161

 

الكلام فيما إذا قيّدت النسبة بغير أداة الشرط:

الأمر الخامس: إذا قيّدت النسبة بشيء لا بواسطة أدوات الشرط كما لو عبّر عن وجوب إكرام زيد عند مجيئه بقوله: (أكرم زيداً عند مجيئه)، لا بقوله: (إن


الشرط استفدنا منه تعليق الجامع بين الحكم المطلق والحكم المقيّد. والنتيجة: أنّه إذا انتفت الكرّيّة انتفى الاعتصام، سواءً بمطلقه أو بأيّ حصّة من حصصه ومنها حصّة الاعتصام في مقابل المتنجّس الذي ينجّس غير الماء، فالنتيجة هي: أنّ الماء القليل ينفعل بالمتنجّس.

أمّا إذا قلنا: إنّ شمول الكلام للملاقاة مع عين النجس يكون كالنصّ أو الظهور فكأنّما قال: إنّ اعتصام الماء ـ الشامل لفرض ملاقاة عين النجس ـ معلّق على الكرّيّة، أو مشروط بالكرّيّة، فبانتفاء الكرّيّة يثبت انتفاء خصوص الاعتصام المطلق الشامل للاعتصام في مقابل عين النجس، ولا يثبت انتفاء مطلق الاعتصام حتّى في مقابل عين النجس، فلا يدلّ النصّ على انفعال الماء القليل في مقابل المتنجّس.

أمّا ما هي القرينة على كون هذا النصّ كالصريح في النظر إلى عين النجس؟ فهي أحد أمرين: إمّا ورود هذا النصّ ـ كما في أغلب رواياته ـ في مورد الملاقاة لعين النجس، أو لأنّ الملاقات لعين النجس هي أوضح الأفراد وأقربها إلى الذهن وأقوى ما يترقّب انفعال الماء به، فبالتالي يكون ملحوظاً ـ بوضوح ـ في الحكم بالاعتصام، إذن فقد أصبح الإطلاق مأخوذاً في ذات الجزاء، فيصبح المعلّق ـ لا محالة ـ هو المطلق لا الجامع بين المطلق والمعلّق، وبالتالي فالذي ينتفي بانتفاء الشرط هو الحكم المطلق، ويحتمل بقاء الاعتصام الخاصّ وهو الاعتصام في مقابل المتنجّس فحسب. راجع بحوث في شرح العروة الوثقى، ج 1، ص 393 ـ 398.

162

جاءك زيد فأكرمه)، والمفروض أنّنا فهمنا من ظهور الكلام أنّ قوله: (عند مجيئه) قيد للنسبة لا للمادّة التي هي طرف النسبة، وإلّا أصبح قيداً للواجب ولزم تحصيله، فهل يكون مقتضى الفنّ ثبوت المفهوم فيه أو لا؟

يمكن أن يقال بثبوت المفهوم له بعين التقريب الذي مضى في القضايا الشرطيّة؛ لأنّ الحكم ارتبط بمجيء زيد وثبت كون الارتباط ارتباطاً لزوميّاً بظاهر سياق المدلول التصديقيّ، ولا يعقل تحصيص الحكم بما يلازم موضوعه وإنّما يحصّص بموضوعه، ومجيء زيد موضوع للحكم، وهذا هو المقصود بالعلّيّة للحكم، ويثبت الانحصار أيضاً بعد إجراء الإطلاق في الحكم في الرتبة السابقة على تحصيصه بالتقريب الماضي، كما أنّه لو ثبتت دلالة هذا الكلام على الربط بلحاظ النظر إليه بالعين اليسرى كان بنفسه ضابطاً لاقتناص المفهوم منه.

ولكن من الواضح بحسب المتفاهم العرفيّ عدم ثبوت المفهوم لمثل هذا الكلام، فلو ثبت له المفهوم بمقتضى الفنّ الماضي ذكره في القضايا الشرطيّة كان ذلك نقضاً علينا في إثبات المفهوم للقضيّة الشرطيّة. ولكنّ التحقيق عدم ثبوت المفهوم لهذا الكلام فنّيّاً.

توضيح ذلك: أنّ اقتناص المفهوم ـ سواء كان بملاك العلّيّة الانحصاريّة أو بملاك التعليق والربط المنظور إليه بالعين اليسرى ـ يتوقّف على جريان الإطلاق في الحكم في الرتبة السابقة على ارتباطه بذلك القيد الخاصّ، وهذا الإطلاق إنّما يتمّ في فرض ربط نسبة تامّة بنسبة تامّة اُخرى، والربط بينهما أيضاً نسبة تامّة، فكلّ من هذه النسب تلحظ مستقلّة، وتوجد في عالم الثبوت اُمور ثلاثة منها: النسبة الجزائيّة، فيحكم بإطلاقها بلحاظ تطابق عالم الإثبات والثبوت.

وأمّا إذا فرض ربط نسبة تامّة بمفرد، بأن اُوجدت بينهما نسبة ناقصة كما فيما

163

نحن فيه، حيث إنّه ربط بين النسبة التامّة في قوله: (أكرم زيداً) وعنوان (عند المجيء) بنسبة ناقصة(1)، فلا يكون في عالم الثبوت شيئان أحدهما تلك النسبة التامّة مستقلّة حتّى تجري فيها مقدّمات الحكمة، بل هنا شيء واحد؛ لأنّ وظيفة النسبة الناقصة إرجاع شيئين إلى شيء واحد، فالموجود من أوّل الأمر هو حصّة خاصّة من النسبة التامّة لا مطلق النسبة التامّة، ولكن بيّنت تلك الحصّة الخاصّة في عالم الإثبات بتعدّد الدالّ والمدلول.

ونظير ما نحن فيه: أنّه لو قيل: (أكرم العالم العادل)، لم يُجر أحد من العقلاء الإطلاق في العالِم فيما قبل تقييده بالعادل، بأن يثبت بذلك أنّ المراد جميع العلماء بحيث يدلّ الكلام ببركة هذا الإطلاق على أنّ كلّ عالم عادل. والسرّ في ذلك: أنّ النسبة بين العالم والعادل ناقصة ووظيفتها إرجاع الشيئين إلى شيء واحد مقيّد، فالموجود من أوّل الأمر في عالم الثبوت إنّما هو حصّة خاصّة من العالِم بيّنت بتعدّد الدالّ والمدلول.

وأمّا النسبة الحاصلة بين الشرط والجزاء في القضايا الشرطيّة فهي نسبة تامّة تربط نسبة الشرط بنسبة الجزاء، وليست نسبة ناقصة ترجع تلك النسبتين إلى أمر واحد.

ففرق كبير بين أن يقول مثلا: (إذا جاء زيد فأكرمه)(2) أو يعبّر بكلمة اُخرى غير (إذا) ـ ممّا تفرض إفادته معنى الشرط ضمن إفادته للظرفيّة ـ وبين أن يقول



(1) محصّصة، فإنّه لا معنى لربط مفرد بنسبة إلّا بتحصيصه إيّاها.

(2) هذا بناءً على أنّ (إذا) متعلّق بالشرط وليس مضافاً إلى الشرط ومتعلّقاً بالجزاء، وإلّا لأصبح قيداً للجزاء.

