492

لا يزال على غرضيّته، ولكن مع هذا لا يكون الأمر بذي المقدّمة ناقضاً لهذا الغرض وإنّما هو معيّن لاُسلوب النقض، فيعيّن أن يكون مكثه في الأرض المغصوبة خروجيّاً لا سكونيّاً، بعد أن كان الجامع بينهما ثابتاً على كلّ حال وناقضاً لغرض المولى، وتعيين الجامع في المكث الخروجيّ لا يكون نقضاً لغرض زائد.

 

حكم الصلاة حال الخروج:

وأمّا المرحلة الثانية: ففي حكم الصلاة حال الخروج، وفي هذه المسألة شقّان:

الشقّ الأوّل: أن يُفرض أنّ هذا الإنسان لا يتمكّن من الصلاة بوجه ولو الاضطراريّة والإيمائيّة بعد الخروج؛ لضيق الوقت. وحينئذ إن قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي: فإمّا أن يفرض أنّ الصلاة الاختياريّة المشتملة على الركوع والسجود توجب زيادة مكث، فينتقل إلى الصلاة الإيمائيّة؛ لأنّ الاختياريّة تستلزم الغصب الزائد فيرفع اليد عنها بروح التزاحم. نعم، لو عصى وصلّى صلاة اختياريّة صحّت. وإمّا أن يُفرض أنّها لا توجب زيادة مكث، كما لو خرج في داخل العربة، فتتعيّن الصلاة الاختياريّة.

وإن قلنا بعدم جواز الاجتماع فبناءً على أنّ اجتماع الصلاة والغصب إنّما هو في السجود لا في مطلق الأكوان، تعيّنت الصلاة الإيمائيّة، ولا يجوز السجود حتّى ولو لم يوجب مكثاً زائداً؛ لأنّ مركز الاتّحاد حرام بالحرمة الساقطة بالاضطرار، وهذا الحرام يقع مبغوضاً(1) للمولى، ومعه لا يمكن أن يكون واجباً؛ لأنّ


(1) مضى سقوط البغض بالدخول وتحوّله إلى المحبوب على أثر أنّ مفسدة البقاء أقوى من مفسدة الخروج.

493

المفروض امتناع اجتماع الأمر والنهي(1)، هذا. ولو عصى وصلّى صلاة اختياريّة لم تصحّ.

وأمّا بناءً على اتّحاد الصلاة والغصب في جميع الأكوان فمقتضى القاعدة الأوّليّة هو سقوط وجوب الصلاة رأساً؛ لأنّه قبل أن يدخل الأرض المغصوبة كان أمامه دليلان: أحدهما دليل (لا تغصب) المنحلّ إلى (لا تدخل) و(لا تقف) و(لا تخرج)، والثاني دليل (صلّ)، وقد وقع التعارض بينهما بلحاظ مادّة الاجتماع، والمفروض تقديم جانب النهي، فينتج أنّه يجب الصلاة في المكان المباح(2)، فهو مخاطَب بخطابين: أحدهما النهي عن الخروج، والثاني الأمر بالصلاة في المكان المباح، وبدخوله بسوء اختياره في الأرض المغصوبة عجّز نفسه عن امتثال كلا الخطابين، فسقطا سقوطاً عصيانيّاً ويعاقب بعقابين. هذا بحسب مقتضى القاعدة.

لكنّه قام دليل خاصّ في الفقه ـ كالإجماع وشبهه من الأدلّة اللبّيّة ـ على أنّ الصلاة لا تسقط بحال، فهذا دليل على صحّة الصلاة بل وجوبها.

وهنا التزم الأصحاب كالسيّد الاُستاذ وغيره بأنّه حينئذ لا يُعقل الالتزام بمبغوضيّتها.

وهذا الكلام منه ومن غيره لا يمكن المساعدة عليه؛ فإنّ الالتزام بانتفاء


(1) مع فرض تقدّم مبغوضيّة الغصب على محبوبيّة الصلاة.

(2) هذا التقييد محدود بما قبل الدخول، أي: إنّه قبل الدخول مكلّف بأن يوجد الصلاة في المكان المباح وأن ينزجر عن الخروج حتّى بلحاظ ما بعد الدخول، وذلك بأن لا يدخل. أمّا بعد أن دخل وسقط النهي وأصبحت المفسدة مغلوبة لمصحلة ذي المقدّمة فلا مانع من وجوب الصلاة.

494

المبغوضيّة عن هذه الحصّة الخاصّة من الكون الصلاتيّ الغصبيّ إن كان باعتبار أنّ المبغوض لا يُعقل التقرّب به ـ كما هو صريح كلام السيّد الاُستاذ ـ فجوابه: أنّ المبغوض لو كان بديله غير مبغوض لم يمكن التقرّب به. أمّا لو كان البديل الممكن أشدّ مبغوضيّة فيمكن التقرّب به؛ فإنّ التقرّب بشيء معناه ترجيحه على بدله لأجل خاطر المولى، وهذا ما يحصل في هذا الفرض.

وإن كان الالتزام بانتفاء المبغوضيّة لأجل عدم الوقوع في محذور اجتماع المبغوضيّة والوجوب فالجواب: أنّنا نلتزم بعدم ثبوت المحبوبيّة وراء الأمر لا ثبوتاً ولا إثباتاً: أمّا ثبوتاً فلأنّ الأمر كما قد ينشأ من المحبوبيّة كذلك قد ينشأ بداعي تخفيف المبغوضيّة(1)، فلعلّ مقامنا من هذا القبيل.

وأمّا إثباتاً فلأنّ الأمر لو كان ثابتاً بالأدلّة اللفظيّة لجاء فيه الاستظهار العامّ بأن يقال: إنّ الأمر ظاهره عرفاً هو النشوء من المحبوبيّة، إلاّ أنّ الأمر في المقام إنّما ثبت بدليل لبّيّ، وغاية ما يدلّ عليه هو ثبوت الوجوب لا المحبوبيّة.

فإن قلت: ليكن الدليل على ثبوت الوجوب دليلا لفظيّاً، وهو ما ورد من أنّه «لا تدع الصلاة على حال فإنّه عماد دينكم»(2).

