العقلائية وبناء العقلاء، والعقلاء إذا لاحظوا فرض الشكّ في الدخول في محلّ الابتلاء الذي هو شرط إمكان الحكم وصحّته ثبوتاً، فقد شكّوا في جعل الحجّيّة هنا.

نعم، إذا ورد من المعصوم نصٌّ قطعي يدلّ على صحّة الجعل هنا، ثبت به دخول ذلك الشيء في محلّ الابتلاء، وإمكان الحكم الواقعي في نفسه، وخرج عن محلّ الكلام.

ثم، انّ المحقق العراقي بعد أنْ فسّر كلام المحقّق الخراساني بما عرفت، أورد عليه إشكالاً ـ حسب تعبير وارد في تقرير بحثه ـ يحتمل أنْ يكون المقصود منه ما يلي: وهو أنّ الحكم الظاهري ليس حاله حال الحكم الواقعي، بحيث يكون احتمال الخروج عن محلّ الابتلاء مساوقاً لاحتمال عدم إمكانه، كما هو الحال في الحكم الواقعي، فإنّ روح الحكم الظاهري عبارة عن شدّة الاهتمام بالحكم الواقعي، وعدم الرضا بمخالفته على تقدير ثبوته، ومن المعلوم أنّ تقدير ثبوته هو تقدير الدخول في محلّ الابتلاء، والمفروض أنّ نفس العلم بشدة الاهتمام بالحكم على تقدير ثبوته يكفي في حكم العقل بالتنجيز الفعلي، فإشكال احتمال الخروج عن محل الابتلاء يفترض إخلاله بأي شيء؟ إن افترض إخلاله بالحكم الظاهري، قلنا: إنّ الحكم الظاهري عبارة عن شدّة الاهتمام المقيّدة بفرض الدخول في محلّ الابتلاء، وإنْ افترض إخلاله بحكم العقل بالتنجيز، قلنا: إنّ المفروض أنّ نفس العلم بشدّة الاهتمام على تقدير وجود الواقع منجّز بالفعل عقلاً.

بل إنّ الجواب لا يختصّ بفرض الالتفات إلى أنّ واقع الحكم الظاهري عبارة عن إبراز شدّة الاهتمام بالفرض الواقعي على تقدير وجوده، فحتّى لو افترضنا أنّ الحكم الظاهري عبارة عن جعل الحكم المماثل، أو نحو ذلك، وغفلنا عن أنّ هذا مجرّد صياغة للمطلب، وأنّ روح المطلب هو ذاك الاهتمام، فعلى أيّة حال ما دمنا لا

238

نؤمن بالسببيّة في الحكم الظاهري، وأنّ المطلوب في المقام هو الترك في ذاته، لا نبتلي بإشكال تحصيل الحاصل أو غيره، على أساس أنّ ذاك الفرد لو كان واقعاً خارجاً عن محلّ الابتلاء، فالترك مضمون، وإنّما نتيجة الحكم الظاهري المفسّر ـ بأيّ تفسير فرض في المقام ـ هي الانتهاء إلى تنجيز الواقع على تقدير وجوده، وفائدة ذلك وإن كانت لا تظهر إلّا على تقدير دخول الفرد واقعاً في محلّ الابتلاء، لكن ليس هذا بدعاً في باب الأحكام الظاهريّة، فإنّ الأحكام الظاهرية بطبيعتها تختصّ فائدتها بفرض المصادفة للواقع، وأُطلقت من باب عدم إمكان التمييز بين المصادف وغير المصادف، ولو تَمّ التمييز لانتفى موضوع الحاجة إلى الحكم الظاهري.

وقد اتّضح بهذا العرض أنّ كلام المحقّق الخراساني (رحمه الله) ـ سواء اُخذ على بساطته وسذاجته أو وجّه بما ذكره المحقّق العراقي (قدس سره) في تفسيره ـ غيرُ تامّ في المقام.

التقريب الثاني ـ ما في تقرير المحقّق النائيني (رحمه الله) : من أنّ المخصّص في المقام يكون لبّيّاً كالمتّصل، وعند دوران المخصّص المتّصل بين الأقلّ والأكثر لا يجوز التمسّك بالعامّ(1) .

وأجاب المحقق النائيني عن ذلك(2): بأنّه لو سلّم كون المخصّص هنا كالمتّصل ـ مع أنـّه ليس كذلك(3) ـ قلنا: إنـّه رغم هذا يجوز التمسّك بالعامّ في المقام؛ إذ ليس الخارج من العامّ بهذا المخصّص المتّصل مفهوماً من المفاهيم، مع الشكّ في دخول أمر ما في مفهومه وعدمه، كما في (اكرم العلماء إلّا الفساق) لدى الشكّ في فسق مرتكب الصغيرة، بل يكون الخروج عن محلّ الابتلاء مفهوماً ذا مراتب قطع بخروج بعض مراتبه العالية من العامّ، ويتمسّك في الباقي بالعامّ.

