250

 

 

 

ملاقي بعض الأطراف

 

التنبيه الثاني عشر: في ملاقي بعض أطراف ما علم إجمالاً بنجاسته والمقدار المفروض في هذه المسألة علمان إجماليان: ـ

الأوّل: العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو مايقابله.

والثاني: العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو ما يقابل الملاقى.

وقد يفترض علم ثالث، وهو فيما إذا وجد لكلّ من الطرفين ملاق، فيعلم أيضاً بنجاسة أحد الملاقيين، وعندئذ لا إشكال في تنجّز وجوب الاجتناب عن الملاقيين، ولو بسبب العلم الثالث؛ إذ لا تأتي فيه أيّ شبهة تأتي في تنجيز العلمين الأوّلين للملاقي، وإنـّما وقع الكلام في تنجّز حرمة الملاقي وعدمه في غير هذا الفرض، والكلام هنا يقع في مقامين: أحدهما: في تنجّز حرمة الملاقي بالعلم الأوّل بالنجاسة وعدمه، والثاني: في تنجّزها بالعلم الثاني بالنجاسة وعدمه.

 

العلم الإجمالي في الملاقى

أمـّا المقام الأوّل: فقد ذهب الأصحاب (قدّس الله أسرارهم) إلى عدم تنجّز حرمة الملاقي بمجرّد العلم الأوّل، فالعلم بنجاسة الملاقى أو مايقابله لا يمنع عن شرب الملاقي أو التوضّوء به، ونحو ذلك، وذلك تطبيقاً لقانون بيّنوه في مقام ذكر ضابط ما يتنجّز من الاححكام بالعلم الإجمالي بشيء.

وحاصل هذا القانون هو: أنـّه متى ما كان الشيء المعلوم إجمالاً تمام الموضوع لذلك الحكم ـ كما في حرمة الشرب المترتّبة على الخمرية المعلومة إجمالاً بين مائعين ـ كان العلم بذاك الموضوع مقتضياً لتنجيز الحكم، ومتى ما لم يكن الشيء المعلوم بالإجمال تمام الموضوع لذلك الحكم، بل كان جزء الموضوع له، فالعلم به لا يقتضي تنجيز الحكم، فلو أنّ شخصاً شرب أحد المائعين اللذين علمنا بخمرية أحدهما لم يتنجّز علينا حكم ايقاع الحدّ عليه، لأنّ الخمرية المعلومة

251

بالإجمال ليست تمام الموضوع لوجوب ايقاع الحدّ، بل يكون موضوعه مركّباً من خمرية الشيء وشربه، ففي هذا المثال ـ أعني مثال العلم بخمرية أحد المائعين ـ يكون العلم الإجمالي منجّزاً لبعض أحكام متعلّقه، كحرمة الشرب، وغير منجّز لبعض أحكامه الاُخرى كوجوب إجراء الحدّ؛ لأنّ متعلّقه كان تمام الموضوع لبعض تلك الاحكام، وكان جزء الموضوع للبعض الآخر ولو كان جزء الموضوع لتمام أحكامه لما تنجّز شيء منها.

ففي ما نحن فيه لو فرض أنّ المعلوم إجمالاً نجاسته كان ماءً مثلاً، فقد نجّز هذا العلم بعض أحكامه، كحرمة شربه أو التوضّوء به؛ لأنّ نجاسته تمام الموضوع لذلك، ولكن لا ينجّز هذا العلم حرمة الملاقي، لأنّ نجاسة المعلوم ليست تمام الموضوع لهذه الحرمة، بل موضوعها مركّب من النجاسة والملاقاة، والعلم الإجمالي قد تعلّق بالجزء الأوّل فحسب، فقد حصل هنا التبعيض في أحكام المعلوم بالإجمال، فتنجّز بعضها ولم يتنجّز البعض الآخر، كما إنـّه قد لا يتنجّز بهذا العلم شيء من الأحكام أصلاً، كما لو فرض متعلّق العلم الإجمالي بالنجاسة عبارة عن أحد الدرهمين، فهذا العلم لا ينجّز شيئاً من الحرمات، لأنّ معلومه ليس إلّا جزء الموضوع لأحكامه، وليس موضوعاً تامّاً لحكم من الأحكام؛ إذ ليس الدرهم مأكولاً أو مشروباً أو ملبوساً في الصلاة. نعم إنْ لاقى لباسٌ الدرهمَ النجسَ برطوبة، حرمت الصلاة فيه، وإن لاقاه شيءٌ مأكولٌ أو مشروب حرم أكله أو شربه، ونجاسة الدرهم النجس لم تكن إلّا جزء الموضوع لهذه الحرمات، وكان الجزء الآخر عبارة عن الملاقاة.

وهكذا الحال لو فرضنا أنّ المعلوم بالإجمال في أحد الطرفين كان تمام الموضوع لحكم، ولكن في الطرف الآخر لم يكن كذلك، فمثل هذا العلم الإجمالي لا أثر له؛ لأنـّه لم يثبت العلم بشيء يكون تمام الموضوع للحكم، فلو كان أحد الطرفين المعلوم إجمالاً نجاسة أحدِهما ماءً، والآخر درهماً، حلّ شرب الماء أو التوضّوء به، ولم يتنجّز علينا أيّ حكم من الأحكام، إذ لم يحصل العلم بحكم، ومن هنا يحكم في الماءين المسبوقين بالكرّيّة، إذا نقص أحدهما غير المعيّن عن الكرّ، ثم لاقى أحدُهما النجاسة بطهارة ذلك الماء بحكم استصحاب الكرّيّة، من دون أن يكون هذا الاستصحاب معارضاً باستصحاب كرّيّة الآخر، إذ لا أثر فعلي لكرّيّة الآخر، وليس العلم بعدم كرية أحدهما علماً بالتكليف بالفعل.

252

أقول: إنّ القانون الذي ذكروه في المقام ـ من أنّ تنجيز العلم بشيء للحكم المتعلّق به مشروطاً بكونه تمام الموضوع له ـ في غاية المتانة، إلّا أنّ هنا اشتباهاً عامّاً في تطبيقه في كثير من الموارد، نشأ من الخلط بين الحرمة التكليفيّة والحرمة الوضعيّة، وسوقهما مساقاً واحداً. وتوضيح ذلك: أنّ هناك فرقاً بين الحرمة التكليفيّة المتعلّقة بالماء النجس ـ وهي حرمة الشرب ـ والحرمة الوضعيّة المتعلّقة به ـ وهي حرمة التوضّوء به مثلاً ـ فالحرمة الاُولى ليست فعليّة قبل وجود الماء النجس، سواء قدر العبد على إيجاده أو لم يقدر، فإن لم يقدر فمن المستحيل ثبوتاً فعليّة حرمة شرب الماء النجس عليه؛ لخروجه عن تحت القدرة، وإن قدر على ذلك، فالمانع الثبوتي وإن كان مرتفعاً عندئذ، لكن ظاهر دليل حرمة شرب النجس هو كون الحرمة مشروطة بوجود النجس خارجاً، فحرمة الشرب غير فعليّة قبل وجود الماء النجس(1) . وأمـّا حرمة التوضّوء به، وكذا حرمة لبس اللباس النجس في الصلاة،


(1) لعلّ هذا الكلام نتج من قياس مثل (لا تشرب النجس) بمثل (أكرم العالم)، فكما يقال في (أكرم العالم): إنّ الحكم ليس فعليّاً قبل وجود موضوعه؛ ولذا لو لم يوجد عالم لم يجب على المكلّف أنْ يوجد العالم كي يكرمه، كذلك يقال في، (لا تشرب النجس): ليس الحكم فعليّاً قبل وجود موضوعه.

ولكنّنا نرى أنّ الفهم العرفي يفرّق بين باب الأوامر وباب النواهي، ففي باب الأوامر يحمل عرفاً ـ في الأعم الأغلب ـ متعلّق المتعلّق على أنّ الحكم معلّق عليه، لا على كونه قيداً للمتعلّق، كي يجب إيجاده مقدّمة لإيجاد المتعلّق، ولعلّ السبب في ذلك أنّ الغالب في الأوامر العرفية اختصاص الملاك بفرض وجود متعلّق المتعلّق، فلو قال المولى العرفي مثلاً: «أكرم الضيف»، يكون الملاك في الإكرام إذا وجد الضيف، فلا يطلب استضياف أحد مقدمةً لإكرامه. أمّا في باب النواهي فالأمر على العكس من ذلك تماماً، أي: أنّ الملاك في النهي ـ الذي هو المفسدة في الفعل ـ غالباً يكون ثابتاً حتى لدى عدم وجود متعلّق المتعلّق، فالسمّ مثلاً ـ الذي فرضنا أنّ المولى العرفي نهى عن شربه، لما فيه من الضرر ـ لا يختصّ اتصافه بالضرر بفرض وجوده، ولذا ترى أنّ العقلاء يبغضون شرب السمّ، سواءً كان السمّ موجوداً، أو غير موجود.

ولا أقصد بهذا الكلام استحالة عدم فعلية الحكم في باب النواهي قبل فعليّة الموضوع، فإنـّه أولاً: قد يتّفق اختصاص الملاك بفرض وجود الموضوع، كما لو فرضنا أنّ ملاك الحكم كان في الجامع بين عدم الموضوع وترك ارتكابه، فلدى عدم الموضوع لا يوجد ملاك لحرمة الارتكاب؛ لأنّ المولى مرتو بتحقق الفرد الآخر من فردي الموضوع، فلا يطلب الفرد الآخر.

253


وثانياً: حتّى لو كان الملاك في خصوص ترك الارتكاب، فبما أنّ ترك الارتكاب حاصل قهراً لدى عدم الموضوع، فقد لا يشغل المولى عهدة العبد بالترك إلّا معلّقاً على تحقّق الموضوع. ولكنّني أقصد أنّ النكتة التي جعلت الأوامر ظاهرة في التعليق على تحقّق الموضوع غير موجودة في باب النواهي، ومقتضى الإطلاق عدم التعليق.