164

مثلا: (أكرم زيداً عند مجيئه)، فإنّ الثاني وإن كان كالأوّل في إفادة معنى الظرفيّة ولكن تقييد النسبة التامّة بمفرد يعطي معنى الظرفيّة لا يعني أكثر من تحصيص تلك النسبة بذاك الظرف. أمّا قوله: (إذا جاء زيد فأكرمه) فهو ربط بين نسبتين تامّتين، فبين الكلامين بونٌ بعيد.

نعم، إنّما نقبل بمفهوم الشرط في أداة لا تدلّ على تحصيص المادّة التي كانت طرفاً في الجزاء، من قبيل: (من) و(ما) ممّا يتضمّن بنفسه موضوع الحكم ويرجع إليه ضمير الجزاء، فإن كان كذلك لم يدلّ على المفهوم، فمثلا لو قال المولى: (مَن يأتكم فأكرمه) لم يكن لهذا الكلام مفهوم؛ لأنّ الضمير في (أكرمه) راجع إلى مَن يأتي، فيكون أحد طرفي النسبة الطلبيّة هو إكرام مَن يأتي لا مطلق الإكرام، ويكون حال هذا الكلام حال القضيّة الوصفيّة، ولا وجه لانتفاء مطلق وجوب الإكرام بانتفاء الشرط؛ لأنّه لم يكن هو المعلّق، بل المعلّق ـ بواسطة الضمير ـ كان خصوص إكرام مَن يأتيك.

 

تداخل الأسباب والمسبّبات لدى تعدّد شرط الجمل واتّحاد جزائها:

الأمر السادس: إذا تعدّد شرط الجمل المتعدّدة واتّحد جزاؤها، كقولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه)، وقولنا: (إن أهدى إليك زيد هديّة فأكرمه)، واتّفق اجتماع الشرطين بأن جاء وأهدى هديّة فهل عندئذ يتداخل السببان، بمعنى أنّ كلاًّ من السببين يؤثّر في حدّ من حدود وجود المسبّب(1) ويوجد حكم واحد، أو



(1) لعلّ الأولى أن يقال: بمعنى أنّ كلاًّ من السببين يصبح عند الاجتماع جزء السبب فيحقّقان حكماً واحداً.

165

لا يتداخلان فتوجد أحكام متعدّدة بتعدّد الشرط الموجود؟ وعلى الثاني فهلتتداخل المسبّبات بمعنى أنّه يكتفى ـ لتلك الأحكام المتعدّدة ـ بامتثال واحد، فبإكرام واحد يتحقّق امتثال كلا الوجوبين ويسقطان أو لا؟

والتعبير الفنّيّ هو أن يعبّر عن الأوّل بالتداخل في عالم الجعل وعن الثاني بالتداخل في عالم المسبّبات، فهذا أفضل ممّا وقع عليه اصطلاحهم من التعبير بالتداخل في الأسباب أو المسبّبات، فإنّ هذا التعبير لا يخلو من مسامحة؛ لأنّ السببيّة في باب الأحكام ممّا لا أساس لها.

ولكنّنا مع ذلك نجري على هذا التعبير تسهيلا للأمر باعتبار أنّ هذا هو المصطلح لديهم.

هذا، والبحث عن تداخل الأسباب وعدمه ـ بناءً على ما يتحصّل من كلمات الأصحاب(قدس سرهم) ـ مرجعه إلى البحث عن حلّ المعارضة بين ظهور القضيّة في كون الشرط مستقلاًّ في التأثير، بمعنى كون كلّ من الشرطين تمام المؤثّر في أصل الحكم، لا أن يؤثّر أحدهما في حدّه وتأكّده، وظهور الجزاء بحسب إطلاق المادّة في كون الواجب في مثل قولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه) مطلق الإكرام لا خصوص حصّة خاصّة منه، فإنّ الظهور الأوّل يقتضي عدم تداخل الأسباب، والظهور الثاني يقتضي تداخلها وثبوت حكم واحد؛ إذ لو فرض وجوب إكرامين للزم فرض طروّ الوجوب على حصّة خاصّة من الإكرام لا مطلق الإكرام.

وعلى أيّ حال فالكلام في تداخل الأسباب ـ بالمعنى الذي عرفت ـ وعدمه وتداخل المسبّبات وعدمه يقع منّا في جهات:

الجهة الاُولى: في ملاحظة النسبة بين مبحث تداخل الأسباب وما مضى في

166

التنبيه الثالث من مبحث حلّ المعارضة بين إطلاق منطوق كلّ من القضيّتين وإطلاق مفهوم الاُخرى.

قد أفاد المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): أنّه لو اخترنا في ذلك المبحث ـ أعني: مبحث تعارض إطلاق كلّ من المنطوقين مع إطلاق مفهوم الآخر ـ الجمع بين القضيّتين بجعل كلّ من الشرطين أساساً جزء السبب، فلا يكفي تحقّق أحدهما في حصول الجزاء، لم يبق للبحث عن المعارضة الثانية ـ أعني: معارضة ظهور القضيّة في استقلال الشرط في الثأثير، وظهور الجزاء في إطلاق المادّة ـ موضوع؛ إذ المفروض عندئذ أنّه ليس في البين إلّا سبب واحد، فلا معنى للبحث عن تداخل الأسباب وعدمه(1).

وما أفاده(رحمه الله) متين لا غبار عليه، لكنّه ربّما يتراءى من هذا الكلام أنّ هذا المبحث الذي نحن فيه يكون في طول ذلك المبحث السابق، أعني: أنّه يكون من وظيفة الفقيه أن يُعمل نظره أوّلا في المبحث السابق ثمّ في هذا المبحث؛ لأنّ هذا المبحث متوقّف على بعض المباني في المبحث السابق، وهو الالتزام بكون كلّ واحد من الشرطين بانفراده كافياً في تحقّق الحكم؛ إذ لولا ذلك لم يبق موضوع لما أفاده الأصحاب من المعارضة الثانية، أعني: ما بنوا عليه من وقوع المعارضة بين ظهور الشرط في الاستقلال في التأثير وظهور الجزاء في إطلاق المادّة، فلابدّ للفقيه من أن يحلّ أوّلا المعارضة الاُولى ثمّ يرى أنّه هل بقي موضوع للمعارضة الثانية أو لا؟ فإن بقي موضوع لها شرع في حلّها، وإلّا فهو مستريح منها.



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 314 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعاليق المشكينيّ.

167

ولكنّ التحقيق في المقام: أنّ بين المبحثين من حيث الصغريات عموماً من وجه:

فبعض الموارد يكون من صغريات المبحث الثاني دون المبحث الأوّل، وذلك كما في الأمثلة التي لا مفهوم لها: إمّا لعدم انطباق قانون اقتناص المفهوم عليها رأساً، كما لو كانت أداة الشرط كلمة (مَنْ) ونحوها، أو للقطع من الخارج بعدم المفهوم كما في نحو: (إن بلت فتوضّأ)، و(إن نمت فتوضّأ)؛ للقطع بعدم انحصار موجب الوضوء في البول أو النوم، فليس ذلك مورداً للمعارضة الاُولى، أعني: معارضة المنطوق للمفهوم كما هو واضح، فالبحث عن المعارضة الثانية فيه ليس في طول البحث عن المعارضة الاُولى فيه.