وكأنـّه ضاع مراد المحقّق النائيني (رحمه الله) على تقدير بحث المحقّق العراقي (قدس سره)بتخيّل أنّ المقصود هو أنّ مفهوم الخارج عن محلّ الابتلاء أمر ذو مراتب، وقد خرج عن العامّ بجميع مراتبه، وشكّ في أنّ المرتبة الضعيفة من أين تبدأ؟ وأنّ هذا


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 19 ـ 20.

(2) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 20. واجود التقريرات: ج 2، ص 252 ـ 254.

(3) لأنّ المخصّص في نظر المحقّق النائيني ليس ضرورياً مرتكزاً في الأذهان كالمتّصل. وأضاف في أجود التقريرات: أنّ المخصّص العقلي هنا يكون من سنخ استكشاف الملاك الذي يكون أمر تمييزه بيد المولى، لا من سنخ حكمه على العناوين، وفي مثل ذلك يجوز في رأي المحقّق النائيني (رحمه الله) التمسّك بالعامّ ولو فرض حكم العقل ضرورياً.

239

المصداق داخل في المرتبة الاُولى الضعيفة أو لا؟ فأورد عليه بأنّ هذا خلف فرض عدم جواز التمسّك بالعامّ، مع إجمال المخصّص المتّصل، ولا يفترق عن سائر موارد إجمال المخصّص المتّصل(1) .

إلّا أنّ مقصود المحقق النائيني (رحمه الله) ليس هو هذا، وإنّما مقصوده أنّ الخروج عن محلّ الابتلاء له مراتب، فبعض مراتبه يفترض خروجه عن العامّ بالمخصّص المتّصل؛ لكون عدم صحّة الحكم فيه واضحاً عند العقل، بحيث يُعَدُّ المخصّص متّصلاً، وتضعف مراتب الخروج عن محلّ الابتلاء إلى أنْ ينعدم وضوح عدم صحّة الحكم عند العقل، فلا يكون خارجاً بالمخصّص المتّصل قطعاً، فإنْ كان خارجاً فهو خارج بالمخصّص المنفصل، وحيثُ إنـّنا شككنا في خروجه نتمسّك فيه بالعامّ(2) .

والذي تَحَصَّل من البحث إلى هذا الحدّ هو أنّ ما نحن فيه حاله حال سائر موارد دوران الأمر في التخصيص بين الأقلّ والأكثر، مع عدم اتّصال الكلام بمخصّص تحتمل قرينيّته على خروج الأكثر، فلا بُدّ من أنْ تطبّق في المقام نفس القواعد المختارة هناك، ففصّل المحقّق العراقيّ بين فرض كون الشبهة مفهوميّة وكونها مصداقية؛ للخروج عن محلّ الابتلاء تطبيقاً لمبناه على محلّ الكلام، وكذلك السيّد الاُستاذ اختار نفس التفصيل(3) تطبيقاً لمبناه على ما نحن فيه، وقال المحقّق النائيني بجواز التمسّك بإطلاق دليل التكليف مطلقاً، تطبيقاً لمبناه ـ أيضاً ـ في المخصّص اللّبّي على المقام.

إلّا أنّ الصحيح مع هذا هو ما اختاره المحقّق الخراساني (رحمه الله) من عدم التمسّك بإطلاق دليل التكليف مطلقاً؛ وذلك لعدّة تقريبات ترجع بحسب الحقيقة إلى روح واحدة: ـ

التقريب الأوّل: أنّ الخارج عن تحت العامّ ليس هو الخارج عن محلّ الابتلاء


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 344.

(2) لا يخفى أنّ المخصّص اللبّي كالمتّصل لا يعقل تردّده مفهوماً بين الأقلّ والأكثر إلّا بهذا النحو، سواء كان الشكّ من ناحية الاختلاف في المراتب، أو من أيّ ناحية اُخرى، فإنّ الزائد المشكوك لا محالة لا يكون حكم العقل بالنسبة له ضرورياً كالمتّصل، وإلّا لما شكّ فيه، فإذا لم يكن حكم العقل بالنسبة له ضرورياً كالمتّصل، جاز التمسّك فيه بالعامّ. إذن فالتسليم بكون تردّد المخصّص اللبّي كالمتّصل بين الأقلّ والأكثر مفهوماً مانعاً عن التمسّك بالعامّ، ثم إخراج مثل ما نحن فيه عن هذه القاعدة تهافتٌ.

(3) راجع مصباح الاُصول: ج2، ص 398 ـ 399، والدراسات: ج 3، ص 256 ـ 257.