نعم، رغم كلّ هذا نلتزم بأنّ الحكم المترتّب على الملاقي لأحد الطرفين غير منجّز بالعلم الأوّل، وهو العلم بنجاسة الملاقى أو الطرف الآخر، وذلك لأنّ حرمة شرب الملاقي مثلاً ليست فعلية قبل تحقق الملاقاة. وما قلناه من أنّ حرمة شرب النجس فعلية قبل تحقق النجس وإن كان صحيحاً، ولكن هذا لا يمنع عن عدم فعليّة حرمة شرب الملاقي. وتوضيح ذلك: أنـّنا لا نقصد بعدم فعلية حرمة شرب الملاقي الحرمة الثابتة على عنوان شرب ملاقى النجس، وإنـّما نقصد بذلك حرمة شرب عين الملاقي وواقِعِه. ومن الواضح أنّ هذه العين قبل الملاقاة لا تكون حرمتها فعلية، أو قل: لا تكون طرفاً للحرمة، وإنـّما تصبح حرمتها فعلية، أو تصبح طرفاً للحرمة بالملاقاة، أما عنوان ملاقي النجس فليس المفروض أنْ يكون هو مصبّ بحثنا في المقام، لأنّ الحرمة لم تثبت على عنوان ملاقي النجس، وإنـّما ثبتت على عنوان النجس، فالحرام إنـّما هو عنوان شرب النجس، لا عنوان شرب ملاقي النجس، ولو كان ملاقي النجس غير نجس ـ فرضاً ـ لما حرم شربه، وعنوان النجس إنـّما يفنى في مصداقه، وهو واقع الملاقي وعينه، لا في عنوان آخر وهو عنوان الملاقى؛ إذ لا فناء للمفاهيم بعضها في بعض، وإنـّما الفناء ثابت للمفهوم في المصداق، بمعنى أنّ المفهوم والعنوان حينما ينظر إليه بنظر الحمل الأوّلي يرى أنـّه هو المصداق الواقع. ومن الواضح: أنّ حرمة مصداق الملاقي وواقعه إنـّما تكون فعليّة بعد حصول الملاقاة، أو قل: إنّ مصداق الملاقي وواقعه لا يكون طرفاً للحرمة قبل الملاقاة.

ومن هنا يتبيّن أنّ الأحكام الوضعيّة لملاقي أحد الطرفين أيضاً ليست فعلية قبل تحقق الملاقاة، وأنّها لا تتنجّز بالعلم الأوّل، فصحيح أنّ اشتراط الصلاة بطهارة الثوب أو بعدم نجاسته فعليّة قبل الملاقاة، ولكن كلامنا ليس في إجراء البراءة عن حرمة الصلاة في الثوب النجس، إذ لا شكّ في هذه الحرمة، ولا في إجراء البراءة عن حرمة الصلاة في عنوان ملاقي هذا الطرف، إذ لا حرمة بهذا العنوان، وليس عنوان النجس فانياً في عنوان ملاقي النجس، وإنـّما كلامنا في إجراء البراءة عن حرمة الصلاة في واقع ملاقي الطرف الذي لو كان نجساً، كان عنوان النجس فانياً فيه، ومن الواضح أنّ حرمة الصلاة فيه، أو قل: مانعيّته عن صحّة الصلاة معلّقة على تحقق الملاقاة، فليس الحكم الوضعي فعلياً بلحاظ قبل الملاقاة، أو قل: ليس هو طرفاً للحكم الوضعي قبل الملاقاة.

نعم، لو حصلت الملاقاة قبل خروج الطرف الآخر عن محلّ الابتلاء تنجّز حكم الملاقي

254

فهي أمر منتزع من تضيّق دائرة الواجب بعدم كونه في اللباس النجس، أو بكون الوضوء بالماء الطاهر، أو عدم كونه بالماء النجس، ومن المعلوم أنّ وجوب الصلاة في اللباس الطاهر مثلاً، أو وجوبها بالتوضّوء الذي لا يحصل إلّا بالماء الطاهر، فعليّ سواء وجد الثوب النجس أو لا، فوجود الماء النجس ليس شرطاً للحرمة، كما كان كذلك في الحرمة التكليفيّة، وإنـّما هو شرط للحرام، وإذا كان الأمر كذلك، فالعلم الإجمالي بنجاسة أحد شيئين علم بموضوع حرمة الصلاة في ملاقيه الفعلية، أو حرمة الوضوء بملاقيه الفعلية، فهو علم بتكليف فعليّ، فإذا علم إجمالاً بنجاسة أحد الماءين فهذا العلم الإجمالي كما ينجّز حرمة شرب كلّ واحد منهما، وحرمة الوضوء بكلّ واحد منهما، كذلك ينجّز حرمة الوضوء بملاقي أحدهما، أو الصلاة فيه قبل حصول الملاقاة. والعلم الإجمالي بنجاسة أحد الدرهمين ينجّز حرمة الوضوء بملاقي أحدهما، أو الصلاة فيه قبل حصول الملاقاة، وكذلك العلم الإجمالي بنقصان أحد الماءين عن الكرّ علمٌ بحرمة الوضوء بالفعل بما نقص عن الكرّ إذا لاقى النجاسة، فتنجّز تلك الحرمة قبل حصول الملاقاة، وهذا التنجّز للحرمة الوضعيّة يمنع عن إجراء البراءة العقليّة، أو قل: هذا العلم الإجمالي يرفع موضوع قاعدة (قبح العقاب بلا بيان)، لو آمـنّا بتلك القاعدة، وكانت الحرمة الوضعيّة من باب مانعيّة النجاسة حتّى تكون انحلاليّة، ومجرىً للبراءة في نفسها، لا من باب شرطيّة الطهارة.

ثمّ لو قلنا: إنّ العلم الإجمالي علّة تامّة للتنجيز فقد تمّ التنجيز بمجرّد العلم بنجاسة أحد الشيئين لحرمة الوضوء بملاقي أحدهما أو الصلاة فيه، وأمـّا إنْ قلنا بالاقتضاء فبعد ما اتّضح لك من وجود المقتضي، يجب التفتيش عن وجود المانع، وهو الأصل الشرعي وعدمه، وعندئذ نقول: إنّ الاُصول الشرعية في المقام على قسمين: ـ

أحدهما: ما يكون مجراه هو الملاقى، فيؤمّن عن الملاقي أيضاً، وهو أصالة طهارة الملاقى، وهذا الأصل ساقط بمعارضته لأصالة الطهارة في الطرف الآخر، ولو


بالعلم الإجمالي الثاني، وهو العلم بنجاسة الملاقي، أو طرف الملاقى، ولو حصلت الملاقاة بعد خروج الطرف الآخر عن محلّ الابتلاء، ولكنّنا كنّا نعلم قبل خروجه عن محلّ الابتلاء بأنـّه ستحصل هذه الملاقاة للطرف الأوّل تنجّز حكم الملاقي أيضاً بالعلم الثاني، رغم عدم فعليّة الحكم في الزمان الأوّل، وذلك على أساس الايمان بمنجّزية العلم الإجمالي في التدريجيات.

255

فرض الطرف الآخر من قبيل الدرهم؛ لما عرفت من أنـّه يوجد بالفعل أثر لنجاسة ذاك الدرهم، وهو حرمة الوضوء بملاقيه أو الصلاة فيه.

ومن هنا يظهر أيضاً تعارض استصحابي الكرّيّة في مثال العلم بنقصان أحدهما عن الكرّيّة وتساقطهما.

والثاني: ما يكون مجراه هو الملاقي مباشرة، وهو أصالة طهارة الملاقي، وهذا الأصل أيضاً سقط بمجرّد العلم الأوّل قبل الملاقاة بالمعارضة، لأصالة طهارة ملاقي الآخر(1)؛ لما عرفت من فعليّة الحرمة الوضعيّة لأحد المتلاقيين قبل الملاقاة.

ومن هنا ظهر أنـّه يحرم الوضوء بالملاقي والصلاة فيه، حتّى إذا كانت الملاقاة بعد خروج الطرف الآخر عن محلّ الابتلاء، فلم يتشكّل العلم الإجمالي الثاني الذي سوف نوضّح إن شاء الله تنجيزه، وذلك لأنّ هذا الحكم تنجّز بمجرّد حصول العلم الإجمالي الأوّل.

نعم، إذا فرض الملاقي ماءً مضافاً، فلم يكن له حكم وضعي، فتكلّمنا في حكم شربه أو فرض ماءً مطلقاً، لكنّنا نظرنا إلى حكم شربه لا حكم التوضّوء به، لم تتنجز حرمة شربه بمجرّد العلم الإجمالي الأوّل بالنجاسة، فلو لاقى أحد الإناءين بعد خروج الآخر عن محلّ الابتلاء جاز شربه، لعدم تنجّز حرمة شربه، لا بالعلم الأوّل؛ لأنـّه لم يكن علماً بتمام موضوع الحرمة، ولا بالعلم الثاني؛ لأنـّه علم إجمالي مردّد بين الداخل فى محلّ الابتلاء والخارج عنه بتلف ونحوه قبل العلم(2)، فتجري


(1) إلّا إذا كانت الملاقاة غير ممكنة، وغير مقدورٌ للمكلف إيجادها، أو كان إيجادها خارجاً عن محلّ الابتلاء، وهي لا توجد بطبعها، أو كان ما يترقّب أنْ يلاقيه خارجاً عن محلّ الابتلاء، ففي هذه الفروض لا يكون للعلم الإجمالي أثر، وذلك لخروج الحكم الشرعي في أحد طرفيه عن محلّ الابتلاء.

هذا. والتحقيق: ما وضّحناه في التعليق السابق من أنّ الحرمة الوضعيّة لواقع الملاقي ليست فعلية قبل الملاقاة، والحرمة الوضعيّة لعنوان الملاقي غير ثابتة أصلاً، لأنّ الحرام إنـّما هو الصلاة في النجس، لا الصلاة في ملاقي النجس، ولو كان ملاقي النجس غير نجس ـ فرضاً ـ لما حرمت الصلاة فيه، والحرمة الوضعيّة لعنوان الصلاة في النجس ثابتة، لكن هذا العنوان لا يفنى في عنوان الصلاة في ملاقي النجس.