وبعض الموارد يكون من صغريات المبحث الأوّل دون الثاني، كما في فرض عدم معقوليّة تعدّد الحكم كما في مثل: (إذا خفي الأذان فقصّر)، و(إذا خفي الجدران فقصّر)؛ لعدم معقوليّة تقصير الصلاة مرّتين، فيجري فيه خصوص المبحث الأوّل من دون توقّفه على المبحث الثاني.

وبعض الموارد يكون من صغريات كلا المبحثين، كما في نحو: (إن جاءك زيد فأكرمه)، و(إن أهدى إليك زيد هديّة فأكرمه)، حيث إنّهما قضيّتان ذات مفهوم، ومن المعقول وجوب إكرامين عند اجتماع الشرطين، فذلك داخل في كلا المبحثين.

وعندئذ يقع الكلام في أنّه هل وظيفة الفقيه أن يبدأ أوّلا بعلاج إحدى المعارضتين بالخصوص أو لا؟ فنقول: ربما يتراءى في النظر أنّ وظيفته الابتداء بعلاج المعارضة الاُولى؛ لما عرفت من أنّ المعارضة الثانية متوقّفة على بعض المباني في البحث عن المعارضة الاُولى.

ولكنّ الواقع أنّ الطوليّة ـ بمعنى توقّف إحدى المعارضتين على بعض المباني في البحث عن المعارضة الاُخرى ـ ثابتة من كلا الطرفين، فإنّه كما تكون

168

المعارضة الثانية مبتنية على بعض مباني المبحث الأوّل، وهو القول بانحفاظ إطلاق المنطوق، كذلك المعارضة الاُولى مبتنية على بعض مباني المبحث الثاني، وهو القول بالتداخل الراجع ـ على ما أفاده ـ إلى القول بانحفاظ إطلاق المادّة؛ إذ لو قيّدنا المادّة كان مقتضى المفهوم انتفاء وجوب حصّة خاصّة من الإكرام غير المنافي لوجوب حصّة اُخرى منه مثلا، فلا تبقى معارضة بين إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم.

وعلى هذا فإلزام الفقيه بالابتداء بحلّ إحدى المعارضتين بالخصوص غير صحيح، كما أنّ معالجتهما في عرض واحد أيضاً غير صحيح؛ لأنّها خلف فرض الطوليّة من كلا الطرفين، أعني: توقّف كلّ من المعارضتين على بعض مباني البحث عن حلّ الاُخرى.

وتخيير الفقيه بين الابتداء بحلّ هذه المعارضة أو تلك المعارضة أيضاً غير صحيح؛ لأنّه ربما تختلف النتيجة باختلاف نقطة الابتداء في المعالجة، فيكون الابتداء بأيّ منهما ترجيحاً بلا مرجّح، فلو ابتدأ الفقيه بعلاج المعارضة الاُولى واختار من المباني ما يقتضي تقديم إطلاق المفهوم على إطلاق المنطوق، استنتج من ذلك أنّ الجزاء لا يثبت إلّا عند ثبوت كلا الشرطين ويكون الشرطان معاً سبباً واحداً، وبذلك ترتفع المعارضة الثانية أيضاً ويستنتج أنّه عند اجتماع الشرطين إنّما يجب إكرام واحد.

ولو ابتدأ بعلاج المعارضة الثانية ورأى ظهور القضيّة في استقلال الشرط في المؤثّريّة أقوى من إطلاق المادّة في الجزاء فقيّد إطلاق المادّة، ارتفعت بذلك المعارضة الاُولى أيضاً واستنتج أنّ ثبوت أحد الشرطين كاف في وجوب الإكرام، وأنّ ثبوت كليهما يوجب وجوب الإكرام مرّتين.

169

ومن هنا تبرز مشكلة بالنسبة لوظيفة الفقيه، حيث إنّه لا يجوز له الابتداء بحلّ هذه المعارضة ولا حلّ تلك المعارضة ولا حلّهما معاً في عرض واحد، فماذا يصنع؟

ولا يتوهّم أنّ حلّ هذه المشكلة عبارة عن القول بأنّه ليست في البين معارضتان حتّى نتحيّر في الابتداء بحلّ أيّ واحدة منهما، بل الثابت معارضة واحدة قائمة بأطراف أربعة، فإنّه لو كان كذلك لارتفعت المعارضة بإفراز أيّ واحد من هذه الأطراف؛ لأنّ المفروض أنّه ليس في البين إلّا علم إجماليّ واحد بكذب أحد الأربعة، فلو اُخرج أيّ واحد منهما من البين لم يبق علم إجماليّ بكذب واحد ممّا بقي من الأطراف، وما نحن فيه ليس كذلك، فإنّه لو اُفرز إطلاق المفهوم بقيت المعارضة الثانية ثابتة على حالها، ولو اُفرز ظهور القضيّة في استقلال الشرط بقيت المعارضة الاُولى ثابتة على حالها، فيعلم أنّ هنا معارضتين لا معارضة واحدة.

نعم، لو اُفرز إطلاق المنطوق ارتفعت المعارضة الثانية أيضاً، ولو اُفرز إطلاق المادّة في الجزاء ارتفعت المعارضة الاُولى أيضاً.

ومن هنا يتّضح حلّ هذه المشكلة بعد الالتفات إلى ما مضى من أنّ ارتفاع معارضة بين شيئين برفع اليد عن شيء ثالث دليل على كون ذلك الشيء الثالث داخلا في تلك المعارضة، إلّا في مورد واحد غير مربوط بما نحن فيه.

فظهر: أنّ كلاًّ من المعارضتين في الحقيقة ليست ذات طرفين كما كان هو أساس المشكلة، بل كلّ منهما ذات أطراف ثلاثة، فالمعارضة الاُولى تكون بين إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم وإطلاق المادّة في الجزاء، والمعارضة الثانية تكون بين ظهور القضيّة في استقلال الشرط في التأثير وإطلاق المادّة في الجزاء

170

وإطلاق المنطوق، فهنا معارضتان ذات أطراف ثلاثة متشاركتان في طرفين ومتمايزتان بطرف واحد، وهما في عرض واحد، وتكون وظيفة الفقيه أن يلاحظ الطرفين اللذين بهما الاشتراك مع كلّ واحد ممّا به الامتياز، فإن كان مجموع الطرفين اللذين بهما الاشتراك من حيث المجموع أضعف من الطرف الآخر في إحدى المعارضتين أو في كلتيهما وجب التحفّظ على الطرف الآخر في كلتا المعارضتين، ووقع التعارض بين نفس هذين الطرفين اللذين بهما الاشتراك. وإن كان المجموع أقوى من الطرف الآخر في كلتا المعارضتين تحفّظ عليهما وسقط الطرف الآخر في كلتا المعارضتين. وإن كان المجموع من حيث المجموع مساوياً للطرف الآخر في كلتا المعارضتين تساقط الجميع(1).