240

بهذا العنوان، فإنّه لم يرد مخصّص لفظي يدلّ على خروج الخارج عن محلّ الابتلاء عنه، وإنّما المخصّص هو العقل، وقد حكم بخروجه عن تحت العامّ من باب قبح التكليف بالخارج عن محلّ الابتلاء مثلاً، فالخارج عن تحت العامّ في الحقيقة هو عنوان ما يقبح التكليف به، لا عنوان الخارج عن محلّ الابتلاء بما هو، ومن المعلوم أنّ الشبهة المفهومية للخروج عن محلّ الابتلاء شبهة مصداقية لعنوان القبيح، فيكون التمسّك فيه تمسّكاً بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

التقريب الثاني: ما نترقّى فيه عن التقريب الأوّل، ونقول: إنـّه لا يجوز التمسّك بالعامّ هنا، ولو فرضت الشبهة مفهومية، وغضّ النظر عَمّا سبق؛ وذلك لما مضى في بحث العامّ والخاصّ من أنّ نكتة التفصيل بين الشبهة المفهومية والشبهة المصداقية بالتمسّك بالعامّ في الاُولى دون الثانية هي أنّ نسبة المولى ـ بما هو مولى ـ ونسبة العبد إلى الجهة الدخيلة في الحكم المشكوكة، على حدّ سواء في الشبهة المصداقية، فلا يجوز فيها التمسّك بالعامّ، وهذا بخلاف الشبهة المفهومية، فإنّ المولى أعرف بأنّه هل يكون عدم ارتكاب الصغيرة مثلاً دخيلاً في حكمه أو لا، فيرفع احتمال دخله بالإطلاق لدى خروج الفاسق بالتخصيص، وتردّده مفهوماً بين مرتكب الكبيرة ومطلق العاصي، ولكن لو شَكّ في أنّ زيداً هل هو مرتكب للكبيرة أو لا، فالمولى بما هو مولى ليس بأعرف منّا بالحال، وعلى هذا، فإنْ اتّفق في مورد في الشبهة المصداقية أنّ نسبة المولى بما هو جاعل للحكم، ونسبة العبد لم تكن على حدّ سواء، اُلحقَ ذلك بموارد الشبهة المفهومية، وإنْ اتّفق في مورد في الشبهة المفهومية أنّ النسبتين على حدّ سواء اُلحق ذلك بموارد الشبهة المصداقية.

وعليه نقول فيما نحن فيه: إنّ المولى بما هو جاعل ومشّرع حاله حال العبد في جهة الشكّ في الحكم عند الشك في الخروج عن محلّ الابتلاء، فإنّنا حتّى لو فرضنا أنّ الخارج عن تحت العامّ هو عنوان الخروج عن محلّ الابتلاء المشكوك هنا مفهوماً يكون حال المولى هو حال العبد في جهة الشكّ في الحكم، فقد يشكّ المولى كما يشكّ العبد، فلا مجال هنا للتمسّك بالعامّ.

التقريب الثالث: ما نترقّى فيه أكثر من ذي قبل، وهو أنّ غاية ما يمكن تحصيله بإطلاق الخطاب هي اعتقاد المولى، لكنّ اعتقاد المولى بما هو مولى للدخول في محلّ الابتلاء ليس هنا مساوقاً لإمكان جعل الحكم واقعاً، فلا يمكن التمسّك في إثبات الحكم بإطلاق دليل الحكم، وهذا مبنيّ على فرض كون المحذور في التكليف فيما هو خارج عن محلّ الابتلاء عبارة عن استحالة تحصيل الحاصل، مع فرض أنّ

241

الحكم بنفسه تحصيل وتحريك، كما ذهب إليه المحقّق الأصفهاني(1)، لا أنـّه تصدٍّ للتحريك والتحصيل، فنقول عندئذ: إنّ الحكم في الخارج عن محلّ الابتلاء بنفسه تحصيل للحاصل ومحال، واعتقاد الخلاف لا يجعله ممكناً، فمع احتمال الخروج عن محلّ الابتلاء لا يمكن التمسّك بالعامّ في إثبات الحكم.

ولا يقال: إنـّه لو كشفنا بالإطلاق عن اعتقاد المولى فعلى أساس علمنا بأنّ مولانا سبحانه لا يخطأ، ولا يشتبه، نستكشف بذلك أنّ ذاك الطرف ليس خارجاً عن محلّ الابتلاء.

فإنـّه يقال: إنّ مقصودنا ممّا ذكرناه كان عبارة عن أنـّه حيث لا تكون ملازمة بين اعتقاد المولى ـ بما هو مولى ـ والواقع، ولا يمكن أنْ يكشف الكلام في المحاورات العرفية بين الموالي والعبيد عن أزيد من الاعتقاد، أي لا يمكن أنْ يكشف الكلام عن الحكم في الواقع، لا يستكشف العرف نفس الاعتقاد أيضاً.

