191

طرق الإثبات في الفقه الإسلامي

1

 

 

علم القاضي

 

 

  1- مع الفقه الوضعي

  2- مع الفقه الإسلامي

 

 

 

 

193

الطريق الأول: علم القاضي.

مع الفقه الوضعي

وقبل الشروع في البحث عن ذلك من وجهة نظر فقهنا الإسلامي نشير إلى وجهة نظر الفقه الوضعي الحديث في مسألة علم القاضي، والمتبنّى عادةً في ذاك الفقه هو عدم حجّية علم القاضي.

وذكر عبدالرزاق السنهوري أنّ هذا ناتج عن مبدأ حقّ الخصم في الإثبات لا عن مبدأ حياد القاضي(1).

ولتوضيح المقصود نتكلّم باختصار عن كلّ من المبْدَءَين من وجهة نظرهم:

قال السنهوري في الوسيط ما ملخّصه:

إنّ الحقيقة القضائية قد تبتعد عن الحقيقة الواقعية، بل قد تتعارض معها؛ لأنها لا تثبت إلا عن طريق قضائي رسمه القانون، وقد يكون القاضي من أشدّ الموقنين


(1) راجع الوسيط، ص 33_ 34، الفقرة رقم 27.

194

بالحقيقة الواقعية ومخالفتها للحقيقة القضائية.

والقانون في تمسّكه بالحقيقة القضائية دون الواقعية يوازن بين اعتبارين: اعتبار العدالة في ذاتها، ويدفعه إلى تلمّس الحقيقة الواقعية بكلّ السبل ومن جميع الوجوه حتى تتّفق معها الحقيقة القضائية، واعتبار استقرار التعامل، ويدفعه إلى تقييد القاضي في الأدلّة التي يأخذ بها، فيحدّد له طرق الإثبات وقيمة كلّ طريق منها كي يأمن من جوره، ويحدّ من تحكّمه، ولا يختلف القضاة في ما يقبلونه من دليل، وفي تقدير قيم الأدلّة في الأقضية المتماثلة.

ويمكن في الموازنة بين الاعتبارين أن نتصوّر قيام مذاهب ثلاثة في الإثبات:

1_ المذهب الحرّ أو المطلق: وهو الذي يميل إلى استقرار العدالة ولو بالتضحية باستقرار التعامل.

2_ والمذهب القانوني أو المقيّد: وهو الذي يقيّد قوانين الإثبات أشدّ التقييد حتى يستقرّ التعامل.

3_ والمذهب المختلط: وهو مذهب بين بين يوازن ما بين الاعتبارين، فيعتدّ بكلّ منها، ولا يضحّي بأحدهما لحساب الآخر، وهذا هو خير المذاهب، فهو يجمع بين ثبات التعامل بما احتوى عليه من قيود وبين اقتراب الحقيقة الواقعية من الحقيقة القضائية بما أفسح فيه للقاضي من حرّيّة التقدير وأشدّ ما يكون إطلاقاً في المسائل الجنائيّة، ففيها يكون الإثبات حرّاً بتلمّس القاضي وسائل الإقناع فيه من أيّ دليل يقدّم إليه، شهادةً كانت، أو قرينةً، أو كتابةً، أو أي دليل آخر، ثم يتقيّد الإثبات بعض التقيّد في المسائل التجارية.

ويتّصل بما تقدّم مبدأ حياد القاضي، فالقاضي في المذهب الحرّ لا يكون محايداً، بل موقفه إيجابي ينشط القاضي فيه إلى توجيه الخصوم واستكمال ما نقص في الأدلّة

195

واستيضاح ما أبهم منها، بينما في المذهب القانوني سلبي محض لا يعدو القاضي فيه أن يتلقّى أدلّة الإثبات كما يقدّمها الخصوم دون أيّ تدخّل من جانبه، ثم يقدّر هذه الأدلّة طبقاً للقيم التي حدّدها القانون، فإذا رأى الدليل ناقصاً أو مبهماً فليس له أن يطلب إكماله أو توضيحه، بل يقدّره كما هو.

وفي المذهب المختلط ينبغي أن يكون موقفاً وسطاً بين الإيجابية والسلبية، بل أقرب إلى الإيجابية منه إلى السلبية.

والقوانين اللّاتينية والقانون المصري معها قد اتّخذت الموقف المختلط في الإثبات، وهي مع ذلك لا توسّع على القاضي في حرّيّة توجيهه للدعوى واستخلاص الحقائق من أدلّتها القانونية إلا إلى مدىً محدود...(1).

وهذا المعنى من الحياد كما ترى لا يترتّب عليه عدم حجّية علم القاضي.

وأمّا مبدأ حقّ الخصم في الإثبات:

فقد ذكروا أنّ على الخصم أن يثبت ما يدّعيه أمام القضاء بالطرق التي بيّنها القانون، وهذا ليس واجباً عليه فحسب، بل هو أيضاً حقّ له، وكلّ دليل يتقدّم به الخصم لإثبات دعواه يكون للخصم الآخر الحقّ في نقضه وإثبات ما يدّعيه الخصم، وكلّ دليل يقدَّم في الدعوى يجب أن يعرض على الخصوم جميعاً لمناقشته، ويدلي كلّ برأيه فيه ويفنّده أو يؤيّده، والدليل الذي لا يعرض على الخصوم لا يجوز الأخذ به.

ويترتّب على حقّ الخصوم في مناقشة الأدلّة التي تقدّم في الدعوى أنّه لا يجوز للقاضي أن يقضي بعلمه، ذلك أنّ علم القاضي هنا يكون دليلاً في القضيّة، ولما كان للخصوم حقّ مناقشة هذا الدليل اقتضى الأمر أن ينزل القاضي منزلة الخصوم فيكون


(1) راجع الوسيط، ج2، الفقرة رقم 20 _ 24.

196

خصماً وحكماً وهذا لا يجوز(1).

وهم يعتقدون أنّ عدم حجّية علم القاضي إذا كان مبتنياً على هذا الوجه الذي بيّنوه فهذا يتطلّب منهم إبعاد أمرين عن مسألة علم القاضي الذي لا حجّية فيه، وهذا بالفعل ما صنعوه:

الأول _ علم القاضي الذي لا يختصّ به، بل يعتبر من العلوم المعروفة بين الناس؛ قال في الوسيط في الهامش تعليقاً على ما ذكره في المتن من عدم جواز قضاء القاضي بعلمه:

«ولكن هذا لا يمنع من أن يستعين القاضي في قضائه بما هو معروف بين الناس، ولا يكون علمه خاصاً به مقصوراً عليه، وذلك كالمعلومات التاريخية والعلمية والفنيّة الثابتة...»(2).

