228

وجه التحقيق في المسألة:

والتحقيق: أنّ صحّة استعمال اللفظ في المعنى المجازيّ ودلالته التصوّريّة عليه ليست بحاجة إلى وضع زائد أصلاً، بل يكفي في ذلك نفس وضع اللفظ للمعنى الحقيقيّ؛ وذلك لأنّ الوضع كما تقدّم يوجد اقتراناً تصوّريّاً أكيداً بين اللفظ والمعنى الحقيقيّ، وهذا الاقتران هو ملاك الانتقال التصوّريّ من اللفظ إلى المعنى، وهناك اقتران تصوّريّ فطريّ بين المعنى الحقيقيّ والمعنى المجازيّ لشدّة المشابهة بينهما مثلاً، وينتج عن مجموع الاقترانين اقتران تصوّريّ أضعف بين نفس اللفظ والمعنى المجازيّ، وهذا الاقتران نحو علاقة بين اللفظ والمعنى مصحّحة للاستعمال من قبل المتكلّم، وللانتقال والدلالة التصوّريّة في ذهن السامع، ولمّا كانت درجة هذا الاقتران المتحصّل أضعف من درجة الاقتران الأوّل؛ لأنّه اقتران بالواسطة كانت الدلالة اللفظيّة على المعنى الحقيقيّ أشدّ من الدلالة اللفظيّة على المعنى المجازيّ، وبذلك نفسّر الطوليّة بين الدلالتين، بل الطوليّة بين الدلالات المجازيّة فيما بين أنفسها أيضاً؛ لأنّ مراتب الاقتران بين المعنى الحقيقيّ والمجازيّ مختلفة، فتختلف تبعاً لذلك درجة الاقتران الناشئ الذي يقوم بين اللفظ والمعنى المجازيّ.

وأمّا بناءً على المسلك الثاني، وهو المسلك القائل بالتعهّد، فقد يقال بالاحتياج إلى تعهّد خاصّ بالمعنى المجازيّ، وعدم الاكتفاء بالعلاقة التي أشرنا إلى حصولها بين اللفظ والمعنى المجازيّ؛ لأنّ هذا المسلك يرى أنّ دلالة اللفظ الوضعيّة على المعنى الحقيقيّ دلالة تصديقيّة، والمطلوب في المقام تصحيح دلالة اللفظ على المعنى المجازيّ في ظرف وجود القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقيّ على نحو دلالة اللفظ الوضعيّة على المعنى الحقيقيّ عند التجرّد عن القرينة، وهذا يعني: أنّ المقصود في المقام تفسير وتبرير الدلالة التصديقيّة للفظ على المعنى المجازيّ،

229

والدلالة التصديقيّة لا تحصل بمجرّد المناسبة الطبيعيّة والاقتران التصوّريّ، بل إنّما تحصل بسبب الملازمة التي تنشأ من التعهّد، فلابدّ من الالتزام بالتعهّد لتصحيح الدلالات المجازيّة.

وما يقال في تصوير التعهّد المذكور بنحو يتعقّل الجمع بينه وبين التعهّد المصحّح للدلالة على المعنى الحقيقيّ عدّة أنحاء:

أحدها: الالتزام بتعهّدين، وطرف أحد التعهّدين هو اللفظ المجرّد عن قرينة قائمة على المعنى المجازيّ، وطرف التعهّد الآخر هو اللفظ المقرون بالقرينة المعيّنة للمعنى المجازيّ.

ويرد عليه: أنّ هذا التعهّد الثاني لغو، لا يفيد لا لتصحيح الاستعمال بمعنى إخراجه عن كونه استعمالاً بلا مناسبة، من قبيل: استعمال القمر في الرجل الشجاع مع القرينة؛ لما عرفت من أنّ الاقتران بالواسطة الذي يحصل بين اللفظ والمعنى المجازيّ يكفي لتصحيح الاستعمال بهذا المعنى، ولا للهدف المفروض من إيجاد الدلالة التصديقيّة؛ لكفاية القرينة المعيّنة للمعنى المجازيّ لإيجاد الدلالة التصديقيّة، فنفس القرينة تكون بمثابة تعهّد شخصيّ في كلّ استعمال، فلا حاجة إلى التعهّد النوعيّ.

ثانيها: الالتزام بأنّ طرف التعهّد الثاني هو اللفظ المقيّد بالقرينة الصارفة. ولا يرد عليه إشكال اللغويّة؛ لعدم كفاية القرينة الصارفة في الدلالة على المعنى المجازيّ، ولكن يرد عليه كما يرد على سابقه ـ بعد الالتفات إلى أنّ دائرة صحّة استعمال اللفظ في المعنى المجازيّ أوسع من موارد وجود القرينة الصارفة فضلاً عن المعيّنة؛ لوجاهة استعمال اللفظ في المعنى المجازيّ عرفاً بلا قرينة في حالات تعلّق الغرض بالإبهام، وهذا كاشف عن أنّ ملاك صحّة الاستعمال ليس هو التعهّد المذكور، بل المناسبة الطبيعيّة ـ ما سوف يأتي توضيحه، من أنّ ذلك يكفي

230

لإيجاد الدلالة التصديقيّة أيضاً بلا ضمّ التعهّد المذكور، فيكون لغواً.

