145

 

المقارنة بين السيرتين:

ثُمّ إنّ سيرة العقلاء وسيرة المتشرّعة كما تفترقان ملاكاً من حيث إنّ الثانية تكون معلولة للحكم الشرعيّ، والاُولى تكشف عن الحكم الشرعيّ بقرينة عدم الردع، كذلك تفترقان في النتيجة. ولنذكر لكلّ من مادّتي الافتراق مثالاً، فنقول:

أمّا تماميّة سيرة المتشرّعة دون سيرة العقلاء فكما لو فرض قيام حجّة عقلائيّة في قبال الظهور قد ردع الشارع عنها، كما لو كان القياس حجّة عند العقلاء بمستوى يوجب تقييد الإطلاق، ففي هذا الفرض سوف لن تكون سيرة عقلائيّة بالفعل على العمل في مجالات الشريعة بالإطلاق الذي يخالفه القياس ما لم يرد من الشارع إضافة إلى نفي حجّيّة القياس نفي مانعيّته عن حجّة اُخرى في قباله، بينما لا إشكال في ثبوت سيرة المتشرّعة على العمل بالإطلاق الذي كان في مقابله القياس؛ إذ لو كان غير هذا لذاع واشتهر.

وهذا الفرق في النتيجة بين سيرة العقلاء وسيرة المتشرّعة مبتن على الاقتصار على مجالات السيرة العقلائيّة العمليّة.

أمّا لو قلنا: إنّ عدم ردع الشارع يدلّ على إمضاء النكتة المرتكزة في أذهان العقلاء فبالإمكان إثبات حجّيّة الظهور بنفس السيرة العقلائيّة؛ وذلك لأنّ بناء العقلاء وارتكازهم ثابت على نكتة لتلك السيرة، وهي الحجّيّة الاقتضائيّة للظهور بحيث لولا وجود حجّة اُخرى في مقابله كان ينبغي أن يكون الظهور حجّة.

نعم، إيمانهم بهذه النكتة لا يجرّهم كعقلاء عملاً في مجالات الشريعة إلى العمل بالظهور الإطلاقيّ الذي خالفه القياس. ونكتة ذلك أنّهم من ناحية يحتملون كون القياس مانعاً شرعيّاً عن حجّيّة الظهور، كما قيل في الظنّ المخالف للظهور: إنّه يسقطه عن الحجّيّة رغم عدم حجّيّة نفس الظنّ.

146

ومن ناحية اُخرى ليست أذهانهم مأنوسة بحجّيّة الظهور عند وجود القياس المقيّد، فغاية ما يتحقّق منهم بعد ردع الشارع هي الارتداع عن العمل بالقياس، لا الأخذ بالظهور الذي في قباله.

نعم، ثبت متشرّعيّاً عمل الأصحاب بالظهور المخالف للقياس. وهذا معنى ما قلناه: من أنّه إذا صار القرار على الاقتصار في سيرة العقلاء على دائرة العمل فالذي يدلّنا على حجّيّة الظهور في مثل هذا الفرض هو سيرة المتشرّعة لا العقلاء. وإذا صار القرار على التعدّي إلى النكتة الارتكازيّة لم يبق من هذه الناحية فرق عمليّ بين التمسّك في حجّيّة الظهور بسيرة المتشرّعة والتمسّك فيها بسيرة العقلاء(1).

 


(1) الظاهر أنّ إيمان العقلاء بالحجّيّة اللولائيّة للظهور، أي: حجّيّته لولا حجّيّة ما يقيّده أو يخصّصه، يجرّهم إلى العمل بالظهور في الشرعيّات رغم مخالفته للقياس المقيّد أو المخصّص بعد فرض وصول ردع الشارع عن القياس إليهم؛ لأنّ ما علّقت عليه الحجّيّة في نظرهم قد تحقّق، ويغفلون عن مسألة إمكانيّة جعل الشارع للقياس رغم عدم حجّيّته مانعاً عن حجّيّة الظهور، كغفلتهم عن احتمال عدم رضا الشارع في كلّ سيرهم، وفرضيّة إمكان مانعيّة القياس عن حجّيّة الظهور حتّى إذا كان هو غير حجّة إن كانت موجودة في أذهانهم ولو ارتكازاً منعت ذلك عن ارتكاز الحجّيّة اللولائيّة في ذهنهم، أي: حجّيّة الظهور لولا حجّيّة القياس المخالف له، وإن لم تكن موجودة في أذهانهم إذن سوف يترجمون ارتكازهم بالعمل بالظهور عند ما يعرفون عدم حجّيّة القياس. والتفكيك بين الارتكاز والسيرة العمليّة إنّما يعقل فيما إذا كان مورد تطبيق الارتكاز عملاً وقتئذ منتفياً، كملكيّة المعدن بحيازة كمّيّات كبيرة بواسطة الوسائل الكهربائيّة مثلاً.

ثُمّ إنّه قد نقلت عنه (رضوان الله عليه) في دورته التي لم أحضرها فرضيّة اُخرى

147


لإبراز مورد تفيدنا سيرة المتشرّعة ما لم نكن نستفيده لو انحصر الأمر بسيرة العقلاء.

