26

5 ـ ما ورد من جواز تملّك مال من مات أو فقد ولا يعرف له وارث، من قبيل ما ورد عن هشام بن سالم بسند تام قال: سأل حفص الأعور أبا عبد الله وأنا عنده جالس قال: إنّه كان لأبي أجير كان يقوم في رحاه وله عندنا دراهم وليس له وارث، فقال أبو عبد الله: "تدفع الى المساكين" ثم قال: رأيك فيها، ثم أعاد عليه المسألة فقال له مثل ذلك، فأعاد عليه المسألة ثالثة، فقال أبو عبد الله: "تطلب له وارثاً، فإن وجدت له وارثاً و إلا فهو كسبيل مالك< ثم قال: "ما عسى أن تصنع بها"، ثم قال: "توصي بها، فإن جاء لها طالب وإلا فهي كسبيل مالك"(1).

وعنه بسند تام قال: سأل حفص الأعور أبا عبد الله وأنا حاضر، فقال: كان لأبي أجير وكان له عنده شيء فهلك الأجير فلم يدع وارثاً ولا قرابة، وقد ضقت بذلك، كيف أصنع؟ قال: "رأيك المساكين رأيك المساكين" فقلت: إنّي ضقت بذلك ذرعاً قال: "هو كسبيل مالك، فإن جاء طالب أعطيته"(2). ولعلّهما رواية واحدة.

وعنه بسند تام قال: سأل خطّاب الأعور أبا إبراهيم وأنا جالس فقال: إنّه كان عند أبي أجير يعمل عنده بالاُجرة ففقدناه وبقي من أجره شيء ولا يعرف له وارث، قال: "فاطلبوه" قال: قد طلبناه فلم نجده قال: فقال: "مساكين ـ وحرّك يده ـ" قال فأعاد عليه قال: "اطلب واجهد، فإن قدرت عليه وإلا فهو كسبيل مالك حتى يجيء له طالب، فإن حدث بك حدث فأوص به إن جاء لها طالب أن يدفع إليه"(3).

إلا أنّ هذه الروايات لو فرضت دلالتها على جواز تملّك مجهول المالك فلا تدلّ على جواز تملّك اللقطة؛ فإنّها غير واردة في اللقطة، واحتمال الخصوصية موجود، فلعلّ نفس الالتقاط يثقّل التكليف على الملتقط.

على أنّها لا تدلّ على جواز تملّك مجهول المالك أيضاً على الإطلاق؛ فإنّها واردة فيمن لا وارث له أو لا يعرف له وارث، واحتمال الفرق موجود قطعاً.

هذا، ومن لا وارث له فماله للامام أو لبيت مال المسلمين كما في روايات اُخرى، فلعلّ الامام في مورد هذه الروايات تبرّع بحقه الجزمي لو كان لا وارث له أو الاحتمالي لو كان لا يعرف له وارث.

6 ـ ما جاء في رواية علي بن مهزيار في شرح الفوائد التي يجب فيها الخمس في كلّ عام "... ومثل مال يؤخذ ولا يعرف له صاحب..."(4). وسند الحديث تام.

فهذا يدلّ على تملّك المال الذي لا يعرف له صاحب.

إلا أنّه لا يبعد أن يكون المقصود ممّا لا يعرف له صاحب ما لا يعلم أن يكون له مالك أصلاً بأن كان ممّا باد أهله مثلاً، لا ما كان مالكه مجهولاً أو كان لقطة.


(1) وسائل الشيعة 17: 553، ب. من الفرائض والمواريث، ح 7.
(2) المصدر السابق: 585، ب. من الفرائض والمواريث، ح 10.
(3) المصدر السابق: 582، ح 1.
(4) وسائل الشيعة 6: 350، ب. ممّا يجب فيه الخمس، ح 5.
28

حـ ـ وإن قلنا بأنّ المستفاد ممّا مضى هو الملكية القهرية فلا معنى لمشروعية التصدّق مع فرض الملكية القهرية إلا بمعنى تصدّق الانسان بما يملكه، وليس هذا هو المقصود قطعاً في التصدّق الذي يقال به في اللقطة، فهنا يجب أن نرى هل يوجد نص خاص يدلّ على مشروعية التصدّق في اللقطة غير النصوص الواردة في لقطة الحرم وما لا يقبل التعريف أو لا؟ فإن وجدنا نصاً من هذا القبيل وقع التعارض بينه وبين ما دلّ على الملكية القهرية.

ويمكن الجمع بينهما بوجهين:

أحدهما: حمل رواية التصدّق على استحباب التصدّق بما ملكه بالالتقاط والتعريف.

والثاني: حمل رواية الملك على الملكية الاختيارية. ولعلّ الثاني أوفق بالفهم العرفي.

فلنفحص لنرى هل يوجد نص من هذا القبيل أو لا؟

فنقول: إنّ روايات التصدّق على أقسام:

1 ـ ما مضى في التصدّق بلقطة الحرم: وقد عرفت أنّ هذا لا يفيدنا في المقام في مقابل رواية الملكية القهرية في لقطة غير الحرم.

2 ـ ما مضى في التصدّق بما لا يمكن تعريفه: وقد عرفت أنّ هذا لا يفيدنا في مقابل رواية الملكية القهرية بعد التعريف فيما يمكن تعريفه.

3 ـ ما ورد في التصدّق بمال من مات ولم يعرف له وارث، كما ورد عن يونس عن نصر بن حبيب صاحب الخان قال: كتبت الى عبد صالح: لقد وقعت عندي مئتا درهم وأربعة دراهم وأنا صاحب فندق ومات صاحبها ولم أعرف له ورثة، فرأيك في إعلامي حالها وما أصنع بها، فقد ضقت بها ذرعاً؟ فكتب: "اعمل فيها وأخرجها صدقة قليلاً قليلاً حتى يخرج" (1).

وقال الصدوق في ذيل الرواية الثانية لهشام بن سالم الماضية: "وقد ورد في خبر آخر: إن لم تجد له وارثاً وعرف الله عزّ وجلّ منك الجهد فتصدّق بها" (2).

وكلتا الروايتين ساقطة سنداً، على أنّ احتمال الخصوصية في موردهما موجود، ولا يمكن التعدّي الى مورد اللقطة.

نعم، لو حملنا روايات إعطاء مال من مات وليس له أحد تعطى (لهمشاريجه) (3) على التصدّق ففيها ما هو تام سنداً، فعن خلاد السندي بسند تام عن أبي عبد الله قال: "كان علي يقول في الرجل يموت ويترك مالاً وليس له أحد: اعط المال همشاريجه" (4).