فالمقصور بعلم القاضي الذي لا يجوز القضاء به إنّما هو علمه الشخصي، أمّا العلم الذي يحصل عادةً لمتعارف الناس فهو ليس علماً شخصياً، والعلم الذي يحصل لأهل الخبرة في المسائل الفنيّة يجب فيه الرجوع إلى أهل الخبرة. قال في رسالة الإثبات:

«لا يجوز القضاء في المسائل الفنيّة بعلم القاضي، بل يجب الرجوع إلى أهل الخبرة»(3).

والثاني _ علم القاضي الذي يحصل على أساس المعلومات التي يحصّلها وهو في مجلس القضاء. قال أحمد نشأت في رسالة الإثبات:

«وللقاضي أن يعتمد في حكمه على المعلومات التي يحصلها وهو في مجلس القضاء


(1) راجع الوسيط، ج2، الفقرة رقم 27 _ 29.

(2) نفس المصدر، ج2، ص33، تحت الخط في أحد هوامش الفقرة رقم 27.

(3) رسالة الإثبات لأحمد نشأت، ج1، ص2، الفقرة رقم2.

197

أثناء نظر الدعوى، وما يحصله على هذا الوجه لا يعتبر من المعلومات الشخصية التي لا يجوز للقاضي أن يستند إليها في قضائه»(1). وقد جاء ذكر هذين الاستثناءَين بشكل واضح ومشروح في كتاب رسالة الإثبات لأحمد نشأت(2)، فراجع.

وجاء في قانون المرافعات المدنيّة الجديد العراقي رقم 83: «لا يجوز للحاكم الحكم بعلمه الشخصي المتحصل خارج المحكمة»(3).

وجاء في شرح الأُستاذ القانوني منير القاضي للمادة (83) من قانون المرافعات المدنيّة الجديد العراقي _ حسب النقل الذي ورد في كتاب القضاء الشرعي _ ما نصّه:

«فإنّ الأدلّة التي يحصل بها الإثبات تحقّق للقاضي علماً مكتسباً بالحادثة المكلّف بالحكم فيها، فيكون الحاكم بعد قيام الدليل لديه كأنّه شاهد الواقعة ووقف على ظاهرها وباطنها، فلا يسعه إلا الحكم بما علم من هذا الطريق؛ إذ إنّ خلاف ذلك مجهول لديه فكيف يحكم بمجهول؟! ويستلزم هذا التعامل أنّ للحاكم أن يحكم بعلمه الشخصي، أي غير المكتسب من طريق الدليل الذي قام لديه، بل حصل له من طريق مشاهدته ووقوفه عليه شخصيّاً؛ لأنّ هذا أقوى من العلم الذي حصل له من طريق الشهادة مثلاً.

وإلى هذا الرأي ذهب كثير من فقهاء الشريعة المتقدّمين، ولكن لما خربت الذمم، وضعف الوازع الديني، وفسد الضمير في كثير من الناس، وطغى حبّ المادّة على النفوس، وأُشربت القلوب حبّ المال من أيّ طريق جاء أصبح علم القاضي الشخصي مكتنفاً بالظنون والريب حتى قال الفقيه الشافعي: لولا قضاة السوء


(1) الوسيط، ص19، الفقرة رقم2.

(2) ج1، ص18 _ 19، الفقرة رقم2.

(3) راجع دليل القضاء الشرعي تأليف محمد صادق بحر العلوم، ج2، ص34، الفقرة رقم7.

198

لقلت: إنّ للحاكم أن يحكم بعلمه. ولهذا قرّر المتأخرون من الفقهاء بالإجماع عدم جواز حكم الحاكم بعلمه»(1).

أقول: يقصد صاحب هذا الكلام بالفقهاء فقهاء العامّة.

أمّا فقهاء الشيعة الذين يشترطون العدالة في القاضي فالمشهور بينهم قديماً وحديثاً هو جواز قضاء القاضي بعلمه كما تقدّم.

وبهذا يتمّ التقريب بين الحقيقة القضائية والحقيقة الواقعية بأفضل وجه حيث يكون علم القاضي في فرض عدالته كاشفاً أميناً عن الواقع في غالب الأحيان، وينضمّ إلى ذلك في التقريب بين الحقيقة القضائية والحقيقة الواقعية ما ثبت في فقهنا الشيعي من شرط العدالة في القاضي وفي الشاهد؛ ذاك الشرط الذي لا يمكن للفقه الوضعي المنبثق من العقل البشري الالتزام به؛ إذ إنّ الانسان المبتعد عن تعاليم السماء ينغمس عادةً في الظلم والجور إلى حدّ لا يفهم لشرط العدالة معنىً، وهكذا يتيهون في أُسلوب الجمع بين الحقيقة القضائية والحقيقة الواقعية، ويضعون الحجّية لقرائن غير مفيدة للعلم، معطين زمام أمر تقييمها ومدى القبول بها بيد قاضٍ لا يشترط فيه العدالة، ولا يعرفون معنىً لحجّية علم القاضي.

أمّا ما مضى عن الوسيط من عدم نفوذ علم القاضي _ بعد القول بأنّ للخصوم حقّ مناقشة كلّ دليل _ إذ لو نفذ لزم اتّحاد القاضي والخصم فهذا غريب؛ فإنّ الخصم بالمعنى الذي ارتكز عقلائياً عدم جواز اتّحاده مع القاضي إنّما هو الخصم بمعنى من يكون طرفاً في النزاع _ أي الذي يحكم له أو عليه _ لا كلّ من يناقش الخصوم ما يقدّمه من دليل. وجاء في رسالة الإثبات لأحمد نشأت قوله: «لا يصحّ للقاضي أن


(1) راجع دليل القضاء الشرعي تأليف محمد صادق بحر العلوم، ج2، ص34_ 35، الفقرة رقم7.

199

يقضي بعلمه الشخصي... القاضي ليس إلا بشراً كسائر الناس غير معصوم من الخطأ والنسيان، ولا منزَّهاً عن الغرض. والقاضي الذي يشهد في دعوى لا شكّ يكون متأثّراً بشهادته، فلا يصحّ مطلقاً أن يجلس للفصل فيها، وهذا الأمر بديهي تقضي به طبيعة الأشياء، فليس هو في حاجة إلى نص في القانون»(1).