وتوضيح ذلك: إنّ لإثبات إمضاء السيرة العقلائيّة من قبل الشارع طريقين:

أحدهما: جعل السكوت دليلاً على الإمضاء ببرهان استحالة نقض الغرض.

والثاني: التمسّك بظهور حال الشارع بما هو ذومنصب وصاحب أغراض، ويكون سكوته مفوّتاً لأغراضه المنصبيّة، فظاهر حاله في السكوت هو الرضا، بل بالإمكان جعل ذلك الظهور ظهور حال له بما هو متكلّم فيقال: إنّ المتكلّم الذي جرى ديدنه على الاقتصار في مقام إيصال مرامه على ظواهر الكلام، وعدم الالتزام بالنصوص الصريحة، والإكثار من الاعتماد على الظهور، يكون ظاهر حاله بما هو متكلّم أنّه أراد من السامعين الاعتماد على ظواهر الكلام، فهذا الظهور بنفسه يصبح ظهوراً لفظيّاً بل من أقوى الظهورات اللفظيّة، ولكن لا يمكن الاعتماد على هذا الظهور، سواء فرضناه ظهور حال للشارع بما هو شارع، أو ظهور حال له بما هو متكلّم لإثبات حجّيّة الظهور؛ لأنّه بنفسه ظهور. نعم، لو أمكننا إثبات حجّيّة هذا الظهور بالذات ثُمّ التعدّي من هذا الظهور إلى ظهورات اُخرى من باب دلالة هذا الظهور على حجّيّتها لم يكن به بأس. فلو أنّ أحداً أراد أن يعتمد في مقام إثبات حجّيّة الظهور على سكوت الشارع عن العمل بالظهور بدلالته الحاليّة المنصبيّة أو الكلاميّة على الحجّيّة لا بدلالته العقليّة ببرهان استحالة نقض الغرض، عجز عن التمسّك بحجّيّة الظهور بسيرة العقلاء؛ إذ كان عليه أن يثبت أوّلاً حجّيّة هذا الظهور بالذات، وهذا ليس طريقه عبارة عن الرجوع إلى السيرة العقلائيّة، فإنّ السيرة العقلائيّة بحاجة إلى إمضاء، والإمضاء يثبت ـ بحسب الفرض ـ بالسكوت عن طريق دلالته الحاليّة على الإمضاء، وحجّيّة هذه الدلالة هي محلّ البحث، وإنّما طريقه عبارة عن الرجوع إلى سيرة المتشرّعة بناءً على أنّ لسيرة المتشرّعة قدراً متيقّناً وهو الظهورات

148


القويّة مثلاً، وهذا الظهور الحاليّ من الظهورات القويّة الداخلة في القدر المتيقّن مثلاً، فنثبت حجّيّته بسيرة المتشرّعة التي ليست بحاجة إلى إثبات الإمضاء بالسكوت؛ لما عرفت: من أنّ سيرة المتشرّعة هي في طول رضا الشارع. وإذا ثبتت حجّيّة هذا الظهور ودخولها في القدر المتيقّن من سيرة المتشرّعة أمكن أن نتمسّك بهذا الظهور لإثبات حجّيّة باقي الظهورات التي يعتمد عليها العقلاء؛ لأنّ ظاهر حال الشارع بما هو ذومنصب أو بما هو متكلّم رضاه بعمل العقلاء في الظهورات. وقد ثبتت أوّلاً بسيرة المتشرّعة حجّيّة هذا الظهور.

هذا ما يستفاد ممّا نقل عن اُستاذنا(رحمه الله) في دورته الأخيرة، وكأنّه(رحمه الله) لم يكن ابتداءً بصدد بيان مستقلّ لفائدة سيرة المتشرّعة في مقابل سيرة العقلاء بالنسبة لحجّيّة الظهور، ولذا ترى أنّ هذا الكلام يفيد شيئين كلّ منهما يناسب مقاماً:

أحدهما: بيان فائدة للتمسّك بسيرة المتشرّعة لا تترتّب على مجرّد سيرة العقلاء، ويكفي في ذلك القول بأنّه لو لم نبن على تطبيق قانون استحالة نقض الغرض في المقام إذن لا سبيل لإثبات حجّيّة الظهور بسيرة العقلاء؛ لأنّها بحاجة إلى الإمضاء، ولا يمكن استفادة الإمضاء بقانون نقض الغرض؛ لأنّ المفروض عدم التمسّك به، ولا بظهور الحال؛ لأنّ الكلام في حجّيّة الظهور، ولكن بالإمكان إثبات حجّيّة الظهور بسيرة المتشرّعة؛ لأنّها ليست بحاجة إلى الإمضاء.

ثانيهما: بيان وجه لتعميم حجّيّة الظهور لو قيل بأنّ سيرة المتشرّعة لم تثبت لنا شمولها لكلّ الظهورات بل لها قدر متيقّن، وذلك بدعوى إدخال ظهور الحال هذا في القدر المتيقّن وإثبات حجّيّته، ثُمّ إثبات حجّيّة ما هو خارج عن القدر المتيقّن بهذا الظهور.