قلنا: إنّ هذا الدليل لا ينفع لإثبات الأمر في المقام، وإنّما ينفع في موارد الاضطرار غير الاختياريّ؛ فإنّ غاية ما يدلّ عليه هي: أنّ كلّ مكلّف قد شُرّعت


(1) لا يخفى أنّ ما يخفّف المبغوضيّة ـ بعد عدم إمكان الفرار من أصل المفسدة ـ محبوب، ومن هنا قلنا بسراية وجوب ذي المقدّمة بعد فرض أقوائيّته على المقدّمة المنحصرة في الحرام ولو بسوء الاختيار.

(2) وسائل الشيعة، ج 2، ب 1 من الاستحاضة، ص 373 بحسب طبعة مؤسّسةآل البيت، ح 5.

495

عليه الصلاة بنحو إمّا يكون ممتثلا أو عاصياً، فلو سقط الأمر الاختياريّ لا بالعصيان بل بعجز غير عصيانيّ ـ كما لو لم يتمكّن من القيام مثلا ـ دلّ هذا الدليل على ثبوت أمر جديد اضطراريّ. أمّا لو كان سقوط الأمر سقوطاً عصيانيّاً فلا يدلّ الدليل على تولّد أمر جديد بالصلاة، فمثلا لو أخّر الصلاة عمداً إلى زمان لم يبق إلاّ مقدار ركعة فلا يستفاد من هذا الدليل أنّه تجب عليه الصلاة بركعة، ولهذا قلنا: إنّ الدليل منحصر بالإجماع وشبهه.

ثُمّ إنّه هل تكون صلاته في المقام إيمائيّة أو اختياريّة؟ الجواب: أنّه إن كانت الصلاة الاختياريّة موجبة للمكث الزائد تعيّنت عليه الصلاة الاضطراريّة بلا إشكال؛ إذ لا موجب لرفع اليد عن دليل حرمة المكث الزائد. أمّا إذا لم تكن موجبة للمكث الزائد فالظاهر أنّ وظيفته هي الصلاة الاختياريّة، وإن كان أصل دليلنا على وجوب الصلاة في المقام لبّيّاً، وذلك تمسّكاً بإطلاق دليل جزئيّة الركوع والسجود، فإنّه يدلّ على أنّه جزء لكلّ صلاة تكون وظيفة للمكلّف، وقد دلّ الدليل اللبّيّ هنا على أنّ وظيفته الصلاة، إذن فالركوع جزء لها والسجود أيضاً جزء لها.

هذا كلّه بناءً على أنّ الخروج يقع محرّماً ومعصية للنهي السابق الذي سقط ولا يكون واجباً، أمّا لو بنينا على الوجوب النفسيّ أو الغيريّ فننبّه هنا على نكتتين:

الاُولى: أنّه في كلّ مورد لم نكن نقول ـ بناءً على حرمة الخروج وعدم وجوبه ـ بوظيفيّة الصلاة الاختياريّة لا نقول بذلك هنا أيضاً، أمّا فيما إذا اقتضت الصلاة الاختياريّة تصرّفاً زائداً فالأمر واضح، وأمّا فيما لم تقتض ذلك فلوضوح أنّ اختياريّة الصلاة لا تكون دخيلة في الخروج حتّى ترتفع عنها الحرمة، فالحرمة إنّما ترتفع عن الحركة نحو الخروج ولا ترتفع عن تصرّفات اُخرى غير دخيلة في

496

الخروج، إذن فلا ترتفع الحرمة عن مثل وضع الجبهة أو مثل إلقاء الثقل؛ فإنّ إلقاء الثقل لا يكون دخيلا في الخروج وإنّما هو ملازم فقط(1).

الثانية: أنّ الصلاة الإيمائيّة التي ثبت وجوبها في المورد السابق بدليل ثانويّ يثبت هنا بالخطاب الأوّليّ؛ فإنّ المانع عن بقائه كان هو حرمة الخروج وقد فُرض عدم حرمته.

الشقّ الثاني: أن يكون متمكّناً من الصلاة في خارج الأرض، فلو كان متمكّناً منها بدرجة أكمل فوظيفته الانتظار إلى أن يخرج، وإلاّ أمكنه أن يستعجل بالصلاة، بل يجب الاستعجال إذا كانت الصلاة في الداخل أكمل إلاّ في مورد أثبتنا وجوب الصلاة بالإجماع، فمن الواضح عدم ثبوت الإجماع على صحّة الصلاة في الداخل حتّى ولو فُرض أنّ الصلاة في الداخل أكمل.

هذا تمام الكلام في بحث اجتماع الأمر والنهي

 


(1) مادمنا فرضنا عدم كون الصلاة الاختياريّة مشتملة على تصرّف زائد على الخروج وفرضنا جواز الخروج لا يبقى دليل على حرمة اختيار كيفيّة خاصّة من التصرّف، كوضع الجبهة أو وضع الثقل على الأرض على شكل السجود، فإنّ اختيار أيّ شكل من التصرّف يسمّى غير خروجيّ يقلّل بقدره ممّا يسمّى بالتصرّف الخروجيّ، وإلاّ لرجعنا إلى كون الصلاة الاختياريّة مشتملة على تصرّف زائد. وإن شئت فعّبر بأنّ الصلاة الاختياريّة إن لم تشتمل على تصرّف زائد على الخروج فكلّ تصرّفه تصرّف خروجيّ، إلاّ أنّ التصرّف الخروجيّ له أشكال عديدة مختلفة بعضها بدل عن بعض.

497

النواهي

الفصل الثالث

 

 

اقتضاء النهي في العبادة للفساد

 

○ الوجوه والملاكات في اقتضاء النهي لفساد العبادة.

○ تقسيم النهي بما يمكن افتراض تأثيره في بحث مفسديّته للعبادة.

○ مناقشة ملاكات القول بالاقتضاء.

○ تنبيهات.

 

499

 

 

 

 

 

المشهور هو اقتضاء النهي في العبادة للفساد، وقد ذكر الوجه لذلك في كلمات الأكابر بشكل مشوّش.

فلابدّ أن نبيّن أوّلا الوجوه التي يمكن أن يقال باقتضائه من أجلها لفساد العبادة، والفرق بينها من حيث النتائج، فإنّها تختلف فيما بينها في النتائج من ناحية:

أنّ بعضها ينتج المفسديّة بوجوده الواقعيّ، وبعضها ينتج المفسديّة بوجوده الواصل.