هذا. وجميع هذه التقريبات الثلاثة ترجع إلى روح واحدة، وهي أنـّه مهما كان القيد بوجوده الاعتقادي للمولى دخيلاً في الحكم، أمكن التمسّك بالعامّ، ونسبة المولى ـ بما هو جاعل ـ إلى جهة الشكّ في الحكم ليست ـ عندئذ ـ كنسبة العبد إليها، ومهما كان القيد بوجوده الواقعي دخيلاً في الحكم لم يمكن التمسّك بالعامّ، وكانت نسبة المولى ـ بما هو جاعل ـ إلى جهة الشكّ كنسبة العبد إليها، وفي الشبهات المصداقية يكون الدخيل في الحكم وهو القيد بوجوده الواقعي وهو عدم الفسق مثلاً، ونسبة المولى والعبد فيها إلى جهة الشك على حدّ سواء، فلا يتمسّك فيها بالعامّ، وفي الشبهات المفهومية ـ كما لو تردّد معنى الفاسق بين خصوص مرتكب الكبيرة ومطلق العاصي ـ يكون الدخيل في الحكم بوجوب اكرام من هو مرتكب للصغيرة اعتقاد المولى بكون إكرامه ذا مصلحة، لا ثبوت المصلحة واقعاً، ونسبة المولى تختلف عن نسبة العبد إلى جهة الشكّ في الحكم، فيُتمسّك فيها بالعامّ، وكلّ شبهة مصداقية تشارك الشبهة المفهومية في النكتة التي عرفتها، يلحقها حكمها، وكذلك العكس.

المانع الثاني: ما ذكره المحقّق العراقي(2) (رحمه الله) في المقام، بيانه: أنّ العلم الإجمالي هنا وإن لم يكن علماً بالتكليف الفعلي على كلّ تقدير، لكنّه فعليّ على


(1) راجع نهاية الدراية: ج 2 ص، 42 ـ 43.

(2) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 341 ـ 342.

242

تقدير، وموضوع لحكم العقل بالتنجيز على تقدير آخر، فيكون العلم علماً بما يقبل التنجيز على كلّ تقدير، فينجّز. والوجه في ذلك هو أنّ التكليف على تقدير كونه في الطرف الداخل حتماً في محلّ الابتلاء فهو فعليّ، وعلى تقدير كونه في الطرف المشكوك دخوله في محلّ الابتلاء فهو مشكوك الفعلية، لكنّ الشكّ في فعليّته نشأ من الشكّ في القدرة، بناءً على تفسير المحقق العراقي (رحمه الله) للخروج عن محلّ الابتلاء بعدم القدرة العرفية، واحتمال القدرة منجِّز.

هذا ما ذهب إليه المحقّق العراقي (رحمه الله)، ومن هنا لم يفصّل بين كون الشبهة مفهومية أو مصداقية، وقال بالتنجيز مطلقاً، لعدم اختصاص هذا التقريب بالشبهة الحكمية.

وبهذا البيان الذي ذكرناه ظهر عدم صحّة النقض الذي أورده الشيخ الكاظمي(رحمه الله) ، حيث يقول في حاشية تقريره(1): إنّ شيخنا الاُستاذ كان يبني على التنجيز؛ لكون الشكّ شكّاً فى القدرة، لكنّنا أوردنا عليه: بأنـّه لو تمّ ذلك للزم التنجيز حتى فى فرض القطع في بعض الأطراف بالخروج عن محلّ الابتلاء؛ إذ الملاك معلوم إجمالاً، والشكّ يكون في القدرة، حيث لا ندري أنّ الملاك هل هو ثابت في هذا الطرف، حتى نقدر عليه، أو فى ذاك الطرف، حتى لا نقدر عليه؟ فنعلم بالملاك ونشكّ في القدرة.

أقول: إنّ هذا قياس مع الفارق؛ لأنـّه ـ كما أورد عليه المحقق العراقي(2) (رحمه الله)ـ خلط بين فرض الشكّ في القدرة على شيء فيه الملاك والشكّ في كون الملاك فيما يعلم بالقدرة عليه، أو فيما يعلم بعدم القدرة عليه، وليس واحد من الشيئين مشكوك القدرة عليه، والفرض المنجّز باحتمال القدرة هو الأوّل، كما فيما نحن فيه، لا الثاني، كما في فرض القطع في بعض الأطراف بالخروج عن محلّ الابتلاء.

ولكن مع هذا لا يتمُّ ما ذهب إليه المحقّق العراقي (رحمه الله) من منجزيّة العلم الإجمالي؛ لدخول ذلك في باب الشكّ في القدرة، فإنّ فيه خلطاً بين الشكّ في القدرة على الامتثال والشكّ في القدرة على العصيان، فإنّ الذي يوجب التنجّز إنـّما هو احتمال القدرة على الامتثال، كما لو شكّ في قدرته على الغسل وعدمها، ومعنى تنجيزه أنـّه يوجب لزوم التصدّي لتحصيل الغسل إلى أن يغتسل أو يتبيّن له عدم


(1) في ج 4، ص 19.