ثالثها: الالتزام بأنّ طرف التعهّد الثاني هو اللفظ المقرون بعدم إرادة المعنى الحقيقيّ، لا بالقرينة. ودائرة هذا التعهّد ليست أضيق من دائرة صحّة استعمال اللفظ في المعنى المجازيّ، فلا يكون صاحب هذا الوجه مضطرّاً إلى التسليم بوجود ملاك لصحّة الاستعمال في المعنى المجازيّ، سوى التعهّد المفترض، وبهذا الوجه تحفظ الطوليّة بين التعهّدين؛ حيث إنّ مقتضى أصالة الوفاء بالتعهّد الأوّل هو إرادة المعنى الحقيقيّ من اللفظ الخالي من القرينة، ولكن متى ما بطل مفاد هذا الأصل إمّا تخصّصاً لوجود القرينة، أو تخصيصاً مخالفةً للتعهّد الأوّل، تنقّح بذلك موضوع التعهّد الثاني.

رابعها: الالتزام بتعهّدين مطلقين: أحدهما: التعهّد بقصد تفهيم المعنى الحقيقيّ، والآخر: التعهّد بقصد تفهيم أحد المعنيين: الحقيقيّ أو المجازيّ، فمع عدم القرينة يكون مقتضى أصالة الوفاء بكلا التعهّدين الحمل على المعنى الحقيقيّ، وإذا علم بالإخلال بالتعهّد الأوّل جرت أصالة الوفاء بالتعهّد الثاني.

ولكن التحقيق: أنّ فرض تعهّد آخر بلحاظ المعنى المجازيّ لغو؛ لتماميّة الدلالة التصوّريّة والتصديقيّة للّفظ على المعنى المجازيّ بدونه.

أمّا الدلالة التصوّريّة، وهي دلالة اُنسيّة عند أصحاب التعهّد، وليست وضعيّة، فهي حاصلة بعد فرض غضّ النظر عن المعنى الحقيقيّ؛ وذلك للمناسبة الطبعيّة التي أشرنا إليها سابقاً. وهذه الدلالة الاُنسيّة وإن لم توجب بمفردها تلازماً بين اللفظ وقصد المعنى المجازيّ المؤدّي إلى الدلالة التصوّريّة، ولكنّها تكفي لتصحيح الاستعمال وإخراجه عن كونه غلطاً؛ لوضوح: أنّ إخراج الاستعمال عن كونه غلطاً لا يتوقّف على فعليّة الكشف التصديقيّ للّفظ عن المراد، وإلاّ لما صحّ الاستعمال في موارد الإجمال، وإنّما يكفي فيه كون اللفظ ممّا يترقّب، أو من شأنه أن يلفت

231

السامع إلى مقصود المتكلّم، وهذا المقدار من الترقّب والشأنيّة محفوظ في موارد الإجمال، كما هو محفوظ في المقام أيضاً، فالاستعمال إذن في المعنى المجازيّ ليس غلطاً حتّى مع عدم التعهّد والوضع الخاصّ، غاية الأمر أنّه ليس للّفظ دلالة تصديقيّة تامّة على المعنى المجازيّ؛ لعدم التلازم بسبب عدم التعهّد. وبهذا يختلف ـ بقطع النظر عن أيّ وضع للمجاز ـ استعمال كلمة «أسد» في الرجل الشجاع واستعماله في الماء؛ فإنّ الثاني غلط دون الأوّل. وأمّا الدلالة التصديقيّة فبعد أن وضّحنا عدم كون الاستعمال المجازيّ غلطاً، ولو لم يكن تعهّد ووضع خاصّ، قلنا: إنّ من الواضح ـ سواء فرض وجود تعهّد وضعيّ في حقّ المجاز أو لا ـ: أنّ هناك تعهّداً من قبل كلّ إنسان عرفيّ بأن لا يصدر عنه الغلط في الاستعمال، وهذا تعهّد غير التعهّدات الوضعيّة، وحينما نضمّ هذا التعهّد إلى القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقيّ يتحقّق ملاك الدلالة التصديقيّة على الرجل الشجاع، فإنّ المتكلّم إذا قال: «رأيت أسداً يرمي» فكلمة «أسد» إمّا أن تكون مستعملة عنده في الحيوان المفترس، أو في الماء مثلاً، أو في الرجل الشجاع، والأوّل منفيّ بالقرينة، والثاني منفيّ بتعهّد الإنسان العرفيّ بعدم القيام باستعمال مغلوط عرفاً؛ لوضوح: أنّ استعمال كلمة «أسد» في الماء بدون وضع وتعهّد وضعيّ لذلك غلط عرفاً، فيتعيّن أن يكون المراد هو الرجل الشجاع، وبذلك تحصل الدلالة التصديقيّة للّفظ على المعنى المجازيّ بلا حاجة إلى وضع تعهّدي بالنحو المدّعى.

233

المقدّمة

4

 

 

 

 

 

 

الإطلاق الإيجاديّ

 

 

 

○ كبرى الإطلاق الإيجاديّ.

○ صغريات الإطلاق الإيجاديّ.

 

235

 

 

 

 

 

 

الأمر الرابع: فيما تسمّى بالإطلاقات الإيجاديّة في مقابل الإطلاقات الاستعماليّة:

فإنّ الاستعمال يجعل ذهن السامع منتقلاً من الحاكي إلى صورة المحكيّ منه، ولكن الإطلاق الإيجاديّ ينقل الذهن ابتداءً إلى ذات المحكيّ من دون توسيط صورة منه.

والكلام يقع في مقامين:

الأوّل: بلحاظ كبرى الإطلاق الإيجاديّ.

والثاني: بلحاظ الصغريات.

 

كبرى الإطلاق الإيجاديّ

 

أمّا المقام الأوّل: فلا إشكال في أنّ إحضار الشيء في ذهن الشخص له وسيلتان:

الاُولى: الوسيلة الحكائيّة بأن يؤتى بحاك فينتقل ذهن السامع بواسطة صورته إلى صورة المحكيّ، كما لو كانت في يمينه سبحة فقيل له: ما تلك بيمينك؟ فقال:

236

السبحة، فينتقل الذهن من اللفظ إلى المعنى.

