26

وإذا فسّرت الرواية بهذا التفسير كان الفرق العقلائيّ بين فرض التلف ومسألة الأرش واضحاً، فقد جعلت العبرة في ضمان التالف بلحاظ حالات البغل سمناً وهزالاً وصحّةً ومرضاً بيوم المخالفة باعتباره يم الغصب، وجعلت العبرة في الأرش بمدى سعة وضيق الجرح أو الكسر يوم الردّ؛ لأنّه لو توسّع الجرح أو الكسر يوم الردّ كان مضموناً، ولو تضيّق فقد خرج من ضمان ذاك المقدار من الصحّة بالتسليم.

وكذلك أصبحت النكتة العقلائيّة لجعل الضمان مرتبطاً بما في يوم المخالفة دون يوم التلف واضحة؛ لأنّه إن تدهور وضع الحيوان من بعد يوم المخالفة لكان التدهور مضموناً على الغاصب، وإن تحسّن وضعه ثمّ تراجع مرّة اُخرى فهذا التحسّن كان تحت رعايته، فمن المعقول أن لا يكون مضموناً عليه.

وهنا تقريب آخر لإبطال دلالة هذه الرواية على المقصود، وهو: أنّ من المحتمل صحّة النسخة التي لم يدخل فيها. اللام. على. البغل )، ولعلّها هي النسخة المشهورة، فيكون النص هكذا: «نعم، قيمة بغل يوم خالفته»، لا «قيمة البغل يوم خالفته».

وعلى هذا التقدير من المحتمل كون كلمة. البغل. غير منوّنة؛ بأن تكون مضافة إلى بغل يوم المخالفة، لا مضافة إلى البغل مع كون مجموع المضاف والمضاف إليه مضافاً إلى يوم مخالفة.

والفرق بينهما واضح، فإذا افترضنا أنّ قيمة البغل مضافة إلى يوم المخالفة فقد يُقال: إنّ هذا يشمل بالإطلاق فرض اختلاف القيمة على أساس التورّم أو على أساس قانون الفرض والطلب. أمّا إذا افترضنا أنّ القيمة مضافة إلى بغل يوم المخالفة فالاختلاف ابتداءً بين يوم المخالفة ويوم آخر

27

إنّما هو في البغل، واختلاف القيمة يكون بتبع اختلاف البغل، فلا إطلاق له لفرض اختلاف القيمة على أساس التورّم أو قانون العرض والطلب، وإنّما النظر يكون إلى اختلاف القيمة بلحاظ اختلاف أوصاف نفس البغل، ومع وجود هذا الاحتمال لا يتمّ الإطلاق.

ولنا تقريب ثالث لإبطال دلالة الحديث على قيميّة القيميّات، وهو: أنّ إطلاق الحديث لفرض اختلاف القيمة السوقيّة باعتبار التورّم أو تبدّل وضع العرض والطلب غير ثابت، لا لمجرّد كون هذا فرضاً نادراً حتّى يُقال: إنّ الندرة لا توجب الانصراف إلا الانصراف البدوي، بل لما مضى منّا من دعوى ارتكازيّة ضمان المثل مطلقاً، ونستفيد من الندرة مساعدتها على سهولة الانصراف عن حالة شائعة، فلا صعوبة في فرضه موجباً للانصراف عن حالة نادرة.

والرواية السابعة: رواية أبي الورد قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل قتل عبداً خطأً قال: «عليه قيمته، ولا يجاوز بقيمة عشرة آلاف درهم»، قلت: ومن يقوّمه وهو ميّت؟ قال: «إن كان لمولاه شهود أنّ قيمته كانت يوم قتل كذا وكذا اُخذ بها قاتله، وإن لم يكن له شهود على ذلك كانت القيمة على من قتله مع يمينه شهد بالله ما له قيمة أكثر ممّا قوّمته، فإن أبى أن يحلف وردّ اليمين على المولى فإن حلف المولى أعطى ما حلف عليه، ولا يجاوز قيمته عشرة آلاف...»(1).

وسند الحديث ضعيف بأبي الورد.