أقول: إنّ القاضي عادةً يتأثّر بالدليل الذي يقضي به على كلّ حال، وهم يقولون بأنّ للقاضي حرّية تقدير قيمة البيّنة والقرائن، فيقضي بها عندما يقتنع بها، ويردّها عندما لا يقتنع بها، أفليس هذا عبارة عن التأثّر بالبيّنة والقرائن؟ فَلِمَ لا يُقبل تأثّره بالدليل الذي أوجب له علمه الشخصي خارج المحكمة؟! هناك فرق واحد وهو أنّ احتمال الخيانة من قبل القاضي لدى دعواه العلم الشخصي وارد بمستوىً لا يرد في تقييمه للبيّنة والقرائن أمام الخصوم مع مناقشتهم لها، ولكن هذا علاجه عندنا يكون بشرط العدالة.

مع الفقه الإسلامي

وعلى أيّة حال فلنبحث مسألة حجّية علم القاضي من زاوية فقهنا الإسلامي، وقد بحثوا تارةً حجّية علم الإمام المعصوم وجواز قضائه به، وأُخرى حجّية علم القاضي غير الإمام المعصوم.

وقد استظهر أو ادّعي في كلتا المسألتين الإجماع على جواز القضاء بالعلم.

والذي ظهر منه الفرق بين المسألتين _ ولو في خصوص باب الحدود التي هي من حقوق اللّه لا خصم النزاع _ هو صاحب النهاية حيث نُقل عن حدود النهاية: أنّه إذا شاهد الإمام من يزني أو يشرب الخمر كان عليه أن يقيم الحدّ، ولا ينتظر مع


(1) رسالة الإثبات ، ج 1 ، الفقرة 379 مكرّر، الطبعة السابعة.

200

مشاهدته قيام البيّنة والإقرار، وليس ذلك لغيره، بل هو مخصوص به. وغيره _ وإن شاهد _ يحتاج إلى أن يقوم بيّنة أو إقرار من الفاعل.

وينقل عن ابن الجنيد أنّه لا يفرّق بين الإمام وغير الإمام في عدم جواز القضاء بالعلم تارةً على الإطلاق كما نقله المرتضى عنه، وأُخرى في حقوق الناس، مع الاعتراف بنفوذ العلم في حقوق اللّه من دون فرق أيضاً بين الإمام وغير الإمام. واستظهر في المسالك نقلاً ثالثاً عن ابن الجنيد: وهو تخصيص التفصيل بين حقوق الناس وحدود اللّه بغير الإمام مع الاعتراف بحجّية علم الإمام في القضاء مطلقاً.

وعن ابن حمزة تبنّي تفصيل معاكس لتفصيل ابن الجنيد، وهو أنّ الحاكم يحكم بعلمه في حقوق الناس دون حقوق اللّه تعالى؛ لابتنائها على المسامحة والرخصة والستر، ويحتمل إطلاق كلام ابن حمزة لعلم الإمام.

وعلى أيّ حال فقد استدلّ على جواز حكم الإمام وفق علمه بوجوه سيأتي أكثرها إن شاء اللّه عند البحث عن حكم القاضي _ غير الإمام _ بعلمه، وممّا يختصّ بمسألة حكم الإمام بعلمه ما جاء في الجواهر من وجوب تصديق الإمام في كلّ ما يقوله وكفر مكذّبه.

وعن بعض حَملُ ما قد يستظهر منه عدم حكم المعصوم بعلمه كقوله (صلى الله عليه و آله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»(1)، على أنّ هذا لا ينافي جواز حكم المعصوم بعلمه، فإنّ عدم حكمه به خارجاً لا يعني عدم الجواز. وكأنّ صاحب هذا الكلام حمل الجواز على الجواز التكليفي أو الحجّية التخييريّة، بينما الظاهر أنّ مصبّ كلام الأصحاب هو نفوذ العلم وحجّيته بحيث لا تصل النوبة معه إلى بيّنة أو يمين، وهو المستفاد من أكثر استدلالاتهم، كاستدلالهم بقوله تعالى: ﴿يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ


(1) وسائل الشيعة ، ج18 ، ص 199، الباب 2 من كيفيّة الحكم ، ح1.

201

فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ﴾(1)، وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾(2).

وكيفما كان فالبحث عن مدى نفوذ علم المعصوم ووجوب حكمه به، أو مجرّد الجواز، أو عدم جواز ذلك بحث فارغ لا أثر له؛ إذ المعصوم حينما يكون حاكماً هو أعرف بوظيفته، وحينما يكون الحاكم غير معصوم لا يفيده هذا البحث إلا بافتراض ذلك مقدّمةً لجواز حكم الفقيه بعلمه بناءً على أنّ كلّ ما للإمام للفقيه.

ثم إنّه ينبغي أن يستبعد من بحث حجّية علم القاضي علمه الحسّي بمثل البيّنة، والإقرار، واليمين، وتزكية الشهود وجرحهم، والجامع هو علمه الحسّي بما يستعين به في القضاء؛ إذ من ضرورة الفقه أنّه لو أنكر أحد الخصمين اليمين، أو الإقرار، أو قيام البيّنة بعد وقوع ذلك لا يطالَب القاضي في حكمه ببيّنة على البيّنة، أو الحصول على إقرار أو يمين، ولو احتاجت تزكية الشهود إلى شهود لزم التسلسل؛ فمحلّ البحث إمّا هو القضاء بالعلم، لا علمه بما يقضي به، أو أنّه ينبغي أن لا يشمل _ على الأقّل _ العلم الحسّي بوسائل الإثبات في القضاء.

واستقرب المولى علي الكني استبعاد العلم الحاصل بمثل الإلهام والوحي والمكاشفات عن محل البحث، وأن يكون من المسلّم عدم نفوذه في القضاء قبل قيام القائم (عليه السلام)، وذكر (رحمه الله) ما حاصله: أنّ الأقوى المنع عن القضاء بعلم من هذا القبيل؛ لظهور كلماتهم في حجّية العلم في القضاء في العلم المشترك بين المعصومين وغيرهم، خصوصاً على القول بكون علمهم حضورياً أو إرادياً مع وقوع الإرادة


(1) ص: 26.

(2) المائدة: 42.