وأنّ بعضها يقتضي أنّنا لو شككنا في النهي وصحّحنا العبادة بالبراءة عن الحرمة كانت الصحّة واقعيّة، وبعضها يقتضي كون تلك الصحّة ظاهريّة.

وأيضاً بعضها يؤدّي إلى أنّ دليل النهي يكون دليلا اجتهاديّاً على البطلان، وبعضها لا يؤدّي إلى ذلك، فلكي نصل إلى نتيجة البطلان نحتاج إلى ضمّ قاعدة الاشتغال، فلو كانت قاعدة الاشتغال تقتضي ـ حتّى بقطع النظر عن النهي ـ البناء على نتيجة الفساد كان ضمّ دليل النهي إليها بلا فائدة.

والفارق الثاني في الحقيقة يكون من توابع الفارق الأوّل، فإنّه لو كان النهي يقتضي بوجوده الواقعيّ البطلان فنفي النهي بالبراءة يثبت الصحّة الظاهريّة. ولو كان النهي يقتضي بوجوده الواصل البطلان فنفيه بالبراءة ينتج الصحّة الواقعيّة.

500

 

الوجوه والملاكات في اقتضاء النهي لفساد العبادة:

أمّا ما هي الوجوه أو الملاكات التي يمكن أن يقال بها لاقتضاء النهي فساد العبادة؟ فهي خمسة:

الأوّل: أنّ العبادة يشترط فيها التقرّب، والنهي يجعل الفعل مبعّداً عن المولى فيستحيل أن يكون مقرّباً.

وهذا الوجه يقتضي:

أوّلا: مفسديّة النهي بوجوده الواصل بل بنفس التنجّز ولو لم يكن في الواقع نهي؛ لأنّ التجرّي يكون على حدّ المعصية الواقعيّة في التبعيد عن المولى.

وثانياً: أنّه لدى الشكّ في الحرمة تُصحِّح البراءة عنها الصلاة تصحيحاً واقعيّاً لا ظاهريّاً.

وثالثاً: أنّ دليل النهي يثبت بطلان الصلاة بالدليل الاجتهاديّ بلا حاجة إلى ضمّ قاعدة الاشتغال.

الثاني: أنّ النهي يقتضي عدم الأمر بالفرد المنهيّ عنه بناءً على امتناع اجتماع الأمر والنهي، فتبطل العبادة حتّى بنيّة الملاك بناءً على أنّ المصحِّح للعبادة إنّما هو الأمر ولا ينفعها مجرّد الملاك.

وهذا الوجه يقتضي:

أوّلا: مفسديّة النهي بوجوده الواقعيّ.

وثانياً: أنّه لدى الشكّ في الحرمة وعدم تنجّزها تصحّ الصلاة ظاهراً لو كان لدليل الأمر إطلاق، لا واقعاً؛ لأنّه بإطلاق الأمر يثبت انتفاء الحرمة تعبّداً لا واقعاً.

وثالثاً: أنّ دليل النهي دليل اجتهاديّ على البطلان بلا حاجة إلى ضمّ قاعدة الاشتغال.

501

الثالث: عين الثاني، أي: أنّ النهي يقتضي عدم الأمر بالفرد المنهيّ عنه، بفرق: أنّنا وإن كنّا نؤمن بمصحّحيّة الملاك للعبادة ولكنّنا نقول: إنّ الكاشف عن الملاك هو الأمر، فمع انتفائه لا كاشف عن الملاك.

وهذا الوجه في الثمرة الاُولى والثانية كسابقه، ويقتضي ثالثاً: أنّه لو ثبتت الحرمة احتجنا في إثبات نتيجة البطلان إلى قاعدة الاشتغال؛ لأنّه لم يثبت بالدليل البطلان؛ وذلك لاحتمال ثبوت الملاك، فيبقى أن نلتجئ إلى قاعدة الاشتغال بلحاظ الشكّ في حصول الملاك والذي هو المُسقط للأمر.

الرابع: أنّ النهي كاشف عن المفسدة، والمفسدة مضادّة للمصلحة، فيدلّ على عدم الملاك فتبطل العبادة.

والخامس: كالرابع إلاّ أنّه لا يقال: إنّ المفسدة تضادّ المصلحة، بل يقال: إنّ المفروض غلبتها على المصلحة لو كانت، ولذا أوجدت النهي، والمصلحة المغلوبة كالعدم؛ لأنّها لا تؤثّر في خلق المحبوبيّة، فلا يصحّ التقرّب بالملاك؛ لأنّ المصلحة المغلوبة كالعدم لا كالمصلحة الغالبة.

وهذان الوجهان يكونان في جميع الثمرات الثلاث كالوجه الثالث.

 

502

 

تقسيم النهي بما يمكن افتراض تأثيره في بحث مفسديّته للعبادة:

ثُمّ إنّ النهي لو أردنا تقسيمه بما يمكن افتراض تأثير ذلك في بحث مفسديّته للعبادة بما عرفته من ثمرات الملاكات المختلفة أمكن تقسيمه إلى خمسة أقسام:

الأوّل: النهي الغيريّ خطاباً وملاكاً كحرمة الصلاة المضادّة للإزالة، بناءً على أنّ ترك الضدّ مقدّمة لفعل الضدّ الآخر، فالنهي عنها متفرّع على وجوب الإزالة ومترشّح منه فهو خطاب غيريّ، كما أنّ ملاك ذلك أيضاً غيريّ؛ إذ تترتّبعلى هذا الترك ثمرة خارجيّة تكون ملاكاً لهذا النهي وليس نفس المتعلّق هو الملاك.

الثاني: النهي النفسيّ خطاباً وملاكاً؛ فإنّ بعض الأحكام يكون كذلك، كوجوب معرفة الباري، بناءً على كونه من الواجبات الشرعيّة، فخطابه خطاب نفسيّ، أي: أنّه واجب لنفسه وليس وجوبه كوجوب المقدّمة المتفرّع على وجوب غيره، أو المترشّح من وجوب غيره، وملاكه أيضاً نفسيّ، أي: أنّ معرفة الباري بنفسها مصلحة بدون النظر إلى ترتّب ثمرة عليها. ومثال ذلك في جانب النهي: حرمة الشرك، بناءً على كونه حراماً شرعيّاً.