 


(1) وللتوضيح الأكثر نقول: إنّ اللذين بهما الاشتراك ـ وهما: إطلاق المنطوق الدالّ على كون الشرط في ذاته علّة تامّة، وإطلاق المادّة في الجزاء الدالّ على كون الواجب طبيعيّ المادّة لا حصّة خاصّة منها ـ ظهوران ضمنيّان وتحليليّان موجودان في كلّ واحدة من الجملتين، والمتحصّل منهما معنى واحد وهو كون الشرط علّة تامّة لوجوب طبيعيّ المادّة.

وكلّ من الجملتين تشتمل أيضاً على ظهور يعارض الظهور المتحصّل من مجموع الظهورين الأوّلين في الجملة الاُخرى، وذاك الظهور المعارض الذي به امتياز التعارض في إحدى المسألتين في التنبيهين عن الاُخرى عبارة عن: أوّلاً: إطلاق المفهوم المقتضي لانتفاء الحكم بانتفاء الشرط رغم وجود الشرط الآخر. وثانياً: إطلاق الشرط المقتضي لاستقلاله لدى الاجتماع بشرط آخر.

والحالات المفترضة في المقام لا تخلو من أحد فروض:

الفرض الأوّل: حالة ما إذا كان الظهور المتحصّل من مجموع الأمرين اللذين بهما


171

هذا كلّه في المورد الذي يكون صغرى لكلا البحثين.

وأمّا في المورد الذي يكون صغرى للبحث السابق فقط فيكتفى فيه بعلاج


الاشتراك أضعف ولو من أحد الأمرين اللذين بهما الامتياز، وهذا يعني تثبيت ما به الامتياز وتصديقه، وبالتالي يتحوّل العلم الإجماليّ بكذب أحد الظهورين التحليليّين الأوّلين أو الظهور الثالث في الجملة الثانية إلى العلم الإجماليّ بكذب أحد الظهورين التحليليّين الأوّلين ويتساقطان، ويجري هذا الحساب في كلّ من التعارضين بنسق واحد وفي عرض واحد ويتشاكل التعارضان في أطرافهما، ولا تبقى مشكلة باسم أنّنا هل نبدأ أوّلا بحساب هذا التعارض أو بحساب ذاك التعارض.

الفرض الثاني: حالة ما إذا كان الظهور المتحصّل من مجموع الأمرين اللذين بهما الاشتراك أقوى من كلا الظهورين الآخرين، وهذا يعني سقوط الظهورين الآخرين وبالتالي انحلال كلا التعارضين.

الفرض الثالث: حالة ما إذا كان المتحصّل من مجموع الظهورين في كلّ واحدة من الجملتين مساوياً لظهور ما به الامتياز في التعارض في الجملة الاُخرى، وعندئذ يتساقط الجميع.

الفرض الرابع: أن يفترض أنّ المتحصّل من مجموع ما به الاشتراك في إحدى الجملتين مساوياً لما به امتياز أحد التعارضين الواقع في الجملة الاُخرى وأقوى من الآخر، وبذلك تنتهي إحدى المسألتين بتساقط الظهورات، ويلحق المورد حكماً بالصغرى المخصوصة بالتنبيه الثالث أو المخصوصة بالتنبيه السادس.

وعليه فلم يبق علينا إلّا أن نبحث مادّة الافتراق من التنبيه السادس سواءً كانت صغرى حقيقيّة للافتراق أو حكميّة، ولأجل التسهيل نفرض البحث في مادّة الافتراق الحقيقيّة للتنبيه السادس.

172

المعارضة بين طرفين: إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم بالنحو الذي مضى في التنبيه الثالث.

كما أنّ المورد الذي يكون صغرى لهذا البحث فقط يكتفى فيه بعلاج المعارضة بين إطلاق مادّة الجزاء وإطلاق المنطوق وظهور القضيّة في استقلال الشرط في التأثير.

ونحن لأجل التوضيح والتسهيل نفرض البحث في خصوص المورد الذي لا يكون صغرى للبحث السابق.

الجهة الثانية: في تأسيس الأصل في المسألة عند الشكّ، فنقول: لو شككنا في تداخل الأسباب وعدمه ولم يقم دليل على أحد الطرفين كان مقتضى الأصل مساوقاً من حيث النتيجة مع القول بتداخل الأسباب؛ وذلك لأنّ الحكم الواحد متيقّن والحكم الثاني منفيّ بالبراءة أو الاستصحاب.

نعم، لو قلنا بالاستصحاب التعليقيّ أمكن القول هنا بما يساوق عدم التداخل، فإنّ الشرط الثاني لو كان وجد قبل الشرط الأوّل لكان بنفسه كافياً في ترتّب الحكم، فيدّعى أنّ استصحاب سببيّته للحكم يثبت منشأ انتزاع السببيّة، فيثبت لنا حكم ثان بواسطة الشرط الثاني.

كما أنّه لو قلنا بصحّة القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّيّ أمكن أيضاً القول هنا بما يساوق عدم التداخل، بتقريب: أنّه لو بال ونام حصل له العلم بتحقّق جامع وجوب الوضوء عليه، وبالوضوء الأوّل لا يقطع بارتفاع الجامع فيستصحبه وعليه أن يتوضّأ ثانياً.

لكن بما أنّ التحقيق بطلان الاستصحاب التعليقيّ والقسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّيّ يتّجه فيما نحن فيه جريان البراءة أو استصحاب عدم الحكم.

هذا كلّه في الشكّ في تداخل الأسباب وعدمه.

173

وأمّا إذا علم بعدم تداخل الأسباب وثبوت حكمين وشكّ في تداخل المسبّبات وكفاية امتثال واحد وعدمه فذهب المحقّق النائينيّ(رحمه الله) إلى أنّ المرجع عندئذ هو أصالة الاشتغال؛ للقطع بثبوت تكليفين والشكّ في تحقق امتثالهما معاً بامتثال واحد(1).

ويرد عليه: أنّه تارةً: يفرض أنّ متعلّق التكليفين المعلومين متباينان ولكن ما فعله المكلّف يحتمل أن يكون الشارع جعله مسقطاً لكليهما، ففي هذا الفرض أفادوا أنّ المرجع أصالة الاشتغال، ومختارنا أنّ المرجع استصحاب بقاء التكليف(2)، واُخرى: لا يكون الأمر من هذا القبيل وذلك كما فيما نحن فيه، فإنّ مَن يدّعي تداخل المسبّبات لا يقول بأنّ متعلّق التكليفين متباينان ولكنّ الشارع جعل الفعل الواحد مسقطاً لكليهما، وإنّما يدّعي سقوطهما بهذا الفعل الواحد بدعوى أنّهما ليسا متباينين بل متساويان أو بينهما عموم من وجه، أي: أنّ كلاًّ من الحكمين تعلّق بحصّة خاصّة لكنّ الحصّتين تكون النسبة بينهما التساوي كـ (الإنسان) و(الضاحك)، أو العموم من وجه كـ (الإنسان) و(الأبيض)، وذلك الفعل الواحد يكون مجمعاً لكلا العنوانين فيسقط به كلا الحكمين.