202

الموجبة له، فإنّ قضاءهم (عليه السلام) بالبيّنة والأيمان كثير جداً، واحتمال مطابقتها جميعاً للواقع بعيد، كما يدفعه أيضاً قوله (صلى الله عليه و آله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان، ولعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له قطعة من النار»(1). هذا مضافاً إلى أخبار كثيرة في أنّ القضاء بمثل هذا العلم إنّما هو للقائم (عليه السلام) كرواية عبيدة بن الحذاء عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: «إذا قام قائم آل محمد  حكم بحكم داود (عليه السلام) لا يسأل بيّنة»(2)...(3).

أقول: المفهوم عرفاً من هذا الحديث التامّ سنداً هو أنّ الحكم قبل الإمام القائم ؟عج؟ إنّما هو بالبيّنة لا بالعلوم الغيبيّة من سنخ المكاشفة والإلهام، وذلك إمّا من باب أنّ مَن قبل القائم ؟عج؟ لا يحصل له علم من هذا القبيل في مورد القضاء، أو من باب أنّه ليس له أن يحكم بذلك. وعلى أيّة حال فهذا البحث أيضاً _ عادةً _ خارج عن محل الابتلاء.

وقد تركّز بهذا العرض موضوع بحثنا في علم القاضي غير المعصوم بالحكم عن الطرق الاعتيادية دون الكشف والإلهام.

والآن نشرع في ذكر عمدة الأدلّة التي يمكن الاستدلال بها على أحد الطرفين:

أدلّة الحجّية

أمّا حجّية علم القاضي فيمكن الاستدلال عليها بعدّة أمور، بعد وضوح أنّ حجّية علم القاضي أو نفيها بحاجة إلى دليل؛ إذ العلم هنا نسبته إلى عدم جواز القضاء به _ لو قيل بذلك _ نسبة الموضوع إلى الحكم، وليس علماً طريقيّاً كي تكون حجّيته


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص169، الباب 2 من كيفيّة الحكم، ح 1.

(2) نفس المصدر، ص168، الباب الأول من كيفيّة الحكم، ح 4.

(3) راجع كتاب القضاء للمولى علي الكني، ص 255 _ 256.

203

واضحةً وذاتيّةً لا تقبل النفي مثلاً:

الدليل الأول _ دعوى الإجماع كما استدلّ به في الجواهر.

ومن الواضح عدم حجّية الإجماع في المقام بعد صلاحيّة الوجوه الأُخرى للمدركيّة.

الدليل الثاني _ ما جاء في الجواهر أيضاً من كون العلم أقوى من البيّنة المعلوم إرادة الكشف منها.

والظاهر أنّ المقصود هو التمسّك بالأولويّة. ولعلّه يتم الاستدلال بالنسبة لغير موارد حجّية البيّنة _ كما لو قيل بذلك بشأن المنكر _ بعدم احتمال الفصل فقهيّاً، أو يقال بأولويّة العلم من اليمين أيضاً.

وفيه: أنّه لم يثبت كون نكتة القضاء وفق اليمين نكتة الكشف محضاً؛ كي يقال بأولويّة العلم لكونه أقوى كشفاً.

والمنقول عن السيد الگلبايگاني في تقرير بحثه الذي كتبه السيد علي الميلاني بيان المطلب بصياغة أُخرى تختلف شيئاً ما عن صياغة صاحب الجواهر: وهي أنّه لئن ثبت في علم الأصول قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الكاشفيّة _ دون الصفتيّة _ فقيام القطع مقام الأمارة _ وهي الظن المأخوذ على وجه الكاشفيّة _ بطريق أولى؛ إذاً فقطع القاضي يقوم مقام البيّنة.

والحاصل أنّ البيّنة لئن كانت تقوم مقام العلم فقيام العلم الذي هو أقوى من البيّنة مقامها أولى.

إلا أنّ هذا التقريب غير مقبول لدينا مبنىً؛ لما حقّقناه في علم الأصول من عدم قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي المأخوذ على وجه الكاشفيّة؛ إلا بمعنىً يرجع إلى القضيّة بشرط المحمول بأن يقصد بأخذ القطع موضوعاً على وجه الكاشفيّة أخذ

204

مطلق الكاشف الأعمّ من التكويني والتعبّدي موضوعاً.

وعلى أيّ حال فسواء أُخذ بهذا التقريب، أو بالتقريب الذي نقلناه عن صاحب الجواهر(رحمه الله) _ من التمسّك ابتداءً بدعوى أولويّة العلم من البيّنة لكونه أقوى منها _ يرد عليه: أنّ أقوائيّة علم القاضي من البيّنة قد تؤثّر في استظهار حجّيته لو كان المشرِّع هو القاضي نفسه، فيقال: إنّ علمه أقوى لديه من البيّنة، فإذا جعلَ البيّنةَ حجّةً فعلمه بطريق أولى، ولكن المشرّع هو شخص ثالث نسبته إلى القاضي والبيّنة على حدّ سواء وعلم البيّنة أقوى كشفاً(1) لديه من علم القاضي غير المعصوم؛ لأنّ علم عدلين أبعد عن الخطأ من علم عدل واحد.

ورأيت في كتاب «فدك» لأُستاذنا الشهيد رضوان اللّه عليه الذي ألّفه في عنفوان شبابه الالتفات إلى ما يرجع بروحه إلى هذه النكتة؛ حيث أورد على الاستدلال لحجّية علم القاضي بأقوائيّة العلم من البيّنة بقوله:

«وأُلاحظ أنّ في هذا الدليل ضعْفاً مادّيّاً؛ لأنّ المقارنة لم تقم فيه بين البيّنة وعلم الحاكم بالإضافة إلى صلب الواقع، وإنّما لوحظ مدى تأثير كلّ منهما في نفس الحاكم، وكانت النتيجة حينئذٍ أنّ العلم أقوى من البيّنة؛ لأنّ اليقين أشدّ من الظنّ، وكان حقّ المقارنة أن يلاحظ الأقرب منهما إلى الحقيقة المطلوب مبدئيّاً الأخذ بها في كلّ مخاصمة ولا يَفْضُل علم الحاكم في هذا الطور من المقايسة على البيّنة؛ لأنّ الحاكم قد يخطأ كما أن البينة قد تخطأ، فهما في شرع الواقع سواء كلاهما مظنّة للزلل والاشتباه»(2).


(1) وبتعبير أدقّ: ما يفهمه القاضي من شهادة عدلين أقوى عند المشرع من علم القاضي رغم وجود احتمال ضئيل لخطأ فهم القاضي لما هو مقصود البيّنة، بينما لا يحتمل خطأ فهمه لعلمه.