الثالث: النهي النفسيّ خطاباً والغيريّ ملاكاً، كغالب التكاليف الشرعيّة على ما يبدو، كحرمة الخمر؛ فإنّها حرمة نفسيّة وليست مترشّحة من حكم آخر، وملاكها عبارة عن المفسدة المترتّبة على الشرب لا نفس الشرب، وكوجوب الصلاة فهو نفسيّ وملاكه غيريّ، أعني: ترتّب ثمرة عليها.

الرابع: النهي الذي يكون الملاك في نفسه لا في متعلّقه، بناءً على أنّ المصلحة قد تكون في نفس الجعل.

الخامس: النهي الذي تكون المصلحة في ترك متعلّقه مصلحة مترتّبة على

503

العنوان الثانويّ المنتزع في طول نفس النهي، من قبيل عنوان الطاعة والامتثال، فربّما يُلزم المولى العبد بشيء من الفعل أو الترك لكي يطيعه العبد ويمتثله، أي: أنّ المطلوب نفس الإطاعة والامتثال وليس ملاكاً في المتعلّق.

وإنّما قيّدنا النهي بنشوئه من المصلحة في الترك ولم نعبّر بمطلق الملاك ـ سواءً أكان مصلحة في الترك أو مفسدة في الفعل ـ لعدم إمكان نشوء النهي عن المفسدة في الفعل بعنوانه الثانويّ، أعني: المخالفة؛ فإنّ البُعد عن هذه المفسدة حاصل مع عدم النهي ولا داعي إلى النهي، بل النهي هنا تقريبٌ للعبد إلى المفسدة لا تبعيدٌ له عنها.

504

 

مناقشة ملاكات القول بالاقتضاء:

والآن قد اقترب الحديث عن الملاكات الخمسة لاقتضاء النهي للفساد لكي نعرف ما هو الصحيح منها، وما هو غير الصحيح؟ ونعرف أنّ الصحيح منها هل هو صحيح في جميع أقسام النهي أو بعضها؟

ونحن نتكلّم في كلّ واحد من تلك الملاكات بقطع النظر عن حكومة ملاك آخر عليه.

وتوضيح المقصود: أنّ الملاكات الخمسة المشار إليها يكون بعضها ـ لو تمّ ـ حاكماً على البعض الآخر لو تمّ أيضاً، فمثلا كان الملاكان الأوّلان والملاكان الأخيران كلّها حاكمة على الملاك الثالث؛ لأنّ مقتضى الملاك الثالث هو التشبّث بأصالة الاشتغال، ومقتضى باقي الملاكات ثبوت البطلان بالدليل الاجتهاديّ، ومعه لا تصل النوبة لإثبات قاعدة الاشتغال بالملاك الثالث، بناءً على حكومة الدليل الاجتهاديّ المثبت للتكليف على قاعدة الاشتغال.

و الملاك الرابع حاكم على جميع الملاكات، بمعنى أنّه مثبت لعدم المصلحة رأساً، فلا تصل النوبة إلى البحث عن أنّه هل يمكن التقرّب بها، أو لا يمكن التقرّب بها: إمّا لمانع، وهو مبعّديّة الإتيان بالمنهيّ عنه كما يقال بذلك في الملاك الأوّل، أو مغلوبيّة المصلحة في قبال المفسدة كما يقال بذلك في الملاك الخامس، وإمّا لعدم صحّة التقرّب بالمصلحة رأساً كما يقال بذلك في الملاك الثاني.

والملاك الثاني حاكم على الملاك الأوّل والخامس؛ فإنّ المفروض فيه عدم إمكان التقرّب بالمصلحة رأساً، فلا تصل النوبة إلى البحث عن وجود المانع عن التقرّب بها، وهو المبعّديّة على الملاك الأوّل، ومبغوضيّة المصلحة على الملاك الخامس.

505

والملاك الأوّل في عرض الملاك الخامس.

والحاصل: أنّنا نحن نقطع النظر عن مسألة الحكومة لنتكلّم في كلّ واحد من تلك الملاكات في حدّ ذاته، فنقول ومن الله التوفيق:

أمّا الملاك الأوّل: فتارة يقع الكلام في صحّته في نفسه، واُخرى في أنّه بعد فرض صحّته يجري في أيّ قسم من أقسام النواهي، فهنا مقامان:

المقام الأوّل: في صحّة الملاك الأوّل وعدمها.

التحقيق: هو الصحّة، وأنّه يثبت بذلك بطلان العبادة إذا كان النهي واصلا، فإنّ المبعّديّة والمقرّبيّة متضادّتان ولا يمكن أن يكون شيء واحد مقرّباً ومبعّداً.

ولا يخفى: أنّ المراد بالقُرب والبُعد هو القُرب والبُعد اللذان ينتزعهما العقل في مقام العبوديّة عن جري العبد على وفق مقتضى العبوديّة أو على خلافه، لا القُرب والبُعد الحاصلان بالنظر إلى الأغراض النفسيّة اللذان هما نتيجة الإتيان بما يحبّه الشخص أو بما يبغضه.

ومن هنا ظهر ما في كلام السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ حيث قال: الصحيح في المقام هو: عدم صحّة العبادة المنهيّ عنها؛ لاستحالة التقرّب بالمبغوض وما يصدر قبيحاً في الخارج، فالعبادة المنهيّ عنها بما أنّها بنفسها قبيحة ومبغوضة للمولى غير قابلة لأن يتقرّب بها من المولى بالضرورة، فتقع فاسدة لا محالة(1). انتهى.

والإشكال فيه هو: أنّ المبغوضيّة إنّما تنتج المبعّديّة بمعنى البُعد الحاصل بالنظر إلى الأغراض النفسيّة، والمقصود فيما نحن فيه إنّما هو البُعد المنتزع عقلا عن


(1) أجود التقريرات، ج 1، ص 396، تحت الخطّ بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

506

الجري على خلاف مقتضى العبوديّة، وليس ذلك نتيجةً للمبغوضيّة، بل القبح والمبغوضيّة كلّ منهما ملاك على حدة لبطلان العبادة غير مربوط أحدهما بالآخر، فالجمع بينهما في هذا الكلام خلط بين ملاكين مختلفين من حيث الموضوع والأثر والخصوصيّة.