(2) ولا بالعلم الإجمالي بالحرمة التكليفيّة للملاقي الفعلي، أو الحرمة الوضعيّة

256

أصالة الطهارة في الملاقي من دون معارض.

نعم؛ لو لاقى أحدَ الإناءين قبل خروج الإناء الآخر عن محلّ الابتلاء تشكّل العلم الإجمالي الثاني، ولم تجر أصالة الطهارة في هذا الملاقي، ولا أقول ذلك لأجل معارضتها لأصالة الطهارة في طرف الملاقى، فإنّ هذا ما سنبحثه في المقام الثاني، ومفروضنا الآن غضّ النظر عنه، بل لأجل أنـّه لا أقلّ من معارضته لأصالة الطهارة في ملاقي الآخر، لنفي حرمته الوضعيّة الفعلية قبل الملاقاة.

ولو علمنا إجمالاً بنجاسة أحد شيئين، وكان أحدهما على تقدير نجاسته لا ينجّس ما يلاقيه؛ لكونه متنجّساً بالواسطة، وغير مائع، وكان الثاني على تقدير نجاسته ينجّس ما يلاقيه. فإن فرض أنّ الأوّل ليس مأكولاً، ولا مشروباً، ولا ملبوساً في الصلاة، فلا معارض لأصالة الطهارة في الثاني، وإنْ فرض أنّ الأوّل كان مأكولاً، أو مشروباً، أو ملبوساً في الصلاة، فأصالة الطهارة في الثاني ساقطة بالمعارضة؛ لأصالة الطهارة في الأوّل، فإنّ أصالة الطهارة في الأوّل تثبت عدم حرمته، وفي الثاني تثبت عدم حرمته أو عدم حرمة ما يلاقيه وضعاً، لكن يبقى الكلام في أصالة الطهارة في ملاقي الثاني.

وأمـّا ملاقي الأوّل فالمفروض عدم نجاسته بالملاقاة. وهنا لا يأتي ما ذكرناه من أنّ أصالة طهارة ملاقي أحد الطرفين تعارض أصالة طهارة ملاقي الآخر ولو قبل الملاقاة؛ لأنّ المفروض أنّ ملاقي الآخر لا ينفعل بالملاقاة، فهذا الأصل لا معارض له إلّا أصالة الطهارة في نفس الطرف الآخر، فهذا يبتني على ما سيأتي في المقام الثاني، من أنّ الأصل في الملاقي هل يقع طرفاً للمعارضة للأصل في طرف الملاقى أو لا؟

وإلى هنا قد عرفنا أنّ أصالة الطهارة ـ بلحاظ الأحكام الوضعيّة في الملاقي قبل فعلية الملاقاة ـ تصلح للمعارضة لأصالة الطهارة فيما لاقى الآخر بالفعل، وكذلك الأصلان في الملاقيين للطرفين يتعارضان قبل فعلية الملاقاة.

وهنا يأتي إشكال: وهو أنّ فعليّة جريان أصالة الطهارة مشروطة بوجود شيء بالفعل شكّ في نجساته، فكيف يمكن فعليّة جريان الأصل في الملاقي قبل فعليّة


للملاقي الفرضي للطرف المنعدم؛ لأنّ تلك الحرمة الوضعيّة وإن كانت فعلية حسب نظر اُستاذنا الشهيد (رحمه الله)؛ لأنـّها تعود إلى تحديد دائرة واجب فعلي، لكنّها خارجة عن محلّ الابتلاء، فلا يجري الأصل بشأنها.

257

الملاقاة، في حين أنـّه لا يوجد شكّ فعلي في نجاسة أمر موجود خارجاً؟ نعم، لو حصلت الملاقاة في أحد الطرفين، وعلمنا أنّها سوف تحصل فى الطرف الآخر، فبالإمكان القول بأنّ الأصل الاستقبالي في الملاقي الاستقبالي يعارض الأصل الحالي في الملاقي الحالي، كما هو الحال في تعارض الأصلين في موارد العلم الإجمالي التدريجي، ولكن إذا افترضنا أنـّنا لا نعلم بأنّ الملاقاة الاستقبالية ستتحقّق، فكيف نوقع المعارضة بين أصل سيصبح فعليّاً لو تحقق موضوعه والأصل الجاري بالفعل؟ أفليس هذا من قبيل ما لو علمنا إجمالاً: بإنـّه أمـّا أنْ تجب علينا الصلاة بالفعل، أو يجب علينا التصدّق لو نزل المطر، ونحن شاكّون في أنـّه هل سينزل المطر أو لا؟ ومن الواضح في هذا المثال أنّ أصالة البراءة عن الصلاة لا تعارض بأصالة البراءة عن التصدّق التي ستجري لو نزل المطر.

والتحقيق: أنّ قياس ما نحن فيه بمثال الصلاة والتصدّق على تقدير نزول المطر قياس مع الفارق؛ إذ في هذا المثال لا يوجد لدينا علم بتكليف فعليّ؛ لأنـّه من المحتمل أنْ لا ينزل المطر، وأن يكون الصحيح من طرفي العلم الإجمالي هو وجوب التصدّق على تقدير نزول المطر، لا وجوب الصلاة فعلاً، وعلى هذا الفرض لا تكليف فعلي أصلاً. وأمـّا فيما نحن فيه، فقد وضّحنا أنّ الحرمة الوضعيّة فعليّة قبل الملاقاة، فهو عالم بثبوت التكليف بالفعل قبل الملاقاة، وفعلية جريان أصل الطهارة في الشيء وإنْ كانت مشروطة بحصول الملاقاة، لكنّ فرض جريان أصل الطهارة على تقدير الملاقاة في ظرفه يُثبت الترخيص بالفعل، ونفي الحرمة الوضعيّة المعلومة من الآن، لأنّ الحرمة الوضعيّة الآن للوضوء بالماء ليس موضوعها نجاسة ذلك الماء في هذا الآن، ولو طهر عند الوضوء، وإنـّما موضوعها نجاسته في ظرفه(1)، فإن فرض أنـّه في ظرفه وعلى تقدير الملاقاة يجري أصل الطهارة، فالحرمة الوضعيّة منتفية فعلاً فيقع التعارض بين الأصلين والتساقط رغم عدم فعليّة أحدهما أو كليهما، وعدم الجزم بالفعلية الاستقبالية.

هذا تمام الكلام فيما هو المختار بالنسبة لمنجّزيّة العلم الإجمالي الأوّل


(1) قد عرفت فيما مضى: أنّ الحرمة الوضعيّة بالقياس إلى واقع الملاقي ليست فعلية قبل الملاقاة، وبالقياس إلى عنوان الملاقي لا توجد لنا حرمة وضعيّة، وبالقياس إلى عنوان الماء النجس لا شكّ لنا في حرمته، ولا بحث لنا عنه، ولا يفنى هذا العنوان في عنوان الملاقي.

258

بالنجاسة، وقد عرفت التفصيل في ذلك بين الحرمة التكليفيّة والوضعيّة بالبيان الذي مضى.

ويظهر أثر تنجيز الحرمة الوضعيّة بالعلم الأوّل مع أنـّنا نقول بمنجّزيّة العلم الثاني على أيّ حال كما ستعرف إن شاء الله، فيما إذا لاقى الثوب أو الماء أحد الطرفين بعد خروج الطرف الآخر عن محلّ الابتلاء بانعدامه أو تطهيره أو غير ذلك كما مرّ.

إلّا أنّ الأصحاب (قدّس الله أسرارهم) لم يفرّقوا في المقام بين الحرمة التكليفيّة والوضعيّة(1) ولم يفرّعوا منجّزيّة العلم الإجمالي بالنجاسة لحرمة الملاقي وعدمها


(1) قد يقال: إنّ التفصيل بين الحرمة التكليفيّة والحرمة الوضعيّة ـ بالتقريب الذي عرفت ـ إنْ كان له مجال بحسب التدقيق العقلي، فلا مجال له بالنظر العرفي، فإنّ الالتفات إلى أنّ الحرمة الوضعيّة أمر منتزع من تحديد دائرة الواجب بالوجوب التكليفي الفعلي إنـّما هو التفات عقليّ دقّيّ، وليس التفاتاً عرفيّاً، ويشهد لذلك عدم خطور هذا التفصيل في ذهن أحد من العلماء قبل اُستاذنا الشهيد بحدود ما وصلتنا من الأبحاث.

إلّا أنّ هذا الكلام لو تَمَّ فلا مجال له بالنسبة للبراءة العقليّة، فإنـّها أمر عقلي، ولا بأس بالرجوع إلى تدقيق عقلي في معرفة مورد جريانها.

وأمّا بالنسبة للاُصول الشرعية، فإن كان المقصود بهذا الإشكال دعوى أنّ شمول إطلاق دليل الأصل لنفي الحرمة الوضعيّة للملاقي قبل الملاقاة غير مفهوم عرفاً، قلنا ـ بعد تسليم ذلك ـ: إنّ شموله له على تقدير الملاقاة زائداً الأصل النافي في الملاقي الفعلي للطرف الآخر ينتج الترخيص الفعلي للتكليف المعلوم بالإجمال، بالبيان الذي مَضَى من اُستاذنا (رحمه الله) من توضيح فعليّة الحرمة الوضعيّة على أساس مُجرّد النجاسة على تقدير الملاقاة.