والثانية: الوسيلة الإيجاديّة، وهي عبارة عن إيجاد ذلك الشيء خارجاً في معرض إحساسه وشعوره، فذلك يوجب نقش صورته في ذهنه رأساً، كما لو سأله ما تلك بيمينك؟ ففتح يمينه أمامه لكي يرى السبحة.

ومن الواضح: أنّ إحضار المعنى بوسيلة حكائيّة هو الاستعمال الذي يكون بحاجة إلى مصحّح؛ إذ لا معنى لحكاية شيء عن شيء في نفسه. وهذا المصحّح: إمّا هو الوضع، كما هو الحال في باب الحقيقة، وإمّا الطبع، كما هو الحال في باب المجاز. وأمّا الوسيلة الإيجاديّة فلا تحتاج إلى مصحّح ووضع، أو طبع؛ لأنّ هناك ملازمة تكوينيّة بين الإحساس بالشيء وانتقاش صورته في ذهنه، فالوسيلة الإيجاديّة هي الوسيلة التي يتاح للإنسان التفهيم بها بقطع النظر عن أيّ عناية، والوسيلة الحكائيّة ثانويّة تحتاج إلى عناية، ووضع أو طبع.

وهناك فرقان بين الوسيلتين، لابدّ من الالتفات إليهما قبل التكلّم عن الصغريات:

الأوّل: أنّ الوسيلة الإيجاديّة لا تفيد إلاّ في إحضار المعاني الجزئيّة، ولا يمكن إحضار معنىً كلّيّ بها، بخلاف الوسيلة الحكائيّة القائمة على أساس إيجاد علاقة بين الحاكي والمحكيّ؛ فإنّ تلك العلاقة كما يمكن إيجادها بين الحاكي ومعنىً خاصّ كذلك يمكن إيجادها بين الحاكي ومعنىً عامّ، في حين أنّ الوسيلة الإيجاديّة قائمة على أساس إيجاد الشيء، والكلّيّ على سعته وقابليّته للصدق على كثيرين لا يعقل إيجاده في الخارج.

وتوهّم: أنّه حينما أوجدنا الفرد أوجدنا الكلّيّ أيضاً لوجوده بوجود فرده، فلماذا لا نحصل على صورة ذهنيّة للكلّيّ في ذهن السامع، مدفوع بأنّنا وإن

237

أوجدنا الكلّيّ، لكنّنا أوجدناه بوجود تحليليّ وضمنيّ وبشرط شيء، ففي الذهن أيضاً يوجد بوجود تحليليّ وبحدّه الخاصّ، ولا يوجد الكلّيّ بحدّه وسعته، كما لم يوجد كذلك في الخارج، ومن المعلوم أنّ الصورة الذهنيّة للكلّيّ بشرط شيء وبحدّ جزئيّ خاصّ مباينة لصورة الكلّيّ لا بشرط وبحدّ السعي.

نعم، يمكن جعل صورة هذا الكلّيّ بشرط شيء، أي: صورة الفرد مقدّمة إعداديّة لانتقال الذهن إلى صورة الكلّيّ لا بشرط، لكن هذا بابه باب الحكاية لا باب الإيجاد؛ لأنّه انتقل الذهن من صورة إلى صورة.

الثاني: أنّه حينما تقصد الحكاية عن قضيّة من قبيل: «زيد إنسان» مثلاً: فتارةً يفهّم الموضوع والمحمول كلاهما بالوسيلة الحكائيّة، وتكون هيئة الجملة المؤتلفة من لفظ الموضوع ولفظ المحمول وسيلة حكائيّة عن النسبة، فتتمّ الحكاية عن تلك القضيّة بتمام أركانها بلا إشكال، فيقال مثلاً: «زيد إنسان»، واُخرى: يوجد الموضوع بالوسيلة الإيجاديّة، والمحمول بالوسيلة الحكائيّة، وتكون هيئة الموضوع والمحمول وسيلة حكائيّة عن النسبة، من قبيل أن يؤخذ بيد زيد، ويُحضر أمام المخاطب ليراه، ويقال: «إنسانٌ»، ومن قبيل أن يوجد في الخارج ضرب شديد، ويقال: «ضرب شديد»، فالهيئة لمجموع الموضوع الإيجاديّ والمحمول الحكائيّة طبعاً ليست هي ذات النسبة، فإيجادها للنسبة في ذهن السامع إنّما هو على أساس الوسيلة الحكائيّة.

وصحّة قضيّة من هذا القبيل تحتاج إلى عناية زائدة لم نكن بحاجة إليها في القضيّة الحكائيّة الكاملة؛ وذلك لا لنقص في الوسيلة الإيجاديّة للموضوع، ولا لنقص في الوسيلة الإيجاديّة للمحمول، بل الإيجاديّة والحكائيّة كلتاهما صحيحتان، بل لأجل الحاجة إلى الشدّ بينهما، أي: النسبة بين الموضوع

238

والمحمول، فلابدّ من افتراض أنّ الوضع اللغويّ لهيئة الموضوع والمحمول لدلالتها على النسبة يعمّ هيئة المركّب من موضوع إيجاديّ ومحمول حكائيّ، وإلاّ لم يكن عندنا حاك عن النسبة.

فهاتان نكتتان في الفرق بين الوسيلة الحكائيّة والإيجاديّة، وعلى ضوئهما ننتقل إلى المقام الثاني.