وعلى أ يّة حال فلا ينبغي الإشكال في صحّة الملاك الأوّل في نفسه، ولكن المحقّق الإصفهانيّ (رضوان الله عليه) أورد على ذلك في حاشيته على الكفاية: بأنّه إن كان المراد بكون المبعّديّة والمقرّبيّة ضدّين هو الضدّيّة بلحاظ ذات القريب أو البعيد، بمعنى أنّ الشيء الواحد لا يمكن أن يكون قريباً وبعيداً إلى شيء خاصّ ولو بأمرين، بأن يكون المقرّب له غير المُبعّد، نظير ما نرى في القُرب والبُعد المكانيّين من استحالة ذلك، كان اللازم القول ببطلان العبادة بمجرّد كون العابد مشغولا حين عبادته بعمل آخر يكون معصية للمولى، وهذا واضح البطلان.

وإن كان المراد بذلك ضدّيّتها بلحاظ وحدة المقرّب والمبعّد، أي: إنّه لا يمكن أن يكون شيء واحد مقرّباً ومبعّداً، فالمضادّة مسلّمة لكنّا نمنع فيما نحن فيه وحدة المقرّب والمبعّد، فإنّ الأمر تعلّق بالطبيعة والنهي تعلّق بالفرد بخصوصيّته، فالمقرّب هو الطبيعة والمبعّد هو الفرد بخصوصيّته. هذا ما أفاده المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله)(1).

ولا يخفى أنّ ذلك متابعةٌ لما يقال في وجه عدم استحالة اجتماع الأمر والنهي: من أنّ الأمر تعلّق بالطبيعة والنهي بالفرد، ولا يسري أحدهما إلى موضوع الآخر، في حين أنّه لو تمّ هذا الكلام هناك لا يتمّ هنا؛ وذلك لإمكان أن يقال هناك بجواز الاجتماع من ناحية أنّ الأمر تعلّق بصورة الطبيعة القائمة في نفس المولى، والنهي


(1) لم أرَ ذلك في تعليقته على الكفاية.

507

تعلّق بصورة الفرد القائمة في نفسه، وكذلك مبادؤه، فمركز الأمر ومبادئه غير مركز النهي ومبادئه.

وهذا بخلاف مسألة القُرب والبُعد، فإنّه لا يُعقل أن يكون المقرّب لهذا العبد الطبيعيّ القائم في نفس المولى أو الطبيعيّ بنفسه؛ فإنّ نسبتهما إلى جميع المكلّفين على حدّ سواء، ولا وجه لأن يكون مقرّباً لبعضهم دون بعض، بل المقرّب لهذا العبد هو الذي يكون مستنداً إليه، وهو الفرد الذي صدر منه الذي هو المبعّد أيضاً، فلزم أن يكون شيء واحد مبعّداً ومقرّباً، وهو محال.

المقام الثاني: في أنّ الملاك الأوّل يجري في أيّ قسم من أقسام النهي؟

التحقيق: أنّه جار في جميع الأقسام: إمّا عنواناً وإمّا مورداً:

أمّا القسم الأوّل ـ وهو النهي الغيريّ خطاباً وملاكاً ـ: فهذا الملاك غير جار فيه بعنوان النهي؛ لما هو التحقيق ـ وفاقاً للمشهور ـ من أنّ مخالفة الخطاب الغيريّ بما هي مخالفة لذلك الخطاب لا توجب البُعد عن المولى واستحقاق العقاب. نعم، نحن اخترنا في محلّه أنّ مخالفته توجب البُعد، لا بما أنّها مخالفة له، بل بما أنّها عمل ناش من نيّة المعصية؛ حيث إنّ التحقيق أنّ العمل الناشئ من نيّة المعصية يوجب البُعد واستحقاق العقاب، وإن لم يكن ذلك نفس المعصية بل كان من مقدّماته مثلا، ولو لم يكن هناك خطاب غيريّ، بأن أنكرنا الخطاب الغيريّ رأساً، أو كانت مقدّمة إعداديّة للحرام التي لا إشكال في عدم تعلّق النهي بها غيريّاً، لكنّه فُرِض أنّه أتى بها بقصد التوصّل إلى الحرام، فإنّه حينئذ مستحقّ للعقاب وإن فُرض أنّه مات قبل الوصول إلى الحرام بدون أن يتوب.

ومن هنا ظهر تأتّي الملاك الأوّل في مورد القسم الأوّل من أقسام النهي وثبوت بطلان العبادة بذلك، وإن كان الصحيح عدم تأتّيه فيه بالنظر إلى عنوان النهي.

وأمّا القسم الثاني ـ وهو النهي النفسي خطاباً وملاكاً ـ: فمن الواضح تأتّي

508

الملاك الأوّل فيه عنواناً، فإنّ مخالفته توجب البُعد عن ساحة المولى بما أنّها مخالفة لنهيه.

وأمّا القسم الثالث ـ وهو النهي النفسيّ خطاباً الغيريّ ملاكاً ـ: فإن قلنا: إنّ مخالفته توجب البُعد بعنوان كونها مخالفة للنهي، فالملاك الأوّل جار هنا بنفس عنوان النهي، أي: إنّه تثبت به مبطليّة هذا النهي للعبادة.

وإن قلنا: إنّ مخالفته توجب البُعد لا بعنوان كونها مخالفة للنهي بل بعنوان تفويت غرض المولى الذي هو عبارة عن التوصّل إلى ذاك الملاك، فالملاك الأوّل جار هنا مورداً لا عنواناً، وبالنتيجة يثبت بطلان العبادة لا محالة.

والخلاصة: أنّه من الواضح أنّ النهي الذي يكون نفسيّاً خطاباً وغيريّاً ملاكاً لا يكون أسوء حالا من النهي الغيريّ خطاباً وملاكاً الذي عرفت جريان الملاك الأوّل فيه مورداً، فالملاك الأوّل جار في ذلك أيضاً ولو مورداً.

وأمّا القسم الرابع ـ وهو النهي الناشئ عن الملاك في نفس النهي ـ: فهو أيضاً بناءً على تصويره تكون مخالفته مبعّدة للعبد بما هي مخالفته، والإشكال في مبعّديّة مخالفته راجع إلى أصل إمكان كون النهي ناشئاً عن الملاك في نفسه. ولو سلّمنا هذا القسم من النهي فلا ينفكّ ذلك عن كون مخالفته مبعّدة، فالملاك الأوّل ثابت هنا عنواناً.