(2) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 342.

243

القدرة على الغسل، فإذا وقع ذلك طرفاً للعلم الإجمالي، كما لو علم إجمالاً: إمـّا بوجوب الدعاء لرؤية الهلال، أو وجوب الغسل عليه، إلّا أنـّه يحتمل سقوط الخطاب بالغسل؛ لعدم القدرة مع فرض عدم دخل القدرة في الملاك، كان عليه الاحتياط بالدعاء والتصدّي للغسل، ولكنّ ما نحن فيه ليس من قبيل الشكّ في القدرة على الامتثال، وإنـّما هو من قبيل الشكّ في القدرة على العصيان، فإنّ موافقة التكليف بترك الشرب تحصل حتى مع فرض الخروج عن محلّ الابتلاء، وإنـّما الكلام في أنـّه هل يقدر على الشرب الذي هو مخالفة للتكليف أو لا؟ واحتمال القدرة على العصيان لا معنى لكونه منجِّزاً، كما كان احتمال القدرة على الامتثال منجّزاً، بمعنى لزوم التصدّي للامتثال ما لم ينكشف له عدم القدرة عليه، فهل يقال هنا مثلاً: إنـّه يلزم التصدّي للعصيان ما لم ينكشف له عدم القدرة عليه، أو يترتّب محذور المخالفة لو بنى على أنـّه غير قادر على العصيان، كما كان يترتّب ذلك لدى الشكّ في القدرة على الامتثال لو بنى على عدم القدرة على الامتثال.

نعم، لو كان الشكّ في القدرة على العصيان، بنحو يحتمل أنْ يلزم من تصدّيه لبعض مقدّمات العصيان والاتيان بها زوال قدرته على الامتثال، فاحتمال عدم قدرته على الامتثال على فرض الاتيان بتلك المقدّمة ينجّز عليه ترك تلك المقدّمة، كما لو شكّ في القدرة على قتل مؤمن، من باب الشكّ في أنـّه لو أطلق هذا الرصاص فهل يصيبه أو لا؟ فلا يجوز له الإطلاق؛ لاحتمال كون ذلك مفوّتاً للقدرة على الامتثال.

وقد تَحَصَّل من تمام ما ذكرناه: أنـّه بناءً على مبنى الأصحاب من كون الوجه في سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز بخروج بعض الأطراف هو عدم تعلّق التكليف به، يتّجه القول بعدم التنجيز عند احتمال خروجه عن محلّ الابتلاء، وبناءً على مبنانا: من كون الوجه في ذلك انصراف دليل الأصل عن ذاك الطرف بالارتكاز، يتّجه التفصيل في المقام بالنحو الذي مَضَى.

 

الخروج عن الابتلاء شرعاً:

الأمر الثالث: أنّ المحقّق النائيني (رحمه الله) ألحقَ بخروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء عادة خروجه عن محلّ الابتلاء شرعاً، ومثّل لذلك بما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإناءين، مع العلم تفصيلاً بغصبيّة أحدهما، فالمغصوب خارج عن محلّ

244

الابتلاء شرعاً، ويبقى الطرف الآخر مؤمّناً عليه بأصالةِ الطهارة(1) .

وهذا الكلام غير صحيح كما نبّه عليه المحقّق العراقي (رحمه الله)(2)؛ إذ لو فُرض التكليفان من سنخين، كما في هذا المثال فحرمة شرب النّجس تكليف مستقلّ، وضيق جديد، غير حرمة شرب المغصوب، وهو أمر مفهوم للعرف، وموجب لتعدّد العقاب لو ارتكبه، وهذا المقدار كاف في ارتفاع القبح والاستحالة، وقد علم هذا التكليف إجمالاً في أحد الطرفين، ولا مانع من منجّزية هذا العلم الإجمالي، ولا مانع من إجراء الأصل في نفسه عن حرمة اُخرى للشيء غير حرمته المعلومة، فيعارض الأصل النافي للحرمة في الطرف الآخر. ولو فرض التكليفان من سنخ واحد كما لو علم إجمالاً بنجاسة أحدهما، وعلم تفصيلاً بنجاسة أحدهما المعيّن، اتّجه جواز ارتكاب الطرف الآخر بملاك ما مضى من الانحلال حقيقة أو حكماً، وليس في المقام شيء زائد باعتبار الخروج عن محلّ الابتلاء شرعاً.