 

صغريات الإطلاق الإيجاديّ

 

وأمّا المقام الثاني: وهو الكلام بلحاظ صغريات الإطلاق الإيجاديّ، فالكلام فيه يقع في جهتين:

 

إطلاق اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله:

الجهة الاُولى: في إطلاق اللفظ وإرادة النوع، أو الصنف، أو المثل، وقد قيل: إنّ الأوّل بابه باب الإيجاد، بل ادّعى السيّد الاُستاذ دامت بركاته: أنّ الإطلاقات الثلاثة كلّها من باب الإيجاد(1).

وقالوا في تقريب ذلك: إنّ الوسيلة الحكائيّة إنّما يتّخذها الإنسان العاقل حينما لا يوجد نفس الموضوع خارجاً، أمّا مع وجوده في الخارج وتكفّله بإخطار المعنى، فلا معنى لتبعيد المسافة وإيجاد أمر حاك عنه. وفيما نحن فيه إذا كان


(1) راجع المحاضرات للشيخ الفيّاض، ج 1، ص 95 فصاعداً، طبعة مطبعة صدر بقم.

239

الموضوع هو النوع، فالنوع يوجد بوجود فرده، وقد أوجد الفرد، فبالتالي قد أوجد الموضوع بنفسه، فلا معنى للتمسّك بالوسيلة الحكائيّة، وإذا كان هو الصنف أو المثل، كما في قولنا: «زيد في ضرب زيد» فاعل، فالصنف أو المثل عبارة عن الجامع المقيّد بصنف أو بمثل، والجامع أوجده بنفسه، والتقييد بصنف أو بمثل دلّ عليه الحرف.

وقد ظهر ممّا ذكرناه في المقام الأوّل: أنّ هذا الكلام غير معقول؛ فإنّه وإن أوجد الكلام بإيجاد فرده، لكنّه لا يمكن أن يحصل على صورة الكلّيّ في الذهن، إلاّ بنحو مواز لما اُوجده خارجاً، وقد اُوجد الكلّيّ خارجاً في ضمن الفرد، ومحدّداًبحدّه، فكذلك في الذهن إنّما توجد الصورة الذهنيّة للطبيعة المتخصّصة بخصوصيّة الفرد، ويكون وجود الطبيعة وجوداً تحليليّاً، فلم نحصل على موضوع القضيّة وهوالنوع، أمّا لو جعلناه مقدّمة إعداديّة لانتقال الذهن إلى الكلّيّ على سعته، فهذا بابه باب الحكاية.

ومنه يظهر بطلان ما قيل في الصنف والمثل أيضاً، من (أنّ الموضوع هو الجامع المقيّد، وأصله اُوجد بنفسه وتقييده دلّ عليه الحرف)، فإنّ أصل الجامع إنّما اُوجد في ضمن الفرد وأمّا التقييد فنسأل: هل المقصود بذلك تقييد الوجود الخارجيّ الذي أوجدناه، أو المقصود تقييد ذلك الكلّيّ الذي صار الجزئيّ مقدّمة إعداديّة للانتقال إليه؟ فإن كان المقصود هو الأوّل، فهو غير معقول؛ لأنّ ما أوجدناه جزئيّ حقيقيّ خارجيّ لا يقبل التحصيص؛ فإنّ التحصيص شأن المفهوم، لا شأن الجزئيّ الحقيقيّ الخارجيّ، وإن كان المقصود هو الثاني، رجعنا مرّة اُخرى إلى الانتقال من صورة الفرد إلى صورة الكلّيّ الذي بابه باب الحكاية، لا باب الإيجاد.

فظهر: أنّ ذكر اللفظ وإرادة نوعه أو صنفه أو مثله ليس بابه باب الإيجاد، وإنّما بابه باب الاستعمال، والمصحّح له العلاقة الطبعيّة بين الفرد ونوعه، أو صنفه أو مثله.

240

إطلاق اللفظ وإرادة شخصه:

الجهة الثانية: في إطلاق اللفظ وإرادة شخصه.

وقد اتّضح فيما ذكرناه من بحث الكبرى أنّ إحضار قضيّة معنويّة في ذهن السامع عن طريق التلفيق بين موضوع إيجاديّ ومحمول حكائيّ يشترط في صحّته أمران:

الأوّل: أن يكون موضوع هذه القضيّة أمراً جزئيّاً. وهذا الشرط محفوظ في إطلاق اللفظ وإرادة شخصه، كقولنا: «زيد لفظ» إذا اُريد بزيد شخص هذا اللفظ، فإنّه قد اُوجد فرد جزئيّ من هذا اللفظ كي يحكم عليه بأنّه لفظ.

والثاني: أن يكون وضع الهيئة للنسبة شاملاً لهيئة الملفّق من الوسيلة الإيجاديّة والوسيلة الحكائيّة.

والصحيح: أنّ الوضع شامل لهيئة الملفّق من الوسيلتين اللفظيّتين اللتين إحداهما حكائيّة والاُخرى إيجاديّة، ولكنّه غير شامل لهيئة الملفّق من الوسيلتين حينما تكون الوسيلة الإيجاديّة غير لفظ، فحينما نحضر تأريخ الطبريّ مثلاً ونقول: «كتاب تأريخ» أو نضرب أحداً ونقول: «ضرب» لا يكون الكلام صحيحاً؛ لخلوّه عن الهيئة الموضوعة للنسبة، ولكن حينما نقول: «زيد لفظ» ونقصد بزيد شخص هذه الكلمة يكون الكلام صحيحاً؛ لأنّ هيئة الملفّق من الوسيلتين إذا كانتا لفظيّتين موضوعة للنسبة.