(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 490 بحسب طبعة مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 431 ـ 432 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

(2) وتوضيح الأمر: أنّ فرض جعل شيء مسقطاً للتكليف يعني جعل حدٍّ لأمد التكليف، وهذا يعني أنّه إذا شكّ في جعل حدّ من هذا القبيل وحصل الحدّ رجع شكّنا إلى الشكّ في بقاء التكليف وسقوطه، لا بمعنى الشكّ في الامتثال كي تجري أصالة الاشتغال، بل بمعنى الشكّ في طول زمن التكليف وقصره، فالمرجع استصحاب التكليف.

174

وعلى هذا فليس الشكّ متمحّضاً في دائرة الامتثال حتّى لا تجري البراءة، بل مرجع الشكّ في تداخل المسبّبات وعدمه إلى الشكّ في أنّ كلاًّ من التكليفين هل يكون متعلّقاً بخصوص الحصّة المغايرة للحصّة التي تعلّق بها التكليف الآخر، أو أنّ دائرة التكليف أوسع من ذلك، فيكون كلّ من التكليفين متعلّقاً بما يشمل الفرد الداخل في الحصّة التي تعلّق بها التكليف الآخر، فقد وقع الشكّ في سعة دائرة التكليف وعدمها، نظير ما لو علمنا بوجوب إكرام لكن شككنا في أنّه هل يجب خصوص إكرام العالم العادل أو لا ؟ فتجري البراءة، كما هو الحال في جميع موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير.

فتحصّل: أنّه إذا قطعنا بعدم تداخل الأسباب وشككنا في تداخل المسبّبات وعدمه كان مقتضى الأصل ما يساوق التداخل؛ إذ إنّه وقع الشكّ في أنّ كلّ واحد من التكليفين هل يكون واسعاً بنحو ينطبق متعلّقه على هذا الفرد الذي بيد المكلّف، أو يكون التكليف مضيّقاً ومتعيّناً فيما لا ينطبق عليه، فتجري البراءة عن الوجوب التعيينيّ على تفصيل يظهر ممّا يأتي إن شاء الله.

الجهة الثالثة: في أنّه إذا كان الحكم قابلا للتعدّد من ناحية قابليّة المتعلّق للتعدّد والتكرار في الوجود كما في مثال (الوضوء) و(الإكرام)، فلا إشكال في دخوله في محلّ النزاع.

وأمّا إذا لم يكن قابلا للتعدّد من هذه الناحية كما في الفسخ والقتل ونحو ذلك فهذا ينقسم إلى قسمين:

الأوّل: أن يكون الحكم قابلا للتعدّد ـ رغم عدم إمكان تكرّر وجود المتعلّق ـ وذلك لوجود مزيّة رافعة لإشكال لزوم اللغويّة في تعدّد الحكم، كما في الجواز الحقّيّ المتعلّق بالقتل لمن قتل أبوه أو ابنه، فلو فرض شخص قتل أبا شخص وابن

175

ذلك الشخص، أمكن ثبوت جوازين حقّيّين لذلك الشخص للقتل؛ لعدم لزوم اللغويّة في التعدّد لكونه ذا ثمرة، كما في فرض ما لو أسقط حقّه بالنسبة لقتل أبيه مثلا فيبقى له الحقّ الآخر، ونحو ذلك أيضاً السلطنة على الفسخ لعيب أو غبن مثلا؛ لإمكان اجتماع سلطنتين له إذا اجتمع العيب والغبن بدون لزوم محذور اللغويّة. وهذا أيضاً يكون داخلا في محلّ النزاع.

والثاني: أن لا يكون الحكم قابلا للتعدّد بلحاظ مزيّة رافعة للّغويّة، كما في مثال الجواز الحكميّ للقتل لحاكم الشرع بالنسبة لتارك الصلاة وبالنسبة لتارك الصوم مثلا، فلو فرض أنّ شخصاً تركهما معاً لم يعقل ثبوت جوازين للحاكم لقتله؛ للزوم اللّغويّة؛ لعدم ثمرة للتعدّد، فهذا الفرض خارج عن محلّ النزاع.

وكأنّ هذا البيان هو واقع المقصود للمحقّق النائينيّ(رحمه الله) من عبارة لا تخلو من تعقيد وغموض في تقرير بحثه(1).

والتعقيد أو الغموض فيه ناشئ من اُمور:

أوّلا: جعل المقسم هو المتعلّق لا المعلّق، ومن هنا عبّر عن القسم الثاني بأنّه



(1) جاء في أجود التقريرات ـ ج 1، ص 428 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله) ـ ما حاصله: أنّ متعلّق الحكم في الجزاء: إمّا أن يكون قابلا للتعدّد كالوضوء وهذا داخل في محلّ البحث، وإمّا أن لا يكون قابلا للتعدّد كالقتل، وعلى الثاني: إمّا أن يكون قابلا للتقييد بالسبب، كالقتل المشروع قصاصاً عن اثنين فإنّه يتقيّد تارةً بسبب هذا القتل، واُخرى بسبب ذاك القتل، وهذا أيضاً يدخل في محلّ البحث، وقد يعفو وليّ المقتولين عن أحدهما دون الآخر، وإمّا أن لا يكون قابلا للتقييد كوجوب القتل الناشئ من غير حقّ الناس كالارتداد ونحوه، فإنّ حكم الله لا يمكن العفو عنه فيتأكّد الحكم عند اجتماع السببين لا محالة، وهذا خارج عن محلّ البحث.

176

المتعلّق القابل للتقيّد بالسبب، في حين أنّه لا معنى لتقيّد المتعلّق بسبب حكمه.

وثانياً: عدم توضيح ما وضّحناه من نكتة الفرق بين الجواز الحقّيّ والحكميّ.

وثالثاً: عدم ذكر ما هي النكتة الفنّيّة للمطلب، وهي: أنّ المعلّق ليس هو وجود المتعلّق وهو القتل مثلا، حتّى تكون العبرة في إمكان النزاع وعدمه بقبوله التعدّد وعدمه، بل المعلّق هو الحكم الذي تعلّق به، فالعبرة في إمكان النزاع وعدمه تكون بقبول حكمه للتعدّد وعدمه، ومن الممكن أن يكون المتعلّق غير قابل للتعدّد لكن الحكم يكون قابلا للتعدّد؛ لعدم لزوم اللغويّة كما ذكرناه في القسم الثاني.

الجهة الرابعة: في تحقيق أصل المطلب:

ويقع الكلام في مقامين:

الأوّل: في تداخل الأسباب وعدمه.

والثاني: في تداخل المسبّبات وعدمه.

 

تحقيق المطلب في تداخل الأسباب:

أمّا المقام الأوّل ـ وهو تداخل الأسباب وعدمه ـ: فتارةً: يقع الكلام فيه في مقام الثبوت، واُخرى: في مقام الإثبات:

أمّا الكلام في مقام الثبوت: فمن الممكن أن يدّعى استحالة تداخل الأسباب بعد أن كان المفروض أنّ الجزاء قابل للتعدّد، وبعد أن ثبت أنّ كلّ واحد من الشرطين في نفسه سبب تامّ كاف في ترتّب الجزاء، فيثبت بذلك قهراً حكمان؛ لأنّ المفروض تماميّة فاعليّة الفاعل وتماميّة قابليّة القابل ولا نقص في شيء من الجهتين، فيتحقّق الجزاء مستقلاًّ من ناحية كلّ واحد من السببين لا محالة.