(2) فدك في التاريخ، ص 161.

205

أقول: إذا كان علم القاضي بالقضيّة علماً حسيّاً لا يبعد دعوى تعدّي العرف من نفوذ البيّنة إلى نفوذ علم القاضي؛ لأنّ علم القاضي الحسّي أقرب إلى الحقيقة والواقع _ أو قل: أقوى في نظر المشرّع _ من علم القاضي بالبيّنة، فلا إشكال في أنّ القاضي حينما يقضي بالبيّنة يقضي بعلمه بثبوت البيّنة، ولولا علمه بها لما رتّب أثراً عليها كما هو واضح، وعلمه بالبيّنة القائمة على الواقع أبعد من الواقع من علم القاضي الحسّي بالواقع مباشرةً _ بعد فرض ابعاد إحتمال خيانة القاضي _؛ لأنّ خطأ الأول له منفذان: أحدهما خطأ علمه بالبيّنة، والثاني خطأ علم البيّنة بالواقع، وخطأ الثاني له منفذ واحد وهو خطأ القاضي في علمه بالواقع.

فهذا الوجه قد يدلّ على نفوذ علم القاضي الحسّي لا مطلق علم القاضي.

والتحقيق أنّ هذه الدلالة أيضاً لا تخلو من مناقشة؛ لعدم وضوح كون هذه الأولوية بمستوىً نجزم بنفوذ علم القاضي الحسّي، أو نستظهر ذلك من دليل نفوذ البيّنة، خصوصاً وأنّ من المحتمل كون احتمال خيانة القاضي _ ولو نادراً _ داخلاً في حساب المشرّع.

الدليل الثالث _ ما جاء في الجواهر في سياق إثباته لحجّية علم الإمام في القضاء من الاستدلال بالآيات الدالّة على وجوب الحكم بالعدل: كقوله تعالى: ﴿يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ﴾(1).

وقوله تعالى: ﴿وَإِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾(2).

وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ﴾(3).


(1) ص: 26.

(2) النساء: 58.

(3) المائده: 42.

206

هذه هي الآيات التي استشهد بها في الجواهر، ويمكن إضافة آيات أُخرى إليها، كالآية التي جاء ذكرها بهذا الصدد في كتاب «فدك» لأُستاذنا الشهيد _ أعلى اللّه مقامه _ من قوله تعالى: ﴿وَمِمَّنْ خَلَقْنٰا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾(1) أي يحكمون، وكقوله تعالى: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾(2). وكما جاء ذكره بهذا الصدد في كتاب المولى الكني (رحمه الله) من قوله تعالى: ﴿إِنّٰا أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّٰاسِ بِمٰا أَرٰاكَ اللّٰهُ﴾(3)، واستشهد (رحمه الله) أيضاً بالآيات الثلاث: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ...*فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ...*أي: في سلام أو سالمين.فَأُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ﴾(4).

ومن قبيل هذه الآيات الروايات الناهية عن الحكم بغير ما أنزل اللّه(5)، ومرفوعة البرقي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «القضاة أربعة: ثلاثة في النار وواحد في الجنّة: رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة» ورواه في الخصال عن محمد بن موسى بن المتوكل، عن السعد آبادي، عن أحمد بن أبي عبداللّه، عن أبيه، عن ابن أبي عمير رفعه إلى أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «القضاة أربعة...» الحديث(6).


(1) الأعراف: 181.

(2) الأعراف: 159.

(3) النساء: 105.

(4) المائده: 44 _ 45 _ 47 .

(5) راجع وسائل الشيعة، ج 18، الباب 5 من صفات القاضي.

(6) نفس المصدر، الباب 4 من صفات القاضي، ح6 و7.

207

وتقريب الاستدلال بهذه الآيات والروايات هو أنّ موضوع جواز القضاء حسب ما يفهم من هذه الآيات والروايات هو العدل والحق والقسط وما أنزل اللّه وما شابه ذلك من العناوين، فالعلم بذلك يكون علماً بموضوع الحكم، ومؤدّياً إلى العلم بالحكم _ أي العلم بجواز القضاء _ فكم فرق بين أن نفترض أنّ موضوع جواز القضاء هو البيّنات والأيمان، فيقال: «لم تثبت حجّيةٌ للعلم؛ لأنّ قيام العلم مقام البيّنات والقضاء _ يعني كونه موضوعاً لجواز القضاء والعلم الموضوعي _ لا حجّية ذاتية فيه، بل لابدّ من ثبوت موضوعيّته بدليل»، وأن نفترض أنّ موضوع جواز القضاء هو نفس الحقّ والواقع، وعندئذٍ فالعلم به علم بموضوع جواز القضاء، وهذا علم طريقي بالنسبة لموضوع جواز القضاء، ويؤدّي إلى العلم بجواز القضاء، ولا يمكن الردع عن حجّيته.

لا يقال: إنّ دليل وجوب القضاء بالحقّ إنّما دلّ على أنّ متعلّق القضاء هو الحقّ؛ أمّا أنّ الحقّ هو تمام الموضوع للقضاء فلم يدل عليه، فمن المحتمل أن يكون الحقّ جزء الموضوع للقضاء، والحجّة عليه هي الجزء الآخر له؛ أي: أنّ من قضى بالحقّ بلا حجّة فهو عاصٍ وليس متجرياً، ولعلّ هذا هو المرتكز عقلائيّاً، فإذا فرضت الحجّة جزءاً للموضوع جاء احتمال أن يكون جزء الموضوع عبارة عن خصوص البيّنة واليمين، دون علم القاضي.

فإنّه يقال: إنّ القاضي لو علم بالحقّ وكانت البيّنة أو اليمين تشير إلى شيء آخر يعلم أنّه ليس بحقّ فلا يخلو الأمر من أحد فروض ثلاثة: أن تكون وظيفة القاضي القضاء بعلمه، أو القضاء بالبيّنة أو اليمين على خلاف علمه، أو أن لا يقضي أصلاً. والاحتمال الثالث غير موجود فقهيّاً، والثاني خلاف وجوب القضاء بالحقّ، فيتعيّن الأول، وهو القضاء وفق علمه. وبهذا يثبت أنّه إذا كانت الحجّة جزءاً للموضوع فليس جزء الموضوع خصوص البيّنات والأيمان، بل يكفي أيضاً علم القاضي.