وبهذا نفسّر الفرق المحسوس بالوجدان بين مثل: «زيد لفظ» ومثل ما لو أوجدنا الضرب وقلنا: «ضرب»؛ حيث يُرى أنّ الأوّل صحيح، والثاني غير صحيح بالرغم من أنّهما معاً ملفّقان من الوسيلة الإيجاديّة والوسيلة الحكائيّة، فإنّه وإن كان الأمر كذلك لكن الهيئة في مثل: «زيد لفظ» هي نفس الهيئة في مثل: «زيد عالم»، والعرف يفهم النسبة من كلتا الجملتين، بخلاف مثل ما لو أوجدنا الضرب

241

وقلنا: «ضرب»، فإنّ الهيئة المتحصّلة من المجموع المركّب من واقع الضرب وكلمة «ضرب» مباينة سنخاً للهيئة المعهود دلالتها على النسبة، ولهذا كان بالإمكان منع وضعها لإفادة النسبة.

وبذلك اندفع ما أورده المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) على إطلاق اللفظ وإرادة شخصه من النقض بمثل أن نضرب شخصاً ونقول: «ضرب»، فلو صحّ ذاك لصحّ هذا، مع أنّ هذا غير صحيح عرفاً، فهذا يكشف عن نكتة توجب عدم الصحّة في المقام أيضاً(1).

والجواب: ما عرفته من الفرق بين مثل هذا المثال وما نحن فيه، وأنّنا بحاجة إلى هيئة الملفّق من الوسيلتين للنسبة، وهذا مطلب جعليّ بيد الواضع، فيمكن تفسير الفرق بين المثالين بأنّ الواضع وضع هيئة الملفّق من الوسيلتين اللتين كلتاهما لفظيّتان للنسبة، ولو كانت إحداهما إيجاديّة، ولم يضع هيئة الملفّق من فعل ولفظ مثلاً لها.

وقد تبيّن أنّه من المعقول كون مثل «زيد لفظ» عند إرادة تفهيم لفظيّة شخص هذه الكلمة من باب الوسيلة الإيجاديّة.

بقي الكلام في أنّه هل يمكن أيضاً جعله من باب الاستعمال أو لا؟

فقد يقال: إنّ هذا أيضاً ممكن، وقد يقال: إنّه لا يمكن ذلك، فينحصر الأمر في جعله من باب الإيجاد، وقد ذكر في الاستدلال على عدم إمكان جعله من باب الاستعمال وجهان:


(1) كأنّه إشارة إلى ما قاله الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) في نهاية الدراية، ونصّه ما يلي: «فإن صحّ الحمل على الضرب الخارجيّ بقولك: ضربٌ، صحّ الحمل على اللفظ المراد به شخص نفسه، وإلاّ فلا؛ لعدم الفارق أصلاً». راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 67 بحسب طبعة آل البيت.

242

الوجه الأوّل: ما نقله المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)(1) عن صاحب الفصول من لزوم اتّحاد الدالّ والمدلول، في حين أنّهما متضايفان، والتضايف من أقسام التقابل، فلا يعقل اجتماعهما في شيء واحد، كما لا يعقل اجتماع الابن والأب، أو الفوق والتحت في شيء واحد.

وقد أجاب عن ذلك المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) بدعوى كفاية الاختلاف الاعتباريّ والحيثيّ بين الدالّ والمدلول، فمن حيث إنّه مراد يكون مدلولاً، ومن حيث إنّه صادر يكون دالاًّ(2).

وحمل المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) حيثيّة المراديّة في كلام المحقّق الخراسانيّ على إرادة إيجاد اللفظ، وفهم من كلامه أنّه يريد أن يقول: إنّه من حيث كونه لفظاً صادراً من اللافظ يكون دالاًّ، ومن حيث كونه فعلاً اختياريّاً كاشفاً عن الإرادة التكوينيّة يكون مدلولاً، فاعترض عليه بأنّ دلالة ذلك على الإرادة التكوينيّة عقليّة على حدّ دلالة الأكل مثلاً، وسائر الأفعال الاختياريّة على الإرادة التكوينيّة، ونحن كلامنا في الدلالة الاستعماليّة(3).

ولكن لو كان صاحب الكفاية قد اشتبه بين المدلول العقليّ والمدلول الاستعماليّ، للزم أن يكون المدلول هو الإرادة، لا اللفظ، فيصبح التغاير حقيقيّاً، لا اعتباريّاً، وخرج عمّا هو مقصوده من تصحيح استعمال اللفظ في شخصه، فهذا شاهد على أنّ مقصوده من الإرادة ليست هي إرادة إيجاد اللفظ، بل إرادة التفهيم


(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 105 ـ 106 بحسب الطبعة التي حقّقها الشيخ سامي الخفاجيّ.

(2) راجع نفس المصدر، ص 106.

(3) راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 65 بحسب طبعة آل البيت.

243

باللفظ، فهو يقصد أنّ هذا اللفظ من حيث إنّه اُريد به التفهيم دالٌّ، ومن حيث إنّه اُريد تفهيم نفسه به مدلولٌ.

لكن يبقى الكلام في كبرى هذا المطلب، وهو: أنّ التغاير الاعتباريّ هل يكفي لرفع محذور التقابل بين الدالّ والمدلول، أو لا؟

والصحيح: عدم الكفاية في أمثال المقام. وتوضيح الأمر: أنّ المتضايفين على قسمين:

الأوّل: أن يكون التقابل والتعاند بينهما تقابلاً وتعانداً مفهوميّاً فقط، كما في العالم والمعلوم، ويكفي عندئذ التعدّد الاعتباريّ، ويصحّ أن يكون العالم عالماً بنفسه، فيكون هو عالماً ومعلوماً.