ولكن لا يخفى عليك أنّ تماميّة قابليّة القابل أوّل الكلام، فإنّ ما مضى سابقاً

177

من فرض قابليّة الجزاء للتعدّد إنّما كان المراد به قابليّته للتعدّد على بعض الفروض، في قبال ما إذا كان الجزاء مثل وجوب القتل الذي لا يقبل التعدّد بأيّ فرض من الفروض.

توضيح ذلك: أنّه تارةً: يكون الجزاء بنحو يمكن أن يتعدّد بإرادة حصّة خاصّة من كلّ من الجزاءين كما في مثال الوضوء، حيث إنّ من الممكن وجوب الوضوء مرّتين. واُخرى: يكون بنحو لا يمكن تعدّده حتّى بناءً على إرادة حصّة خاصّة، وذلك كما في وجوب القتل، فإنّه لا يمكن أن يجب القتل مرّتين حتّى لو اُريد تارةً وجوب حصّة خاصّة من القتل كالقتل بالسيف، واُخرى وجوب حصّة اُخرى منه كالقتل بالسكّين مثلا، وكلامنا إنّما هو في الفرض الأوّل لا الثاني، لكن هذا لا يوجب الفراغ عن تماميّة قابليّة القابل وكون الجزاء قابلا للتعدّد؛ إذ من المحتمل مثلا كون وجوب الوضوء وجوباً لصرف الوجود من الوضوء الذي لا يقبل وجوبين، فلابدّ من التكلّم في مقام الإثبات عن أنّه هل هناك قرينة على إرادة حصّة خاصّة حتّى يحصل التعدّد أو لا؟ فتخيّل عدم معقوليّة تداخل الأسباب رأساً ثبوتاً غير صحيح بل كلّ من التداخل وعدمه معقول ثبوتاً.

وأمّا الكلام في مقام الإثبات: فلنذكر قبل تحقيق المطلب نكتة، وهي: أنّه إنّما يتكلّم بعد الفراغ عن سببيّة كلّ من الشرطين، فيبحث عن أنّ السببين هل يتداخلان أو لا؟ فلا وجه لما في التقريرات من ذكره ـ في مقام إثبات مدّعاه وهو عدم التداخل ـ لأمرين: أحدهما ـ وهو الأمر الثاني بحسب التقريرات ـ يأتي بيانه بعد ذلك إن شاء الله، والآخر ـ وهو الأمر الأوّل بحسب التقريرات ـ هو المقصود بالذكر هنا، وهو: أنّه في مثل قوله: (إذا نمت فتوضّأ) يكون مقتضى القاعدة هو عدم التداخل، وليس للهيئة دلالة على الوحدة أو التعدّد، وإنّما هي تابعة في إفادة

178

وجوب واحد أو متعدّد لوحدة الموضوع وتعدّده، وبما أنّ قوله: (إذا نمت) مطلق على نحو الإطلاق الشموليّ لا البدليّ فلا محالة ينحلّ إلى موضوعات وأسباب عديدة، كما أنّ الأمر في القضايا الحقيقيّة كقولنا: (أكرم العالم) أيضاً كذلك، وكما أنّ في هذا المثال يتعدّد وجوب الإكرام لانحلال الموضوع وتعدّده، كذلك في قوله: (إذا نمت فتوضّأ) يتعدّد وجوب الوضوء بتعدّد سببه وهو النوم، فمقتضى القاعدة أنّه إذا نام مرّتين وجب عليه الوضوء مرّتين؛ إذ المفروض تعدّد السبب، هذا ما أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(1).

ويرد عليه: أنّ تعدّد السبب ممّا يجب أن يفرض الفراغ عنه حتّى يعقل النزاع، وأمّا لو فرضنا مثلا أنّ السبب لوجوب الوضوء إنّما هو النوم الأوّل فلا إشكال في أنّه بتعدّد النوم لا يتعدّد الحكم، لا من ناحية تداخل الأسباب، بل من ناحية أنّه لم يكن في البين إلّا سبب واحد على الفرض، فلابدّ أن يفرض أنّ كلّ نوم سبب لوجوب الوضوء، ثمّ يبحث عن أنّه إذا تكرّر النوم فهل يتكرّر وجوب الوضوء لتعدّد السبب، أو لا يتكرّر لتداخل السببين؟

بقي الكلام في تحقيق أصل المطلب، فنقول: إنّ هناك مباحث ثلاثة:

الأوّل: في أنّه هل هناك ظهور يوجب عدم التداخل أو لا؟

الثاني: في أنّه هل هناك ظهور يوجب التداخل أو لا؟

الثالث: في أنّه بعد تسليم كلا الظهورين ما هو الوجه في حلّ المعارضة الواقعة بينهما؟

أمّا المبحث الأوّل ـ وهو البحث عن ظهور يوجب عدم التداخل ـ: فذلك الظهور



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 429 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

179

ـ على ما هو المشهور ـ عبارة عن ظهور كلّ من القضيّتين الشرطيّتين في كون الشرط علّة تامّة للحكم، وفي أنّ المعلول لهذه العلّة التامّة هو أصل الحكم لا حدّه وتأكّده: أمّا ظهورها في العلّيّة التامّة فقد اُخذ مفروغاً عنه فيما سبق، ولذا اُوقع التعارض بين إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم، وأمّا ظهورها في كون المعلول أصل الحكم فلأنّ الجزاء وهو قولنا مثلا: (توضّأ) كما ترى ظاهره بيان أصل الحكم.

ويرد عليه: أنّ ظهوره في العلّيّة التامّة على الإطلاق غير مسلّم؛ وذلك لأنّ استفادة العلّيّة التامّة لم تكن من ناحية وضع الأداة أو القضيّة الشرطيّة لذلك، بل كانت من ناحية الإطلاق الأحواليّ الدالّ على ترتّب الجزاء على الشرط في جميع الأحوال، أي: سواءً كان معه شيء آخر أو لا، والذي ينافي هذا الإطلاق إنّما هو عدم التماميّة في حال الانفراد؛ إذ يلزم من ذلك عدم ترتّب الجزاء عليه في ذلك الحال، وأمّا عدم التماميّة في حال الاجتماع مع شيء آخر، بأن يفرض ذلك الشيء الآخر جزء العلّة فلا ينافيه هذا الإطلاق؛ لعدم لزوم عدم ترتّب الجزاء في هذه الحال، فالتماميّة الثابتة إنّما تفيد فيما مضى من مبحث تعارض إطلاق المنطوق والمفهوم؛ إذ موضوع الكلام في ذلك المبحث هو حال الانفراد، لا في هذا المبحث؛ إذ موضوع الكلام في هذا المبحث هو حال الاجتماع ولم تثبت التماميّة في هذه الحال. هذا.

ولكنّ المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) ذكر في المقام بدلا عن ظهور القضيّة الشرطيّة في العلّيّة التامّة لأصل الحكم: ظهورها في الحدوث عند الحدوث(1)، ولعلّه كان



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 315 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعاليق المشكينيّ.