208

ويمكن الاعتراض على هذا التقريب بوجهين رئيسيّين:

الوجه الأول _ ما جاءت الإشارة إليه في كلمات المحقّق العراقي (رحمه الله) من أنّه قد يكون المراد بمثل الحقّ والعدل هو الحقّ والعدل وفق مقاييس القضاء، لا الحق والعدل وفق الواقع، وكون علم القاضي من مقاييس القضاء أوّل الكلام(1).

يبقى أنّ هذا الاحتمال هل هو بحسب ذاته احتمال يقابل احتمال كون الحقّ والعدل بلحاظ الواقع، أو أنّ هذا الاحتمال _ لولا شاهد يشهد له _ خلاف الظاهر، ولكن الشاهد عليه موجود؟ يحتمل من عبارة المحقّق العراقي (رحمه الله) أن لا يرى هذا الاحتمال بحدّ ذاته قابلاً لمقابلة الاحتمال الآخر إلا بلحاظ وجود شاهد عليه، وقد جعل (رحمه الله) الشاهد على ذلك رواية «رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم...» بتقريب أنّه لو كان موضوع القضاء هو الحقّ الواقعي، لا الحقّ وفق مقاييس القضاء؛ إذاً فقضاء من قضى بالحقّ وهو لا يعلم صحيح وضعاً وتكليفاً، ولا عقاب عليه إلا بملاك التجرّي، فيجب أن نحمل هذا الحديث على عقاب التجرّي، أو على كون المقصود بالعلم هو الاجتهاد؛ فالحديث هو من أحاديث شرط الاجتهاد في القضاء، وكلّ هذا خلاف الظاهر. وحمل الحقّ والعدل في الأدلّة الأُولى على الحقّ والعدل وفق مقاييس القضاء إنْ لم يكن أولى فلا أقلّ من تساوي الاحتمالات، فيسقط الاستدلال.

وأورد عليه أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في كتاب «فدك»(2) بأنّ حديث «رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم» لا يقتضي عدم موضوعيّة الواقع للحكم، غاية ما هناك أنّه يقيّد الأدلّة الأُولى بالعلم، فيصبح الواقع جزء موضوع، والعلم به جزءاً آخر للموضوع، ولا بأس بذلك.


(1) كتاب القضاء، ص 22.

(2) ص 164 تحت الخط.

209

أقول: هذا مضافاً إلى ضعف سند الحديث.

وعلى أيّ حال فبالإمكان أن يُغضّ النظر عن الشاهد الذي ذكره المحقّق العراقي (رحمه الله)، ويقال ابتداءً: إنّنا نحتمل كون المقصود بالحقّ والعدل في المقام هو الحقّ والعدل وفق مقاييس القضاء لا وفق الواقع، فما لم يثبت ظهور الأدلّة في إرادة الحقّ والعدل وفق الواقع لا يتم الاستدلال بهذه الأدلّة، وقد أشار إلى ذلك أُستاذنا الشهيد (رحمه الله) في كتابه المذكور، وأجاب عنه:

أوّلاً بأنّ المتبادر من كلمة الحقّ والعدل _ وخاصّةً كلمة (الحقّ) _ هو الحقّ والعدل بحسب الواقع، لا الحق والعدل بحسب مقاييس القضاء.

وثانياً بأنّ حمل الأمر في قوله تعالى: ﴿أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾على الأمر بالحكم بما هو عدل بمقاييس القضاء، يعني حمله على الأمر الإرشادي؛ إذ هذا يعني الأمر بالعمل بمقاييس القضاء وقوانينه فى حين أنّ نفس وضعها قانوناً للقضاء يعني لزوم تطبيقها؛ فالأمر بالتزام القانون أمر إرشادي نظير الأمر بالطاعة، فظهور الأمر في المولويّة يقتضي حمل العدل على العدل بحسب الواقع(1).

أقول: لو آمنّا بأنّ كلمة (العدل) بحدّ ذاتها مجملة مردّدة بين المعنيين دخل اتصالها ݣݣبالأمر في اتّصال ما يصلح للقرينيّة على إرشاديّة الأمر، وهذا يوجب الإجمال، على أنّ إرشاداً من هذا القبيل _ أي من قبيل الأمر بالطاعة والتخويف بالنار ونحو ذلك _ داخل أيضاً في شؤون المولى سبحانه كمولويّته، فلا نقبل ظهور الأمر في المولويّة في قبال الإرشاديّة بهذا المعنى. وببالي _ على ما أتذكّر أنّه _ تغمّده اللّه برحمته نبّه على هذه النكتة في بعض أبحاثه الأصوليّة التي أدلى بها بعد كتابه (فدك) بسنين كثيرة.


(1) راجع كتاب فدك، ص 163 _ 164.

210

وعلى أيّ حال فالجواب الأول _ وهو دعوى تبادر إرادة الحقّ والعدل بحسب الواقع _ صحيح. وبتعبير آخر يفهم من كلمة ( الحقّ والعدل) ما هو حقّ وعدل في ذاته، لا الحقّ والعدل النسبيّان، أي بالنسبة لمقاييس القضاء.

فإن قلت: إنّ هناك قرينة ارتكازيّة كالمتّصلة تدل على أنّ المراد هو الحقّ والعدل بلحاظ خصوص مقاييس القضاء وهي وضوح أنّ القضاء ليس دائماً بالحقّ الواقعي، بل في كثير من الأحيان يكون وفق البيّنات والأيمان وغيرهما من مقاييس القضاء ممّا لا يُثبت إلا الحقّ بمقاييس القضاء، لا الحقّ في ذاته.

قلت: إنّ الآيات والروايات بحدّ أنفسها تدل على القضاء بالحق الواقعي كما عرفت، وليس وضوح حجّية مقاييس القضاء بمعنى وضوح حجّيتها لإثبات أنّ الحكم الواقعي بشأن القاضي هو القضاء وفقها، بل من المحتمل أن تكون حجّيتها حجّيةً ظاهريّةً تحكم الواقع حكومة ظاهرية سنخ حكومة دليل الأمارات والأصول على الواقع، والحكومة الظاهريّة لا تمتدّ إلى فرض العلم بالخلاف.

ولو استظهر من دليل مقاييس القضاء أنّها أحكام واقعيّة بشأن قضاء القاضي لا يجوز له تخطّيها حتى مع العلم بالخلاف، فهذا يعني الحصول على دليل منفصل على عدم حجّية علم القاضي، والمفروض بنا أن نبحثه بعد ذلك ضمن أدلّة عدم حجّية علم القاضي، وليس قرينةً ارتكازيّةً كالمتّصلة تُبطِل دلالة هذا الدليل على حجّية علم القاضي.