والثاني: أن يكون التعاند بحسب مرحلة وجودهما أيضاً لملاك إضافيّ غير مجرّد التضايف، كما في العلّة والمعلول، والسبب والمسبّب، وعندئذ لا يكفي التعدّد الاعتباريّ، فلا يمكن أن يكون الشيء علّة لنفسه ولو باختلاف الحيثيّة الاعتباريّة.

والدالّ والمدلول من هذا القبيل، فالأوّل علّة، والثاني معلول في عالم وجودهما (وإن كان وجودهما وجوداً ذهنيّاً) ولا معنى لكون الشيء علّة لنفسه.

الوجه الثاني: ما ورد في تقريرات المحقّق العراقيّ(رحمه الله) من لزوم الجمع بين اللحاظ الآليّ والاستقلاليّ؛ لأنّ المعنى يلحظ مستقلاًّ، واللفظ الدالّ عليه يلحظ فانياً في المعنى ومرآتاً له، فإذا كان المعنى هو نفس ذلك اللفظ بشخصه، كان معنى ذلك كونه ملحوظاً آليّاً ومستقلاًّ(1).

أقول: إن قلنا: إنّ الاستعمال بابه باب العلامة وذي العلامة لا باب المرآتيّة


(1) راجع نهاية الأفكار، ج 1 و 2، ص 61 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

244

والفناء، حيث إنّ العلامة ليست فانية في ذي العلامة، بل تلحظ باستقلالها، وتوجب في نفس الوقت انتقال الذهن إلى ذي العلامة، إذن لا موضوع لهذا الإشكال.

وإن قلنا: إنّ الاستعمال بابه باب المرآتيّة والفناء، بحيث يكون اللفظ كأنّه مغفول عنه بالمرّة، ويكون التوجّه الاستقلاليّ إلى المعنى، فعندئذ يأتي موضوع هذا الإشكال، إلاّ أنّه ـ كما ترى ـ لا تصل النوبة إلى هذا الإشكال؛ إذ في المرتبة السابقة على ذلك نقول: لا معنى لكون الشيء فانياً في نفسه حتّى تصل النوبة إلى البحث عن أنّ النظر الفنائيّ والنظر الاستقلاليّ كيف يجتمعان؟ فإنّه بغضّ النظر عن اجتماعهما وعدم اجتماعهما لا معنى لأصل فناء الشيء في نفسه.

وهذا الإشكال ثابت بناءً على مسلك الفناء حتّى لو غضضنا النظر عن إشكال صاحب الفصول، فالنفترض أنّ إشكال اجتماع المتضايفين وهو عنوان الدالّ والمدلول حللناه بكفاية التعدّد الاعتباريّ، لكنّا نقول: إنّ أصل فناء الشيء في نفسه شيء لا معنى له.

هذا. وإشكال صاحب الفصول ـ الذي يأتي سواء قلنا بمسلك الفناء أو بمسلك العنائيّة ـ أيضاً إشكال في المرتبة السابقة على إشكال المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، فيقال: إنّه لا يعقل اتّحاد الدالّ والمدلول، سواء فرضنا ذاك الدالّ مرآة إلى نفسه أو علامة عليه حتّى يتكلّم في كيفيّة لحاظ المرآة وذي المرآة، وأنّ اللحاظين هل يجتمعان، أو لا؟

وكان الأولى به(قدس سره) بدلاً عن أن يتشبّث بمثل مسألة اجتماع اللحاظين الآليّ والاستقلاليّ أن يتمسّك بعدم معقوليّة فناء الشيء في نفسه، أو عدم معقوليّة اجتماع الدالّ والمدلول على شيء واحد.

245

المقدّمة

5

 

 

 

 

الخلط الواقع

 

في تبعيّة الدلالة للإرادة

 

 

○ الدلالة الوضعيّة تصوّريّة أو تصديقيّة؟

○ هل الدلالة تابعة للإرادة؟

○ هل اُخذت الإرادة قيداً في المعنى؟

 

 

247

 

 

 

 

 

 

الأمر الخامس: أنّ هناك مطالب ثلاثة وقع عند الأصحاب الخلط بينها، في حين أنّه يختلف كلّ واحد منها عن الآخر محتوىً، وقد لا يكفي ملاك بعضها للباقي، وهي:

1 ـ هل الدلالة الوضعيّة تصوّريّة، أو تصديقيّة؟

2 ـ هل الدلالة الوضعيّة تابعة للإرادة، أو لا؟

3 ـ هل اُخذ في معنى اللفظ قيد الإرادة، أو لا؟

فلنوضّح الكلام في هذه المطالب الثلاثة، وافتراق كلّ واحد منها عن الآخر فنقول:

 

الدلالة الوضعيّة تصوّريّة أو تصديقيّة؟

أمّا البحث الأوّل: وهو: أنّه «هل الدلالة الوضعيّة تصوّريّة أو تصديقيّة؟»، فمضمونه عبارة عن بيان جوهر الدلالة الوضعيّة وحقيقتها، هل هي عبارة عن انتقال الذهن من صورة اللفظ إلى صورة المعنى، أو عبارة عن الكشف عن أمر موجود في نفس المتكلّم؟ وملاك ذلك هو أن نرى أنّ الوضع هل هو عبارة عن

248

التعهّد، أو عبارة عن الاعتبار بمعنىً يشمل مسلك جعل السببيّة الواقعيّة؟(1).