180

لأجل تفطّنه إلى ما ذكرناه، أو لأجل ما اختاره من عدم دلالة القضيّة الشرطيّةأساساً على العلّيّة، فعدل عن دعوى الظهور في العلّيّة التامّة لأصل الحكم إلى دعوى الظهور في الحدوث عند الحدوث، وهذا الظهور ـ بعد ضمّه إلى دعوى ظهور القضيّة في كون الحادث أصل الحكم لا تأكّده، بدلا عمّا مضى من دعوى ظهورها في كون المعلول أصل الحكم لا تأكّده ـ يقتضي أنّه إذا نام ثمّ بال مثلا وجب عليه الوضوء مرّتين؛ إذ لو لم يجب عليه الوضوء إلّا بالسبب الأوّل وهو النوم مثلا لزم عدم حدوث أصل الحكم عند حدوث البول، وهو ينافي ظهور القضيّة في الحدوث عند الحدوث أو في كون الحادث أصل الحكم لا تأكّده.

والتحقيق: أنّ ظهور القضيّة في الحدوث عند الحدوث إنّما يكون ثابتاً فيما إذا كان الجزاء فعلا كما في قولنا مثلا: (إن جاءك زيد فأكرمه)؛ لما أثبتناه في محلّه من دلالة الفعل على الحدوث. وأمّا إن لم يكن فعلا كما في قولنا مثلا: (إن جاءك زيد فإكرامه واجب)، أو كان فعلا لكن كان ملحقاً بفرض عدم الفعليّة لنكتة، كما في مثل: (إذا خفي الأذان فقصّر)، حيث إنّه وإن كان بلسان الأمر لكنّه في الحقيقة ليس من أدلّة تشريع الصلاة ولا إيجاباً على حدة لذات التقصير، بأن يكون أصل الصلاة واجباً والتقصير واجباً آخر، بل هو إرشاد إلى كون الصلاة قصراً، فكأنّما قال: (إذا خفي الأذان فالصلاة قصر)، فلا دلالة في القضيّة على الحدوث عند الحدوث.

إن قلت: إنّنا وإن كنّا نسلّم في الجملة الاسميّة بعدم الدلالة على الحدوث، لكنّا لا نسلّم كون مثل الأمر بالتقصير في قوله: (إذا خفي الأذان فقصّر) غير دالّ على الحدوث، فإنّه وإن كان إرشاداً إلى كون الصلاة قصراً لكنّه قد أرشدنا إلى ذلك بلغة الفعل، والفعل يدلّ على الحدوث.

قلت: إنّ الحدوث المستفاد من الفعل الماضي أو المستفاد من المستقبل غير

181

مستفاد من قوله: (قصّر)؛ إذ المفروض أنّه أمرٌ لا ماض ولا مستقبل، فلو استفيد منه الحدوث فإنّما يستفاد منه الحدوث البعثيّ لا الماضويّ ولا الاستقباليّ، والمفروض أنّه ليس بداعي البعث حتّى يستفاد منه الحدوث البعثيّ(1).

ثُمّ إنّه في فرض دلالة القضيّة على الحدوث عند الحدوث لو فرض تقارن الشرطين في حدوثهما لم يكن هذا الظهور مقتضياً لعدم التداخل؛ لصدق حدوث أصل الحكم عند حدوث كلّ واحد منهما، وإن فرض أنّه لم يحدث إلّا حكم واحد فهذا الظهور إنّما يفيد في فرض التعاقب.

وفي هذا الفرض أيضاً إنّما يكون مفيداً إذا دلّت القضيّة على دوام الحكم إلى زمان الشرط الثاني، فإنّ المقصود من عدم التداخل ثبوت حكمين في آن واحد بثبوت شرطين، كما لو نام فوجب عليه الوضوء ولم يمتثل هذا الوجوب إلى أن بال مثلا، واستفدنا من إطلاق القضيّة بقاء الوجوب إلى زمان البول، فعندئذ يكون مقتضى ظهور القضيّة في حدوث أصل الحكم عند حدوث الشرط هو عدم التداخل، أي: ثبوت حكمين في زمان واحد؛ لاجتماع شرطين. وأمّا لو فرض



(1) لا أظنّ كون المقصود إبداء فرق في المقام بين المعنى الماضويّ والاستقباليّ والأمريّ، فإنّه(رحمه الله) يحتاط في الغسل بأنّه لو كان هو تحت الماء وأراد الغسل يجب أن يخرج من الماء ويدخل مرّة اُخرى فيه قضاءً لحقّ الحدوث، مع أنّ الموجود في باب الغسل هو البعث والأمر لا الإخبار الماضويّ ولا الاستقباليّ أو الحاليّ.

فكأنّ المقصود: دعوى أنّ الجملة الفعليّة لو سيقت لا للإخبار الماضويّ ولا الاستقباليّ ولا للأمر ـ وهي المداليل الأوّليّة للفعل ـ بل سيقت لمثل الكناية عن شيء آخر ـ لا يدرى أنّه لو كان يصرّح به هل كان يعبّر عنه بالفعل أو بجملة اسميّة ـ فقدت دلالتها على الحدوث.

182

انتهاء أمد الوجوب الأوّل لدى أوّل آنات زمان الشرط الثاني وعدم ثبوت إطلاق للقضيّة الاُولى فمن المعلوم أنّه لا موضوع للتداخل أو عدمه، وصرف الظهور في حدوث أصل الحكم عند الحدوث بدون الظهور في دوام الحكم إلى زمان الشرط الثاني لا يفيد المقصود، فلو احتملنا أنّه لدى ولادة الحدث الثاني وهو البول مثلا يزول أثر الحدث الأوّل ويوجد مكانه الأثر مرّة اُخرى، ولم يكن لدليل الشرطيّة الاُولى ظهور في الدوام لم يكن ظهور الكلام مقتضياً لعدم التداخل.

وقد اتّضح بكلّ ما ذكرناه: أنّه ليس للقضيّة الشرطيّة ظهور يقتضي عدم التداخل إلّا في فرض كون الجزاء فعلا وتحقّق الشرطين على التعاقب، ودلالتها على دوام الحكم الأوّل إلى زمان الشرط الثاني.

وأمّا المبحث الثاني ـ وهو البحث عن ظهور يوجب التداخل ـ: فالمشهور أنّ مفاد المادّة يكون موجباً له، فإنّه لو فرض مثلا وجوبان فلابدّ من القول بكون المتعلّق الحقيقيّ لأحدهما مغايراً له في الآخر، سواء كان ذلك بالتحصيص المنافي للإطلاق أو بفرض تعدّد العنوان، حتّى لا يلزم اجتماع المثلين على أمر واحد، وكلّ هذا خلاف الظاهر.

والمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) سلّم هذا الظهور لكنّه قدّم الظهور الأوّل على هذا الظهور.

وأمّا المحقّق النائينيّ(قدس سره) فقد أنكر هذا الظهور رأساً، ووجّه ذلك بتقريب فنّيّ هو أنّه(رحمه الله) أنكر في هذا البحث ما اشتهر من أنّ الإطلاق إمّا يكون شموليّاً أو على نحو صرف الوجود، وذكر أنّ الأمر يكون متعلّقاً بأصل الطبيعة، وأنّ ذلك يقتضي الإتيان بصرف الوجود لا أنّ صرف الوجود مأخوذ في الرتبة السابقة على الأمر.