إن قلت: إنّ كلمة (الحقّ) مثلاً في الأمر بالقضاء بالحقّ إن حملت على معنى المفعول به دلّت على وجوب القضاء بالحقّ الواقعي لما افترضناه من ظهور الحقّ في الحقّ في ذاته، لا الحقّ وفق مقاييس القضاء، ولكن من المحتمل حملها على معنى المفعول المطلق من قبيل قولنا: (مشى زيد بسرعة) أي: (مشى مشياً سريعاً)، وهذا

211

يعني الأمر بالقضاء قضاءً حقّاً، ومن الواضح أنّ القضاء الحقّ في ذاته يعني القضاء وفق المقاييس القضائيّة.

قلت: حمل ذلك على مفاد المفعول المطلق واستعمال جملة (مشى زيد بسرعة) بهذا المعنى لا أعرف مدى صحّته في اللغة العربية.

نعم، لا شكّ في صحّة هذا التعبير: (مشى زيد بسرعة) بمعنى الظرفية والحال أي في سرعة أو مُسرِعاً، كقوله تعالى: ﴿اُدْخُلُوهٰا بِسَلاٰمٍ آمِنِينَ﴾(1) أي: في سلام أو سالمين.

نعم، ورد في الحديث: «لَسيرةُ علي (عليه السلام) في أهل البصرة كانت خَيراً لشيعته ممّا طلعت عليه الشمس؛ أنّه علم أنّ للقوم دولة فلو سباهم لسبيت شيعته. قلت: فأخبرني عن القائم (عليه السلام) يسير بسيرته؟ قال: لا، إنّ عليّاً سار فيهم بالمنّ لما علم من دولتهم، وإنّ القائم يسير فيهم بخلاف تلك السيرة؛ لأنّه لا دولة لهم»(2). وفي حديث آخر: «إنّ القائم إذا قام بأيّ سيرة يسير في الناس؟...»(3) ونحوهما غيرهما(4).

ولكن الظاهر أنّ المقصود بالسيرة العمل الذي سار عليه علي (عليه السلام)، لا السيرة بالمعنى المصدري، وإن شئت فعبّر عن ذلك بـ (اسم المصدر)؛ فالفعل قد تعدّى إليه بالباء وليس مفعولاً مطلقاً. وعلى أيّ حال فلا شكّ أنّ حمل كلمة (بالحقّ) و(بالعدل) ونحو ذلك فيما نحن فيه على معنى المفعول المطلق لو كان صحيحاً فهو عند إمكانيّة الحمل على المفعول به خلاف الظاهر جدّاً.


(1) الحجر: 46.

(2) وسائل الشيعة، ج 11، ص57، الباب 25 من جهاد العدو، ح 1 و2.

(3) نفس المصدر.

(4) راجع نفس المصدر، ص57 _ 59.

212

ثم إنّ المحقّق العراقي (رحمه الله) بعد إبدائه لاحتمال كون المراد بمثل (الحقّ) و(العدل) هو الحقّ والعدل وفق المقاييس الواقعية، لا في ذاته أبرز قرينة في خصوص رواية: «رجل قضى بالحقّ وهو يعلم» على أنّ المقصود بذلك هو الحقّ في ذاته لا الحقّ وفق مقاييس القضاء، وذلك بقرينة الفقرة الأُخرى وهي: «رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم»؛ إذ المقصود بالحقّ في هذه الفقرة هو الحقّ في ذاته، لا الحقّ وفق مقاييس القضاء؛ فإنّ من قضى بالحقّ وهو لا يعلم لم يقض وفق مقاييس القضاء؛ لأنّ من جملة مقاييس القضاء كما تدل عليه هذه الرواية هو أن لا يقضي بلاعلم، فبقرينة هذه الفقرة نعرف: أنّ المقصود بالحقّ في الفقرة الأُخرى أيضاً _ وهي قوله: «رجل قضى بالحقّ وهو يعلم» _ هو الحقّ في ذاته، وقد حكم بأنّه في الجنّة، وإطلاقه يشمل من قضى بالحقّ في ذاته بعلمه، لا ببيّنة أو يمين.

أقول: لا إشكال في أنّ المقصود بالحقّ في قوله: «قضى بالحقّ وهو لا يعلم» ليس الحقّ وفق مقاييس القضاء بما فيها نفس المقياس المعطى في هذا الحديث، وإلا لما كان قاضياً بالحقّ؛ لأنّه خالف المقياس المعطى في هذا الحديث، لكن يبقى الأمر دائراً بين أن يكون المقصود هو الحقّ في ذاته أو الحقّ وفق المقاييس العامّة للقضاء غير المقياس المعطى بهذا الحديث كمقاييس البيّنة والأيمان بأن يكون المقصود: مَنْ قضى وفق المقاييس العامّة _ من البيّنة والأيمان ونحوهما بالشكل الثابت في باب القضاء _ ولكنّه لم يكن يعلم بذلك، فهو في النار.

وعلى أيّ حال فقد أشرنا إلى أنّ الحديث ضعيف السند.

الوجه الثاني _ ما ذكره أيضاً المحقّق العراقي (رحمه الله) وهذا الإشكال يرجع إلى علم القاضي غير المعصوم: وهو أنّه بعد تماميّة دلالة تلك الآيات والروايات، أو خصوص رواية «قضى بالحقّ وهو يعلم» على كون الواقع موضوعاً للقضاء، فهذا وإن كان

213

لازمه حجّية علم القاضي لنفسه لإثبات جواز القضاء بما علم بحقّانيته، ولكن هذا المقدار لا يُثبت ما هو الظاهر من كلمات مَنْ جَعَل العلم ميزاناً في قبال البيّنة واليمين؛ من أنّ العلم _ كالبيّنة واليمين _ يوجب فصل الخصومة بحيث لا تُقبل إقامة الدعوى والبيّنة مرّةً أُخرى على خلاف ما قضى به القاضي.