فإن قلنا بالأوّل، بمعنى: أنّ المتكلّم متعهّد بأن لا يتكلّم بكلام إلاّ إذا أراد معنى ذلك الكلام مثلاً، فقد أوجدنا بهذا التعهّد الملازمة بين وجودين خارجيّين: أحدهما: وجود اللفظ، والآخر: وجود المعنى خارجاً، أعني: وجود إرادة المعنى حقيقةً في نفس المتكلّم. ومتى ما عرفنا الملازمة بين وجودين خارجيّين، فلا محالة تصبح المعرفة بأحدهما سبباً للتصديق بالآخر. وهذا معنى الدلالة التصديقيّة.

وإن قلنا بالثاني، كان من المستحيل أن تكون الدلالة الوضعيّة تصديقيّة، ولا تعدو عن كونها تصوّريّة؛ وذلك لأنّ هذا الاعتبار إن أوجد مجرّد القرن بين صورة المعنى وصورة اللفظ في الذهن مثلاً، من دون إيجاد ملازمة خارجيّة بين وجود اللفظ ووجود الإرادة في نفس المتكلّم، فمن الواضح أنّ هذا غاية ما يترتّب عليه هو انتقال الذهن من إحدى الصورتين إلى الاُخرى، ولا معنى للكشف عن وجود الإرادة خارجاً والتصديق بها؛ لأنّ التصديق بها إنّما يكون عن طريق معرفة وجود ما يلازمها خارجاً، حتّى يكون وجود هذا الملازم برهاناً على وجودها، وبدون ذلك لا نملك أيّ برهان على وجودها حتّى تتمّ الدلالة التصديقيّة، ومجرّد الاعتبار أو القرن في الذهن بين صورة اللفظ والمعنى ليس برهاناً على وجود المعنى وإرادته في نفس المتكلّم، وأمّا إن كان هذا الاعتبار عبارة عن إيجاد الملازمة بين إيجاد اللفظ وإرادة المعنى، فهذا عبارة اُخرى عن التعهّد بأن يريد المعنى عند ذكر اللفظ، فقد رجعنا إلى مسلك التعهّد.


(1) أي يشمل نظريّة القرن الأكيد.

249

فإن قلت: إنّنا نفترض أحد طرفي الاعتبار هو اللفظ، والطرف الآخر ليس هو ذات المعنى مطلقاً، بل مقيّداً بالإرادة، فلا محالة يدلّ اللفظ على الإرادة.

قلت: إن كان المقصود بالإرادة مفهوم الإرادة مطلقاً، أصبح مفهوم الإرادة على الإطلاق داخلاً في معنى اللفظ، أي: أنّ معنى «زيد» مثلاً هو زيد المراد، والذهن ينتقل من صورة لفظ «زيد» إلى صورة معنى «زيد المراد». وهذا غير مربوط بالدلالة التصديقيّة، وإن كان المقصود بالإرادة مفهوم إرادة شخص المتكلّم بالخصوص، فحينما يقول خالد مثلاً: «زيد» يكون معناه: «زيد المراد في ذهن خالد»، فأيضاً لم يكن اللفظ كاشفاً عن الإرادة، وإنّما كان ناقلاً للذهن إلى مفهوم إرادة خاصّة، وهي إرادة خالد مثلاً، وهذا غير التصديق بوجود واقع الإرادة، وإن كان المقصود واقع الإرادة، فلا معنى لإيجاد الملازمة بالاعتبار بين لفظ زيد وواقع إرادة معناه، إلاّ التعهّد بأن لا يقول: «زيد» إلاّ إذا أراد معناه، فرجعنا مرّة اُخرى إلى التعهّد.

وقد عرفت فيما سبق أنّ مسلك التعهّد غير صحيح، وأنّ الصحيح هو مسلك الاعتبار بمعنى إيجاد القرن الأكيد بين صورة اللفظ وصورة المعنى، ولو بوسيلة الاعتبار.

إذن فالصحيح: أنّ الدلالة الوضعيّة لا تعدو أن تكون دلالة تصوّريّة، وموجبة للتلازم في عالم الذهن بين صورة اللفظ وصورة المعنى، لا التلازم الخارجيّ بين وجود اللفظ ووجود إرادة المعنى.

نعم، لا إشكال في أنّه تستفاد من ظاهر الكلام الدلالة التصديقيّة أيضاً، لكن هذا يكون باعتبار قرينة الغلبة، بحيث إنّ الغالب في المتكلّم العاقل عن وعي واختيار أنّه لا يتكلّم بكلام على سبيل لقلقة اللسان، وأنّه يقصد به أقوى المعاني

250

المرتبط باللفظ في عالم التصوّر، فهذه الغلبة تكون قرينة سياقيّة على ثبوت الإرادة، فبهذه القرينة تتمّ الدلالة التصديقيّة، وبما أنّ هذه القرينة واضحة ومركوزة في الأذهان أصبحت كالقرينة المتّصلة، فأوجبت الظهور في الكلام في ثبوت الإرادة للمعنى.

فأصل ظهور الكلام في ثبوت إرادة معناه في نفس المتكلّم مسلّم، إلاّ أنّه ليس عن طريق الوضع، وإنّما عن طريق القرينة السياقيّة.