وأمّا القسم الخامس فحاله حال القسم الثالث، فإنّ الخطاب فيه نفسيّ والملاك غيريّ، فإنّا نعلم بأنّ العنوان الثانويّ ـ وهو الإطاعة ـ ليست بنفسها مصلحة، وإنّما تترتّب عليها مصلحة(1). فلا فرق بين هذا القسم والقسم الثالث إلاّ في أنّ الملاك


(1) لا يخفى أنّ الطاعة بنفسها مصلحة. نعم، لو كان العنوان الانتزاعيّ المطلوب

509

في القسم الأوّل يكون بلحاظ العنوان الأوّليّ، وفي القسم الثاني يكون بلحاظ العنوان الثانويّ، وهذا لا يشكّل فارقاً، كما لا يخفى.

وأمّا الملاك الثاني: فيتكلّم فيه أيضاً في مقامين:

المقام الأوّل: في صحّته في نفسه وعدمها، وقد عرفت أنّه مركّب من أمرين:

أحدهما: دعوى أنّ النهي والأمر متضادّان ولا يجتمعان. والمختار في ذلك: أنّه إذا تعلّق الأمر بعنوان، والنهي بما هو أخصّ منه، كما لو قال: (أكرم العالم)، وقال: (لا تكرم العالم الفاسق)، لم يمكن اجتماع الأمر والنهي(1). وأمّا إذا تعلّق الأمر والنهي بعنوانين بينهما عموم من وجه، فإن كان هناك جزء مشترك في عالم العناوين امتنع أيضاً اجتماعهما، وإلاّ فلا امتناع في ذلك. وقد تقدّم توضيح ذلك والبرهان عليه في محلّه مفصّلا.

ثانيهما: دعوى عدم إمكان تصحيح العبادة بالملاك، وذلك لأحد أمرين:

الأوّل: أن يقال: إنّه لا يكفي في العبادة مطلق التقرّب ولو بواسطة الملاك، بل يُشترط فيها أمرٌ زائد على ذلك، وهو أن يُؤتى بها بداعي الأمر.

وهذه مسألة فقهيّة مختارنا فيها عدم اشتراط هذا الأمر الزائد؛ لعدم الدليل عليه، فإنّ الدليل على عباديّة العبادة: إمّا هو الإجماع والارتكاز، ولا يساعد ذلك


عبارة عن عنوان الامتحان ـ فإنّه كعنوان الطاعة في انتزاعه في طول النهي ـ فهذا العنوان ليس مطلوباً بنفسه، بل ببعض النتائج المترتّبة عليه.

ومع ذلك يمكن أن يسمّى ملاك الطاعة غيريّاً؛ لأنّه لم يكن عبارة عن نفس متعلّق النهي بل كان غيره.

(1) مضى منّا خلاف ذلك فراجع.

510

على اشتراط أزيد من قصد القربة. أو النصّ الخاصّ كما ورد بالنسبة إلى بعض العبادات، وهو أيضاً لا يدلّ على اشتراط أزيد من ذلك، فإنّ المذكور فيه هو عنوان «النيّة الحسنة» مثلا ونحو ذلك.

الثاني: أن يقال: إنّه وإن كان مطلق التقرّب كافياً لكن حصول التقرّب من ناحية الملاك غير معقول؛ فإنّ هذا الملاك ليس نفعاً راجعاً إلى المولى كما في الموالي العرفيّة حتّى يعقل التقرّب إليه به، وإنّما هو راجع إلى نفس العبد، ونسبته إلى المولى كنسبته إلى سائر العبيد غير هذا العبد، ولا يُعقل التقرّب إلى المولى بنفع راجع إلى نفس المتقرّب. والخلاصة: أنّ الملاك ليست له جهة إضافة إلى المولى ـ كالأمر ـ حتّى يتقرّب به إليه.

وفيه: أنّه يكفي في التقرّب إلى المولى العمل بداعي الملاك لا بما أنّه ملاك ومصلحة راجعة إلى نفسه، بل بما أنّه متعلّق لغرض المولى ولو اقتضاءً، فإنّ الآتي بهذا العمل بهذا الداعي لو اطّلع المولى على فعله تشكّر منه ومدحه، ولا نعني من القرب سوى ذلك، وقولنا: «ولو اقتضاءً» إنّما ذكرناه لإدخال ما لو لم يتعلّق غرض المولى بتحصيل العبد لهذا الملاك لمانع من جهل أو نسيان أو مزاحمة لملاك آخر.

و قد تحصّل ممّا ذكرنا: عدم تماميّة الملاك الثاني لمفسديّة النهي للعبادة، وأنّه يكفي في تصحيح العبادة التقرّب بالملاك ولا يشترط كونها بداعي الأمر.

المقام الثاني: أنّه لو تمّ هذا الملاك فإنّما يتمّ في النهي الذي يكون مضادّاً للأمر، والمختار أنّ النهي ليس بما هو مضادّاً للأمر، وإنّما مضادّته له من ناحية المبادئ، وعلى هذا فإنّما يتمّ هذا الملاك في غير القسمين الأخيرين من الأقسام الماضية للنهي.

وأمّا القسم الرابع: فليس مضادّاً للأمر؛ لأنّ ملاكه يكون في نفس الخطاب لا في المتعلّق حتّى يضادّ الأمر المفروض كون ملاكه في متعلّقه. ولو فُرض كون

511

ملاك الأمر أيضاً في نفس الخطاب فأيضاً لم يجتمع الملاكان في شيء واحد، لكن هذا خلاف الفرض، فإنّ المفروض كون ملاك الأمر في متعلّقه، ولذا فُرض المانع عن الصحّة عدم صحّة التقرّب بالملاك.

وأمّا القسم الخامس: فأيضاً ليس مضادّاً للأمر؛ فإنّ مصلحة الأمر إنّما هي في الفعل ومصلحة النهي إنّما هي في الترك بعنوان الامتثال بعنوانه الثانويّ، فملاك النهي إنّما هو في حصّة من نقيض ما هو مركز لملاك الأمر، فلا يقع تضادّ بين الأمر والنهي.