وإنْ كان المقصود بذلك غفلة العرف عن العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي، أو غفلته عن كون مجموع هذا الأصل التقديري زائداً ذاك الأصل الفعلي مستلزماً بالفعل نفي الإلزام المعلوم بالإجمال. قلنا ـ بعد تسليم ذلك ـ: إنّ غفلة العرف عن فعلية العلم الإجمالي بالتكليف، أو فعليّة نفي الأصلين للإلزام المعلوم بالإجمال لا تنفي تساقط الأصلين، فإنـّنا إنْ قلنا بأنّ سقوط الأصلين النافيين للإلزام المعلوم بالإجمال أمرٌ عقلي، كما عليه المحقق العراقي (رحمه الله)، فمن المعلوم أنّ عدم وضوح ذلك لدى العرف لا يضرّ به. وإن قلنا بأنـّه من الارتكازيات العرفية كما هو المختار، فالكبرى هي المرتكزة عرفاً، والصغرى قد تدرك بالدقّة العقليّة، أي: أنّ العرف يَرى أنـّه متى ما تَمَّ العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي الذي تكون الاُصول نافية له فالاُصول لا تجري؛ لارتكازيّة عدم إمكان الترخيص في المخالفة القطعيّة. أو قل: ارتكازية التناقض بين الغرض الإلزامي المعلوم

259

على كون الحرمة تكليفيّة أو وضعيّة، ولكن فرّعوها على مسألة فقهيّة، وهي أنّ نجاسة الملاقي هل هي بالسببيّة أو بالانبساط؟ فذهب المحقّق النائينيّ (رحمه الله)(1) إلى أنـّه إن قلنا بالسببيّة ـ بمعنى أنّ نجاسة الملاقي فرد آخر للنجاسة مستقلّ تحدث بسبب الملاقاة للنجس ـ فهذه النجاسة لا تتنجّز بالعلم الإجمالي الأوّل، لأنـّه لم يتعلّق به، وإنـّما تعلّق بالنجاسة الاُولى المردّدة بين الملاقى وطرفه. وإن قلنا بالانبساط ـ أي أنّها عين النجاسة السابقة ـ توسعت وانبسطت بعد ما كانت منكمشة، وواقفة على الملاقى، وإذا أردنا تقريب ذلك بالتشبيه بالاُمور التكوينية قلنا: إنّ هذا نظير التيّار الكهربائي الموجود في جسم على أساس اتّصاله بجسم آخر حامل لهذا التيار، حيث يُرى عرفاً أنّ نفس ذاك التيّار انبسط على هذا الجسم وتوسّع. فهذه النجاسة عين ما كانت طرفاً للعلم الإجمالي، فهي مُنجّزة به، وبما أنـّه (رحمه الله) يبني على السببيّة فلهذا يختار في المقام عدم التنجيز.

أقول: إنـّنا لو بنينا على عدم التنجيز بناءً على السببيّة، فلابدّ أنْ نبني على ذلك أيضاً بناء على الانبساط بالمعنى الذي ذكرناه. وتوضيح ذلك بعد غضّ النظر عن تحليل أصل فكرة الانبساط في النجاسة وأنّها هل تتعقّل ثبوتاً أو لا:

أوّلاً: أنّ المعلوم بالإجمال هو أصل النجاسة لا حدّها وسعتها، وحدّ النجاسة


بالإجمال والترخيص الشامل لتمام الأطراف، ولو فرضنا: أنّ الغرض الإلزامي لم يدركه عامّة الناس، وأدركه شخص بذكائه، أو لم يدرك عامّة الناس أنّ هذه الاُصول تودّي إلى مخالفته القطعيّة، وأدرك ذلك شخص بذكائه، فهذا كاف في تعارض الاُصول وتساقطها لدى هذا الشخص الذكيّ، فهو يأخذ من العرف كبرى عدم جريان الاُصول النافية للتكليف المعلوم بالإجمال، ويطبّقها على ما يعلمه، وبكلمة اُخرى: أنّ العرف يقول بنحو القضية الشرطية: متى ما أوجبت الاُصول الترخيص في المخالفة القطعيّة فهي لا تجري، وقد أدركنا الشرط بالدقّة العقليّة، فيثبت الجزاء، وذلك لأنّ المرتكز عند العرف إنـّما هو التناقض بين ذات الترخيص الشامل والتكليف المعلوم بالإجمال، لا بين ما يدركه العرف منهما، وإن كان لو لم يدركها العرف لم يعرف وجود التناقض بالفعل.

إذن فالعمدة في الإشكال على اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) ما وضّحناه في التعليقات السابقة من أنّ التفصيل بين الأحكام الوضعيّة والتكليفيّة ليس في محلّه حتى بالدقّة العقليّة؛ لأنـّه: أوّلاً: أنّ الحكم التكليفي في المحرمات فعليّ قبل فعليّة الحرام. و ثانياً: أنّ تلك الفعليّة في كلا الموردين لا توجب منجّزية العلم الأوّل، لأنّها غير ثابتة بالنسبة لواقع الملاقي.

(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 25 ـ 26، وأجود التقريرات: ج 2، ص 257 ـ 259.

260

وسعتها أمرٌ زائدٌ على أصل النجاسة، حاله حال فرض نجاسة مستقلّة، فإنْ كانت الثانية لا تتنجّز بالعلم الأوّل، فكذلك السعة والزيادة لا تتنجّز به.

وثانياً: أنّ مصبّ التنجيز بتعلّق العلم به بحسب الحقيقة، هو حرمة شرب النجس، أو التوضّوء به، أو الصلاة فيه، لا نجاسته، ولو سلّمنا أنّ نجاسة الملاقي متّحدة مع نجاسة الملاقى فمن الواضح أنّ حرمة الملاقي حكم آخر غير حرمة الملاقى، وطرف العلم الإجمالي الأوّل كان هو الحكم الأوّل دون الثاني.

نعم، هنا تفسير آخر للانبساط، يتمّ بناءً على القول بالتنجيز بالعلم الإجمالي الأوّل، إلّا أنّ الانبساط بهذا التفسير ليس إلّا خيالاً شعرياً، وذلك عبارة عن أنْ يقال: إنّ الشريعة أمرتنا بالاجتناب عن النجس، وإنّ الاجتناب عن النجس يكون بمعنىً لا يتحقق إلّا بتركه وترك ملاقيه، وإنّ هذا الاجتناب ليس هو عين التركين أو منطبق عليهما، كي يقال بالانحلال: إلى ما هو طرف للعلم الإجمالي الأوّل، وما ليس طرفاً له، وإنـّما هو أمر بسيط متحصّل بالتركين، والشكّ في أحدهما شكّ في المحصّل، فلا بدّ من ترك الملاقى والملاقي معاً، كي يحصل له القطع بالعمل بما تنجّز عليه من الاجتناب عن النجس.

ولكن لم يرد علينا في الشريعة الأمر بتحصيل عنوان بسيط متحصّل من ترك النجس وترك ما يلاقيه، وإنـّما الذي ورد في الأخبار عبارة عن النهي عن التوضّوء والنهي عن الشرب، ونحو ذلك، ومن المعلوم أنّ عدم التوضّوء به أو عدم شربه مغاير لعدم التوضّوء بملاقيه وعدم شربه، والنهي المتعلّق بهذا غير النهي المتعلّق بذاك(1) .

 

العلم الإجمالي في الملاقي

وأمـّا المقام الثاني ـ وهو تنجيز العلم الإجمالي الثاني بالنجاسة لحرمة الملاقي وعدمه ـ فلا إشكال في عدم تنجيزه إذا حصل بعد خروج طرف الملاقى عن محلّ الابتلاء بانعدامه، أو تطهيره، أو غير ذلك، وإنـّما الكلام يقع في غير هذا


(1) ولو سلّمنا دخول المقام في الشكّ في المحصّل، لزم وجوب الاجتناب عن كل ما احتملنا ملاقاته لنجس متنجز علينا بالعلم الإجمالي أو التفصيلي .

261

الفرض، والأصحاب (قدّس الله أسرارهم) بين قائل بعدم التنجيز مطلقاً، وقائل بالتفصيل في ذلك. والصحيح هو التنجيز مطلقاً.

وهذا العلم الإجمالي في حدّ ذاته تامّ الجهات، فلا بدّ في دعوى عدم تنجيزه من إبراز نكتة أوجبت عدم التنجيز. وللأصحاب وجوه عديدة في إبراز نكتة عدم التنجيز نبحثها تباعاً في المقام:

 

بيان السيّد الاُستاذ

الوجه الأوّل: ما اعتمد عليه السيّد الاُستاذ(1)، وهو مختصّ بفرض تقدّم العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو طرفه زماناً على العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى، ويفرض فى هذا الوجه أنّ العلم الإجمالي مقتض لوجوب الموافقة القطعيّة، وليس علّة تامّة له.

وبيانه: أنّ العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى مسبوق زماناً بالعلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو طرفه، وهذا يوجب صحّة التمسّك بأصالة الطهارة في الملاقي، لا لدعوى انحلال العلم الإجمالي الثاني بالأوّل حقيقة، ولا لدعوى انحلال الأثر العقلي للعلم الثاني ـ بمعنى زوال علّيّته أو اقتضائه للتنجيز ـ بل العلم الثاني باق حقيقة، وباق على صفة اقتضائه للتنجيز، إلّا أنّ تأثير الاقتضاء خارجا مشروط بعدم المانع ـ وهو جريان الأصل الترخيصي في أحد الطرفين وحده ـ والمانع هنا موجود، وهو أصالة طهارة الملاقي، ولا تعارض بأصالة الطهارة في طرف الملاقى، لأنّ هذا الأصل قد سقط في الزمان السابق بالمعارضة لأصالة طهارة الملاقى، فأصالة الطهارة الجارية في الملاقي الآن خالية عن المعارض.

ويرد عليه: أوّلاً: ما مضى في بعض الأبحاث السابقة(2) من أنّ المانع عن جريان الأصلين السابقين بقاءً إنـّما هو العلم الإجمالي بوجوده البقائي، ولذا لو انحلّ العلم الإجمالي بعد حدوثه بالعلم التفصيلي: بأنّ الإناء الشرقي كان نجساً من أوّل الأمر، والشكّ البدوي في نجاسة الإناء الآخر، فلا إشكال في جريان الأصل فيه بقاءً،


(1) راجع مصباح الاُصول: ج 2، ص 415، والدراسات: ج 3، ص 265 ـ 266.

(2) مضى ذلك في التنبيه الخامس.