 

هل الدلالة تابعة للإرادة؟

وأمّا البحث الثاني، وهو: أنّه «هل اُخذ في معنى اللفظ قيد الإرادة أو لا؟» فمضمونه يختلف عن مضمون البحث الأوّل؛ إذ في ذاك البحث يطلب جوهر الدلالة، وهنا يطلب حدّها وشرطها، وأنّ الدلالة في طول وجود الإرادة أو لا؟ وملاكه أيضاً ليس هو ملاك ذاك البحث، ففي ذاك البحث كان الملاك في ثبوت الدلالة التصديقيّة بالوضع هو الالتزام بمسلك التعهّد، في حين أنّه هنا لو قلنا بمسلك التعهّد كان نفس القول بهذا المسلك ملاكاً للقول بعدم تبعيّة الدلالة للإرادة؛ لأنّ مسلك التعهّد يقتضي ـ كما عرفت ـ كون الدلالة الوضعيّة تصديقيّة، أي: كاشفة عن الإرادة فكيف يعقل أن يقال بكونها فرع وجود الإرادة؟! فإنّ هذا معناه أن نكون بحاجة إلى أن نحرز من الخارج وجود الإرادة حتّى يتمّ الكشف عندنا، وأنت ترى أنّ كشف الدلالة عن الإرادة بعد فرض إحراز الإرادة من الخارج لغو صرف؛ لأنّه كشف لما هو مكشوف، فلا يمكن تبعيّة الدلالة للإرادة، إلاّ بتأويلات بحيث يرجع الأمر إلى بحث لفظيّ، لا إلى بحث حقيقيّ.

وبكلمة اُخرى: أنّ التعهّد الذي هو ملاك الدلالة الوضعيّة حسب الفرض

251

لا يعقل أن يكون مشروطاً بإرادة المعنى؛ إذ لا معنى محصّل للتعهّد بأنّه عند الإتيان باللفظ يكون قاصداً للمعنى بشرط أن يكون قاصداً للمعنى؛ لأنّ قصد المعنى بنفسه متعلّق للتعهّد، فلا يمكن أخذه شرطاً له، فإذا استحال تقييد التعهّد بذلك؛ استحال تقييد الدلالة التصديقيّة المتحصّلة من التعهّد بذلك.

نعم، يعقل أن يكون التعهّد مشروطاً بطبيعيّ القصد، ويكون المتعهّد به هو كون القصد قصد المعنى الفلانيّ لا المعنى الآخر، فتكون الدلالة التصديقيّة للّفظ تابعة للإرادة، بمعنى: أنّه لابدّ من إحراز طبيعيّ القصد من الخارج، وفي طول ذلك يكون اللفظ كاشفاً عن تعيين متعلّق هذا القصد، وفي مثل هذا الفرض لا يعقل أن تكون للّفظ دلالة وضعيّة على أصل القصد، بل لابدّ لمن يلتزم بمثل هذا التعهّد أن يعترف بأنّ دلالة اللفظ على أصل القصد دلالة سياقيّة غير وضعيّة. وهذا اعتراف بتعقّل الدلالات السياقيّة، وكونها منشأً للكشف عن أمر نفسانيّ، وهذا يعني اعترافه بإمكان الاستغناء عن التعهّد رأساً، وذلك بتفسير الدلالة التي يراد تحصيلها بالتعهّد على أساس السياق بالنحو الذي شرحناه، وهو خلاف مسلك التعهّد.

هذا تمام الكلام بناءً على مسلك التعهّد.

وأمّا إذا بنينا على مسلك الاعتبار، فهل تكون الدلالة تابعة للإرادة، أو لا؟

قد يقال ـ كما في كلمات السيّد الاُستاذ دامت بركاته(1) ـ: إنّ هذه العلقة الاعتباريّة لابدّ من تصويرها بنحو تكون الدلالة تابعة للإرادة.


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، الطبعة المشتملة على تعاليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، ص 31 تحت الخطّ.

252

وحاصل ما ذكروه في تصوير ذلك: أنّ الواضع لم يضع اللفظ للمعنى جزافاً، بل لغرض انتقال الذهن من اللفظ إلى المعنى، لكن لا مطلقاً، بل حينما يريد المتكلّم إفادة المعنى. وأمّا في انتقال الذهن إلى المعنى في غير هذه الحالة، كحال النوم أو صدور اللفظ من الحجر، فليس داخلاً في الغرض العقلائيّ للواضع، ولابدّ للعاقل أن يجعل الوضع على طبق الغرض بأن يضيّق دائرة الوضع، وإلاّ لكان إطلاقه عملاً لغواً. ومرجع ذلك إلى أنّ الدلالة تابعة للإرادة؛ لأنّ الدلالة فرع الوضع، وقد قيّد الوضع.

إلاّ أنّ هذا البيان غير صحيح، وذلك لوجهين:

الأوّل: أنّ هذا البيان لو تمّ فإنّما يتمّ بناءً على أنّ الإطلاق بحاجة إلى مؤونة زائدة، فيقال مثلاً: إنّ الواضع لماذا ارتكب هذه المؤونة بلا فائدة؟ فهذا لغو، ولكنّنا حقّقنا في محلّه أنّ الإطلاق ليس إلاّ عبارة عن مجرّد عدم التقييد، وليست فيه أيّ مؤونة لحاظيّة زائدة.

نعم، لو لم يكن الكلام في مقام الثبوت، بل كان في مقام الإثبات، وفرضت قرينة على أنّه لم يقصد الواضع الوضع إلاّ في مورد يحقّق هذا الغرض، لكنّا نقول بعدم شمول الوضع لغير صورة إرادة التفهيم، من قبيل ما يقال في الاُصول العمليّة من عدم شمول إطلاقها لغير المورد الذي تترتّب عليه ثمرة عمليّة، بقرينة أنّها وضعت لتعيين الوظيفة العمليّة، إلاّ أنّ الكلام هنا في مقام الثبوت، ولا موضوع لفرض القرينة على هذا الاختصاص وعدمه على أيّ حال.

وهذا الوجه من الجواب مبنيّ على المماشاة مع التصوّرات المشهوريّة التي اقتضاها هذا البيان الذي نناقشه، وحقّ الجواب هو الوجه الثاني.

والثاني: أنّ هذا الطرز من التفكير مبنيّ على أنّ الوضع من قبيل سائر