وما ذكرناه على مبنى القوم واضح، وأمـّا على مبنانا ـ من أنّ الوجه في انحلال العلم الإجمالي بخروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء هو انصراف دليل الأصل عن ذاك الطرف بالارتكاز، وجريانه في الطرف الآخر بلا معارض ـ فيمكن أنْ يقال في المقام: إنّ دليل الأصل منصرفٌ عن الإناء المغصوب بالارتكاز، فإنـّه وإن كان بحسب الدقّة يوجد هنا أيضاً تزاحم بين ملاك الترخيص وملاك الإلزام؛ لأنـّه إذا كان الإناء حراماً بحرمة اُخرى يوجد نحو اشتداد في الضيق، لكنّ العرف لا يقبل مثل هذا التزاحم، ويقول: إنّ المفروض شرعاً هو أن لا يشرب هذا الإناء على أيّ حال لمغصوبيّته، وأيّ معنى للتزاحم بين ملاك الإلزام وملاك أنّ العبد لو أراد أنْ يعصي حرمة الغصب، فليكن على الأقلّ مستريحاً من حرمة شرب النجس، ومرخّصاً فيه من هذه الناحية .

إلّا أنّ الصحيح أنّ العرف لا يرى دليل الأصل منصرفاً عن حرمة زائدة محتملة، فلو علم بغصبيّة شيء، وشكّ في نجاسته، تمسّك العرف في رفع حرمة شرب النجس بدليل الأصل، ولا يوجد ارتكاز على خلافه، وإذا شربه لا يعاقب إلّا بعقاب واحد وإن فرض وجود نكتة الارتكاز في المقام، والسّر في ذلك أنّ قاعدة


(1) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 255، وفوائد الاُصول: ج 4، ص 22.

(2) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 348.

245

(قبح العقاب بلا بيان) مركوزة في ذهن العرف في المولويّات العرفية، وهذا يوجب اُنس الذهن بكون هذه الحرمة المشكوكة مستحقّة للرفع بالأصل، ويوجب عدم الانصراف والالتفات إلى جهة التسهيل(1) .

 


(1) قد تقول: ليكن الأمر كذلك في مثال الخروج عن محلّ الابتلاء أيضاً، فاُنس الذهن لنكتة البراءة العقلية، وبكون الحرمة المشكوكة مستحقّة للرفع يوجب الالتفات إلى جهة التسهيل وعدم انصراف دليل التأمين.

والجواب: أنّ نكتة عدم التفات العرف إلى جهة التسهيل في مورد الخروج عن محلّ الابتلاء كانت عبارة عن ضئآلة مصلحة التسهيل إلى حدّ لا تُرى بعين العرف، ومركوزيّة البراءة العقليّة لا تجعل مصلحة التسهيل الضئيلة كبيرة ومرئية، كي ينتهي انصراف الدليل عن موردها. أمّا هنا فالتسهيل قويّ ومنظور بعين العرف، ونكتة الانصراف إنـّما هي أنّ العبد العاصي كأنـّما لا يستحقّ فرض التسهيل له على تقدير عصيانه، بأنْ يقال له: لو أردتَ أنْ تعصي، فلتكن مستريحاً من العقاب الثاني المحتمل، ولكن مركوزيّة قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) تجعل هذا التسهيل في نظر العرف أمراً مقبولاً ومناسباً، فيبطل بذلك الانصراف.

246

 

 

 

استصحاب التكليف بعد الموافقة الاحتماليّة:

 

التنبيه الحادي عشر: قد عرفت حتّى الآن قاعدة تنجيز العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة، ويمكن استبدال هذه القاعدة بأمر آخر يؤدّي دورها، وهو استصحاب بقاء التكليف بعد الموافقة الاحتمالية، فيثبت لزوم الموافقة القطعيّة، حتى إذا أنكرنا قاعدة تنجيز العلم الإجمالي للموافقة القطعيّة. وهذا لو تمّ يؤثّر في نطاق أوسع من نطاق تأثير تلك القاعدة؛ لأنّك عرفت أنّ العلم الإجمالي إذا وجد بعد سقوط التكليف في بعض الأطراف بامتثال اتّفاقي أو عصيان اتّفاقي أو نحو ذلك، لم تتمّ قاعدة منجّزيّته، ولكنّ الاستصحاب لو تَمَّ يجري في المقام أيضاً(1)، وقد مضى ذكر هذا الاستصحاب في بعض جزئيّاته، وهو في فرض طروّ الاضطرار إلى أحد الطرفين بعينه بعد التكليف وقبل العلم، حيث مرّت هناك شبهة التنجيز بهذا الاستصحاب، وقلنا هناك: إنـّه إن اُريد استصحاب واقع الحكم المعلوم بالإجمال، فهو استصحاب للفرد المردّد بين ما يقطع بزواله وما يقطع بعدم زواله، وهو غير جار، وإن اُريد استصحاب الجامع، فهو جامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبل التنجيز، فيثبت الجامع بين حكم المولى القابل للتنجيز وطيران الطير في الهواء مثلاً، ولا يمكن تنجيز مثل هذا الجامع.