نعم، هنا صورة خارجة عن الفرض، وهي: أنّه كما فُرض ثبوت المصلحة في موافقة النهي كذلك نفرض ثبوت المفسدة في مخالفته، وحينئذ فإن فرضنا أنّ مركز المفسدة هو الإتيان بالمتعلّق بما أنّه مخالفة، بأن يكون نفس الفعل جزء الموضوع، امتنع اجتماعه مع الأمر المفروض ثبوت ملاكه في متعلّقه وهو الفعل، وإن فرضنا أنّ مركز المفسدة هو عنوان المخالفة، بأن يكون نفس الفعل خارجاً عن الموضوع فلا استحالة في اجتماعهما.

ونظير هذا التفصيل يأتي أيضاً في فرض آخر، وهو أن يُفرض ثبوت المفسدة في مخالفة الأمر بترك المتعلّق، والمفروض ثبوت المصلحة في موافقة النهي بترك المتعلّق أيضاً، وحينئذ فإن فُرض أنّ مركز المفسدة هو عنوان المخالفة ومركز المصلحة هو عنوان الموافقة، بدون أن يكون ذات الترك جزءاً لأحد الموضوعين أو يكون جزءاً لأحدهما دون الآخر فلا مضادّة. وإن فُرض جزئيّته لكليهما وقع التضادّ.

وأمّا الملاك الثالث: ففيه أيضاً مقامان:

المقام الأوّل: في صحّته في نفسه وعدمها، وقد عرفت أنّه مركّب من أمرين:

أحدهما: دعوى امتناع اجتماع الأمر والنهي. والكلام هنا عين الكلام في الملاك الثاني.

512

ثانيهما: عدم ثبوت محرز للمصلحة بعد فرض عدم الأمر. وهذا متين لا إشكال فيه كما بيّنّاه في محلّه، وأثبتنا هناك إنّ التمسّك لإثبات المصلحة بإطلاق المادّة ـ كما ذهب إليه المحقّق النائينيّ(قدس سره) ـ أو بالدلالة الالتزاميّة ـ كما ذهب إليه المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) ـ غير صحيح. نعم، لو قام في مورد دليل خاصّ على ثبوت المصلحة فقد اُحرزت المصلحة فيه ولا يتمّ في ذلك المورد هذا الملاك الثالث.

المقام الثاني: أنّ هذا الملاك بناءً على تماميّته يجري في أيّ قسم من أقسام النهي؟ والكلام هنا عين الكلام في الملاك الثاني.

وأمّا الملاك الرابع: فيتمّ الكلام في أصل صحّته وفساده وفي أنّه يجري في أيّ قسم من أقسام النهي ببيان واحد، وهو: أنّ الصلاح والفساد إنّما يكونان متضادّين في الحمل بعنوان (هو هو) بأن يقال: هذا صلاح وهذا فساد. ولا مضادّة في الحمل بعنوان (ذو هو) بأن يقال: هذا ذو صلاح وهذا ذو فساد. وكثيراً مّا يكون شيء واحد فيه مصلحة ومفسدة معاً، فإنّما يتّجه هذا الملاك في خصوص ما لو فُرض ملاك الأمر وملاك النهي كلاهما نفسيّاً.

فظهر أنّ هذا الملاك في القسم الثاني من أقسام النهي تامّ إذا كان ملاك الأمر أيضاً نفسيّاً وفي غير ذلك غير تامّ، هذا. ولم نجد في الفقه مورداً يكون كذلك حتّى نتمسّك فيه بهذا الملاك.

وأمّا الملاك الخامس ـ وهو أنّ المصلحة المغلوبة كالعدم في أنّها لا تخلق المحبوبيّة فلا يمكن التقرّب بها ـ: فيقع الكلام فيه أيضاً في مقامين:

المقام الأوّل: في صحّته في نفسه وعدمها.

والتحقيق: عدم صحّته؛ فإنّه إنّما يسوغ دعوى صحّته بناءً على أحد أمرين:

الأوّل: أن يكون المقصود بالقُرب والبُعد هو القُرب والبُعد بالنظر إلى الأغراض النفسانيّة، فإنّ المقرّبيّة أو المبعّديّة بهذا المعنى تابعة للملاك الغالب، مثلا: لو فُرض

513

أنّه كان لرجل ابن وكان في قتل هذا الابن مصلحة لكونه عدوّاً له مثلا، لكنّ المصلحة كانت مغلوبة في قبال مفسدة قتل الابن، فقتله شخص، فمن المعلوم أنّ ذلك الرجل بحسب إحساساته النفسانيّة يبغض هذا القاتل ويتنفّر منه، وإن كان القاتل إنّما قتله بداعي إفناء عدوّ ذلك الرجل ولم يكن يدري أنّه ابنه، وكان قتله متمحّضاً في داعي لحاظ مصلحة ذلك الرجل، فلا يصحّ التقرّب بالملاك المغلوب.

لكنّك ترى أنّ المولى الحقيقيّ منزّه عن الأغراض والإحساسات النفسانيّة، وإنّما نريد من القُرب والبُعد ما يحكم به العقل من درجة الإخلاص أو العقوق في عالم العبوديّة.

الثاني: أن يقال: إنّ عنوان الانقياد والتجرّي ليسا مؤثّرين في القُرب والبُعد، بل لابدّ من مصادفتهما للواقع، أعني: الوجوب الواقعيّ والحرمة الواقعيّة المنجّزة، وبما أنّ المفروض أنّ ملاك الأمر مغلوب فالحكم الواقعيّ هو الحرمة، فلم يكن انقياده مصادفاً للواقع، أعني: الوجوب.

لكن يأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في محلّه تحقيق أنّ المقرّب والمبعّد بالقُرب والبُعد الثابتين بحكم العقل ـ بدرجة الإخلاص والعقوق في عالم العبوديّة ـ إنّما هو نفس الانقياد والتجرّي، سواءً طابق الواقع أو لا. وعلى هذا فلو أتى بالعمل بداعي المصلحة كفى ذلك في التقرّب، و إن كانت المصلحة مغلوبة في جانب المفسدة التي جهل بها العبد أو غفل عنها ونسيها، بل يتحقّق التقرّب حتّى مع فرض عدم وجود المصلحة واقعاً، فلو أتى العبد بعمل بداعي المصلحة ثُمّ تبيّن عدمها فقد حصل القُرب، إلاّ أنّ العمل غير صحيح من جهة أنّ المراد بالصحيح هو المُسقط للقضاء والإعادة. فإن كانت المصلحة ثابتة في الواقع في هذا الفرد فقد سقط القضاء والإعادة؛ لحصول الغرض، بخلاف ما لو تبيّن عدمها؛ لعدم حصول الغرض عندئذ.