262

وعليه نقول: إنّ العلم الإجمالي الأوّل بوجوده البقائي مقارن زماناً لحدوث العلم الإجمالي الثاني، فلا وجه لاختصاص المانعيّة والتأثير بأحدهما دون الآخر، فهما يمنعان في عرض واحد عن جريان الاُصول، فأصالة الطهارة في طرف الملاقى لها معارضان في عرض واحد، وهما: أصالة الطهارة في الملاقى، وأصالة الطهارة في الملاقي، فيتساقط الجميع (1).

وثانياً ـ أنّ هذا الكلام غير صحيح حتّى لو فرض أنّ المانع عن الأصلين السابقين بقاءً هو العلم الإجمالي بوجوده الحدوثي. وتوضيح ذلك: أنّ هناك خطأ في أصل سير التفكير الذي أدّى بصاحبه إلى القول بأنّ الأصلين السابقين تعارضا وتساقطا، وهذا الأصل الجديد خال عن المعارض، ونحن في الجواب الأوّل جارينا هذا السير في التفكير، وحافظنا على مباني الإشكال، ومع ذلك أبطلنا الإشكال بما عرفت من تعاصر العلمين، لأنّ العلم الأوّل إنـّما يؤثّر بقاءً بوجوده البقائي المعاصر للعلم الثاني.

والآن نريد أنْ نبرز الخطأ في مبنى التفكير الذي وقع في المقام، فنقول: إنّ فرض عدم ابتلاء الأصل الثالث بالمعارض بمجرّد أنّ ما كان يعارضه قد سقط في زمان سابق بمعارض آخر له، إنـّما يعقل على أحد تصوّرين: ـ

الأوّل: أنْ يجرّد من كلّ واحد من الاُصول الثلاثة كلام خاصّ، فيتصوّر أنـّها تكون من قبيل ما إذا صدر من المولى في أوّل الصباح كلامان متعارضان، وصدر بعد ذلك كلام آخر مستقلّ يطابق أحد الكلامين الأوّلين، ويخالف الآخر، فيؤخذ هنا طبعاً بالكلام الثالث، ولا يجعل طرفاً للمعارضة لما خالفه من الكلام المتّصل بالكلام الآخر، وأنت ترى أنّ هذا قياس مع الفارق، ففي مثال الكلمات الثلاث قد ابتلى الأوّلان بالإجمال على أساس الاتصال والتهافت، وبقى الثالث غير المجمل بلا معارض، أمـّا في المقام فهذه الاُصول الثلاثة نسبتها إلى كلام المولى من حيث الصدور على حدّ سواء، كما هو واضح.


(1) وكذلك الحال لو فرضنا أنّ العلم الإجمالي بوجوده الحدوثي يسقط الأصل بقاءً، بمعنى تأخّر التأثير عن المؤثر، فيصبح تأثير العلم الأوّل في عرض العلم الثاني، أمّا لو فرضنا أنّ العلم الإجمالي بوجوده الحدوثي أسقط في زمانه الأصل المتأخّر، فعندئذ يأتي مورد لتوهم بقاء الأصل الآخر بلا معارض على أساس الغفلة عن الجواب الثاني الذي سيبيّنه اُستاذنا (رحمه الله) .

263

الثاني: أنْ يتصوّر أنّ المعارضة بين الاُصول تكون بلحاظ زمان الفعلية، فالأصلان الأوّلان حينما أصبحا فعليّين تعارضا وتساقطا، والأصل الثالث أصبح فعليّاً في وقت لا يوجد أصل فعلي آخر يعارضه، والمخصّص لدليل الأصل في هذا الزمان المتأخّر لم يدلّ على أزيد من أنـّه لا يتمّ جريان الأصل الثالث مع الأصل في طرف الملاقى معاً، وهذا المخصّص لا أثر له في المقام بعد أن علمنا أنّ الأصل في طرف الملاقى غير جار من قبل .

وهذا ما نوضّح بطلانه بذكر أمرين:

الأمر الأوّل: أنّ الخطابات الشرعية المجعولة على نهج القضايا الحقيقيّة على الموضوعات المقدّرة الوجود إنـّما تتكفّل مرتبة الجعل، وأمـّا فعليّة الحكم ـ سواء آمـنّا بها بالمعنى المشهور، أو قصدنا بها طرفيّة الشيء للحكم ـ فهي تبع لفعليّة الموضوع، وحيث إنّ تلك الخطابات إنـّما تتكفّل مرحلة الجعل، وبقطع النظر عن فعليّة الموضوع خارجاً فهي تنظر إلى تلك الموضوعات في عرض واحد، وإنْ فُرض تدرّجها زماناً بحسب الوجود الخارجي.

الأمر الثاني: أنّ التعارض الواقع في مفاد دليل بلحاظ فردين منه إنـّما هو تعارض في نفس عالم الجعل ومنذ البدء، وليس يحدث بعد فعليّة فردين من موضوع بعد أنْ لم يكن هناك تعارض، فإنّ هذا غير معقول، لأنّ التعارض يكون في الدلالة، والدلالة إنـّما تتكفل ـ كما مضى في الأمر الأوّل ـ مرحلة الجعل والحكم على تقدير الموضوع لا مرحلة الفعلية.

وبكلمة اُخرى: أنّ المنافاة بين الحكمين إمـّا أنْ يفرض أنّ مصبّها هو الجعلان، إذن فالمعارضة تكون في نفس مرحلة الجعل، وقبل وجود الموضوعين، أو يفرض أنّ مصبّها هو الفعليّتان، وعندئذ تسري ـ لا محالة ـ المعارضة من مرحلة الفعليّة إلى مرحلة الجعل؛ إذ فرض جعل حكم على تقدير موضوع لا يصير فعلياً عند فعليّة موضوعه ممّا لا محصّل له.

وبكلمة ثالثة: أنّ دليل الأصل يدلّ على تمام الأفراد في عرض واحد، والدليل المخصّص الدالّ على عدم جريان الأصل في مجموع أطراف العلم الإجمالي ـ أيضاً ـ يقتطف كلّما يقتطف في عرض واحد.

إذا عرفت هذين الأمرين قلنا: إنّ فكرة تعارض الأصلين السابقين وتساقطهما، وبقاء الأصل المتأخّر بلا معارض ـ بعد فرض الاعتراف بأنّها ليست من قبيل كلامين

264

متعارضين متّصلين وكلام آخر منفصل ـ مبنيّةٌ على تخيّل أنّ المعارضة وإخراج أحد الفردين تكون من حين الفعليّة، مع أنّ الأمر ليس كذلك، بل المعارضة تكون في زمان الجعل، والجعل ينظر إلى الأفراد في زمان واحد، والمخصّص ـ أيضاً ـ يقتطف كما يقتطف في عرض واحد، ولا أثر لتقدّم بعضها على بعض زماناً بحسب الخارج أصلاً، فالوجود البقائي للأصل في طرف الملاقى يوجد له معارضان في عرض واحد في أصل مرحلة الجعل، أحدهما الأصل في الملاقى، والآخر الأصل في الملاقي فيتساقط الجميع.

إنْ قلت: بناءً على ذلك يلزم القول: بأنـّه لو علم إجمالاً بأنّه إمـّا تجب علينا الصلاة بالفعل، أو يجب علينا التصدّق لو نزل المطر، ولم يعلم أنـّه هل سينزل المطر او لا، لم تجر أصالة البراءة عن وجوب الصلاة، لأنـّها تعارض أصالة البراءة عن وجوب التصدّق على تقدير نزول المطر؛ لأنـّه لو وجد شرط فعليّة وجوب التصدّق، وهو نزول المطر فتمّ بذلك شرط فعليّة الترخيص الظاهري مع فرض بقاء العلم الإجمالي على حاله، يقع التعارض بين الأصلين لا محالة، وقد فرضتم أنـّه مهما كان تعارض بين الفردين في فرض الفعلية فحتماً يكون التعارض ثابتاً بدون الفعليّة ـ أيضاً ـ في نفس الجعل، فيقع التعارض بين أصالة البراءة عن وجوب التصدّق المشروطة بنزول المطر، وإنْ لم يوجد شرطها فعلاً، ولم تصبح فعلية، وأصالة البراءة عن وجوب الصلاة، وهذا ممّا لا يلتزم به، ويقال: بما أنّ أصالة البراءة عن وجوب التصدّق ترخيص مشروط غير فعلي في مخالفة التكليف فهي لا تعارض أصالة البراءة عن وجوب الصلاة.

قلت: إنّ مُجرّد وجود أصلين فعليين يلزم منهما الترخيص في المخالفة القطعيّة ليس فيه محذور، ولا يوجب التعارض بينهما، ويشترط في ثبوت محذور الارتكاز ووقوع التعارض بينهما أنْ يكون المكلف عالماً لدى إجراء الأصل بأنّ هنا أصلاً آخر بالفعل، أو في زمان مستقبل يلزم من إجرائه مع إجراء هذا الأصل الآن الترخيص في المخالفة القطعيّة لتكليف فعلي، فإنّ هذا هو الذي منع عنه الارتكاز العقلائي، والتعارض بين أصلين فعليين من هذا القبيل يلازم ثبوت التعارض بينهما في مرحلة الجعل كما قلنا، والمفروض في هذا المثال أنّ المكلف لم يعلم في زمان فعلية الأصل الأوّل بوجود أصل آخر فعلي في ذاك الزمان أو في زمان متأخّر يلزم من مجموعهما الترخيص في المخالفة القطعيّة.

265

هذا. ويرد على القائل بسلامة أصل الملاقي عن المعارض لمجرّد تعارض الأصلين الآخرين فيما سبق بعلم إجمالي سابق النقضُ بفرض تعارض خبرين صادرين في زمان الإمام الصادق (عليه السلام) مثلاً، وورود خبر آخر عن الإمام العسكري (عليه السلام)مثلاً يوافق أحد الخبرين الأوّلين، ويخالف الآخر، فالخبران الأوّلان بمنزلة الأصلين الأوّلين، والخبر الثالث بمنزلة الأصل الثالث، ويجب أنْ يقال بأنّ الخبرين الأوّلين تعارضا وتساقطا، وبقي الخبر الثالث بلا معارض وهذا ممّا لا يلتزم به.

 

بيان الشيخ الأعظم

الوجه الثاني: أنْ يقال ـ بعد تسليم أنّ العلم الإجمالي الثاني لم ينحلّ بالعلم الإجمالي الأوّل، ولا انحلّ حكمه العقلي من العلّيّة أو الاقتضاء للتنجيز ـ: إنّ أصالة الطهارة في الملاقي تكون في طول أصالة الطهارة في الملاقى، فأصالة الطهارة في الملاقي تتعارض في الرتبة السابقة مع أصالة الطهارة في طرفه، ويسقط الأصلان، وتصل النوبة إلى أصالة الطهارة في الملاقي، من دون معارض، وكأنّ هذا الوجه هو الوجه المشهور، وهو الموروث عن الشيخ الأعظم (قدس سره)(1) المتسلسل بعده في أبحاث المحقّقين.

وهذا الوجه مبتن: أوّلاً على القول بالاقتضاء؛ إذ بناءً على العلّية لا يفيدنا عدم ابتلاء الأصل في الملاقي بالمعارض؛ لأنّ المفروض أنّ الأثر العقلي للعلم الإجمالي من العلّيّة غير منحلّ، فلا يمكن الترخيص في المخالفة ولو في بعض أطرافه.

وثانياً على القول بأنّ الأصل الذي يكون في طول أحد الأصلين المتعارضين يبقى سليماً عن التعارض، رغم فرض مخالفته للأصل الآخر، ولا يسقط بالمعارضة مع الأصل الذي يكون في عرض الأصل الحاكم عليه.

وثالثاً على القول بأنّ أصالة الطهارة في الملاقي في طول أصالة الطهارة في الملاقى، حتّى تتحقق صغرى ما فرض في الأمر الثاني، من كون طوليّة الأصل موجبة لنجاته عن المعارضة.

رابعاً على القول بعدم وجود أصل آخر في طول أصالة الطهارة الجارية في


(1) راجع الرسائل: ص 253 ـ 254 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة الله.

266

طرف الملاقى، وإلّا لوقع التعارض بين ذاك الأصل وأصالة الطهارة في الملاقي، فهذا الوجه لا يتمّ إلّا بعد فرض تماميّة هذه الاُمور الأربعة.

أمـّا الأمر الأوّل ـ وهو القول بالاقتضاء دون العلّية ـ، فهو الأمر الوحيد من هذه الاُمور الأربعة في كونه تامّاً على ما عرفت فيما سبق من عدم كون العلم الإجمالي علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعيّة، وأنـّه لا يكون مقتضياً لذلك.

وأمـّا الأمر الثاني ـ وهو كون الأصل الطولي في منجىً عن المعارضة ـ، فقد أورد عليه السيّد الاُستاذ بإيرادين(1):

الأوّل: أنّ الأصل الطولي ليس في طول ما يعارضه، وإنـّما هو في طول الأصل الآخر، فلا ينجو عن المعارضة بتعدّد الرتبة؛ لأنّ معارضه في عرضه، فيتعارضان ويتساقطان.

والثاني: أنّ تعدّد الرتب لا أثر له في المقام؛ لأنّ الاُصول في المقام ليست من الأحكام العقليّة التي تحدّدها الرتب، ويكون ظرفها الرتب، وإنـّما هي أحكام شرعيّة ظرفها الزمان، فإنْ اجتمع أصلان في طرفي العلم الإجمالي في زمان واحد فلا محالة يتعارضان ويستاقطان، وكون أحدهما متأخّراً عن الآخر رتبةً لا يؤثّر شيئاً في المقام.

أقول: إنّ كلّ واحد من الإشكالين في المقام غير صحيح:

أمـّا الأوّل: فقد مضى في التنبيه الثاني من تنبيهات العلم الإجمالي ذكر وجوه لصيرورة الأصل الذي في طول أحد الأصلين ويخالفه الآخر في منجىً عن المعارضة، ومضى إبطال أكثرها، وأنّ بعضها صحيح فنّاً وأنـّه لا يرد عليه إشكالُ: أنّ الأصل الآخر في عرضه فيتعارضان ويتساقطان، فما رامه السيّد الاُستاذ هنا من إبطال القول بكونه في منجىً عن المعارضة بالفنّ من ناحية كون الأصل الآخر في عرضه، غير صحيح.

نعم مضى منّا هناك: أنّ ذاك الوجه الصحيح فنّاً غير تامّ عرفاً، وأنّ العرف لا يتحصّل عنده من كلام المولى في مثل المقام شيء، فلا يمكن التمسّك في إجراء الأصل بظاهر كلام المولى، وعليه فنحن متّفقون مع السيّد الاُستاذ بحسب النتيجة في بطلان هذا الأمر الثاني، وإن خالفناه في وجه البطلان.

وأمـّا الثاني: فأصل ما ذكره السيّد الاُستاذ من أنّ الأحكام الشرعيّة زمانيّة،


(1) راجع الدراسات: ج 3، ص 267 ـ 268، والمصباح: ج 2، ص 417 ـ 418.

267

وليست كالأحكام العقليّة التي تحدّدها الرتب صحيح، لكن ذكره في محلّ الكلام وتطبيقه عليه ليس له محصّل، وإنـّما يكون هذا منطبقاً في بعض الأبحاث الذي اُجريت فيه آثار تحدّد الحكم بالرتب على الأحكام الشرعيّة، وذلك نظير البحث الواقع في مسألة: أنّ الانسان إذا اشترى أحد عموديه ـ الذي لا يمكنه أنْ يملكه ـ انعتق عليه، حيث يعترض في تلك المسألة إشكال في كيفية تطبيقها على القواعد، وهو أنّ هذا الابن هل يملك أحد عموديه آناً مّا ثم ينعتق عليه أو لا يملكه أصلاً وينعتق عليه؟ فإنْ قيل بالأوّل كان هذا خلاف قانون عدم مالكيّة الشخص لعموديه، ولا فرق بين الملك آناً مّا والملك ساعةً من الزمان، وإنْ قيل بالثاني ـ وكان معنى انعتاقه عليه أنّ درك انعتاقه يكون عليه، حيث إنّ الثمن يدخل في ملك البايع، والعبد لا يدخل في ملك المشتري بل ينعتق ـ، فهذا خلاف قانون البيع الذي هو مبادلة عين بمال، ولا بدّ فيه من دخول لكلّ من العوضين في ملك الآخر. ففي المقام لم تحصل مبادلة.

هذا هو الإشكال في كيفية تطبيق هذه المسألة على القواعد. وفي تحقيق المطلب اتجاهات أحدها ما قصدنا ذكره هنا من أنـّنا نلتزم بأنّ المشتري يملك ذلك العبد، ولكن لا في زمان ولو آناً مّا، بل رتبةً، وينعتق عليه في الرتبة الثانية، فهذا لا يخالف قانون عدم مالكيّة الشخص لعموديه، ولو آناً مّا، لأنـّه لم يملكه في زمان، وملكيته في الرتبة لا بأس بها، ولا يخالف قانون البيع والمبادلة لأنـّه دخل كلّ من العوضين في ملك الآخر.

وهنا يأتي إشكال وهو: أنـّه كيف يعقل دخول هذا في ملكه بالشراء، وخروجه عن ملكه بالانعتاق في آن واحد، والدخول والخروج متضادّان لا يجتمعان في آن واحد؟! فيجاب عن ذلك بأنـّهما وإنْ اتّحدا زماناً، لكنّهما متعددان رتبة، فقد دخل في ملكه في رتبة وخرج عن ملكه في رتبة اُخرى.

وهنا يأتي ما ذكره السيّد الاُستاذ في المقام: من أنّ الأحكام الشرعيّة زمانيّة وليست رتبيّة، فالدوخل والخروج في المقام ليسا من قبيل وجود المعلول وعدمه بالمعنى التحليلي العقلي، حيث يقال: إنّ المعلول غير موجود في مرتبة العلّة وموجود في نفس الوقت في المرتبة المتأخّرة عن العلّة، ولا تنافي بين وجوده وعدم وجوده؛ لأنـّهما في رتبتين، ودفع الإشكال بتعدّد الرتب في ذلك صحيح؛ لأنّ المقصود من الوجود وعدمه كان حكماً تحليليّاً عقليّاً ظرفه الرتبة، وتعدّد الرتب

268

أوجب تعدّد الظرف وارتفاع المنافاة، وهذا بخلاف الاُمور الخارجيّة الزمانيّة كالسواد والبياض اللذين هما متضادّان لا يجتمعان في زمان واحد ولو فرض أحدهما معلولاً للآخر ومتأخّراً عنه رتبة، والدخول في الملك والخروج عنه من هذا القبيل، فإنـّهما حكمان شرعيّان زمانيّان.

وأمـّا فيما نحن فيه فلا معنى لتطبيق قانون أنّ الأحكام الشرعيّة زمانيّة لا رتبيّة، فإنّ الكلام في قانون كلّي عامّ ثابت حتّى في الاُمور التكوينيّة الخارجيّة، وهو أنّ الشيء المتأخّر رتبة يستحيل عقلاً أنْ يزاحم الشيء السابق عليه، ولا معنى لوقوع التعارض والتزاحم بين شيئين أحدهما متفرّع على عدم الآخر، سواءً كانا عقليين أو شرعيين، اعتباريين أو خارجيين، زمانيين أو غير زمانيين، وهذا كما ترى لا علاقة له بفهم أنّ الأحكام الشرعيّة هل يكون ظرفها الزمان أو الرتبة، وليس من قبيل قانون استحالة اجتماع الضدّين، الذي لا بدّ في معرفة انطباقه على أمرين مختلفين رتبة أنْ نرى أنـّه هل يكون ظرفهما الزمان والخارج فيلزم اجتماع الضدّين، أو ظرفهما الرتبة، وقد فرض تعدّدها فلا يلزم اجتماع الضدين.

وعلى أيـّة حال، فقد عرفت عدم تماميّة الأمر الثاني.

وأمـّا الأمر الثالث: وهو كون أصالة الطهارة في الملاقي في طول أصالة الطهارة في الملاقى، فهو وإنْ كان صحيحاً عندهم إلّا أنـّه غير صحيح عندنا، وذلك لوجهين:ـ

أحدهما: ما يقتضي ـ بشكل عام ـ عدم الطوليّة بين كلّ أصلين متوافقين، ولو من قبيل الاستصحاب السببي والاستصحاب المسبّبي، وهذا ما يأتي تحقيقه ـ إن شاء الله ـ في آخر مبحث الاستصحاب في بيان علاقات الأمارات والاُصول بعضها مع بعض.

وثانيهما: إنـّه حتّى لو قلنا بحكومة الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي المتوافقين، لا نقول بحكومة أصالة الطهارة السببيّة على أصالة الطهارة المسبّبيّة؛ وذلك لأنّ الحكومة تكون بأحد ملاكين: إمـّا بملاك رفع الموضوع مثلاً تعبّداً، وإمـّا بملاك النظر، أمـّا الأوّل فلئن سلّم في الاستصحاب ـ باعتبار أنّ الشارع جعل في مورده اليقين تعبداً ورفع بذلك الشكّ، فيرتفع بذلك تعبداً موضوع الاستصحاب المسبّبي ـ لا نسلّمه هنا، إذ لا يتوهّم في أصالة الطهاة أنّ المجعول هو العلم وعدم الشكّ، وأمـّا الثاني فإنـّما يمكن دعوى إثبات الحكومة به لدليل أصالة الطهارة على أدلّة الأحكام الأوّليّة، كدليل وجوب الصلاة في الثوب الطاهر، أو حرمة

269

شرب النجس، فيقال: إنّ دليل أصالة الطهارة ناظر إلى هذه الأحكام والآثار، وأمـّا بالنسبة لنفس أفراد مفاد الدليل الواحد، وهو دليل أصالة الطهارة، فلا نظر لبعضها إلى بعض، وهذا الوجه ـ أيضاً ـ يأتي تحقيقه إن شاء الله في آخر الاستصحاب في بيان علاقات الأمارات والاُصول بعضها مع بعض.

وأمـّا الأمر الرابع: وهو عدم وجود أصل طولي في الطرف الآخر كي يعارض أصالة الطهارة في الملاقى فهذا ـ أيضاً ـ غير صحيح، وذلك لوجهين:

أحدهما: جريان أصالة الطهارة في الملاقي التقديري لطرف الملاقى، وإيجابها الترخيص فعلاً بلحاظ الحرمة الوضعيّة الثابتة للملاقي التقديري؛ لما عرفت من فعليّة تلك الحرمة قبل حصول الملاقاة.

والثاني: ما أسماه المحقّق العراقي (رحمه الله)(1)بالشبهة الحيدرية ـ نسبة إلى السيد الوالد (قدس سره) ـ وهو أنـّه توجد في طول أصالة الطهارة في طرف الملاقى أصالة إباحته، فتتعارض مع أصالة الطهارة في الملاقي، وتتساقطان، وهذا الوجه متين ووارد عليهم، بناءً على مبانيهم من تسليم الطولية في الاُصول المتوافقة إطلاقاً.

هذا. ولكن المحقّق النائيني (رحمه الله) يدفع هذا الإشكال(2)بأنّ أصالة الإباحة في طرف الملاقى وإنْ كانت في طول أصالة الطهارة، لكنّها تسقط معها بالمعارضة؛ لأصالة الطهارة في الملاقى، وهذا بخلاف أصالة الطهارة في الملاقي فهي تنجو عن المعارضة؛ لكونها في طول أصالة الطهارة في الملاقى. والفرق بينهما: أنّ هذا أصل طولي في موضوع آخر غير موضوع الأصل السابق عليها رتبة، ولكنّ أصالة الإباحة أصلٌ طولي في نفس موضوع الأصل الحاكم عليها، والوجه في تساقط الاُصول الطوليّة جميعاً عند المعارصة لأصل عرضي عند المحقّق النائيني (رحمه الله) هو ما مضى(3)من وحدة المجعول، وهذا لا يأتي في فرض كون الأصلين الطوليين في موضوعين، لكنّك عرفت فيما مضى بطلان هذا الوجه.


(1) لم ترد في نهاية الأفكار تسمية ذلك بالشبهة الحيدريّة، وإنـّما وردت نسبته إلى عنوان (بعض الأجلّة المعاصرين) ولكن في عنوان الصفحة كتب (بيان إشكال السيد حيدر الصدر(قدس سره) ) راجع القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 362.

(2) راجع أجود التقريرات: ج 2، ص 246، وراجع ـ أيضاً ـ ص 260 ـ 261.

(3) في التنبيه الثاني.

270

 

بيان المحقق العراقي

الوجه الثالث: للمحقّق العراقي (رحمه الله)(1)، وهو دعوى انحلال أثر أحد العلمين الإجماليّين العقلي من العلّية أو الاقتضاء بالعلم الإجمالي الآخر إذا كان في طوله. توضيح ذلك: أنـّه تارةً يفرض أنّ العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى معلول للعلم بنجاسة الملاقى أو طرفه، كما لو علمنا بنجاسة أحد شيئين ثم رأينا ملاقاة شيء لأحد الطرفين، فتكوّن العلم بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى ببرهان نجاسة أحد الأوّلين، واُخرى بفرض العكس: كما لو علم إجمالاً بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى، ثمّ علم أنـّه لا منشأ لنجاسة الملاقي إلّا نجاسة ذلك الملاقى، فتكوّن بذلك العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو طرفه، وثالثة يفرض أنّ العلمين في عرض واحد، كما لو أخبره المعصوم ابتداءً بأنـّه إمـّا هذان الشيئان ـ الملاقي والملاقى ـ نجسان أو ذاك الشيء الآخر نجس، ففي الفرض الثالث ينجّز العلمان في عرض واحد، وفي الفرضين الأوّلين ينحلّ العلم المتأخّر رتبة بالعلم الآخر حكماً.

وقد مضى في التنبيه الخامس أنّ الانحلال الحكمي له مسلكان عامّان: أحدهما: ما ذهب إليه المحقق العراقي (رحمه الله): من أنـّه إذا تنجّز أحد الطرفين بمنجّز آخر سقط العلم الإجمالي عن التأثير؛ لأنّ معلومه غير قابل للتنجّز به على كلّ تقدير؛ لأنـّه منجّز بمنجِّز آخر(2). والثاني: الانحلال بملاك كون الأصل في أحد الطرفين غير مبتلىً بالمعارض.


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 357 ـ 359، والمقالات: ج2، ص 93 ـ 94.

(2) على فرق بينما إذا فرض أحد التنجيزين أو العلمين في طول الآخر، وما إذا فرضا عرضيين مع كون النسبة بين ما ينجّزه المنجز الآخر، لو كان علماً إجماليّاً، مع أطراف العلم الإجمالي الذي يفترض انحلاله عموماً مطلقاً، لا عموماً من وجه، وهو أنـّه في الفرض الأوّل يسقط العلم الإجمالي عن العلّيّة للتنجيز نهائياً؛ لأنّ المنجّز بما هو منجّز لا يقبل التنجيز، وفي الفرض الثاني يتحوّل العلم الإجمالي إلى جزء علّة، فيسقط عن التأثير بالنسبة للفرد الآخر الخارج عن تحت المنجّز الآخر. راجع بصدد استيعاب البحث ما مضى من التنبيه الخامس هنا، مع ما مضى من بحث الانحلال الحكمي لدى مناقشة الأخباريين في الدليل العقلي على الاحتياط.

271

وهذان المسلكان يختلفان أوّلاً: في أنّ الثاني يختصّ بمبنى الاقتضاء؛ إذ على مبنى العلّية لا أثر لوجود المعارض وعدمه، بخلاف الأوّل فهو يناسب مبنى العلّية أيضاً، ولهذا تبنّاه المحقق العراقي (رحمه الله)القائل بالعلّية.

وثانياً: في أنـّه على الأوّل تجري البراءة العقليّة أيضاً؛ لأنّ العلم الإجمالي قد سقط أثره العقلي من العلّية أو الاقتضاء، وأمـّا على الثاني فلا تجري البراءة العقليّة؛ لأنّ اقتضاء العلم الإجمالي ثابت على حاله، وإنـّما لا تجب الموافقة القطعيّة للأصل الشرعي الخالي عن المعارض. وقد عرفت فيما سبق أنّ المختار هو المسلك الثاني دون الأوّل.

إذا عرفت ذلك، قلنا: إنّ المقصود هنا تطبيق المسلك الأوّل للانحلال على ما نحن فيه، وهنا قد يبدو تهافت في كلمات المحقق العراقي (رحمه الله)؛ إذ هو يقول في الانحلال الحكمي بتنجّز بعض الأطراف، بأنـّه إنـّما ينحلّ بذلك لو لم يكن ذاك المنجّز علماً إجماليّاً آخر، نسبته إلى هذا العلم من حيث الأطراف عموم من وجه، فإنْ كان كذلك، فهو لا يقول بانحلال أحد العلمين بالآخر ـ ولو فرض أحدهما مقدّماً زماناً ـ، في حين أنـّه يقول في فرض التقدّم الرتبي بانحلال العلم المتأخّر رتبة، فيقال: أي فرق بين التقدّم الرتبي والتقدم الزماني، حيث صار الأوّل موجباً لانحلال المتأخّر دون الثاني، وهو (قدس سره) لم يذكر في صريح كلامه وجهاً للفرق بينهما، إلّا أنـّه يمكن استخلاص فرق بينهما بالتدقيق في عبائره، وهو أنّ التقدّم الزماني لا يفيد شيئاً؛ لأنّ تنجّز العلم بقاءً فرع الوجود البقائي للعلم المعاصر لحدوث العلم الثاني، فانحلال الثاني بالأوّل ليس بأولى من العكس، وهما يؤثّران في عرض واحد(1)، وهذا بخلاف العلم المتقدّم رتبة، فإنـّه يؤثّر في رتبته، ولا يمتدّ إلى رتبة العلم الثاني فيؤثّر، وعندئذ كيف يؤثر العلم الثاني؟ هل يؤثّر في الرتبة السابقة على نفسه أو يؤثّر في رتبته؟ والأوّل غير معقول؛ إذ لا يعقل تأثير شيء في الرتبة السابقة على نفس المؤثّر، والثاني أيضاً غير معقول؛ لأنّ أحد طرفي العلم الإجمالي قد أصبح منجّزاً في الرتبة السابقة فلا يقبل في هذه المرتبة تنجيزاً، والمعلوم بالإجمال إنْ لم يكن قابلاً للتنجيز على كلّ تقدير، لم يؤثّر فيه العلم.

ولكن الواقع أنّ كلامه (رحمه الله) لا يتمّ حتى بعد هذا التوجيه، وذلك:

إمـّا أوّلاً؛ فلأنّ العلم الإجمالي الثاني وإنْ كان في طول العلم الإجمالي الأوّل


(1) راجع نهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 337.

272

لكنّه في عرض أثره، فإنّ العلم الأوّل علّة لأمرين: أحدهما: التنجيز، والثاني: العلم الثاني، فهما معلولان في عرض واحد، وتنجيز العلم الثاني يكون متأخّراً رتبة عن العلم الثاني، لكنّه ليس متأخّراً رتبة عن تنجيز العلم الأوّل، لأنّ المتأخّر عن أحد العرضيّين ليس متأخّراً عن الآخر، فتنجّز كلّ من العلمين يكون في عرض تنجيز الآخر، فيصبح كلّ واحد منهما جزء العلّة للتنجيز مثلاً.

نعم لو كان العلم الثاني في طول تنجيز العلم الأوّل كان هنا مجال لدعوى عدم تأثير العلم الثاني، كما لو نذر شخص أنـّه إذا تنجّز عليه شيء تصدق على فلان، ونسي أنّ من نذر التصدّق عليه هل هو زيد أو بكر؟ ثم علم إجمالاً بوجوب التصدّق إمـّا على زيد أو على عمرو، فتولّد من هذا العلم العلم إجمالاً بوجوب التصدق إمـّا على زيد أو بكر، وهذا العلم الإجمالي في طول تنجيز العلم الأوّل، لأنـّه علم بملاك تحقّق نذره الذي هو عبارة عن التنجّز الناشىء من العلم الأوّل، ولكن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل.

وأمـّا ثانياً؛ فلأنّ الطوليّة ممنوعة حتى بلحاظ نفس العلمين المنجّزين؛ لأنّ المنجّز في الحقيقة ليس عبارة عن العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو طرفه، وكذلك العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى، وإنـّما المنجِّز هو العلم بالتكليف الناشىء من العلم بالنجاسة، والعلمان بالتكليف في عرض واحد، فإنّ العلم الثاني بالنجاسة في عرض العلم بالتكليف؛ لأنـّه ليس معلولاً له، بل هما معلولان للعلم الأوّل، والعلم الثاني بالتكليف وإنْ كان في طول العلم الثاني بالنجاسة لكنّه ليس في طول ما كان في عرضه من العلم الأوّل بالتكليف؛ لما قلناه من أنّ المتأخّر من أحد العرضيّين ليس في طول الآخر، وما مع المتقدّم ليس متقدّماً.

هذا. والمحقق العراقي (رحمه الله) لا يستفاد من كتابه نفي قانون: أنّ ما مع المتقدّم متقدّم، لكنّه يستفاد ذلك من تقرير بحثه .

وعلى أيـّة حال، فالصحيح هو ذلك. نعم، لو آمنّا بأنّ ما مع المتقدّم متقدّم لا يرد شيء من هذين الإشكالين.

وأمـّا ثالثاً؛ فلما مضى في الإيراد على أصل هذا المسلك للانحلال حيث قلنا: إنّ هذا يتمّ لو كانت نسبة التنجّز إلى العلم نسبة المعلول التكويني إلى علّته التكوينيّة، وليس الأمر كذلك على ما تقدّم بيانه(1).


(1) تقدّم ذلك لدى مناقشة الأخباريين في الدليل العقليّ للاحتياط.

273

 

بيان المحقّق النائيني

الوجه الرابع: ما ذكره المحقّق النائينيّ (رحمه الله) في المقام(1)تطبيقاً لمبناه في الانحلال على ما نحن فيه، فهو يقول بانحلال العلم الإجمالي بقيام منجِّز في أحد طرفيه، لا بمعنى مجرّد أنّ الأصل الشرعي في الطرف الآخر بقي بلا معارض، بل بمعنى انتفاء أصل الاقتضاء العقلي للتنجيز، فمسلكه في الانحلال بقيام المنجّز في أحد الطرفين يشارك مسلك الشيخ آقا ضياء العراقي (رحمه الله) في ذلك في دعوى أنّ أصل الاقتضاء العقلي ـ وهو العلّية للتنجيز لدى آقا ضياء واقتضاء التنجيز لدى الميرزا ـ قد انتفى، على فرق بينهما في صياغة البرهان على ذلك.

فالصياغة الضيائية: عبارة عن أنّ المنجّز لا يتنجز مرّة اُخرى، والمعلوم بالإجمال يجب أنْ يكون قابلاً للتنجيز بالعلم الإجمالي على كلّ تقدير، وبهذا يتمّ الانحلال الحكمي.

والصياغة الميرزائية: عبارة عن أنـّه مع تنجّز تكليف في أحد الطرفين لا يكون العلم الإجمالي علماً بحدوث تكليف، فلو علم مثلاً بوقوع قطرة دم في الإناء الأسود أو الأبيض، ثم علم بوقوع قطرة اُخرى في الإناء الأبيض أو الأصفر، فالعلم الثاني ليس علماً بحدوث تكليف، لاحتمال كون كلا الدمين واقعين في الإناء الأبيض، فالدم الثاني لم يحدث تكليفاً جديداً، ويسمي الميرزا ذلك بالانحلال الحقيقي.

وعليه، فهذا الوجه كالوجه السابق في امتيازه عن الوجهين الأوّلين في أنـّه يثبت جريان البراءة العقليّة أيضاً، وليس التأمين الشرعي فحسب، بينما الوجهان الأوّلان لا يثبتان ذلك، وفي ملائمة هذا الانحلال حتى لمسلك العلّية بخلاف الوجهين الأوّلين فإنـّهما يختصان بمسلك الاقتضاء.

والسرّ في كلتا هاتين الميزتين هو الاختلاف الجوهري الثابت بين الوجهين الأخيرين والوجهين الأوّلين، وهو أنّ الوجهين الأوّلين لم يركّزا على نفي الاقتضاء


(1) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 26 ـ 28، وأجود التقريرات: ج 2، ص 259 ـ 260 و ص 263 ـ 264.

274

العقلي للعلم الإجمالي، وإنـّما ركّزا على انجاء الأصل الملاقي عن المعارض، وصيرورته مانعاً عن وجوب الموافقة القطعيّة، ومن الطبيعي ـ عندئذ ـ عدم جريان البراءة العقليّة؛ لأنّ الاقتضاء العقلي ثابت على حاله، كما أنـّه من الطبيعي ـ عندئذ ـ اختصاص تمامية التقريبين بفرض اقتضاء التنجيز لوجوب الموافقة القطعيّة؛ إذ بناءً على العلّيّة بعد فرض ثبوت الاقتضاء العقلي على حاله لا يبقى مجال لجريان الأصل ـ ولو كان واحداً ـ ولا معنى لمنعه عن وجوب الموافقة القطعيّة.

وأمـّا الوجهان الأخيران فيبطلان أصل الاقتضاء العقلي، فلا يبقى مانع عن جريان البراءة العقليّة، ولا يفترق الحال في بطلان أصل الاقتضاء العقلي للعلم الإجمالي بين كون ذلك عبارة عن تأثيره بنحو العلّية أو تأثيره بنحو الاقتضاء.

أمـّا بيان أصل هذا التطبيق ـ الذي اختاره المحقّق النائينيّ (رحمه الله) في المقام لمبناه في الانحلال على مورد ملاقاة بعض أطراف العلم الإجمالي ـ فهو أنـّه (رحمه الله) يقول بانحلال العلم الإجمالي المتأخّر بالعلم الإجمالي المتقدّم، ويرى أنّ الميزان هو التقدّم والتأخّر بحسب المعلومين، فالمتأخّر معلوماً ينحلّ بالمتقدّم معلوماً، وإنْ فرض تقارنهما من حيث العلم أو تعاكس العلمين للمعلومين في التقدّم والتأخّر، ولا يفرّق (رحمه الله) في ذلك بين التقدّم الزماني والتقدّم الرتبي، وعلى هذا يقول فيما نحن فيه: إنّ العلم الإجمالي بنجاسة الملاقى أو طرفه يوجب دائماً انحلال العلم الإجمالي بنجاسة الملاقي أو طرف الملاقى؛ لأنّ المعلوم الثاني وإنْ لم يكن دائماً متأخّراً عن المعلوم الأوّل زماناً لإمكان معاصرة زمان انفعال الملاقى أو طرفه لزمان الملاقاة، ولكنّ التأخّر الرتبي ثابت دائماً، ولم يأت في تقرير بحثه بيان لإثبات هذا التأخّر الرتبي، عدا أنّ نجاسة الملاقي ـ لو كان نجساً ـ مسببة عن نجاسة الملاقى ومتأخّرة عنها، ففي هذه المرتبة المتأخّرة لا علم بحدوث التكليف، إذ لعلّ النجس هو طرف الملاقى، وعليه لا يكون هنا تكليف حادث.

وتقريب الانحلال بهذا النحو في المقام في الحقيقة عبارة عن التطبيق لمباني المحقق النائيني (رحمه الله) في الانحلال على المقام التي هي أربعة:

الأوّل: دعوى انحلال العلم الإجمالي بقيام منجّز في أحد طرفيه.

والثاني: تعميم هذه الدعوى لفرض كون ذاك المنجّز علماً إجمالياً آخر نسبته إلى ذاك العلم الإجمالي عموم من وجه.

والثالث: كون العبرة بالتقدّم المعلومي.