توضيح ذلك: أنّ عنوان صرف الوجود ـ الذي هو عند المشهور ومنهم المحقّق

183

النائينيّ(قدس سره) لا ينطبق إلّا على فرد واحد ـ غير مدلول بالهيئة ولا بالمادّة، وإنّما مفاد الهيئة هو الطلب أو النسبة الطلبيّة، ومفاد المادّة هو الطبيعة، نعم، بما أنّ الطبيعة ـ لا محالة ـ تحصل بالفرد الأوّل يكفي في امتثال الأمر الإتيان بالفرد الأوّل.

والخلاصة: أنّ الوجوبين لم يتعلّقا بصرف الوجود حتّى يقال: إنّه يلزم من ذلك اجتماع مثلين على شيء واحد، فلابدّ من الالتزام بالتحصيص دفعاً لهذا المحال حتّى يكون إطلاق المادّة مقتضياً للتداخل، بل الوجوبان تعلّقا بذات الطبيعة، وذلك يقتضي ثبوت حصّتين من الطبيعة، ولكن ليس هذا التحصيص في الرتبة السابقة على الوجوب حتّى يكون منافياً لإطلاق المادّة، بل في الرتبة المتأخّرة عنه؛ لأنّ المعلول لا يتحصّص بعلّته في الرتبة السابقة على العلّة، وإنّما يتحصّص في الرتبة المتأخّرة عنها، فكما أنّه يقال في العلل التكوينيّة: إذا تعدّدت العلّة وتعدّد المعلول بتعدّدها، كما لو تعدّد الصوت بتعدّد اصطكاك حجر على حجر لم يكن هذا التحصيص في ناحية المعلول في الرتبة السابقة على العلّة، بأن يكون كلّ من الاصطكاكين مقتضياً لحصّة خاصّة من الطبيعة، بل كلّ واحد منهما يقتضي ذات الطبيعة لكن يحصل ـ لا محالة ـ من كلّ منهما ما يكون متحصّصاً بكونه صادراً من تلك العلّة، وهذا تحصيص في طول العلّيّة، كذلك فيما نحن فيه نقول: ليس كلّ من الوجوبين متعلّقاً بحصّة خاصّة حتّى يكون ذلك منافياً للإطلاق، بل هما متعلّقان بذات الطبيعة وإنّما يحصل التحصيص في الرتبة المتأخّرة عن الوجوب(1).



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 429 بحسب الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

184

ويرد عليه: أنّ نسبة الوجوب إلى الفعل الصادر من المكلّف ليست نسبة العلّة إلى المعلول، وقياس ذلك بباب العلل التكوينيّة قياس مع الفارق، وليس التحصيص في الطبيعة حاصلا من نفس كونها معلولة لهذا الوجوب أو ذاك الوجوب، بل إنّما يلزم الإتيان بحصّتين لو فرض تعلّق الوجوب بحصّتين، وهو خلاف الإطلاق. وأمّا لو فرض تعلّق كلّ من الوجوبين بذات الطبيعة فبعد فرض أنّ الوجوب بنفسه ليس علّة للامتثال فالطبيعة لا تتحصّص في طول هذا الوجوب ضمن فرد مّا تحصُّص المعلول بعلّته، ويكون اجتماع وجوبين على الطبيعة اجتماعاً للمثلين وهو مستحيل.

فتحصّل: أنّ الحقّ تسليم الظهور المقتضي للتداخل.

وأمّا المبحث الثالث ـ وهو أنّه لو سلّم كلا الظهورين فما هو مقتضى حلّ المعارضة؟ ـ: فقد أفاد المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) في الكفاية أنّ الظهور الأوّل مقدّم على الظهور الثاني من ناحية كون الظهور الثاني بلحاظ عدم التحصيص بمقدّمات الحكمة، ومن مقدّماتها عدم البيان، والظهور الأوّل ـ الذي ليس بمقدّمات الحكمة ـ بيان رافع لموضوع الظهور الثاني(1).

أقول: لا يخفى أنّه إن جعل الظهور الأوّل عبارة عن ظهور القضيّة في كون الشرط علّة تامّة لأصل الحكم فهو أيضاً بمقدّمات الحكمة؛ إذ التماميّة لم تستفد من ظهور وضعيّ أو عرفيّ، وإنّما استفيدت من الإطلاق الأحواليّ.

وأمّا إن جعل عبارة عن ظهور القضيّة في حدوث أصل الحكم عند حدوث



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 318 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعاليق المشكينيّ.

185

الشرط، فهذا الظهور بنفسه وإن لم يكن مستفاداً من مقدّمات الحكمة لكن هذا وحده لا يكفي في الدلالة على عدم التداخل؛ لما عرفت من أنّ ثبوت التداخل بذلك يتوقّف على تعاقب الشرطين وبقاء الحكم الأوّل إلى زمان الشرط الثاني، فنقول عندئذ: إنّه إن ثبت بقاء الحكم الأوّل بالإطلاق الأزمانيّ وقعت المعارضة أيضاً بين إطلاقين، فلا وجه لتقديم الظهور الأوّل على الثاني من ناحية كونه رافعاً لموضوعه، وإن لم يثبت البقاء بالإطلاق بل قطعنا به من الخارج صحّ ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من حيث الصغرى، أي: أنّ التعارض وقع بين ظهور وضعيّ وظهور إطلاقيّ، ولكن يبقى الكلام هنا بلحاظ الكبرى، أي: أنّ الظهور الوضعيّ هذا هل يرفع موضوع الظهور الإطلاقيّ كما ورد في الكفاية أو لا؟

وقد اعترض صاحب الكفاية(رحمه الله) على كلام نفسه هنا في تعليقته على الكفاية بأنّ كون الظهور الوضعيّ بياناً رافعاً لموضوع الإطلاق إنّما يتمّ في البيان المتّصل وليس في البيان المنفصل؛ لأنّ الإطلاق متقوّم بعدم البيان المتّصل لا بعدم البيان مطلقاً، خلافاً للشيخ الأنصاريّ(رحمه الله) الذي ذهب إلى كون الإطلاق معلّقاً على عدم البيان ولو منفصلا، وفيما نحن فيه يكون الظهور في كلّ من القضيّتين معارضاً للإطلاق في القضيّة الاُخرى. وفي مثل ذلك لا يصحّ تقديم الظهور على الإطلاق بحجّة كونه بياناً رافعاً لموضوع الإطلاق.

أقول: إنّ إشكاله(رحمه الله) الوارد في تعليقته على الكفاية واضح الصحّة فيما إذا افترض الشرطان قد تقارنا حدوثاً؛ بداهة أنّ كلّ واحدة من القضيّتين لو كانت وحدها لم يكن تعارض فيها بين ظهور الشرط في الحدوث عند الحدوث وظهور مادّة الجزاء في الإطلاق وعدم التحصيص؛ لإمكان صدقهما معاً، ولكن بما أنّ ظهور المادّة في الإطلاق وعدم التحصيص لا يجتمع صدقه مع صدق اُمور ثلاثة: