136

ويقدّم المنطوق على المفهوم بالأخصّيّة، فإنّ مفهوم كلّ واحد منهما ينفي علّيّة أيّ شيء ما عدا شرطه للحكم، ومنطوق الآخر يُثبتُ العلّيّة التامّة للحكم لشيء خاصّ فيقدّم على ذلك المفهوم.

وبكلمة اُخرى نقول: إنّ مفهوم القضيّة الاُولى أنّه: إذا لم يخف الأذان لا يجب التقصير، سواء خفي الجدران أم لا، وهذه التسوية التي هي مفاد الإطلاق لها طرفان، ومنطوق الثانية يكون خصوص طرفه الأوّل فيقدّم عليه بالأخصّيّة، وكذا الكلام بالنسبة للقضيّة الثانية. هذا هو مراد السيّد الاُستاذ دامت بركاته.

أقول: تارةً: يقع الكلام فيما أفاده من المقدّمة، واُخرى: يقع الكلام فيما أفاده في خصوص ما نحن فيه:

أمّا الأوّل: فما أفاده (دامت بركاته) من الكبرى في المقدّمة ـ وهي: أنّه مهما تعارض دليلان كان مقتضى الفنّ إجراء قواعد التعارض فيهما لا في شيء ثالث ـ متين جدّاً، لكنّ الذي يظهر من تمثيله بما إذا ورد: (أكرم كلّ عالم)، وورد: (لا يجب إكرام زيد العالم): أنّ مدّعاه غير ما هو متين، وكان ينبغي أن يمثّل بما إذا ورد: (أكرم كلّ عالم)، وورد: (لا تكرم زيداً)، ولسنا نعرف أنّ زيداً عالم، لكن ورد: (زيد عالم)، فالدليل الثالث يحقّق موضوع العامّ ويوجب المعارضة بين الدليلين الأوّلين وليس هو طرفاً للمعارضة، وإذا رفعنا اليد عمّا يقتضيه ارتفعت المعارضة بين الدليلين الأوّلين، ومقتضى الفنّ هو تخصيص العامّ بالخاصّ لا رفع اليد عمّا يقتضيه الدليل الثالث؛ لأنّه ليس طرفاً للمعارضة.

وأمّا ما أفاده من المثال فلا تنطبق عليه الكبرى، فإنّ هذه الكبرى تختصّ بفرض كون الدليل الثالث منقّحاً لموضوع العامّ، وأمّا إذا لم يكن منقّحاً له فيستحيل كون التصرّف فيه موجباً لارتفاع المعارضة بين الدليلين إلّا إذا كان هو أيضاً طرفاً

137

للمعارضة، والبرهان على ذلك: أنّ انحلال المعارضة بالتصرّف في الدليل الثالث مساوق للقول بأنّ صدقهما معاً موقوف على كون الدليل الثالث بظاهره كذباً، وإلّا فلماذا تنحلّ المعارضة برفع اليد عن ظاهر الدليل الثالث؟

فظهر: أنّ صدقهما يستلزم كذب الثالث، وهذا مساوق لكون صدق الثالث مستلزماً لكذب أحدهما، فتحقّق العلم الإجماليّ بأنّه إمّا يكون الدليل الثالث كذباً أو يكون أحد الدليلين الأوّلين كذباً، وهذا علم إجماليّ منجّز، وهذا هو ملاك المعارضة في الأدلّة الاجتهاديّة، فصار الثالث طرفاً للمعارضة مع الجامع، فلو كان لهما ظهور أقوى من ظهور الثالث قدّما عليه وحكم بكذب الثالث.

وفي المثال الذي ذكره توجد ثلاث ظهورات: ظهور الخاصّ في نفي الإلزام، وظهور العامّ في العموم، وظهور الصيغة في الوجوب، ونعلم إجمالاً بكذب ظهور الصيغة في الوجوب أو كذب أحد الأوّلين، فإنّه إذا كانا صادقين فالصيغة كاذبة، ولذا يرتفع التعارض برفع اليد عن الصيغة، وإذا كانت الصيغة صادقة فأحدهما كاذب، فظهور الصيغة داخل في دائرة المعارضة.

وأمّا الوجه في أنّنا نجمع بين هذين الدليلين بتخصيص العموم لا بالتصرّف في ظهور الصيغة ـ مع أنّ ظهور الصيغة أيضاً داخل في دائرة المعارضة بما عرفته من البرهان ـ فهو: أنّ الخاصّ إنّما يصلح عرفاً قرينة لصرف ظهور ذلك العامّ في العموم لا لصرف ظهور تلك الصيغة في الوجوب، والبرهان على ذلك: أ نّا لو جمعنا بين الدليلين في عبارة واحدة حتّى لا يبقى ظهور لذي القرينة في مفاده الأصليّ بلحاظ المعنى المتحصّل وقلنا: (أكرم كلّ عالم ولا يجب إكرام زيد العالم)، رأينا أنّ المنتفي هو ظهور العامّ في العموم لا ظهور الصيغة في الوجوب، فثبت أنّ ذا القرينة هو العموم لا الصيغة.

138

فتحصّل: أنّ ظهور الصيغة في الوجوب طرف للمعارضة لكنّه طرف غالب فنتحفّظ عليه؛ لأنّ الخصوص يصلح قرينة للعموم لا للصيغة.

إن قلت: كما أنّه في هذا المثال يكون ظهور الصيغة في الوجوب داخلا في دائرة التعارض ـ لثبوت العلم بكذب أحدهما ـ كذلك الحال فيما مثّلتم به من فرض ورود ثلاثة أدلّة: (أكرم كلّ عالم)، و(لا تكرم زيداً)، و(زيد عالم) ولم نكن نعلم بعلم زيد، فالدليل الثالث صار سبباً للمعارضة، فإنّنا هنا أيضاً نعلم إجمالاً بكذب أحد الثلاثة فيقع التعارض بينها ثلاثيّ الأطراف.

قلنا: الفرق بين ما مثّلنا به وما مثّل به السيّد الاُستاذ هو أنّ في مثاله يكون كلّ من الثلاثة مكذّباً لأحد الآخرين على سبيل الترديد، فيستحيل التعبّد بها من باب استحالة التعبّد بالنقيضين. والوجه في ذلك التكذيب هو حجّيّة مثبتات الأمارة، وهذا هو السرّ في إمكان التعبّد بأصلين مع العلم الإجماليّ بمخالفة أحدهما للواقع، وعدم إمكان التعبّد بأمارتين كذلك؛ لأنّ مثبتات الاُصول ليست حجّة فلا يقع التكاذب بينها بخلاف الأمارات.

وأمّا في المثال الذي ذكرناه فشيء من الدليلين الأوّلين لا يكذّب الدليل الثالث ولو على سبيل الترديد بينه وبين الدليل الآخر، وذلك على ما هو الحقّ عندنا وعند السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ والمحقّق النائينيّ(رحمه الله) من أنّه إذا ورد: (أكرم كلّ عالم)، وورد: (لا تكرم زيداً) لم يثبت بهما أنّ زيداً ليس بعالم؛ إذ لو دار الأمر بين التخصيص والتخصّص لم يكن التخصّص أولى، فمثبتاتهما من هذه الناحية غير حجّة فيخرج الدليل الثالث عن دائرة التعارض رغم دخوله في دائرة العلم الإجماليّ بالكذب الموجب لانحلال التعارض برفع اليد عنه.

نعم، بناءً على أنّه مهما دار الأمر بين التخصيص والتخصّص تعيّن التخصّص،

139

يدخل الدليل الثالث ـ لا محالة ـ تحت المعارضة، ويستحيل حلّ المعارضة بالتصرّف في دليل غير داخل في دائرتها.

وأمّا الثاني: فالتحقيق أنّ ما صنعه ـ دامت بركاته ـ من ترتيب ما نحن فيه على ما ذكره من المقدّمة ممّا لا وجه له، فإنّ المعارضة فيما نحن فيه واقعة بين إطلاق كلّ من المفهومين وإطلاق منطوق الآخر، وهذه المعارضة تنحلّ برفع اليد عن أحد طرفيها وهما الإطلاقان، ولا ترتفع برفع اليد عن شيء ثالث حتّى يدخل تحت تلك المقدّمة.

وتوضيح ذلك: أنّ إطلاق جملة (إذا خفي الأذان فقصّر) يقتضي التقصير لدى خفاء الأذان حتّى لو لم يخف الجدران، وهذا ينافي إطلاق المفهوم لجملة (إذا خفي الجدران فقصّر)، وهذا التعارض لا يرتفع إلّا برفع اليد عن أحد هذين الإطلاقين، ولا أثر لرفع اليد عن ظهور ثالث في المقام وهو إطلاق منطوق (إذا خفي الجدران فقصّر)، فلنفترض أنّ هذا المنطوق لا إطلاق له ولا يدلّ على كفاية خفاء الجدران وحده في التقصير، لكن نرى مع ذلك أنّ إطلاق الجملة الاُولى ـ الدالّ على كفاية خفاء الأذان وحده للتقصير ـ مع مفهوم الجملة الثانية ـ الدالّ على انتفاء التقصير بانتفاء خفاء الجدران والذي هو ثابت حتّى لو فرض خفاء الجدران جزء علّة ـ متعارضان، فأين الظهور الثالث الذي يفترض أنّ رفع اليد عنه يرفع التعارض بين الظهورين الأوّلين؟

وقل نفس الكلام عن تعارض منطوق (إذا خفي الجدران فقصّر) ومفهوم (إذا خفي الأذان فقصّر).

نعم، رفع اليد عن إطلاقي المنطوقين يرفع التعارض بين منطوق كلّ منهما ومفهوم الآخر، لكن ليس هذا بملاك أنّ رفع اليد عن إطلاق كلّ واحد من

140

المنطوقين رفعٌ لليد عن ظهور ثالث غير مفهومه ومنطوق الآخر المتعارضين، بل بملاك أنّه رفعٌ لليد عن أحد المتعارضين اللذين هما عبارة عن نفس هذا المنطوق مع مفهوم الآخر، فالمدّعي لتقييد المنطوقين لا يدّعيه من باب كونه حلاًّ للمعارضة بالتصرّف في دليل ثالث، بل من باب كونه حلاًّ للمعارضة برفع اليد عن أحد المتعارضين.

فالاختلاف بينه وبين السيّد الاُستاذ ليس في جواز حلّ المعارضة بالتصرّف في دليل الثالث وعدمه، وإنّما الاختلاف بينهما يكون في أنّه إذا تعارض إطلاق المفهوم مع إطلاق المنطوق فأيّهما يقدّم على الآخر؟ فيدّعي السيّد الاُستاذ تقديم إطلاق المنطوق ويدّعي هو تقديم إطلاق المفهوم، فلا يصحّ الجواب عليه بأنّه لا يجوز التصرّف في دليل ثالث بسبب تعارض دليلين، ولا مساس لما نحن فيه بما أفاده من المقدّمة أصلا.

بقي الكلام فيما أفاده ـ دامت بركاته ـ: من أنّه بعد تعارض إطلاق المفهوم وإطلاق المنطوق يقدّم إطلاق المنطوق بالأخصّيّة.

وهذا أيضاً ممّا لا يمكن المساعدة عليه، بيانه: أنّ إطلاق مفهوم كلّ واحد منهما يقتضي كفاية انتفاء شرطه لانتفاء الحكم مطلقاً سواء ثبت شرط الآخر أو لا، أي: أنّ الإطلاق المقابل لأو دالّ على انتفاء علّة اُخرى تامّة للحكم، فلو فرض أنّ منطوق الآخر يدلّ بالوضع على كون شرطه علّة تامّة للحكم لكان ـ لا محالة ـ أخصّ من إطلاق المفهوم. وأمّا لو فرض أنّه لا يدلّ بالوضع على ذلك، وإنّما تكون دلالته على ذلك من ناحية دلالته بالإطلاق على أنّ الحكم يترتّب على هذا الشرط سواء انضمّ إليه شيء آخر أو لا، فلا محالة تكون النسبة بين هذا المفاد ـ وهو ترتّب الحكم على هذا الشرط سواء انضمّ إليه شيء آخر أو لا ـ وبين إطلاق

141

الأوّل المقابل لأو ـ الدالّ على انتفاء علّة تامّة اُخرى للحكم ـ عموماً من وجه، فمادّة الاجتماع هي فرض تحقّق شرط الثاني مع انتفاء شرط الأوّل، فإطلاق الأوّل يقتضي انتفاء الحكم وإطلاق الثاني يقتضي ثبوته، ومادّة الافتراق لأحد الطرفين هي فرض ثبوت كلا الشرطين، فإطلاق الأوّل لا يقتضي انتفاء الحكم وإطلاق الثاني يقتضي ثبوته، ومادّة الافتراق للطرف الآخر هو فرض انتفاء كلا الشرطين، فإطلاق الأوّل يقتضي انتفاء الحكم وإطلاق الثاني لا يقتضي ثبوته.

وقد تحصّل من جميع ما ذكرناه: أنّه على مبنى إثبات المفهوم بالإطلاق العِدليّ يتعيّن القول بتساقط الإطلاقين والرجوع إلى الاُصول أو العمومات الفوقانيّة.

ولا يخفى أنّ المعارضة في الحقيقة على هذا المبنى ليست بين خصوص الإطلاق المقابل لأو والإطلاق المقابل للواو، بل إطلاق الجزاء المقتضي لكون المعلّق سنخ الحكم أيضاً داخل في دائرة المعارضة، فإن رفعنا اليد عن الإطلاق الأوّل أو الثالث فقد تقيّد المفهوم ولا وجه لرفع اليد عن أصل المفهوم؛ لعدم مانع عن أصل أحد الإطلاقين. وإن رفعنا اليد عن الإطلاق الثاني فقد تقيّد المنطوق وبحسب الفنّ لم يظهر مرجّح لتقييد أحد الطرفين على الآخر.

المبنى الثالث لإثبات المفهوم هو: التمسّك بإطلاق أداة الشرط الدالّ على أنّ العلّيّة ثابتة لا لغير الشرط. ويمكن أن يدّعى عندئذ أنّ هذا الإطلاق معارض للإطلاق الأحواليّ المقتضي لكون الشرط علّة تامّة، ولا مرجّح لأحدهما على الآخر فيتساقطان.

وبكلمة اُخرى: إنّ الأمر دائر بين إنكار الانحصار الذي هو مقتضى أحد الإطلاقين وإنكار التماميّة الذي هو مقتضى الإطلاق الآخر، ولا مرجّح لأحد الإنكارين على الآخر.

142

ولكنّ التحقيق بناءً على هذا المبنى هو: أنّ إطلاق أداة الشرط الدالّ على أنّ العلّيّة ثابتة لا للغير مقيّد قطعاً، فإنّ العلّيّة ثابتة للغير إمّا بكون ذلك الغير جزء العلّة أو بكونه فرد العلّة؛ لفرض العلم الإجماليّ بانتفاء الانحصار أو التماميّة، فهذا الإطلاق المقتضي للمفهوم مقيّد بأحد قيدين، فإن كان مقيّداً بثبوت العلّيّة للغير على نحو الجزئيّة فالمفهوم باق على حاله، وإن كان مقيّداً بثبوت العلّيّة للغير على نحو الفرديّة فإطلاق المفهوم غير ثابت، وبما أ نّا قطعنا بأنّ إطلاق أداة الشرط مقيّد بقيد لم يبيّنه المولى نقطع بأنّ المولى لم يكن في مقام بيان القيد من ناحية أداة الشرط، فلا يثبت الإطلاق لأداة الشرط، فالإطلاق الأوّل المقتضي للمفهوم متيقّن العدم بهذا المقدار.

هذا كلّه مع قطع النظر عن دخول إطلاق الجزاء المقتضي لكون المعلّق سنخ الحكم في دائرة المعارضة، وأمّا بالنظر إلى ذلك فلا يقع فرق في النتيجة؛ لأنّ فرض رفع اليد من هذا الإطلاق بهذا المقدار أيضاً فرض لرفع اليد عن إطلاق المفهوم. وعلى كلّ حال فالمنتفي إنّما هو إطلاق المفهوم؛ لعدم مانع عن أصل الإطلاق المقتضي للمفهوم.

وقد ظهر من جميع ما ذكرناه: أنّ الفرق بين المباني الثلاثة في الإطلاق هو أنّه على المبنى الأوّل والثالث يكون إطلاق المنطوق ثابتاً على حاله، بخلافه على المبنى الثاني. وأمّا إطلاق المفهوم فساقط على جميع المباني الثلاثة: إمّا بالتعارض كما في المبنى الثاني، أو بكونه قدراً متيقّناً في الارتفاع كما في المبنى الأوّل والثالث، وأمّا أصل المفهوم فثابت على كلّ حال، فإذا شككنا في أنّه يوجد سبب ثالث للتقصير أو لا نتمسّك بالمفهوم؛ وذلك لأنّ المعارضة قائمة بمقدار إطلاق المفهوم لا بمقدار أصل المفهوم، والإطلاق الموجب للانتفاء عند الانتفاء قابل

143

للتبعيض والتحصيص فيسقط مقدار منه بالمعارضة ويبقى المقدار الآخر على حاله.

المبنى الرابع لإثبات المفهوم: دعوى دلالة أداة الشرط وضعاً على الترتّب اللزوميّ العلّيّ الانحصاريّ، وعليه فهذا الظهور الوضعيّ يعارض الظهور الإطلاقيّ في التماميّة، فإن قلنا بأنّ الظهور الوضعيّ مهما تعارض مع الظهور الإطلاقيّ يقدّم عليه بالحكومة ـ كما ذهب إليه الشيخ الأعظم والمحقّق النائيني(قدس سرهما) ـ اتّجه القول بتقديم المفهوم على إطلاق المنطوق، وإن قلنا بما هو المختار ـ تبعاً للمحقّق الخراسانيّ(قدس سره) ـ: من أنّه لا أساس لهذه الحكومة وإنّما يقدّم الظهور الوضعيّ في أغلب الموارد من باب الأقوائيّة، ولكن قد ينعكس الأمر ويكون الظهور الإطلاقيّ بحسب الارتكاز العرفيّ أقوى، فيتّجه أنّ المدار على الأقوائيّة، فإن لم يعلم فيما نحن فيه أنّ أيّهما أقوى ليقدّم يلتزم بالتعارض والتساقط؛ لعدم وجود مصحّح فنّيّ للتقديم، وإذا التزمنا بالتساقط انتفى المفهوم من رأسه لا خصوص إطلاقه؛ لأنّ الظهور الوضعيّ في الترتّب اللزوميّ العلّيّ الانحصاريّ لا يكون قابلا للتحصيص والتبعيض حتّى يرفع اليد عن بعض ويؤخذ ببعض آخر، وليس حاله حال الإطلاق الذي يحصّص بلحاظ الجهات.

ثُمّ أنّه لو ادّعي أنّ أداة الشرط تدلّ وضعاً على الترتّب اللزوميّ العلّيّ الانحصاريّ لسنخ الحكم، فالتعارض إنّما هو بين هذا الظهور والإطلاق الأحواليّ للشرط المنقّح للتماميّة، وأمّا لو ادّعي أنّ أداة الشرط تدلّ وضعاً على الترتّب اللزوميّ العلّيّ الانحصاريّ لما هو المعلّق فنحتاج إلى إثبات تعليق السنخ بالإطلاق في الجزاء، فهذا الإطلاق أيضاً داخل في دائرة المعارضة ولكن دخول ذاك الظهور الوضعيّ في دائرة المعارضة ـ بلا مرجّح لتقديمه ـ كاف في سقوط المفهوم رأساً.

144

فالنتيجة على كلّ حال تكون هي سقوط المفهوم رأساً مع إطلاق المنطوق إن لم نأخذ التماميّة في الظهور الوضعيّ.

أمّا إذا أخذنا التماميّة في الظهور الوضعيّ فالمرتفع إنّما هو المفهوم فحسب؛ إذ لا شكّ ـ بقرينة النصّ الآخر ـ في كذب العلّيّة الانحصاريّة التامّة لسنخ الجزاء(1)ويبقى إطلاق المنطوق محفوظاً، هذا.

وما قلناه: من سقوط المفهوم وإطلاق المنطوق إنّما يكون لأنّنا لم نفترض تقدّم الظهور الوضعيّ بالأقوائيّة. وأمّا لو افترضنا تقدّمه بالأقوائيّة ووقع التعارض بين الإطلاقين فقط فيتساقط إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم ويبقى أصل المفهوم سالماً(2).

المبنى الخامس لإثبات المفهوم: دعوى الانصراف إلى العلّيّة الانحصاريّة التي هي أكمل الأفراد.

وهذه تتصوّر بنحوين:

الأوّل: دعوى أنّ مقتضى الإطلاق هو كون المراد أكمل الأفراد؛ لاشتمال غيره على مؤونة زائدة، وعليه فيعارض هذا الإطلاق الإطلاق الأحواليّ المثبت للتماميّة، فيمكن أن يقال بالتعارض والتساقط.

ولكنّ التحقيق: أنّه على هذا المبنى لابدّ من التحفّظ على إطلاق المنطوق؛ لأنّ



(1) أو العلم الإجماليّ بكذبها أو كذب إطلاق الجزاء المثبت لتعليق السنخ.

(2) وأمّا لو افترضنا تقدّم الظهور الوضعيّ بالأقوائيّة وقلنا: لا حاجة إلى إطلاق الجزاء لإثبات تعليق السنخ ـ لأنّ المدلول الوضعيّ أصلا عبارة عن اللزوم العلّيّ الانحصاريّ للسنخ ـ فالساقط إنّما هو إطلاق المنطوق فحسب ويبقى المفهوم سالماً بإطلاقه.

145

عدم إرادة أكمل الأفراد مقطوع به وإن شككنا في أنّه هل لأجل عدم الانحصار أو لأجل عدم التماميّة، فالإطلاق المقتضي لإرادة أكمل الأفراد مقيّد بقيد مردّد بين أمرين ولم يبيّن ذلك القيد، فنعلم أنّ المولى لم يكن في مقام البيان من هذه الناحية، فالإطلاق المثبت لأكمل الأفراد ساقط يقيناً، فلابدّ من التحفّظ على الإطلاق الأحواليّ وبه يثبت أنّ الإطلاق الأوّل قيّد بعدم الانحصار لا بعدم التماميّة.

هذا كلّه مع قطع النظر عن دخول إطلاق الجزاء المقتضي لكون المعلّق سنخ الحكم في دائرة المعارضة، وأمّا بالنظر إليه فلا نقطع بتقيّد الإطلاق المثبت لأكمل الأفراد، بل يدور الأمر بين تقيّده وتقيّد هذا الإطلاق، وعلى كلّ حال يبقى إطلاق المنطوق ثابتاً على حاله. نعم، الفرق بين تقييد الإطلاق المثبت لأكمل الأفراد وتقييد إطلاق الجزاء هو أنّه إن قيّدنا إطلاق الجزاء لم ينتف المفهوم رأساً وإنّما ينتفي إطلاقه؛ لأنّ إطلاق الجزاء قابل للتحصيص. وأمّا إن قيّدنا الإطلاق المثبت لأكمل الأفراد فينتفي المفهوم رأساً؛ وذلك لأنّه إذا ثبت عدم إرادة الفرد الأكمل ـ وهو العلّة المنحصرة ـ فلا يفترق الأمر في ثبوت المؤونة بين وجود عِدل واحد للعلّة أو تعدّد العلل كثيراً، فإنّه على الثاني لا تتكثّر المؤونة، بل المؤونة في الجميع عبارة عن دخول حدٍّ مغاير لأصل العلّيّة في حقيقة الفرد. هذا.

وهناك مجال للقول بأنّ دخول هذا الإطلاق المثبت لأكمل الأفراد في دائرة المعارضة ـ بعد عدم مرجّح لتقديمه ـ كاف في سقوط المفهوم رأساً، فالنتيجة هي سقوط المفهوم رأساً.

ولكنّ التحقيق: أنّ العلم الإجماليّ بكذب أحد هذين الإطلاقين ينحلّ إلى العلم التفصيليّ بعدم كون المولى في مقام البيان من ناحية الجزاء والشكّ البدويّ

146

في تقييد الإطلاق الأوّل؛ لأنّه مع فرض عدم الإطلاق الأوّل لا ثمرة لإطلاق الجزاء، وأمّا مع فرض تقييد إطلاق الجزاء فتبقى الثمرة بالنسبة للإطلاق الأوّل ـ المثبت لإرادة أكمل الأفراد ـ ثابتة في نفي الثالث.

فظهر: أنّ التحقيق على هذا المبنى سقوط إطلاق المفهوم وثبوت أصل المفهوم وإطلاق المنطوق.

الثاني: دعوى الانصراف إلى أكمل الأفراد لا من ناحية اقتضاء الإطلاق ومقدّمات الحكمة، بل من ناحية ظهور عرفيّ في ذلك، وعليه فهذا الظهور العرفيّ معارض للظهور الإطلاقيّ في التماميّة.

وهنا أيضاً نقول: إنّ هذا الظهور العرفيّ مقطوع الكذب؛ للقطع بعدم إرادة أكمل الأفراد: إمّا لعدم الانحصار أو لعدم التماميّة، فنأخذ بالظهور الإطلاقيّ في التماميّة.

هذا لولا دخول إطلاق الجزاء في دائرة المعارضة، وأمّا بالنظر إلى ذلك فنقول: إنّ الأمر دائر بين رفع اليد عن الظهور في إرادة أكمل الأفراد ورفع اليد عن إطلاق الجزاء، فإن رفعنا اليد عن إطلاق الجزاء انتفى إطلاق المفهوم لا أصل المفهوم، وأمّا إن رفعنا اليد عن الظهور العرفيّ في إرادة أكمل الأفراد فإن ادّعينا ظهوراً في إرادة الأكمل فالأكمل فأيضاً لا ينتفي أصل المفهوم وإنّما ينتفي إطلاقه، وإلّا اتّجه انتفاء أصل المفهوم، وبناءً على عدم ادّعاء الظهور في إرادة الأكمل فالأكمل يمكن أن يقال هنا أيضاً: يكفي دخول الظهور العرفيّ في إرادة الأكمل في دائرة المعارضة في سقوط المفهوم رأساً، إلّا أن يدّعى أنّ هذا الظهور يقدّم على إطلاق الجزاء لحكومة الظهور العرفيّ على الظهور الإطلاقيّ، لكنّ المختار أنّه لا أساس لهذه الحكومة في المنفصلين، فقد يبدو للنظر أنّه بناءً على عدم ادّعاء الظهور في إرادة الأكمل فالأكمل يتّجه سقوط المفهوم رأساً.

147

إلّا أنّه هنا أيضاً يأتي التحقيق السابق، وهو: أنّ رفع اليد عن الظهور في أكمليّة الأفراد يوجب لغويّة إطلاق الجزاء، وتقييد إطلاق الجزاء لا يوجب لغويّة الأخذ بهذا الظهور، فالنتيجة أنّ المنتفي إطلاق المفهوم لا أصله.

المبنى السادس لإثبات المفهوم: ما ذهب إليه المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) من إثبات الانحصار بأنّ كون الشرط الجامع خلاف ظاهر الكلام، وكون الشرط شيئين بعنوانهما مع كفاية كلّ منهما وحده في الحكم خلاف قانون استحالة صدور الواحد بالنوع عن الكثير بالنوع.

والتحقيق: أنّه بناءً على هذا المبنى لا نحتاج في اقتناص المفهوم إلى جريان الإطلاق في الجزاء لإثبات كون المعلّق سنخ الحكم، فإنّه لو تمّ هذا المبنى كفى بنفسه لاقتناص المفهوم وإن كان المعلّق شخص الحكم، فإنّ الوحدة بالنوع التي هي النكتة في استحالة الصدور عن الكثير بالنوع لا ترتفع بفرض المعلّق شخص الحكم.

وعلى هذا فما هو داخل في دائرة المعارضة أمران: ظهور القضيّة في كون الشرط بعنوانه دخيلا، والإطلاق الأحواليّ المثبت للتماميّة. والأوّل أقوى من الثاني، فإنّ أصالة التطابق بين مقام الثبوت والإثبات عند احتمال أن يكون ما هو موجود في عالم الإثبات غير موجود في عالم الثبوت، أقوى من أصالة التطابق بينهما عند احتمال أن يكون ما ليس بموجود في عالم الإثبات موجوداً في عالم الثبوت بحيث تقدّم عليها عند المعارضة، وعلى هذا فالمتّجه تقييد إطلاق المنطوق مع التحفّظ على أصل المفهوم وإطلاقه.

المبنى السابع لإثبات المفهوم هو: دعوى وضع الأداة للتعليق بمعنى كون اللزوم منظوراً بالعين اليسرى، أو دعوى الظهور العرفيّ في ذلك ولو في بعض

148

الموارد كفرض تقدّم الجزاء على الشرط، وعليه فهذا الظهور الوضعيّ أو العرفيّ يكون معارضاً للإطلاق الأحواليّ المثبت للتماميّة وإطلاق الجزاء المثبت لكون المعلّق سنخ الحكم، فإن قلنا بأقوائيّة الأوّل دار الأمر بين تقييد الثاني والثالث، فيتساقط إطلاق المنطوق مع إطلاق المفهوم بالمعارضة وأصل المفهوم لا ينتفي، وإلّا فذلك الظهور أيضاً يسقط بالمعارضة فينتفي أصل المفهوم مع إطلاق المنطوق.

هذا مع قطع النظر عن نكتة لغويّة إطلاق الجزاء على فرض رفع اليد عن الظهور في التعليق وعدم لغويّة الأخذ بالظهور في التعليق على فرض تقييد إطلاق الجزاء، وأمّا بالنظر إلى ذلك فالمعارضة إنّما هي بين الإطلاقين فيتساقط إطلاق المنطوق والمفهوم دون أصل المفهوم.

المبنى الثامن لإثبات المفهوم: ما هو المختار من أنّ كون الشرط الجامع خلاف الظاهر، وكون كلّ منهما شرطاً بعنوانه مستقلاّ خلف فرض تعليق الشخص.

وعلى هذا فإن قلنا: إنّ المعارضة وقعت بين كون الشرط بعنوانه دخيلا والإطلاق الأحواليّ المثبت للتماميّة وتساقطا انتفى المفهوم رأساً مع إطلاق المنطوق، فإنّه بعد أن فرض عدم ثبوت كون الشرط بعنوانه دخيلا فاحتمال كون الدخيل هو الجامع بين الاثنين مع احتمال كون الدخيل هو الجامع بين أزيد من ذلك ـ كخفاء معالم البلد ـ على حدّ سواء وليس للأوّل مرجّح على الثاني، لكنّ التحقيق: ما مضى من أنّ أصالة التطابق بين عالم الإثبات والثبوت فيما هو موجود في عالم الإثبات أقوى منها فيما ليس موجوداً فيه، وكون الشرط بعنوانه غير دخيل يستلزم أن يكون ما هو الموجود في عالم الإثبات غير موجود في عالم الثبوت، فهذا الظهور يتحفّظ عليه، فينحصر الأمر في تقييد الإطلاق المثبت للتماميّة فيتعيّن تقييد إطلاق المنطوق والتحفّظ على أصل المفهوم وإطلاقه.

149

هذا لو لم يكن إطلاق الجزاء المثبت لكون المعلّق سنخ الحكم داخلا في دائرة المعارضة، لكنّه داخل فيها، فالأمر ليس منحصراً في تقييد الإطلاق المثبت للتماميّة، بل يدور الأمر بين تقييده وتقييد إطلاق الجزاء، فبالتعارض يتساقط إطلاق المنطوق والمفهوم معاً ويبقى أصل المفهوم سالماً.

ثُمّ أنّه قد ظهر ممّا ذكرناه: أنّ الأمر دائر بين تقييد هذين الإطلاقين: أعني: الإطلاق الأحواليّ المقتضي للتماميّة وإطلاق الجزاء، وأمّا ظهور كون الشرط بعنوانه دخيلا فلابدّ من التحفّظ عليه، كما تشهد لذلك قاعدة الميرزا التي تقول: تشخّص القرينة من ذي القرينة في المنفصلين بوصل أحدهما بالآخر، فما كان قرينة حين الوصل فهي القرينة حين الفصل وكذلك ذو القرينة.

وهنا نرى أنّه لو جمعنا بين القضيّتين بنحو في كلام واحد انتفى أحد الإطلاقين، ولو جمعنا بينهما بنحو آخر انتفى الإطلاق الآخر وبقي ذلك الظهور على كلا الفرضين محفوظاً، فلو قلنا: (إذا خفي الأذان والجدران فقصّر)، انتفى الإطلاق الأحواليّ المقتضي للتماميّة، ولو قلنا: (إذا خفي الأذان فقصّر وإذا خفي الجدران فقصّر)، انتفى إطلاق الجزاء، وعلى كلّ حال يكون ظاهر الكلام أنّ الشرط المذكور بعنوانه دخيل في الحكم، والسرّ في ذلك ما بيّنّاه من أنّ أصالة تطابق عالم الإثبات والثبوت بالنسبة إلى الموجود في عالم الإثبات أقوى منها بالنسبة إلى المعدوم فيه.

والشاهد على هذا من سيرة العلماء هو جريان دأبهم وديدنهم قديماً وحديثاً على حمل المطلق على المقيّد مع أنّه من المحتمل أن يكون ذكر المقيّد من باب ذكر أحد الأفراد لنكتة، وإنّما يرتفع هذا الاحتمال بأصالة التطابق بين عالم الإثبات والثبوت، وبما أنّ هذا الأصل في جانب المقيّد يكون بلحاظ ما هو

150

موجود في عالم الإثبات يكون مقدّماً على أصالة التطابق في جانب المطلق التي هي بلحاظ عدم الوجود في عالم الإثبات.

بقي هنا شيئان:

الأوّل: قد عرفت أنّ مقتضى بعض المباني تعيّن سقوط إطلاق المنطوق، ومقتضى بعضها تعيّن سقوط إطلاق المفهوم، وعلى هذين القسمين يبقى أحد الإطلاقين سالماً عن المعارض، ومقتضى بعضها معارضة إطلاق المنطوق مع أصل المفهوم وتساقطهما لعدم مرجّح لأحدهما على الآخر. ومقتضى بعضها معارضة إطلاق المنطوق وإطلاق المفهوم وتساقطهما لعدم مرجّح لأحدهما على الآخر، وعلى هذين القسمين الأخيرين نقول: إنّ مقصودنا ممّا ذكرناه من تعيّن التعارض والتساقط لعدم المرجّح إنّما هو بيان ما يقتضيه الفنّ. وبعبارة اُخرى: إنّا لم نستطع فنّيّاً من إثبات مرجّح لأحدهما على الآخر، وليس المقصود أنّه استطعنا فنّيّاً من إثبات عدم المرجّح لأحدهما على الآخر، فإنّه لم يثبت ذلك بالفنّ، وعلى هذا فلا مانع من ثبوت مرجّح لأحدهما على الآخر بحسب الذوق العرفيّ.

هذا. ونحن نرى وجداناً بحسب الذوق العرفيّ أنّ المتفاهم من القضيّتين الشرطيّتين المتّحدتين جزاءً والمختلفتين شرطاً كالمثال المتقدم، وكقولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه)، مع قولنا: (إن مرض زيد فأكرمه)، كون كلّ من الشرطين تمام الموضوع لوجوب الإكرام(1)، ولعلّ السرّ في ذلك أنّ اهتمام العرف والعقلاء في


(1) كان يدّعي(رحمه الله) هذا الظهور حتّى مع فرض اقتناص المفهوم بملاك التعليق، كأن يقال: وجوب إكرام زيد معلّق على مجيئه، ويقال: وجوب إكرام زيد معلّق على مرضه.

151

محاوراتهم ببيان تمام أجزاء موضوع واحد أزيد من اهتمامهم ببيان تمام موضوعات حكم واحد، فأصالة التطابق بين عالم الإثبات والثبوت في الأوّل أقوى منها في الثاني، ولست أقول: إنّ هذا برهان فنّيّ على المطلب، بل أقول: إنّه لا إشكال في أنّ مقتضى الفهم العرفيّ هو التحفّظ على إطلاق المنطوق ويحتمل كون سرّه ذلك، كما أنّه لا إشكال في أنّ مقتضى الفهم العرفيّ هو التحفّظ على أصل المفهوم في مقام نفي الثالث، وذلك كاشف إنّيّ عن بطلان حصر إثبات المفهوم بمبنى اقتضى تعيّن رفع اليد عن إطلاق المنطوق، أو كون المعارض لإطلاق المنطوق ذات المفهوم لا إطلاقه.

الثاني: إذا قبلنا من تلك المباني مبنيين: أحدهما يقتضي كون المعارض لإطلاق المنطوق ذات المفهوم، والآخر يقتضي كون المعارض لإطلاق المنطوق إطلاق المفهوم، فهل يكون عندئذ المعارض لإطلاق المنطوق ذات المفهوم أو إطلاقه؟

مقتضى التحقيق في هذا المقام أن يقال: إنّ المفهوم ـ لولا مسألة المعارضة ـ ثابت بنكتتين؛ لفرض قبول مبنيين، فإطلاق المنطوق يعارضه كلّ من تلك النكتتين على حدة، فهنا علمان إجماليّان: أحدهما: العلم الإجماليّ بكذب إطلاق المنطوق أو النكتة الاُولى للمفهوم. وثانيهما: العلم الإجماليّ بكذب إطلاق


لكنّ الظاهر منع هذا الظهور في فرض ثبوت المفهوم بالتعليق أو بظهور الكلام في كونه وارداً مورد التحديد لتمام ما في عالم الثبوت من عِدل، كما في الحكم بالتقصير بأحد الخفاءين، وإن كان هذا الظهور ثابتاً في غير هذين الفرضين، وهذا الفرق بنفسه شاهد على عدم ثبوت المفهوم في غير هذين الفرضين حتّى تصل النوبة إلى المعارضة، وإلّا فما هو السرّ في هذا الفرق؟

152

المنطوق أو النكتة الثانية. فإن فرضنا تقديم إحدى النكتتين على إطلاق المنطوقبقي المفهوم بلا معارض، وإلّا قلنا: إنّ المفروض أنّ إحدى تلك النكتتين غير قابلة للتبعيض بحسب جهات المفهوم والنكتة الثانية قابلة للتبعيض بحسبها، فإطلاق المنطوق مع النكتة الاُولى يتساقطان لمكان العلم الإجماليّ بالكذب، أو تسقط خصوص النكتة الاُولى بناءً على تقديم المنطوق عليها، والنكتة الثانية أيضاً تعارض المنطوق؛ للعلم الإجماليّ بكذب أحدهما، لكنّ المفروض أنّها قابلة للتبعيض، فيكون طرف العلم الإجماليّ بالكذب الإطلاق الثابت بها لا أصلها رأساً، فبالنتيجة صار إطلاق المنطوق معارضاً لإطلاق المفهوم لا لأصله.

بقي الكلام فيما إذا قبلنا مبنين: أحدهما يقتضي تقديم إطلاق المنطوق على إطلاق المفهوم أو أصله، والآخر يقتضي العكس فهل يقدّم المنطوق على المفهوم أو المفهوم على المنطوق؟

مقتضى الفنّ هو تقديم المفهوم على المنطوق، فإنّ مرجع تسليم المبنيين إلى القول بأنّ المفهوم يكون لنكتتين، إحداهما مقدّمة على إطلاق المنطوق، وإطلاق المنطوق مقدّم على النكتة الاُخرى، فإطلاق المنطوق لابدّ من رفع اليد عنه ـ لا محالة ـ لتقدّم النكتة الاُولى عليه، فإن كانت النكتة الثانية بحيث لا يمكن الأخذ بها مع فرض رفع اليد عن إطلاق المنطوق فالمفهوم وإطلاقه يثبت بنكتة واحدة، وإلّا فالمفهوم وإطلاقه يثبت بنكتتين.

 

تعدّد الشرط أو الجزاء في قضيّة واحدة:

الأمر الرابع: إذا تعدّد الشرط كأن يقال: (إن جاءك شخص وكان عالماً وكان لابساً للثوب الأبيض فأكرمه)، فمن الواضح أنّ دائرة المنطوق تضيّقت بتكثّر الشروط، كما أنّه من الواضح أنّ دائرة المفهوم اتّسعت بتكثّرها، فإنّه يثبت أنّ

153

مجموع هذه الشروط علّة منحصرة للحكم، فبانتفاء أيّ واحد منها ينتفي الحكملانتفاء جزء العلّة المنحصرة، وهذا ممّا لم يستشكل فيه ولا ينبغي الإشكال فيه.

وأمّا إذا تعدّد الجزاء فهذا هو محلّ الإشكال من حيث إنّه هل ينتفي بانتفاء الشرط مجموع الجزاءات من حيث المجموع بحيث لا ينافي المفهوم ثبوت بعض تلك الجزاءات عند انتفاء الشرط؟ أو ينتفي بذلك جميعها، فعند انتفاء الشرط كما لا يوجد مجموعها لا يوجد بعضها أيضاً؟ تارة يستظهر هذا واُخرى يستظهر ذاك.

وميزان ذلك فنّيّاً هو: أنّه بحسب الثبوت تارةً: يفرض أنّ العطف يكون في طول التعليق، واُخرى: يفرض أنّ التعليق يكون في طول العطف:

فإن فرض أنّ العطف في طول التعليق ثبت انتفاء الجميع بانتفاء الشرط لا انتفاء المجموع من حيث المجموع؛ وذلك لأنّ المفروض أنّه في المرتبة السابقة على العطف على الجملة الاُولى قد وقع التعليق، فالجملة الاُولى قد علّقت مستقلّة على الشرط، فيثبت بذلك أنّ الشرط علّة منحصرة لتلك الجملة الاُولى باستقلالها وفي طول التعليق عطفت الجملة الثانية، والعطف يدلّ على التشريك في الحكم، فلا محالة يثبت أنّه كما كان الشرط علّة منحصرة للجملة الاُولى باستقلالها كذلك يكون علّة منحصرة للجملة الثانية، وهكذا الكلام بالنسبة إلى باقي الجمل المعطوفة، فيثبت بذلك أنّه بانتفاء الشرط ينتفي كلّ واحد منها.

وإن فُرض أنّ التعليق في طول العطف فقد لوحظ العطف بين الجمل أوّلا ثمّ علّقت هذه الجمل المتعاطفة على الشرط، فنسبة التعليق إلى كلّ واحد منها على حدّ سواء؛ لأنّ المفروض أنّ العطف ليس في طول التعليق حتّى يختصّ التعليق بالجملة الاُولى، ويستفاد التعليق لباقي الجمل بالعطف الدالّ على التشريك في الحكم بعد أن كان أوّلا وبالذات ثابتاً للجملة الاُولى.

154

وعندئذ يكون هناك احتمالان:

الأوّل: أن يكون الثابت تعليقات عديدة بعدد الجمل، ولازم ذلك أن لا يلحظ بالنسبة إلى تلك الجمل عنوان المجموعيّة؛ لأنّ المفروض أنّ هناك تعليقات عديدة يكون الطرف لكلّ واحد منها إحدى الجمل بنفسها، وعلى هذا فيثبت أيضاً انتفاء الجميع بانتفاء الشرط لا انتفاء المجموع من حيث المجموع بانتفائه.

الثاني: أن يكون الثابت تعليقاً واحداً، ولازم ذلك أن يلحظ بالنسبة إلى تلك الجمل عنوان المجموعيّة وتركيب اعتباريّ؛ لأنّ التعليق الواحد لا يكون طرفه أكثر من شيء واحد، فلا يعقل أن يكون كلّ واحد من تلك الجمل باستقلالها طرفاً لذلك التعليق، بل طرف التعليق هو المجموع من حيث المجموع. وبكلمة اُخرى: لوحظ فيها تركيب اعتباريّ، وأعني بذلك: التركيب الاعتباريّ بلحاظ عالم التعليق لا التركيب الاعتباريّ بلحاظ عالم الجعل كأجزاء الصلاة المرتبطة بلحاظ عالم الجعل.

وعلى هذا الفرض يثبت بانتفاء الشرط انتفاء المجموع من حيث المجموع لا انتفاء الجميع؛ لأنّ المفروض أنّ المعلّق هو المجموع من حيث المجموع لا الجميع.

فقد تحقّق من جميع ما ذكرناه: أنّ المحتملات بحسب الثبوت ثلاثة، وعلى الأوّلين يثبت بانتفاء الشرط انتفاء الجميع، وعلى الثالث يثبت بانتفاء الشرط انتفاء المجموع.

وأمّا بحسب مقام الإثبات فإن لم ندّع أنّ الظاهر هو الاحتمال الأوّل وهو كون العطف في طول التعليق ـ ولا يبعد دعواه ـ فلا أقلّ من دعوى أنّ الاحتمال الثالث خلاف الظاهر؛ لأنّه مشتمل على مؤونة زائدة وهي اعتبار عنوان المجموعيّة والتركيب الاعتباريّ، وهي منفيّة بمقدّمات الحكمة؛ لأنّها لم تبيّن في الكلام،

155

فيكون المعلّق ذات تلك الجمل بدون اعتبار المجموعيّة، فيستفاد تعليقات عديدةببركة الانحلال.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه: أنّ الظاهر عند تعدّد الجزاء هو انتفاء الجميع بانتفاء الشرط لا انتفاء المجموع من حيث المجموع بانتفائه.

هذا، والفرق بين فرض تعدّد الجزاء وما مضى من فرض تعدّد الشرط ـ الذي التزمنا فيه بأنّ المجموع علّة ـ هو: أنّه في فرض تعدّد الشرط يكون أخذ عنوان المجموعيّة والتركيب الاعتباريّ متيقّناً، من حيث إنّه لو كان الشرط الأوّل مثلا كافياً في ترتّب الحكم لم يكن وجه لعطف شرط آخر عليه، وهذا بخلاف فرض تعدّد الجزاء، فإنّه لا محذور في كون الجزاء الأوّل بنفسه معلولا تامّاً لا جزء المعلول ولكن مع ذلك يعطف عليه معلول آخر.

هذا تمام الكلام في فرض تعدّد الجزاء المبيّن بجمل متعدّدة.

وأمّا إذا فرض أنّ الجزاء جملة واحدة لكنّها مشتملة على أحكام متعدّدة فهل المفهوم هو انتفاء الجميع أو انتفاء المجموع عند انتفاء الشرط؟ وذلك نحو: (إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء)، فإنّه وإن كان الجزاء هنا جملة واحدة لكن بما أنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم يثبت بذلك أحكام متعدّدة، فهل المفهوم لهذا الكلام أنّه إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ ينجّسه كلّ شيء، أو المفهوم له أنّه ينجّسه عندئذ بعض الأشياء؟ وهذا معنى ما يقال: من أنّه هل مفهوم السالبة الكلّيّة موجبة كلّيّة أو موجبة جزئيّة؟ وبنوا على هذا إثبات انفعال الماء القليل بملاقات المتنجّس، فبناءً على أنّ مفهوم السالبة الكلّيّة موجبة كلّيّة ينجّسه المتنجّس، وبناءً على أنّ مفهومها موجبة جزئيّة قد لا ينجّسه المتنجّس.

وذكر المحقّق النائينيّ(رحمه الله): أنّ هذه الثمرة لا تترتّب على هذا البحث؛ وذلك لأنّه

156

ليس المراد بقوله: (لا ينجّسه شيء) أنّه لا ينجّسه كلّ شيء في الدنيا حتّى الأشياء الطاهرة، بل المراد به أنّه لا ينجّسه كلّ شيء ثبت في الشريعة أنّه منجّس لما يلاقيه، وعليه فنقول: لو دلّ دليل على كون المتنجّس منجّساً لما يلاقيه كان بنفسه دليلا على تنجيسه للماء القليل، وإلّا لم يمكن إثبات منجّسيّة المتنجّس للماء القليل بمفهوم هذه الجملة حتّى لو فرض كلّيّاً، بأن كان مفهومه: أنّه إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ نجّسه كلّ شيء منجّس لملاقيه؛ فإنّ المفروض أنّ منجّسيّة المتنجّس لملاقيه أوّل الكلام والصغرى لا تثبت بالكبرى. هذا ما أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(1).

ويرد عليه: أنّ فرض كون مفهوم السالبة الكلّيّة موجبة كلّيّة ينتج في فرض قيام الدليل على منجّسيّة المتنجّس لملاقيه في غير الماء القليل، فإنّ مطلق ما من شأنه التنجيس مشمول لعموم المفهوم ولا يشترط في مشموليّته له منجّسيّته للماء(2).

بقي الكلام في تحقيق أصل المطلب، فنقول: تارةً: يقع الكلام في مرحلة الثبوت، واُخرى: في مرحلة الإثبات:

أمّا الكلام في مرحلة الثبوت: فاعلم أنّه يتصوّر تعليق الجزاء ثبوتاً على ثلاثة أنحاء:

الأوّل: أن يكون المعلّق عموم الحكم لا نفسه.



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 423 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ.

(2) لا يخفى أنّ هذا الإشكال وارد في كلام السيّد الخوئيّ(رحمه الله) تعليقاً على كلام اُستاذه الشيخ النائينيّ(رحمه الله)، وذلك في أجود التقريرات، ج 1، تحت الخطّ في الطبعة المشتملة على تعليقاته(رحمه الله)، ص 422، وفي المحاضرات، ج 5، ص 97 بحسب طبعة مطبعة صدر بقم.

157

الثاني: أن يكون المعلّق نفس الحكم بما له من الأفراد مجموعاً، بأن يكون التعليق تعليقاً واحداً ويكون طرف هذا التعليق تمام تلك الأحكام ملحوظة بعنوان المجموعيّة والتركيب الاعتباريّ في عالم التعليق.

الثالث: أن يكون المعلّق جميع تلك الأحكام بدون لحاظ عنوان المجموعيّة، فلا محالة ينحلّ التعليق إلى تعليقات عديدة.

فعلى الثالث لا إشكال في أنّ المفهوم كلّيّ، لا بدعوى أنّ في اقتناص النقيض فرقاً بين علم المنطق وعلم الاُصول، وهو: أنّ المنطقيّ يلاحظ في اقتناص النقيض النظر الدقّيّ العقليّ، ونقيض الكلّيّ بحسب الدقّة جزئيّ لا كلّيّ؛ لأنّ الكلّيّين قد يجتمعان في الكذب، والاُصوليّ يلاحظ النظر العرفيّ لا الدقّيّ العقليّ، ونقيض الكلّيّ بحسب النظر العرفيّ كلّيّ.

بل لأنّه إذا فُرضت هناك تعليقات عديدة وكان كلّ حكم من تلك الأحكام طرفاً لواحد من تلك التعليقات، فلا محالة يقتنص بالنسبة إلى كلّ واحد منها نقيض، ونقيض كلّ واحد منها رفعه، وإذا جمع بين جميع هذه الأفراد من الرفع صارت القضيّة كلّيّة، فلا فرق من هذه الجهة بين النظر الدقّيّ العقليّ والنظر العرفيّ.

وأمّا الأوّل والثاني فقد وقع في التقريرات خلط بينهما مع أنّهما يفترقان موضوعاً ونتيجة: أمّا فرقهما من ناحية الموضوع فما عرفت من أنّ المعلّق على الثاني نفس تلك الأفراد من الحكم مقيّدة بعنوان المجموعيّة، والمعلّق على الأوّل ليس نفس تلك الأفراد ولا ذات الجامع الساري في جميع الأفراد، بل المعلّق سريانه فيها.

وأمّا فرقهما من ناحية النتيجة فهو: أنّه بناءً على الأوّل يكون المفهوم جزئيّاً على جميع المباني في اقتناص المفهوم؛ لأنّ المعلّق هو العموم، فالثابت انتفاؤه

158

بانتفاء الشرط إنّما هو العموم. وبناءً على الثاني يكون المفهوم جزئيّاً على غالب المباني في اقتناص المفهوم؛ لأنّ المعلّق هو المجموع من حيث المجموع، فالثابت انتفاؤه بانتفاء الشرط إنّما هو المجموع من حيث المجموع، لكن في بعض تلك المباني خصوصيّة توجب اقتناص المفهوم كلّيّاً بالرغم من أنّ المعلّق هو المجموع لا الجميع، وذلك مبنيان:

الأوّل: مبنى إثبات المفهوم بالإطلاق الأحواليّ الدالّ على أنّ الشرط علّة تامّة للحكم حتّى عند اجتماعه مع شيء آخر، فعلى هذا المبنى وإن فرض أنّ المعلّق هو المجموع لا الجميع، لكن لو فرضت علّة اُخرى لبعض تلك الأحكام واجتمعت مع الشرط لم يكن الشرط علّة تامّة ـ حين اجتماعها معه ـ لمجموع تلك الأحكام؛ لفرض طروّ النقص على تأثيرها في بعض تلك الأحكام.

وبكلمة اُخرى: إنّ ما ليس علّة تامّة للجزء يستحيل أن يكون علّة تامّة للكلّ، فلابدّ من أن يقال ـ تحفّظاً على كونه تمام العلّة في جميع الأحوال ـ بانحصار علّة الجميع في الشرط، فبانتفائه ينتفي الجميع لا خصوص المجموع. وهذا بخلاف ما لو قلنا: إنّ المعلّق هو العموم، فإنّ فرض ثبوت علّة اُخرى لبعض الأفراد لا ينافي فرض كون الشرط علّة منحصرة للعموم.

الثاني: مبنى إثبات المفهوم بأنّه لو كان الشرط هو الجامع كان خلاف الظاهر، ولو كان الشرط كلّ من الأمرين بعنوانه مستقلاًّ كان خلاف قانون (عدم صدور الواحد بالنوع من الكثير بالنوع)، فعلى هذا المبنى أيضاً لابدّ من القول بانتفاء الجميع عند انتفاء الشرط؛ وذلك لأنّه لو فرض ثبوت علّة اُخرى لبعض تلك الأحكام لا جميعها لزم صدور ذلك البعض الواحد نوعاً من الكثير نوعاً وهو محال، فيثبت عدم علّة اُخرى لبعض تلك الأحكام، فالعلّة للجميع ليس إلّا هذا

159

الشرط، فبانتفائه ينتفي الجميع لا المجموع. وهذا بخلاف ما لو قلنا: إنّ المعلّق هو العموم، فإنّ فرض صدور بعض تلك الأحكام عن علّة اُخرى لا يستلزم فرض صدور العموم عن علّة اُخرى حتّى يلزم صدور الواحد من الكثير.

هذا تمام الكلام بالنسبة لمرحلة الثبوت.

وأمّا الكلام في مرحلة الإثبات: فنقول: تارةً: يفرض أنّ الشمول للجزاء ثابت بأداة العموم، واُخرى: يفرض أنّه ثابت بالإطلاق:

فإن فرض ثبوته بأداة العموم فالظاهر من بين المحتملات الثلاثة هو الاحتمال الأوّل، أعني: كون المعلّق ذات العموم وليس الحكم ابتداءً، فإنّ أخذ أداة العموم كـ (كلّ) أو نحوها من الكلمات في الكلام يصرف التعليق إلى العموم، ولذا لو قيل مثلا: (إن كنت كريماً فأكرم كلّ عالم)، لم يفهم منه أنّه إن لم تكن كريماً لا يجب عليك إكرام بعض العلماء كما لا يجب عليك إكرام جميعهم، وإنّما يفهم أنّ المعلّق على الشرط هو عموم الحكم المذكور في ناحية الجزاء لا ذات الحكم.

وإن فرض ثبوت الشمول بالإطلاق فهنا يأتي ما مضى في الأمر الأوّل من أنّه إن كان في حكم الجزاء إطلاق فهل المعلّق هو الحكم المطلق ويكون الإطلاق ملحوظاً قبل التعليق، والنتيجة: أنّه إذا انتفى الشرط انتفى الحكم المطلق، وهذا لا ينافي ثبوت حكم مقيّد، وهذا يعني أنّ المفهوم قضيّة جزئيّة؟ أو المعلّق هو الجامع بين الحكم المطلق والمقيّد، فإذا انتفى الشرط انتفى جامع الحكم بمطلقه ومقيّده؟ وقد مضى أنّ الصحيح هو الثاني، فالنتيجة في المقام هي: أنّ المفهوم يكون كلّيّاً.

يبقى الكلام في خصوص مثال: (إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء) وما يشبهه من حيث وقوع النكرة في سياق النفي، وهذا يتفرّع على الإيمان بكون

160

وقوع النكرة في سياق النفي من أدوات العموم وعدمه، فعلى مبنى القول بكون ذلك من أدوات العموم كانت الجملة ظاهرة في تعليق العموم، وعلى مبنى أنّ الشمول المستفاد في موارد النكرة في سياق النفي شمول إطلاقيّ وبمقدّمات الحكمة كان الظاهر تعليق الحكم(1).

 


(1) وإلى هنا كان المترقّب أن يفتي اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) بانفعال الماء القليل بالمتنجّس؛ إذ لا شكّ عند المحقّقين المتأخّرين ـ ومنهم اُستاذنا الشهيد ـ في أنّ وقوع النكرة في سياق العموم ليس من أدوات العموم، فالكلام لا يدلّ على تعليق العموم وإنّما يدلّ على تعليق الحكم مباشرة، والمفروض أنّه(رحمه الله) آمن ـ في مسألة دوران الأمر في الحكم الجزائيّ المعلّق على الشرط ـ بأنّ الأصل هو تعليق الحكم الجامع بين المطلق والمقيّد لا تعليق المطلق؛ لأنّ الجامع بين المطلق والمقيّد حينما يمكن أن يكون مقصوداً ـ وهو كذلك في التعليق ـ يكون أخفّ مؤونة من المطلق، فالنتيجة الطبيعيّة في المقام ـ لولا قرينة خاصّة تقتضي تعليق المطلق وبالتالي انتفاء الحكم المطلق لدى انتفاء الجزاء لا انتفاء مطلق الحكم ـ: أنّه بانتفاء الشرط وهي الكرّيّة ينتفي الاعتصام بمطلقه ومقيّده، إذن فلا اعتصام للماء القليل حتّى في مقابل المتنجّس.

إلّا أنّه(رحمه الله) قد أفتى في كتاب (بحوث في شرح العروة الوثقى) بعدم دلالة: (إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء) على انفعال القليل بالمتنجّس، وبيان مقصوده(رحمه الله) مختصراً هو: أنّه لا إشكال في أنّ المتنجّس لا ينجّس الكرّ، كما لا إشكال في أنّ حكم الاعتصام وعدم التنجّس في الكرّ شامل لعين النجس، وإنّما الكلام في أنّ هذا الشمول هل يفهم بقوله: (إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء) ببركة الإطلاق ومقدّمات الحكمة، أو يفهم بما يكون كالنصّ أو الظهور لا بمقدّمات الحكمة، فعلى الأوّل يأتي ما نقّحناه في الاُصول من أنّ ذاك الإطلاق إنّما يقتنص في المرحلة المتأخّرة عن التعليق وأنّ حكماً كهذا لو علّق على