514

إذن، فالتحقيق: صحّة التقرّب بالإتيان بداعي المصلحة المغلوبة مع الغفلة عن المفسدة الغالبة أو الجهل بها. نعم، مع فرض علم العبد بها وعدم غفلته عنها لا يعقل المقرّبيّة وليس هنا إلاّ المبعّديّة. لكن هذا راجع إلى الملاك الأوّل الذي هو عبارة عن عدم إمكان التقرّب بالمبعّد دون الملاك الخامس؛ فإنّه عبارة عن أنّ نفس الملاك المغلوب لا يصلح للتقرّب به، ولذا عرفت أنّ مقتضاه في ظرف الشكّ في الحرمة وعدم تنجّزها هو الرجوع إلى أصالة الاشتغال إن لم يكن لدليل الأمر إطلاق.

المقام الثاني: أنّ هذا الملاك على فرض صحّته لا يتأتّى في القسم الرابع من أقسام النهي؛ لأنّ ملاكه في نفس الخطاب وليس في المتعلّق حتّى تصير مصلحة الأمر مغلوبة بالنسبة إليه. ولا يتأتّى أيضاً في القسم الخامس؛ لأنّ ملاكه ثابت في حصّة خاصّة من نقيض متعلّق الأمر الثابت فيه المصلحة، فلا تصير المصلحة بذلك مغلوبة. ويتأتّى في باقي الأقسام.

 

515

 

تنبيهات:

الأوّل: ما ذكرناها من الملاكات الخمسة لا تختصّ بما إذا كان النهي متعلّقاً بالعبادة بعنوان العباديّة، بل تجري فيما لو كان النهي متعلّقاً بذات العمل لا بعنوان العباديّة.

الثاني: ما ذكرناها من الملاكات الخمسة كما تقتضي بعد فرض تماميّتها بطلان العبادة، كذلك تقتضي في الواجبات والمستحبّات التوصّليّة عدم إمكان التقرّب بها، فينبغي جعل عنوان البحث عامّاً بأن يقال: هل يقتضي النهي عدم إمكان وقوع الفعل على وجه العبادة أو لا؟ فإذا ثبت عدم إمكان وقوعه على وجه العبادة: فإن كان ذلك الفعل من العباديّات بطل لا محالة. وإن كان من التوصّليّات لم يبطل لكن لم يصحّ التعبّد به، أعني: تحصيل التقرّب إلى المولى بذلك العمل.

بل نقول: إنّ بعض تلك الملاكات ـ وهو الملاك الثالث والرابع ـ يقتضي بطلان العمل وإن كان من الواجبات أو المستحبّات التوصّليّة أيضاً:

أمّا الملاك الثالث: فحاصله: أنّ النهي اقتضى صرف إطلاق الأمر؛ لاستحالة الاجتماع، والملاك غير محرز، فلا نعلم بحصول غرض المولى، فتجري قاعدة الاشتغال. وهذا كماترى يتأتّى في التوصّليّات أيضاً.

وأمّا الملاك الرابع: فحاصله: أنّ النهي بما أنّه كاشف عن المفسدة مع عدم إمكان اجتماعها مع المصلحة يدلّ على عدم المصلحة. وهذا كماترى يتأتّى أيضاً في التوصّليّات، فلو فُرض أمرٌ ونهيٌ توصّليّ نفسيّان خطاباً وملاكاً وكان المجمع منهيّاً عنه كان باطلا بهذا الملاك.

وأمّا الملاك الأوّل والثاني والخامس: فإنّما يثبت بها بطلان العمل من ناحية عدم إمكان التقرّب به. وهذا كما ترى لا يوجب بطلان الواجب أو المستحبّ التوصّليّ.

516

الثالث: ربما لا يكون النهي متعلّقاً بنفس العبادة بل يكون متعلّقاً بجزئها أو شرطها أو وصفها الملازم أو غير الملازم، وعندئذ يقع الكلام في مقامين:

أحدهما: أنّ حرمة الجزء أو الشرط أو الوصف الملازم أو غير الملازم حرمة تكليفيّة هل توجب البطلان، أو لا؟

والثاني: أنّه لو ورد في الأخبار نهي متعلّق بذلك فهل تستفاد منه الحرمة التكليفيّة فيطبّق في المورد ما نثبته في المقام الأوّل، أو هو إرشاد إلى شيء فيطبَّق ما يقتضيه ذلك المرشد إليه؟

أمّا المقام الأوّل: فنتكلّم فيه في النهي بأقسامه الأربعة، أعني: المتعلّق بالجزء أو الشرط أو الوصف الملازم أو غير الملازم.

أمّا القسم الأوّل ـ وهو النهي المتعلّق بالجزء ـ: فقد ذكر المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)أنّه يقتضي بطلان ذلك الجزء؛ لأنّ جزء العبادة عبادة، وقد فُرض أنّ النهي في العبادة مبطل لها. لكن نفس تلك العبادة التي يكون هذا جزءاً لها مع فرض تدارك الجزء ـ كما لو قرأ سورة اُخرى غير منهيّ عنها مثلا ـ لا إشكال فيها إلاّ إذا ثبتت مبطليّة ذلك لها من ناحية اُخرى، كما لو ورد دليل خاصّ على كون السورة الكذائيّة مبطلة للصلاة، أو انطبق عليه عنوان بعض ما ثبت كونه مبطلا للصلاة، أو ادّعيت مبطليّته، كما لو صدق عليه عنوان الزيادة في الصلاة أو القرآن بين سورتين، فيثبت أو يُدّعى مبطليّته من هذه الناحية، وأمّا صرف تعلّق النهي به فلا يوجب مبطليّته للعبادة(1).

وما ذكره(رحمه الله) في غاية المتانة، وما أورد عليه المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من الإيرادات


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 293 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.