توضيح ذلك: أنّ البيّنة حجّة تُثبت المدّعى لدى الشكّ لكلّ أحد، وحجّيّتها تعبّديّة، لا وجدانيّة خاصّة بشخص دون آخر، فلو حكم القاضي وفقها فقد قامت الحجة وانتهت الخصومة، وليس لشخص آخر يشكّ في مطابقة حكم القاضي الأول للواقع أن ينظر مرّةً أُخرى في الدعوى، يطالب ببيّنة أو يمين. أمّا العلم فحجّيّته خاصّة بالعالم، أمّا الشخص الآخر الذي يشكّ في مطابقة علم القاضي للواقع فقد شكّ في موضوع القضاء الذي قضى به ذاك الحاكم وهو الواقع، ولا حجّة له تثبت الواقع تعبّداً؛ إذاً من حقّه أن ينظر مرّةً أُخرى في دعوى من يدّعي عدم مطابقة حكم الحاكم الأول للواقع وعدم تماميّة موضوع جواز القضاء وهو الواقع، ويسمع البيّنات والأيمان، فصحّ القول بأنّ العلم ليس ميزاناً للقضاء كالبيّنة واليمين، فالبيّنة واليمين يخصمان النزاع وينهيانه بخلاف العلم.

صحيحٌ أنّه مع الشكّ في مطابقة علم القاضي للواقع وبالتالي في صحّة قضائه تجري أصالة الصحّة، كما أنّه مع الشكّ _ في كون القاضي قد قضى حقّاً وفق نظام البيّنات والأيمان أو لا _ تجري أصاله الصحّة، لكن أصالة الصحّة لا تمنع عن سماع دعوى من يخالف الأصل والنظر لمعرفة أنّ لديه دليلاً على خلاف الأصل أو لا.

نعم، لو ادّعي الإجماع على الملازمة بين جواز القضاء وبين نفوذه وضعاً في حقّ غيره، وقد فرض في المقام جواز القضاء بالعلم لحجّيّته للقاضي، ثبت نفوذه وعدم بقاء مجال لسماع الدعوى من قبل قاضٍ آخر، إلا أنّ عهدة إثبات هذا الإجماع على مدّعيه.

214

فتحصّل أنّ تلك الآيات والروايات إن أثبتت جواز القضاء بالعلم فلا تثبت إنهاء النزاع بحيث لا يحقّ لقاضٍ آخر النظر في الدعوى، كما هو الحال في البيّنات والأيمان.

وعليه فلا يبقى في البين عدا دعوى الإجماعات المتكرّرة في الكلمات، أو دعوى تنقيح المناط في ميزانيّة البيّنة واليمين بالنسبة للعلم مطلقاً، والعهدة في إثبات الجهتين على مدّعيهما(1).

أقول: إنّ هذا الكلام إنّما يتمّ لو كان دليلنا على نفوذ القضاء _ وعدم جواز نقضه من قبل قاضٍ آخر شاكٍّ في صحّة القضاء الأول _ هو حجّية البيّنة عليه، ولكن كما لا يجوز للقاضي الآخر نقض حكم القاضي الأول والنظر في الدعوى مرّةً ثانيةً لدى شكّه في صحّة حكم القاضي الأول، كذلك لا ينبغي الإشكال في أنّه لا يجوز للمحكوم عليه مخالفة حكم القاضي بمثل سرقة مال المحكوم له قصاصاً حتى مع قطعه بخطأ القاضي، وهذا لا يمكن تفسيره بحجّيّة البيّنة؛ إذ البيّنة لا تكون حجّةً مع القطع بالخلاف، فلابدّ من وجه آخر يدل على نفوذ الحكم وحجّيته حتى في هذا الفرض، ولعلّ ذاك الوجه يدل أيضاً على نفوذه بالنسبة للقاضي الثاني لدى الشكّ بحيث لا يجوز له تجديد النظر ونقض الحكم على تحقيق وتفصيل في مسألة مدى نفوذ حكم القاضي يبحث عنه في محلّه.

والواقع أنّ هنا دليلين آخرين على نفوذ القضاء وعدم جواز نقضه:

أحدهما _ الارتكاز المتشرّعي، وكذلك العقلائي الممضى بعدم الردع، الدالّ على أنّ القضاء جعل لفصل الخصومة وإنهائها، وهذا يدل على عدم جواز نقض الحكم من قبل المحكوم عليه القاطع بالخلاف، ومن قبل القاضي الثاني الشاكّ في صحّة


(1) راجع كتاب القضاء للمحقق العراقي، ص 23 _ 24.

215

القضاء إذا كان الحكم وفق مقاييس القضاء من دون فرق بين أن يكون ذاك المقياس عبارةً عن البيّنة أو اليمين، أو يكون عبارةً عن علم القاضي.

وثانيهما _ قوله في مقبولة عمر بن حنظلة: «إذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه، وعلينا ردّ، والرادّ علينا الرادّ على اللّه، وهو على حدّ الشرك باللّه»(1)، فمن الواضح جدّاً أنّ هذا الخطاب لا أقلّ من أنّه يريد تحريم نقض الحكم على الخصمين حتى المدّعي منهما للقطع بخطأ الحكم أو احتماله، وهذا لا يمكن أن يكون إلا بأن يكون المراد في خصوص هذا الحديث من كلمة: (حكمنا) هو الحكم وفق مقاييس القضاء لا الحكم في الواقع، وإلا فلا يمكن إسكات الخصم بذلك؛ إذ هو يدّعي القطع بانتفاء الموضوع أو احتماله؛ إذاً فهذا الحديث يحرّم بإطلاقه على القاضي الثاني نقض قضاء قاضٍ يحكم وفق مقاييس القضاء من دون فرق بين البيّنة واليمين، أو العلم الثابت مقياسيّته بغير هذا الحديث ممّا مضت الإشارة إليه من الروايات والآيات.

الدليل الرابع _ ما جاء في الجواهر أيضاً من أنّه لو لم نقل بجواز القضاء وفق العلم لزم فسق الحاكم، أو إيقاف الحكم، وهما معاً باطلان؛ وذلك لأنّه إذا طلّق زوجته ثلاثاً مثلاً بحضرته ثم جحد كان القول قوله مع يمينه، فإن حكم بغير علمه وهو استحلافه وتسليمها إليه لزم فسقه، وإلا لزم إيقاف الحكم.

أقول: تارةً يفرض الفسق في أصل الحكم، وأُخرى يفرض الفسق في تنفيذه، فإن فرض الفسق في أصل الحكم كان هذا مصادرة على المطلوب؛ إذ لو كان العلم غير داخل في مقاييس الحكم وكان يجب الحكم وفق البيّنات والأيمان فلا فسق في ذلك.


(1) وسائل الشيعة، ج 18، ص99، الباب 11 من صفات القاضي، ح 1.