(1) وسائل الشيعة 17: 583، ب. من ميراث الخنثى، ح 3. ط ـ المكتبة الاسلامية.
(2) المصدر السابق: 585، ب. من ميراث الخنثى، ح 11.
(3) معرّبة عن الفارسية بمعنى: رجل من أهل بلاده.
(4) وسائل الشيعة 17: 551، ب. من ولاء ضمان الجريرة والامامة، ح 1.
29

ولكن احتمال الخصوصية هنا واضح جّداً؛ فإنّ مال من لا وارث له للامام أو لبيت مال المسلمين، وقد أمر الامام بإعطائه لهمشاريجه، فكيف يمكن التعدّي منه الى باب اللقطة؟!

على أنّه لو تمّت دلالة هذه الروايات على التصدّق في موردها ممّا ليس فيها تعريف فلا تصلح دليلاً على التصدّق في مقابل رواية الملكية القهرية بعد التعريف.

4 ـ ما مضى من رواية إسحاق بن عمّار الآمرة بالتصدّق بالدراهم التي وجدت مدفونة في بعض بيوت مكة (1).

إلا أنّ هذا الحديث وارد في الكنز وسواء اقتصرنا على مورده من الكنز في الحرم مثلاً او تعدّينا الى مطلق الكنز لا يصلح دليلاً على التصدّق في مقابل الملكية القهرية في اللقطة بعد التعريف.

5 ـ ما دلّ على التصدّق بعد التعريف ثلاثة أيّام، وهو ما مضى من حديث أبان بن تغلب فيمن أصاب ثلاثين ديناراً (2)، وما مضى أيضاً من حديث ابن أبي يعفور الحاكم بالتصدّق بالشاة الملتقطة بعد تعريفها ثلاثة أيام (3).

ولكن مضى أنّهما ضعيفان سنداً، على أنّهما لا يدّلان على التصدّق في مقابل الملكية القهرية بعد التعريف سنة.

6 ـ ما دلّ على التصدّق بعد التعريف سنة؛ وذلك إمّا بالتقييد في متن الحديث بتعريف سنة أو إنّه غير مقيّد بذلك في متن الحديث ولكنّه يقيّد بروايات وجوب التعريف سنة. وقد وردت بهذا الشكل عدّة روايات:

1 ً ـ ما رواه حسين بن كثير عن أبيه قال: سأل رجل أمير المؤمنين عن اللقطة فقال: "يعرّفها، فإن جاء صاحبها دفعها إليه وإلا حبسها حولاً، فإن لم يجئ صاحبها أو من يطلبها تصدّق بها، فإن جاء صاحبها بعد ما تصدّق بها إن شاء اغترمها الذي كانت عنده وكان الأجر له، وإن كره ذلك احتسبها والأجر له" (4).

ولعلّ ظاهر هذا الحديث أنّ التعريف لا يجب بمقدار سنة، بل يعرّفها ثم يحبسها عنده سنة بأمل أن يأتي صاحبها فيأخذها، ويمكن تقييده بروايات وجوب التعريف سنة. وعلى أيّ حال فهذا الحديث أمر بالتصدّق بعد انتهاء الحول، إلا أنّه ضعيف سنداً.

2 ً ـ ما رواه حفص بن غياث قال: سألت أبا عبد الله عن رجل من المسلمين أودعه رجل من اللصوص دراهم أو متاعاً واللصّ مسلم، هل يردّ عليه؟ فقال: "لا يردّه، فإن أمكنه أن يردّه على أصحابه فعل، وإلا كان في يده بمنزلة اللقطة يصيبها فيعرّفها حولاً، فإن أصاب صاحبها ردّها عليه، وإلا تصدّق بها، فإن جاء طالبها بعد ذلك خيّره بين الأجر والغرم، فإن اختار الأجر فله الأجر، وإن اختار الغرم غرم له وكان الأجر له" (5). إلا أنّ سند الحديث ضعيف.


(1) المصدر السابق: 358، ح 3.
(2) المصدر السابق: 350 ـ 351، ب. من اللقطة، ح 7.
(3) المصدر السابق: 365، ب 13 من اللقطة، ح 1.
(4) المصدر السابق: 350، ب. من اللقطة، ح 2.
(5) المصدر السابق: 369، ب 18 من اللقطة، ح 1..
30

3 ً ـ ما رواه علي بن جعفر عن أخيه قال: سألته عن الرجل يصيب اللقطة فيعرّفها سنة، ثم يتصدّق بها فيأتي صاحبها، ما حال الذي تصدّق بها؟ ولمن الأجر؟ هل عليه أن يردّ على صاحبها؟ أو قيمتها؟ قال: "هو ضامن لها والأجر له إلا أن يرضى صاحبها فيدعها والأجر له" (1).

فهذه الرواية دالّة على جواز التصدّق باللقطة حيث فرض الراوي التصدّق وسأل ماذا يترتّب عليه؟ والامام أقرّ ما فرض وأجاب على ما يترتّب عليه. وسندها تام.

إلا أنّه قد يقال: إنّ هذه الرواية إنّما تدّل على جواز التصدّق كعِدل للملكية بناءً على كون التملّك في اللقطة اختيارياً، أمّا بناءً على استفادة الملكية القهرية من روايات امتلاك اللقطة فهذه الرواية لا تنهض لاثبات التصدّق كعِدل للملكية، فإنّ عدليته للملكية إنّما تتصوّر فيما لو لم يكن حصول الملكية قهراً وبلا اختيار، ولا تدلّ هذه الرواية على جواز التصدّق في مقابل الملك بحيث تعارض رواية الملكية القهرية أو توجب حمل روايات الملك على الملكية الاختيارية؛ وذلك لأنّ الحكم بالتصدّق لم يصدر ابتداء من الامام، بل الراوي فرض التصدّق وسأل عمّا يثبت بعده من ضمان أو أجر، والامام لم يردع عن التصدّق، وبل ويتكلّم عمّا يثبت بعد التصّدق من ضمان أو أجر.

وكلّ هذا كما ترى لا يثبت جواز التصدّق بملك المالك السابق الذي ضاع ماله في مقابل تملّكه، بل يحتمل أنّ هذا المال قد أصبح ملكاً قهرياً للملتقط، وأنّ الملتقط قد تصدّق بما هو ملكه والامام حكم بضمانه وكون الأجر له إلا أن يرضى صاحب المال السابق فيتحوّل الأجر إليه، ولا ضمان على الملتقط حينئذٍ.

اللهمّ إلا أن يقال: إنّ المفهوم عرفاً من ثبوت أجر التصدّق لصاحب المال السابق على تقدير رضاه هو عدم حصول الملكية للملتقط، وإلا فقد كان المفروض ثبوت أجر تحوّل ماله الى الملتقط له وتركه لمطالبته بالمال، لا ثبوت أجر التصدّق، فإنّ التصدّق لم يكن بماله، وإنّما كان بمال الملتقط.

ثم إنّ جواز التصدّق في مقابل الملك إن أثبتناه بفحوى دليل جواز التملّك فهو ثابت في الحيوان كما هو ثابت في غير الحيوان؛ وذلك لأنّنا قلنا بالملك في الحيوان أيضاً،. والمقصود من الحيوان ما لا يشمل العبد والأمة )، وإن أثبتناه بالنص، فإن كان للنص إطلاق يشمل الحيوان كما هو الحال في رواية حسين بن كثير عن أبيه الماضية (2) فلا كلام، وإن لم يكن له إطلاق كما هو الحال في رواية حفص بن غياث التي فهم فيها حكم اللقطة على أساس تنزيل الامام ما أعطاه اللصّ بمنزلة اللقطة فهو لم يكن ابتداء بصدد حكم اللقطة كي يستفاد منه الاطلاق.

وكرواية علي بن جعفر الماضية حيث كان فيه التصدّق مفروضاً ومفروغاً عنه، فلا إطلاق بالنسبة إليه، فالظاهر أنّ العرف يتعدّى الى الحيوان، ولا يتعقّل الفرق في التصدّق بين الحيوان وغيره.

هذا تمام الكلام في التصدّق.


(1) المصدر السابق: 352، ب. من اللقطة، ح 14.
(2) المصدر السابق: 349 ـ 350، ب. من اللقطة، ح 2.
31

حـ ـ الاحتفاظ باللقطة كأمانه:

وأمّا الاحتفاظ باللقطة كأمانة فيمكن إثبات جوازه تارة بمقتضى القواعد، واُخرى بالنص الخاص.

أمّا بمقتضى القواعد: فأمّا أن يقال: إذا جاز التملّك فبالفحوى العرفية يجوز حفظها كأمانة، أو يقال: إنّ دليل التملّك لا يستفاد منه أكثر من الرخصة، ودليل التصدّق في غير لقطة الحرم وما لا يمكن تعريفه أيضاً لا يستفاد منه الوجوب، واحتمال كون جواز الالتقاط منوطاً بالتملّك او التصدّق غير وارد؛ لما دلّت

عليه بعض روايات الالتقاط من كون المناط في جواز الالتقاط هو الالتزام بالتعريف (1)، وعند الشك في وجوب الجامع بين التملّك والتصدّق في مقابل الاحتفاظ كأمانة نجري البراءة عن الوجوب (2) وأصالة جواز الاحتفاظ كأمانة، فإذا احتفظ بها كأمانة وتلفت من دون تفريط لم يكن هناك دليل على الضمان.

إلا أنّ إثبات جواز الاحتفاظ باللقطة كأمانة بمقتضى القواعد يتوقّف على إثبات كون الملكية في اللقطة اختيارية لا قهرية، وإلا فلا معنى للاحتفاظ بها كأمانة ويبقى ضامناً لو وجد بعد ذلك المالك الأصلي وكان المال تالفاً ولو بلا تفريط.

وأمّا بمقتضى النص الخاص: فلو ثبت حقاً نص خاص يدلّ على ذلك كان بنفسه دليلاً على عدم كون الملك قهرياً، فيحمل دليل الملك على الملك الاختياري. وما يمكن افتراضه نصاً خاصاً بهذا الصدد روايتان:

الرواية الاُولى: رواية علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر: سألته عن الرجل يصيب اللقطة دراهم أوثوباً أو دابّة، كيف يصنع؟ قال: "يعرّفها سنة، فإن لم يعرف صاحبها حفظها في عرض ماله حتى يجيء طالبها فيعطيها إياه، وإن مات أوصى بها، فإن أصابها شيء فهو ضامن" هكذا رواه في الوسائل ب. من اللقطة (3)، ورواه في ب 20 من اللقطة عن التهذيب (4) مع حذف كلمة صاحبها، وتبديل قوله: "فإن أصابها شيء فهو ضامن" بقوله: "وهو لها ضامن".

وجه الاستدلال بهذه الرواية هو حمل قوله: "حفظها في عرض ماله" على معنى حفظها كأمانة.

ويمكن المناقشة في هذا الاستدلال بعدّة وجوه:


(1) اُنظر: المصدر السابق: 348، ب. من اللقطة، ح 1. وب 2، ح 2، 12. وب 20، ح 1. وج 9: 362، ب 28 من مقدمات الطواف، ح 2، 5.
(2) قد يقال: إنّه لو لم يتملّك المال ولم يتصدّق به لم تصل النوبة الى الاحتفاظ بالمال كأمانة إذا كان من الممكن إيصال المال الى وليّ مالكه وهو الحاكم الشرعي، فالعمدة في إثبات جواز الابقاء كأمانة هي فحوى جواز التملّك.
(3) وسائل الشيعة 17: 352، ح 13.
(4) المصدر السابق: 352، ح 2.
32

الوجه الأوّل: إنّ كلمة "صاحبها" غير موجودة في الفقيه ولا في التهذيب، وعلى تقدير عدم وجود هذه الكلمة لا ندري كيف تقرأ كلمة "فإن لم يعرف" هل بتخفيف الراء أو بتشديده؟

فإن كان بتخفيف الراء لم يختلف المعنى، فيكون معنى الرواية أنّه لو عرّفها سنة ولم يعرف صاحبها حفظها في عرض ماله، أمّا لو كان بتشديد الراء فيصبح المعنى أنّه لو لم يعرّف اللقطة وجب حفظها في عرض ماله حتّى يأتي صاحبها، وعلى هذا المعنى يسقط الحديث عن الدلالة على المقصود من حفظ المال كأمانة بعد تعريف سنة، ويصبح مفاد الحديث: أنّ التعريف غير واجب، فيجوز ترك التعريف شريطة أن يحتفظ بالمال كأمانة، فكأنّ التملّك والتصدّق هما حكم فرض التعريف، والحفظ كأمانة هو حكم فرض عدم التعريف.

قد يقال في قبال ذلك: إنّ أدلّة وجوب التعريف تصبح قرينة على أنّ كلمة "لم يعرف" هنا تكون بتخفيف الراء.

ولكن الصحيح أنّ الكلام المبيّن قد يصلح تفسيراً للكلام المجمل بعد تعيّن عبارة ذاك المجمل، أمّا إذا كان المجمل إنّما أصبح مجملاً بعدم تعيّن عبارته فعلى أحد الفرضين يكون معارضاً للمبيّن فذاك المبيّن لا يستطيع أن ينفي ذلك الفرض، إلا إذا فرضنا العلم الإجمالي بأنّه إمّا ذاك المبيّن غير صحيح، أو إنّ ذاك الفرض غير واقع، ولكن ليس لنا في المقام علم إجمالي كذلك.

نعم، يبقى المبيّن على حجّيّته؛ لعدم تيقّن ابتلائه بالمعارض ما لم يحقّق المجمل علماً إجماليّاً منجّزاً أحد طرفيه عبارة عن ابتلاء المبيّن بالمعارض، وتمام الكلام في ذلك موكول إلى علم الاُصول.

ولا مخلص عن هذا الإشكال إلا فرض كون أدلّة وجوب التعريف مفيدة للاطمئنان بوجوب التعريف والاطمئنان بأنّ كلمة "لم يعرف" هنا بالتخفيف، وأمّا لو فرضنا الاطمئنان بوجوب التعريف مع عدم الاطمئنان بأنّ كلمة "لم يعرف" هنا بالتخفيف فالنتيجة هي سقوط هذه الرواية عن الحجّية.

وقد يقال: إنّ النقل الذي جاء فيه كلمة "صاحبها" باقٍ على حجّيّته فنتمسّك به؛ فإنّ النقل الذي حذف فيه كلمة "صاحبها" ليس فيه دلالة على خطأ النقل الذي فيه تلك الكلمة؛ إذ لا يدلّ على ذلك إلا على تقدير كون كلمة "يعرف" بالتشديد ولم يثبت، إذن نبقى نتمسّك بحجّية النقل الذي فيه كلمة "صاحبها".

33

إلا أنّ هذا الكلام غير صحيح؛ لأنّ صاحب الوسائل نقل هذا الحديث مع كلمة "صاحبها" في الباب الثاني من اللقطة عن عبد الله بن جعفر في قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن جدّه عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر، وهذا السند ضعيف بعبد الله بن جعفر، وهو وإن ذكر أخيراً أنّه" رواه عليّ بن جعفر في كتابه" وهذا تامّ السند، لكنّنا لا ندري أنّ نسخة كتاب عليّ بن جعفر هل هي مشتملة على كلمة "صاحبها" أو لا؟ ويبدو أنّ صاحب الوسائل(رحمه الله) لم يكن يهتمّ بوجود هذه الكلمة وعدمها إلى حدّ يفهم من قوله:" رواه عليّ بن جعفر" أنّه رواه مع كلمة "صاحبها". والدليل على ذلك: أنّه ذكر في ذيل نقله للحديث عن قرب الاسناد قوله:" ورواه الصدوق بإسناد عن عليّ بن جعفر مثله "، بينما نحن نعلم أنّ الصدوق رواه من دون هذه الكلمة كما نقله هو (رحمه الله) في الباب. 20. الحديث عن التهذيب من دون كلمة "صاحبها" وعقّبه أيضاً بقوله:" ورواه الصدوق بإسناد عن عليّ بن جعفر ".

الوجه الثاني: إنّ الموجود في نسخة الفقيه بدلاً عن قوله: حفظها في عرض ماله" قوله: "جعلها في عرض ماله، وهذا لا يعطي معنى الأمانة بل يعطي معنى الملك أو الإباحة في التصرّف ولم يثبت أنّ تعبير الإمام كان وفق نسخة التهذيب دون الفقيه.

هذا، وبناءً على نسخة الفقيه يتأكّد كون كلمة "لم يعرف" بالتخفيف لوضوح عدم جواز التملّك أو التصرّف ابتداءً بلا تعريف.

الوجه الثالث: أنّه حتّى لو افترضنا أنّ التعبير الصادر من الإمام هو قوله: "حفظها في عرض ماله" فهذا غير ظاهر في إرادة الحفظ كأمانة، ويحتمل إرادة الملك أو العارية.

هذا، وإذا كان كان بعض الرواة قد نقل بتعبير "حفظها في عرض ماله" وبعضهم نقل بتعبير "جعلها في عرض ماله" والثاني ظاهر في الملك أو العارية والأوّل مجمل، فقد يكون الثاني مفسّراً للأوّل، أو يقال ـ على الأقلّ ـ: إنّ المجمل لا يعارض المبيّن، فيثبت أنّ المقصود هو الملك أو العارية، لا الأمانة.

الوجه الرابع: انّنا لو غضضنا النظر عن كلّ ما مضى فالمزيّة المفروض ترتيبها على الحفظ كأمانة ـ والتي لا تنحفظ في فرض التملّك أو التصدّق وهي عدم ضمان الملتقط إذا تلفت العين بلا تفريط ـ لا تترتّب في المقام؛ وذلك لأنّ هذه الرواية بذيلها دالّة على الضمان حيث يقول: "وهو لها ضامن". ولعلّ هذا يؤيّد احتمال أنّ المقصود كان هو الملك أو العارية، لا الأمانة.

الرواية الثانية: رواية الهيثم بن أبي روح صاحب الخان قال: كتبت إلى العبد صالح: إنّي أتقبّل الفنادق فينزل عندي الرجل فيموت فجأة ولا أعرفه ولا أعرف بلاده ولا ورثته فيبقى المال عندي، كيف أصنع به؟ ولمن ذلك المال؟ قال: "اتركه على حاله" (1).


(1) المصدر السابق: 583، ب. من ميراث الخنثى، ح 4.
34

وقد ورد في نظير ذلك الحكم بأنّه كسبيل مالك، والحكم بالتصدّق، والحكم بأنّه للإمام، والحكم بإبقائه على حاله؛ وكأنّ المقصود منه حفظه أمانةً.

أمّا الأخير: فهو ما عرفت من رواية الهيثم.

وأمّا الثالث: فكما ورد عن الفضيل بن يسار عن أبي الحسن في رجل كان في يده مال لرجل ميّت لا يعرف له وارثاً كيف يصنع بالمال؟ قال: "ما أعرفك لمن هو يعني نفسه" (1). إلا أنّه ضعيف سنداً.

وأمّا الثاني: فكما مضى من رواية نصر بن حبيب صاحب الخان (2). وقد مضى أنّها ضعيفة سنداً.

وأمّا الأوّل: فكالروايات الماضية ـ نحو ما ورد عن هشام بن سالم (3)

وما ورد عن خطّاب الأعور (4) ـ وصدر الرواية الاُولى منها يدلّ أيضاً على التصدّق على المساكين، ويمكن استفادة جواز التصدّق على غير المساكين أيضاً بفحوى ما في ذيلها من جواز جعله كسبيل ماله، فإذا كان المال يجوز تملّكه أو الاستفادة منه ولا يجب حفظ عينه للمالك بدليل جواز التصدّق به على المساكين بضمان، إذن فجواز التصدّق به على غير المساكين أولى من تملّكه.

هذا، والرواية الأخيرة من تلك الروايات المذكورة يحتمل ورودها في الأجر الكلّي الباقي في الذمّة ويبدو لي احتمال الفرق بينه وبين العين الشخصية، ولكن تكفي الروايتان الاُوليان.

وعلى أيّ حال، فمقتضى الجمع بين روايات التملّك أو إباحة التصرّف ورواية الحفظ كأمانة، هو التخيير بينهما وأنّ الملك ليس قهريّاً، فلئن لم يمكن التعدّي ـ في مسألة الملك ـ من مورد هذه الروايات إلى مورد اللقطة لاحتمال الخصوصية ـ لما مضى من أنّ من المحتمل كون نفس الالتقاط مثقّلاً للتكليف على الملتقط ـ فلا يبعد صحّة التعدّي بلحاظ مسألة الحفظ أمانةً، لكنّ هذا التعدّي مشروط بأن نقول بعدم قهرية الملك في اللقطة، فنفس هذه الرواية ـ وهي رواية الهيثم بن أبي روح ـ لا تصلح دليلاً على عدم كون الملك في اللقطة بعد التعريف سنة قهريّاً، مضافاً الى كونها ساقطة بضعف السند.


(1) المصدر السابق: 586، ح 12. و: ص 551، ب. من ولاء ضمان الجريرة، ح 13.
(2) المصدر السابق: 583، ب. من ميراث الخنثى، ح 3.
(3) المصدر السابق: 553، ب. من ولاء ضمان الجريرة والامامة، ح 7. و 585، ب. من ميراث الخنثى، ح 10.
(4) المصدر السابق: 582، ب. من ميراث الخنثى، ح 1.
35

ثمّ إنّه لا فرق في مسألة حفظ اللقطة كأمانة بين الحيوان وغيره؛ إذ لو أثبتنا ذلك بمقتضى القاعدة فهو جار في الحيوان أيضاً، ولو أثبتنا ذلك بالرواية الاُولى من الروايتين اللتين أوردناهما بصدد إثبات هذا الحكم ففيها التصريح بذكر الدابّة، ولو أثبتنا ذلك بالرواية الثانية فالظاهر إطلاق كلمة "المال" فيها للحيوان، ولا أقلّ من عدم احتمال الفرق عرفاً.

هذا كلّه في حفظ اللقطة كأمانة بعد التعريف في غير الحرم، وقد عرفت أنّه لم يتمّ في ذلك دليل خاصّ، وإنّما يمكن إثبات جوازه بمقتضى القواعد لو لم نستظهر من أدلّة الملكية الملكية القهرية.

يبقى الكلام في أنّه هل يجوز حفظ لقطة الحرم كأمانة بعد التعريف أو يجب التصدّق بها؟ وهل يجوز حفظ اللقطة التي لا يمكن تعريفها كأمانة أو يجب التصدّق بها؟

أمّا الثاني: فإضافةً إلى ظهور الأمر الوارد فيه بالتصدّق في الوجوب يمكن القول: بأنّ جواز الالتقاط والتسلّط على مال الغير خلاف القاعدة الأوّلية، والقدر المتيقّن الذي ثبت جوازه هو فرض تعقّبه بالتصدّق، أمّا فرض إبقائه كأمانة خاصّة مع فرض اليأس من تحصيل المالك ممّا يجعل الإبقاء كأمانة لغواً وبلا فائدة متصوّرة، فلم يعرف كونه مجوّزاً للالتقاط.

وأمّا الأوّل: فلا يبعد القول فيه أيضاً بوجوب التصدّق؛ لظهور مثل قوله في لقطة الحرم: "تعرّف سنة، فإن وجدت صاحبها وإلا تصدّقت بها" (1) في الوجوب.

هذا تمام الكلام في حفظ اللقطة كأمانة.

د ـ تسليم اللقطة الى ولي الأمر:

وأمّا تسليمها إلى وليّ الأمر باعتباره وليّاً على المالك فقد يقال: بعد أن عمل الملتقط بوظيفته الواجبة عليه ـ وهي الفحص سنة ـ يجوز له أن يسلّم اللقطة إلى الحاكم الشرعي بمقتضى القاعدة وبلا حاجة إلى نصّ خاصّ؛ وذلك لأنّ الحاكم وليّ الغائب، وقد كان المترقّب أن يكون الحكم بالإيصال إلى الحاكم من أوّل زمان الالتقاط، وأن يكون الحكم وجوباً تعينياً، لا كعدلٍ للتملّك والتصدّق والحفظ كأمانة؛ فإنّ على اليد تسليم ما أخذت إلى مالكه أو وليّ المالك، ولكن حيث ثبت وجوب التعريف سنة بالنصّ خالفنا مقتضى القاعدة الذي هو عبارة عن كون الحكم بالإيصال إلى وليّ المالك من أوّل زمان الالتقاط، وحيث ثبت جواز التملّك والتصدّق بعد التعريف سنة بالنص خالفنا مقتضى القاعدة الذي هو عبارة عن كون الحكم بالايصال الوليّ وجوبيّاً، بقي جواز التسليم إلى الوليّ بعد انتهاء السنة فهذا ثابت بمقتضى القواعد؛ بداهة أنّ التسليم إلى وليّ المالك يعدّ بمنزلة التسليم إلى المالك، فهو مُخرِج للملتقط عن العهدة. ودليل التملّك أو التصدّق لا يمنع عن جواز ذلك وإن منع عن وجوبه؛ وذلك لأنّه لم يكن المستفاد منهما وجوب التملّك أو التصدّق؛ ولذا جوّزنا الحفظ كأمانة، نعم، في لقطة الحرم وفي اللقطة التي لا يمكن تعريفها قد يقال: بعدم جواز تسليم المال إلى الحاكم؛ وذلك لأنّنا استظهرنا من دليل التصدّق فيهما وجوبه، فإذا وجب على نفس الملتقط التصدّق بدليل خاصّ لم يبقَ مورد لتسليم المال إلى الحاكم


(1) المصدر السابق 9: 361، ب 28 من مقدّمات الطواف، ح 4.
36

هذا، وكما أشرنا يترتّب على تسليم المال إلى الحاكم خروج الملتقط من الضمان؛ لأنّ تسليم المال إلى وليّ المالك بمنزلة تسليمه إلى المالك، فمقتضى القاعدة خروجه عن عهدة المال.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في مقام إثبات كون التسليم إلى وليّ المالك عدلاً للتملّك والتصدّق والحفظ كأمانة بعد سنة.

وفي مقابل هذا:

تارةً ينكر كون مقتضى القاعدة في المقام جواز التسليم إلى الحاكم الشرعي.

واُخرى يقال: بأنّ التسليم إلى وليّ المالك ليس عدلاً للتملّك والتصدّق والحفظ كأمانة بأن يثبت التخيير بعد التعريف سنة بين اُمور أربعة أحدها التسليم إلى وليّ المالك، بل هو جائز من أوّل الأمر وقبل التعريف، وجائز أيضاً في لقطة الحرم واللقطة التي لا يمكن تعريفها.

وثالثةً يقال: بأنّ التسليم إلى وليّ الأمر جائز من أوّل الأمر لا بما هو وليّ المالك ويحفظ مصالح المالك، بل لأنّ المال المجهول المالك عائد إلى وليّ الأمر يصنع به ما يريد.

أمّا الأوّل ـ وهو إنكار كون مقتضى القاعدة جواز التسليم إلى الحاكم ـ: فالمستند في ذلك إمّا هو دعوى كون الملكية بعد التعريف قهرية فلا موضوع للتسليم إلى وليّ المالك، أو هو إنكار الصغرى؛ أعني ولاية الحاكم على الغائب ـ هذا في غير المعصوم الذي هو خارج عن محلّ البحث، والذي يجوز تسليم كلّ شيء إليه؛ فإنّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم ـ أو هو دعوى أنّ أدلّة اللقطة بعد أن عيّنت الوظائف تجاه المال الملتقط بشأن الملتقِط لم يبقَ مجال لإعمال الوليّ ولايته.

أمّا دعوى كون الملكية بعد التعريف قهرية: فقد مضى الكلام فيها فيما سبق، فمن يستظهر ذلك لا يبقى هنا لديه موضوع للتسليم إلى وليّ المالك. ومن يستظهر كون الملكية اختيارية يبقى لديه مجال لذلك.

وأمّا إنكار الصغرى فهو إمّا على أساس إنكار ولاية الفقيه، أو على أساس التشكيك في دائرة ولايته، ومجال بحثه المفصّل ليس هنا.

وأمّا دعوى أنّ تعيين الوظائف تجاه اللقطة في الروايات لم يُبقِ مجالاً لإعمال الوليّ ولايته فجوابه اتّضح ممّا سبق؛ فإنّه بعد أن فرض عدم استظهار الوجوب من دليل التملّك والتصدّق لا يفهم عرفاً من دليلهما إبطال العمل بما هو ثابت بإطلاق دليل الولاية من أنّ الوليّ قائم مقام المولّى عليه وأن دفع المال إليه كدفعه إلى المالك مُخرج للشخص من عهدة المال.

37

وأمّا الثاني ـ وهو دعوى جواز تسليم المال إلى وليّ الأمر من أوّل الأمر بما هو وليّ للمالك يلحظ مصالح المالك بلا حاجة إلى التعريف فيما يعرّف ولا إلى التصدّق فيما لا يعرّف ولا في لقطة الحرم ـ: فغاية ما يمكن أن يقال في وجهه: إنّه مع إمكانية إيصال المال إلى وليّ المالك الذي هو بمنزلة إيصاله إلى المالك لا يفهم العرف من الأمر بالتعريف أو التصدّق إيجاب التعريف أو التصدّق تعيينيّاً في مقابل الإيصال إلى وليّ المالك، بل يفهم بمناسبات الحكم والموضوع كونه عِدلاً لإيصال المال إلى وليّ المالك سنخ أنّ الأمر عند توهّم الحظر يفيد الإباحة لا الوجوب.

والصحيح أنّ ظاهر تلك الأدلّة بمناسبات الحكم والموضوع ينحلّ إلى أمرين: أحدهما: تعيين الإجراء الذي يجب أن يتّخذ بإزاء هذا المال بحيث حتّى لو أنّ الوليّ أخذ هذا المال كان الإجراء الذي لابدّ أن يتّخذه هو التعريف أو التصدّق، والثاني: أنّ الملتقط هو الذي قد انشغلت عهدته بهذا الإجراء لأجل ما صنعه من وضع يده على هذا المال فيجب عليه: إمّا أن يقوم هو بهذا الإجراء، أو يسلّم المال إلى من يثق بأنّه يقوم به، أو يثبت له ـ ولو ثبوتاً تعبّديّاً ـ قيام شخصٍ ما بهذا الإجراء.

وما مضى من استظهار العِدلية لإيصال المال إلى وليّ المالك لو تمّ فإنّما هو في مقابل الظهور الثاني، فهو الذي يكون من سنخ الأمر عند توّهم الحظر لا الأوّل، أي أنّ أصل التعريف أو التصدّق لابدّ من تحقّقه، ولكن يجوز للملتقط أن يعتمد على الوليّ بتسليم المال إليه مادام يحتمل أنّه سيقوم الوليّ بالإجراء اللازم، ولا تبعد صحّة هذا الاستظهار.

وأمّا الثالث: وهو دعوى جواز التسليم للقطة إلى وليّ الأمر من أوّل الأمر لا بما هو وليّ للمالك يراعي ما ينبغي من إجراء بشأن مال المالك، بل باعتباره هو صاحب الأموال المجهولة المالك وأنّ كلّ ما مضى من الأمر بالتصدّق أو إباحة التملّك أو إيجاب التعريف إنّما هي أوامر وردت من قبل المالك وهو الإمام لا أحكام شرعية ذكرها الإمام باعتباره أميناً على الأحكام، من دون فرق في ذلك بين الحيوان وغيره، ويمكن الاستدلال على هذا المدّعى بعدّة روايات:

1 ـ ما مضى عن الفضيل بن يسار (1) عن أبي الحسن في رجل كان في يده مال لرجل ميّت لا يعرف له وارثاً كيف يصنع بالمال؟ قال: "ما أعرفك لمن هو!" يعني نفسه (2). فإذا ثبت بهذا الحديث أنّ مجهول المالك للإمام ففي زمن الغيبة يكون أمره موكول الى نائبه وهو الفقيه.

إلا أنّ احتمال الخصوصية هنا وارد وذلك:

أوّلاً: لأنّ في مورد الحديث يحتمل كون المال لميّت بلا وارث، ولعلّ هذا الاحتمال دخيل في الحكم بكونه للإمام.

وثانياً: لأنّه في المورد لم يكن التقاط ولا إمكانية التعريف، فلعلّ الالتقاط في مورد يجوّز تملّك اللقطة ولو بعد الفحص يعطي للملتقط أولوية بالنسبة للمال تمنع عن دخوله في ملك الإمام، ولعلّ إمكانية التعريف واحتمال الوصول إلى المالك يوجبان عدم دخول المال في ملك الإمام. ومع هذا، فالحديث ضعيف السند.


(1) المصدر السابق 17: 586، ب. من ميراث الخنثى، ح 12. و: 551، ب. من ولاء ضمان الجريرة، ح 13.
(2) المصدر السابق: 352، ب. من اللقطة، ح 14.
38

2 ـ رواية الشيخ بسنده إلى عليّ بن مهزيار عن محمّد بن رجاء الخيّاط قال: كتبت إليه: إنّي كنت في المسجد الحرام، فرأيت ديناراً فأهويت إليه لآخذه فإذا أنا بآخر، ثمّ بحثت الحصى فإذا أنا بثالث فأخذتها فعرّفتها فلم يعرفها أحد، فما تأمرني في ذلك جعلت فداك؟ قال: فكتب إليّ: "قد فهمت ما ذكرت من أمر الدينارين" تحت ذكْري موضع الدينارين، ثمّ كتب تحت قصّة الثالث: "فإن كنت محتاجاً فتصدّق بالثلث، وإن كنت غنيّاً فتصدّق بالكلّ".

ورواه الصدوق بإسناده عن محمّد بن عيسى عن محمّد بن رجاء الخيّاط قال: كتبت إلى الطيّب، وذكر نحوه (1).

ورواه الكليني عن محمّد بن يحيى عن محمّد بن أحمد عن محمّد بن عيسى عن محمّد بن رجاء الارجاني قال: كتبت إلى الطيّب: إنّي كنت في المسجد الحرام، فرأيت ديناراً فأهويت إليه لآخذه فإذا أنا بآخر، فنحّيت الحصى فإذا أنا بثالث فأخذتها، فعرّفتها فلم يعرفها أحد فما ترى في ذلك؟ فكتب: "فهمت ما ذكرت من أمر الدنانير، فإن كنت محتاجاً فتصدّق بثلثها، وإن كنت غنيّاً فتصدّق بالكلّ" (2).

وتقريب الاستدلال بهذا الحديث هو أن يقال: إنّ المفهوم عرفاً من قوله: "فعرّفتها فلم يعرفها أحد" ليس هو التعريف سنة، وإنّما هو ما يتمّ به مسمّى التعريف ولو لمرّة واحدة، فجوابه يخالف فرض وجوب التعريف سنة، ويخالف أيضاً فرض وجوب التصدّق بلقطة الحرم حيث اكتفى هنا بالتصدّق بالثلث في فرض الاحتياج، ولا محمل لذلك إلا فرض كون أمر اللقطة راجعاً إلى الإمام فهو ـ بشكل عامّ ـ قد أمر بالتعريف والتصدّق بلقطة الحرم لكنّه سمح للسائل في قصّته بترك التعريف سنة وبالاكتفاء بالتصدّق بالثلث إذا كان محتاجاً.

إلا أنّه قد يقال: إنّ بالإمكان الجمع بين هذه الرواية وباقي الروايات بوجه آخر، وهو أن يقال: إنّ دلالة هذه الرواية على عدم اشتراط التعريف سنة ليس إلا بظهورٍ يمكن رفع اليد عنه بتصريح الروايات الاُخرى بلزوم التعريف سنة، وأمّا تجويزه للاكتفاء بالتصدّق بقسم من المال عند الاحتياج فليكن مقيّداً لإطلاق دليل التصدّق.

ولو لم يتمّ هذا الجمع فلعلّنا نقول بالتعارض لا بالحمل على كون أمر اللقطة متروكاً للإمام. ومع هذا، فالحديث ساقط سنداً.


(1) المصدر السابق: 367، ب 16 من اللقطة، ح 2.
(2) المصدر السابق 9: 362، ب 28 من مقدّمات الطواف، ح 7.
39

3 ـ ما مضى عن داود بن أبي يزيد عن أبي عبد الله، قال: قال رجل: إنّي قد أصبت مالاً، وإنّي قد خفت فيه على نفسي، ولو أصبت صاحبه دفعته إليه وتخلّصت منه؟ قال: فقال أبو عبد الله: "والله إن لو أصبته كنت تدفعه إليه؟"، قال: إي والله، قال: "فأنا والله ما له صاحب غيري". قال: فاستحلفه أن يدفعه إلى من يأمره، قال: فحلف، فقال: "فاذهب فاقسمه في إخوانك ولك الأمن ممّا خفت منه، قال: فقسمته بين إخواني (1).

فقد يقال: إنّ الحديث مطلق ـ ولو بملاك ترك الاستفصال ـ يشمل فرض كون المال الذي أصابه لقطة.

إلا أنّ الصحيح أنّ قوله: "قد أصبت مالاً" لو جزمنا بظهوره في الجامع بين الالتقاط وغيره تمّ ما ذكر من الإطلاق، إمّا على أساس مقدّمات الحكمة لو كان سؤاله بنحو القضيّة الحقيقة، أو على أساس ترك الاستفصال لو كان سؤاله راجعاً إلى واقعة شخصية.

أمّا إذا قلنا: إنّ السؤال بعد أن كان عن واقعة شخصية فقوله: "أصبت مالاً" له ظهور في غير الالتقاط، أو مجمل ـ على الأقلّ ـ؛ إذ لو كانت واقعته الشخصية عبارة عن الالتقاط لكان المناسب جدّاً أن يقول مثلاً: "إنّي أصبت لقطة، ولا أقلّ من احتمال الإجمال، فلا يتمّ الإطلاق بمقدّمات الحكمة ولا بملاك ترك الاستفصال، أمّا عدم تماميّته بمقدّمات الحكمة فواضح، وأمّا عدم تماميّته بملاك ترك الاستفصال؛ فلأنّ الحقّ المحقّق في محلّه أنّ إجمال السؤال يسري إلى الجواب، لا أنّ الجواب يكتسب الإطلاق في مورد إجمال السؤال بملاك ترك الاستفصال، كما ولعلّ ظاهر تحيّره وخوفه على نفسه وأنّه لو أصاب صاحبه لدفعه إليه أنّه لم يكن يمكنه التعريف؛ وإلا لكان في مثل هذه الحالة يباشر التعريف، ولا أقلّ من الإجمال من هذه الناحية أيضاً.

إذن، فالقدر المتيقّن من هذا الحديث هو أنّ المال المجهول المالك غير اللقطة وغير ما يمكن تعريفه للإمام، وعليه فيحمل ما ورد من الأمر بالتصدّق في مجهول المالك غير اللقطة وغير ما يمكن تعريفه، وهو حديث يونس بن عبد الرحمان الماضي (2)، على أنّه أمر بالتصدّق بما هو راجع له، وليس بياناً لكون الحكم الشرعي هو التصدّق، فيسقط ما مضى من استدلالنا به ـ بناءً على التعدّي عن مورده ـ على كون حكم اللقطة غير القابلة للتعريف هو التصدّق.

هذا، وقد يقبل بالإجمال الثاني أو ظهوره فيما لا يمكن تعريفه، ولا يقبل بالإجمال الأوّل أو ظهوره في غير اللقطة (3)، فيتمّ الإطلاق بملاك ترك الاستفصال بلحاظ كون مجهول المالك لقطة أو غير لقطة، ولكن لا يتمّ الإطلاق بلحاظ إمكانية التعريف وعدمه، فالقدر المتيقّن هو مجهول المالك الذي لا يمكن تعريفه فهو للإمام، فإمّا أن يحمل ما مضى من رواية زرارة ـ سألت أبا جعفر عن اللقطة، فأراني خاتماً في يده من فضّة، قال: "إنّ هذا ممّا جاء به السيل وأنا اُريد أن أتصدّق به" (4) ـ على أنّه يسمح بالتصدّق باللقطة التي لا يمكن تعريفها بما هو مالك لها لا أنّ حكمها الشرعي هو التصدّق، وإمّا أن يقال: إنّ رواية داود بن يزيد إنّما دلّت على كون اللقطة التي لا يمكن تعريفها للإمام بالإطلاق بملاك ترك الاستفصال، بينما رواية زرارة ظاهرة في كون الحكم الشرعي للّقطة التي لا يمكن تعريفها هو التصدّق، فيقيّد بها إطلاق رواية داود بن يزيد بناءً على مبنى انّه عند تعارض المطلق والمقيّد لا يسمح بتوجيه المقيّد وحمله على غير ظاهره، بل يقيّد المطلق بالمقيّد.


(1) المصدر السابق 17: 357، ب. من اللقطة، ح 1.
(2) المصدر السابق: 357، ب. من اللقطة، ح 2.
(3) وقد يقال: إنّ الإجمال الثاني يولّد الإجمال الأوّل أو يؤكّده؛ لأنّ عدم إمكانية التعريف ـ الذي هو محتمل على أساس الإجمال الثاني ـ يناسب كون المال في مورد الحديث غير لقطة؛ لأنّ اللقطة الغالب فيها إمكانية التعريف ومجهول المالك غير اللقطة الغالب فيه عدم إمكانية التعريف.
(4) وسائل الشيعة 17: 358، ب. من اللقطة، ح 3.
40

هذا، لو لم نقل بأنّه مع عدم إمكانية تعريف اللقطة يكون التفصيل بينها وبين مجهول المالك الذي لا يمكن تعريفه ـ بأن يكون الثاني للإمام دون الأوّل ـ غير عرفيّ، وإلا فحتّى لو افترضنا عدم الإطلاق في رواية داود يثبت أنّ للقطة غير القابلة للتعريف للإمام، وتحمل رواية زرارة على سماح الإمام بالتصدّق بها بوصفه مالكاً لا على أنّ حكمها الشرعي هو التصدّق.

وإذا أردت استيعاب الكلام بشكل أوضح فيما يرجع إلى الإمام من أقسام مجهول المالك قلنا: إنّ مجهول المالك على أقسام:

1 ـ ما ليس لقطة ولا يمكن تعريفه.

2 ـ ما يكون لقطة ولا يمكن تعريفها.

3 ـ ما يكون لقطة ويمكن تعريفها، لكن لا يجوز تملّكها بعد التعريف؛ لأنّها لقطة الحرم.

4 ـ ما يكون لقطة ويمكن تعريفها ويجوز تملّكها بعد التعريف.

5 ـ ما ليس لقطة ويمكن تعريفه.

أمّا القسم الأوّل: فهو القدر المتيقّن ممّا دلّت رواية داود على أنّه للإمام.

وأمّا القسم الثاني: فإمّا أنّه داخل أيضاً في القدر المتيقّن أو لا يبعد التعدّي إليه عرفاً.

وأمّا القسم الثالث: فهو غير داخل في القدر المتيقّن من رواية داود حتماً، ولكن لا يبعد التعدّي عرفاً إليه بعد انتهاء التعريف، فإنّ ما يحتمل عرفاً منعه عن صيرورة مجهول المالك ملكاً للإمام وكونه موجباً للتفريق في الحكم عن مورد رواية داود هو أحد أمرين:

إمّا إمكانية التعريف وأمل الحصول على المالك فلا يصبح ملكاً للإمام؛ وذلك حفاظاً على حقّ المالك.

وإمّا حقّ الملتقط باعتباره قد عمل بوظيفة التعريف وتحمّل عبئه، فأصبح مستأهلاً لحقّ التملّك، فلا يصبح ملكاً للإمام؛ حفاظاً على حقّ الملتقط.

والأمر الثاني غير موجود في هذا القسم، والأمر الأوّل غير موجود أيضاً بعد التعريف

41

وأمّا القسم الرابع: فقبل التعريف يوجد فيه الأمر الأوّل من الأمرين اللذين أشرنا إليهما، وبعد التعريف يوجد فيه الأمر الثاني، فلا يمكن التعدّي من مورد رواية داود إليه.

وأمّا القسم الخامس: فهو أيضاً خارج عن القدر المتيقّن من مورد رواية

داود، واحتمال الفرق موجود على الأقلّ؛ لإمكانية التعريف وأمل الحصول على المالك، كما أنّه خارج أيضاً عن دليل وجوب التعريف؛ فإنّه ورد في اللقطة، ونحن نحتمل أنّ الالتقاط هو الذي أثقل عليه المسؤولية وحمّله الفحص.

والظاهر أنّه لابدّ من الرجوع في هذا القسم ـ وهو مجهول المالك الذي يمكن تعريفه وليس لقطة ـ إلى مقتضى القاعدة من وجوب إيصال المال إلى وليّ المالك أو مراجعته فيه وهو الفقيه، وعلى الفقيه بعد تقبّله للمال أن يقوم بالدور الذي يقوم به الوليّ تجاه المولّى عليه من مراعاة مصالحه، فعليه أن يفحص عن المالك إلى حصول اليأس، وبعده يلحقه حكم مجهول المالك غير اللقطة الذي لا يمكن التعريف به؛ أي أنّه يلحق حكماً بمورد رواية داود؛ إذ لا يخلو الأمر ثبوتاً من أحد فرضين:

الأوّل: أن يجوز له كشخص أن يتملّكه؛ إلحاقاً له باللقطة.

والثاني: أن لا يجوز له ذلك.

وعلى الثاني لا يبقى احتمال الفرق عرفاً بينه وبين مجهول المالك غير اللقطة الذي لم يكن يمكن تعريفه من أوّل الأمر، فهو ملك للإمام، وبما أنّ دليل جواز تملّك اللقطة لا يشمل هذا الذي ليس لقطة، فالقدر المتيقّن الذي يُخرج هذا الفقيه أو أيّ إنسان استولى على هذا المال عن عهدته هو التعامل معه معاملة ملك الإمام.

ثمّ إنّ أدلّة أحكام اللقطة تقصر أحياناً عن تعيين الوظيفة، فمثلاً لو كانت اللقطة طعاماً لا يقبل البقاء حتّى يمكن الفحص عن مالكه فأدلّة اللقطة قاصرة عن حكم ذلك بعد ضعف سند رواية السكوني (1) ومرسلة الصدوق (2) الماضيتين. ومقتضى القاعدة في مثل ذلك الرجوع الى وليّ المالك واتخاذ الوليّ الموقف الذي يكون في صالح المولّى عليه، كأن يجيز في هذا المال أكل الطعام مع الضمان.

أمّا في الموارد التي لا قصور لروايات اللقطة عن بيان حكمها فالظاهر عدم وجوب مراجعة الفقيه فيها واستئذانه.


(1) المصدر السابق: 372، ب 23 من اللقطة، ح 1.
(2) المصدر السابق: 351، ب. من اللقطة، ح 9.