(1) ومن ناحية اُخرى يكون تأثير هذا الاستصحاب أضيق نطاقاً من تأثير منجّزيّة العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة؛ لأنـّه لا يحرّم مخالفة بعض الأطراف في حين بقاء الطرف الآخر في محلّ الابتلاء، فمثلاً لو علمنا بحرمة أحد الإناءين، وكلاهما كانا داخلين في محلّ الابتلاء، وقلنا بعدم تنجيز العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعيّة، حلّ شرب أحدهما، ولا استصحاب في المقام، ولو كان، فلم يكن أحسن حالاً من العلم نفسه. نعم، يفيد هذا الاستصحاب لو تَمَّ بعد خروج أحد الطرفين عن المورديّة بعصيان، أو زوال موضوع، أو بالامتثال، وهذا الثالث ـ وهو سقوط أحد الطرفين بالامتثال ـ يغلب وقوعه في الشبهات الوجوبية، كما لو علم إجمالاً بوجوب الظهر أو الجمعة، فصلّى الجمعة، وكأنـّه لهذا نرى أنّ المحقق العراقي (رحمه الله) إنـّما ذكر شبهة الاستصحاب في الشبهات الوجوبية، ولم يذكرها في الشبهات التحريمية.

247

ونقول هنا: إنّ للمحقّق العراقي (قدس سره) محاولة فنّيّة لتصحيح هذا الاستصحاب(1)، وذلك أنـّه (رحمه الله) لا يقصد بهذا الاستصحاب مجرّد إثبات الجامع، كي يرد عيله أنّ الجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبل التنجيز لا يقبل بحدّه التنجيز، بل يقصد إثبات الوجوب في خصوص الطرف الذي لم يسقط بمثل الامتثال، أو العصيان، أو غيرهما، فلا يرد عليه هذا الإشكال، كما أنـّه ليس مقصوده إثبات هذا الفرد باستصحاب الجامع من باب إثبات أحد المتلازمين باستصحاب الآخر؛ لتلازم الفرد مع الجامع في الواقع، بعد القطع بعدم الفرد الآخر، كي يرد عليه إشكال المثبتيّة.

ونوضّح ذلك بعد استذكار شيء من بحث الاستصحاب، وهو: أنّ الشيء الذي يلازم واقع المستصحب لا يثبت بالاستصحاب، لعدم حُجّية مثبتات الاُصول، وأمـّا إذا كان الشيء ملازماً للثبوت الظاهري للمستصحب، فهو يثبت بالاستصحاب؛ إذ هو في الحقيقة من لوازم مفاد دليل الاستصحاب الذي هو أمارة، ولوازم الأمارة حُجّة.

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ ثبوت الفرد هنا ملازم للثبوت الظاهري للجامع، فإنّ الحكم الظاهري بالصلاة مثلاً بعد أنْ صَلّى الجمعة، ثم علم بوجوب الظهر أو الجمعة، إمـّا يتمثّل في الحكم الظاهري بالجمعة، أو في الحكم الظاهري بالظهر، ويستحيل أنْ يوجد الجامع بين الحكم بالظهر والحكم بالجمعة لا في ضمن وجود الفرد.

وهذا الكلام يشبه ما نقوله في بحث الماء النجس المتمّم كراً بطاهر، من أنّ استصحاب حالة كل منهما يعارض استصحاب الآخر؛ لعدم تعقّل العرف لتحمّل ماء واحد حكمين، سواء كانا واقعيّين أو ظاهريّين، فتثبت باستصحاب نجاسة نصفه نجاسة الباقي، وباستصحاب طهارة نصفه طهارة الباقي، فيتعارضان، فلو انتهينا إلى أصالة الطهارة في النصف الذي كان طاهراً، ثبتت طهارة الجميع، وإنْ قلنا بعدم جريانها في النصف الآخر، بناءً على اختصاص أصالة الطهارة بما لا يكون مسبوقاً بالنجاسة.

ولكنّ التحقيق: أنّ ما نحن فيه ليس من قبيل مثال الماء النجس المتمّم كراً بطاهر، ولا يثبت بالاستصحاب وجود الفرد غير المأتّي به؛ وذلك لما يرد عليه: ـ


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 368 ـ 369.

248

أوّلاً(1): أنّ هذا مبنيّ على القول بجعل الحكم المماثل، حيث يقال بناء عليه: إنّ المقطوع به هو الجامع بين وجوب الظهر ووجوب الجمعة، وباستصحاب هذا الجامع يجب أنْ يثبت حكم ظاهري مماثل، وهذا الحكم الظاهري لا يكون متعلّقاً بالجامع بين الظهر والجمعة، لأنّ وجوب الجامع بين الظهر والجمعة ليس جامعاً بين وجوب الظهر ووجوب الجمعة، وليس فرداً لهذا الجامع حتى يقال: إنّ الجامع موجود في ضمنه، فلا يكون مماثلاً للمقطوع به، فيجب أنْ يكون متعلّقاً بالظهر بالخصوص، أو بالجمعة بالخصوص، ولا يعقل أنْ يوجد الجامع بين الحكم الظاهري بالظهر والحكم الظاهري بالجمعة، لا في ضمن أحدهما؛ إذ الجامع يستحيل أنْ يوجد مستقلاّ عن الأفراد، فتعيّن أنْ يوجد الجامع في ضمن أحد الفردين، والمفروض القطع بعدم وجوب الجمعة لأنـّه أتى بها، فتعيّن وجوب الظهر.

وهذا البيان: كما ترى ـ لا يتأتّى بناءً على ما هو المختار من أنّ الاستصحاب مهما كان لسان دليله، من جعل الحكم المماثل، أو جعل العلم واليقين، أو غير ذلك، فروحه عبارة عن الاهتمام بالواقع على تقدير وجوده، فإنـّه من المعلوم أنـّه يعقل أنْ يكون الاهتمام بالواقع بمقدار الجامع(2) لا أكثر، وهذا لا يستلزم وجوب صلاة الظهر، كما لا يخفى.

وثانياً: أنّ هذا الكلام لا يتمُّ حتّى بناءً على جعل الحكم المماثل، وذلك لأنـّه


(1) وقد تفطّن المحقّق العراقي (رحمه الله) لهذا الإشكال وذكره في نهاية الأفكار، ولكن وفق لغته ومتبنّياته الاُصولية، لا وفق لغة اُستاذنا الشهيد ومتبنّياته، فذكر: أنّ إجراء هذا الاستصحاب مبنيّ على كون مفاد الاستصحاب جعل المماثل، أمّا بناء على ما هو المختار ـ يعني مختاره ـ من كون نتيجة الاستصحاب عبارة عن مُجرّد الأمر بالتعامل مع المشكوك معاملة المتيقّن في لزوم الجري العملي على وفقه، من دون جعل مماثل، فمفاد الاستصحاب في المقام إنـّما هو لزوم الجري العملي وفق الجامع المعلوم، لا وفق خصوص الفرد الذي لم يأت به، فإثبات خصوص ذاك الفرد به تَمسّك بالأصل المثبت، ولا يبقى إلّا إثبات لزوم العمل بالجامع المعلوم، وهذا لغو، فيسقط الاستصحاب. وذكر في توضيح لغويّته: أنّ الفرد غير المأتي به تكون مصداقيّته للجامع مشكوكة، وهذا جريٌ منه على مبناه في معنى الجامع المعلوم بالإجمال، حيث لا يفسّر الجامع بالمعنى المنطبق على كلّ من الفردين، بل يفسّره بمعنى صورة منطبقة على الواقع فحسب، مع وجود إجمال وغبش في تلك الصورة.

(2) وبما أنّ هذا الجامع جامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبل التنجيز، فيلغو استصحابه.

249

إنـّما يعقل إثبات شيء زائد على المستصحب بالاستصحاب لملازمته للوجود الظاهري للمستصحب إذا لم يكن ضمّ ذلك الشيء الزائد إلى المستصحب موجباً لخروجه عن عموم دليل الاستصحاب، ومباينته للمدلول المطابقي لدليل الاستصحاب، وذلك نظير استصحاب الطهارة أو النجاسة في مثال الماء المتمّم كرّاً، حيث إنّ إثبات طهارة النصف الآخر أو نجاسته لا يجعل ما يثبت بالاستصحاب أمراً مبايناً للمدلول المطابقي لدليل الاستصحاب، غاية الأمر أنـّه يثبت المدلول المطابقي له مع زيادة.

وأمـّا فيما نحن فيه فليس الأمر كذلك. وتوضيح ذلك: أنّ الظاهر من دليل الاستصحاب هو الحكم ظاهراً بواقع ما كان، لكن في مرحلة البقاء، بحيث لا ينقص عن البقاء الحقيقي القطعي إلّا في كون البقاء مشكوكاً وتعبّدياً، فلو اُبدل التعبّد بالقطع الوجداني لثبت بقاء واقع ما كان حدوثاً، ومن المعلوم أنّ وجوب صلاة الظهر فيما نحن فيه محتمل المباينة لواقع ما كان؛ إذ على تقدير أنّ ما كان حدوثاً هو وجوب الجمعة ليس وجوب الظهر عبارة عن واقع ما كان وزيادة، كما في مثال الماء النجس المتمم كرّاً بطاهر، بل هو مباين لما كان، ولو اُبدل التعبّد به بالقطع، لما ثبت بقاءً واقع ما كان حدوثاً، فتحصّل: أنّ الاستصحاب فيما نحن فيه لا مورد له.