وأمّا من حيث الدلالة فاحتمال الخصوصيّة في العبد وارد؛ فإنّ المبلغ الذي يعطيه ليس من باب ضمان التالف بحتاً حتّى تحمل عليه موارد ضمان التالف المشابهة، بل هو مطعّم بعنوان الدية؛ ولذا قال: «ولا يجاوز بقيمته


(1) الوسائل، ب. من ديات النفس 29: 208 ـ 209.
28

عشرة آلاف» أي لا يجاوز دية الحرّ.

كما ورد هذا المضمون في بعض روايات اُخرى(1)، بل ورد في بعضها تسمية قيمة العبد التي تعطى لدى قتله بالدية(2)، والدية تثبت في الذمّة بمجرّد القتل، ودية العبد عبارة عن ثمنه يوم قتله، لكن لا يدلّ ذلك على أنّ ضمان التالف القيميّ يكون على العموم بالقيمة في الذمّة يوم التلف لا المثل.

هذا تمام الكلام في أصل المثليّة والقيميّة.

وقد اتّضح أنّ المختار دائماً هو ضمان المثل أو قل: إنّ المختار هو ضمان المثل لدى وجوده، وقيمة يوم الأداء لدى عدم وجود المثل.

نعم، قد يتّفق ضمان أمر أكثر من المثل أو قيمة يوم الأداء، كما في انكسار القيمة الاستهلاكيّة للثّلج ببرودة الجوّ؛ فإنّ الارتكاز العقلائيّ يقتضي ضمان هذا الانكسار.

سقوط العملة عن الاعتبار:

بقي بحث انكسار الدرهم بفعل السلطان(3).

وأخيراً أقول: إنّه وردت في انكسار القيمة الشرائيّة للنقد روايتان متعارضتان تامّتان سندا:

إحداهما: عن يونس: كتبت إلى الرضا (عليه السلام): إنّ لي على رجل ثلاثة آلاف درهم، وكانت تلك الدراهم تنفق بين الناس تلك الأيّام، وليست تتفق اليوم، فلي عليه تلك الدراهم بأعيانها أو ما ينفق اليوم بين الناس؟ قال: فكتب إليّ: لك أن تأخذ منه ما ينفق اليوم بين الناس كما أعطيته ما ينفق بين الناس»(4). ورواها الشيخ أيضاً إلّا أنّ في سندها سهل بن زياد.


(1) راجع: الوسائل 29: 207 ـ 208، ب. من ديات النفس.
(2) راجع: المصدر السابق، ح 1،..
(3) الحائري، كاظم، فقه العقود 2: 485.
(4) الحرّ العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة 18: 206، ب 20 من الصرف، ح..
29

والثانية: عن يونس قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام): إنّه كان لي على رجل عشرة دراهم وإنّ السلطان أسقط تلك الدراهم وجاءت دراهم أعلى من تلك الدراهم الاُولى ولها اليوم وضيعة، فأيّ شيء لي عليه: الاُولى التي أسقطها السلطان أو الدراهم التي أجازها السلطان؟ فكتب: «لك الدراهم الاُولى»(1).

وهناك رواية ثالثة: ساقطة سنداً تقول: لصاحب الدراهم الدراهم الاُولى(2).

والاُوليان إمّا هما رواية واحدة متضاربة المتن، أو روايتان متعارضتان، كما مضى ذلك منّا.

وقد مضى منّا: أنّ الجمع بينهما لا يكون إلا جمعاً تبرّعيّاً لا قيمة له.

راجع بصدد فهم ما قيل في الجمع من لا يحضره الفقيه(3).

وأقول هنا: لا ينبغي الإشكال في أنّ الارتكاز العقلائيّ يقتضي ضمان البديل فهذا ما نفتي به ولو بمعونة كون مخالفة هذا الحقّ العقلائيّ ضرراً منفيّاً بقاعدة لا ضرر.


(1) المصدر السابق: ح..
(2) المصدر السابق: 207، ح..
(3) الفقيه 3: 118، ذيل الحديث 504 والاستبصار 3: 100، ذيل الحديث 345.