أقول: إنّ إرجاع ظهور الحال هذا إلى الظهورات اللفظيّة غير صحيح حتّى إذا كان

149

وأمّا تماميّة سيرة العقلاء دون سيرة المتشرّعة فتكون في موارد عديدة، ونذكر منها مورداً واحداً، ونختار ذلك المورد بالخصوص لكونه بحثاً مفيداً لم يطرق عادة، وهو البحث عن حجّيّة ظهور الفعل.

فالفعل الصادر من الشخص نتصوّر له تارةً دلالة تكوينيّة من باب كشف المعلول عن علّته كدلالة الفعل على الشجاعة أو الجبن، وهذا خارج عمّا نحن فيه. وهذه الدلالة إن كانت علميّة كان العلم حجّة، وإن كانت ظنّيّة دخلت في باب الظنّ العامّ. واُخرى دلالة لغويّة ومربوطة بباب الوضع كدلالة الألفاظ على معانيها، وذلك كالقيام الذي وضع للاحترام.

والكلام هنا في حجّيّة هذه الدلالة الثانية، فمثلاً لو أمر المولى عبده بإكرام كلّ من قصد المولى احترامه ثُمّ رأى العبد قيام مولاه لزيد، فهل يثبت له تعبّداً وجوب إكرام زيد، أو لا؟ لا يمكننا إثبات حجّيّة ذلك بسيرة المتشرّعة، فإنّنا إنّما استكشفنا سيرة المتشرّعة في زمان الشارع على حجّيّة ظهور الألفاظ من أنّه يلزم


ظهور حال للمتكلّم بما هو متكلّم؛ فإنّ هذا ليس ظهور حال بما هو متكلّم بكلام مشخّص كي يصبح ظهوراً لفظيّاً لذاك الكلام، وإنّما هو ظهور حال له بما صدرت منه: من كلمات كثيرة، والظهور المقتنص من مجموع عبائر منفصل بعضها عن بعض، والذي هو جديد غير مستبطن ولو بشكل متقطّع في مجموع العبائر لا يمكن أن يكون ظهوراً لفظيّاً، وإنّما هو ظهور حاليّ. غاية ما هناك أنّ الظهور الحاليّ للإنسان قد يكون بما له من منصب مثلاً، وقد يكون بما هو متكلّم، وهذا لا يعني دائماً أنّه يرجع إلى الظهور اللفظيّ. إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ حجّيّة ظهور الحال والفحوى غير الراجعة إلى الظهور اللفظيّ ليست داخلة في القدر المتيقّن لو فرضنا أنّ سيرة المتشرّعة لها قدر متيقّن وأنّه لم يثبت لنا تحقّقها في كلّ موارد الظهور.

150

من عدمها تال فاسد تأريخيّاً، أمّا ظهور الفعل الذي لم يتّفق في شرعيّاتنا، أو اتّفق نادراً فلا يلزم من فرض عدم السيرة على العمل به تال فاسد تأريخيّاً. ومن الممكن أنّهم كانوا يرجعون في مورد ظهور الفعل إلى الاُصول العمليّة، وليس ذلك تالياً فاسداً بحسب التأريخ، ولكنّا نثبت حجّيّة ذلك بسيرة العقلاء(1).

 


(1) قد يقال: إنّ دلالة الفعل دلالة غير قطعيّة على حكم كلّيّ إلهيّ لعلّها لم تتّفق أصلاً في تأريخ فقهنا. ولكن دلالة الفعل على صغرى من صغريات الحكم الشرعيّ كثيرة من قبيل دلالة المعاطاة في الموارد المختلفة على العقود.

وقد تضاف إلى دلالة الفعل دلالة الفحوى بمعنى ظهور الحال من قبيل إذن الفحوى، فيقال: إنّ حجّيّتها بحاجة إلى سيرة العقلاء، ولا تكفينا سيرة المتشرّعة. ويقصد بهذا الكلام أحد معنيين:

الأوّل: دعوى عدم إمكانيّة إثبات حجّيّة ظهور الحال بسيرة المتشرّعة؛ لعدم كثرة ابتلاء المتشرّعة بمواردها بحيث يمكن إثبات سيرة المتشرّعة.

والجواب: إنّ إثبات الحكم الكلّيّ الإلهيّ بظهور الحال وإن لم يكن كثيراً بل لعلّه منعدم، ولكن إثبات الصغريات بظهور الحال ـ كما في موارد إذن الفحوى في التصرّف ـ كثير.

والثاني: دعوى أنّ إثبات سيرة المتشرّعة في ذلك بحاجة إلى التمسّك بسيرة العقلاء، فإنّه بعد فرض استقرار سيرة العقلاء على ذلك وكشف معاصرتها لزمان المعصوم بالطريق السادس الذي مضى منّا في بحث طرق اكتشاف السيرة المعاصرة للمعصوم، يقال: لو لم يكن المتشرّعة ملتزمين بسيرة العقلاء لكان ذلك ملفتاً للنظر وموجباً للتناقل ولوصل إلينا، ولولا سيرة العقلاء على العمل بظهور الحال لم يكن عدم التزام المتشرّعة به ملفتاً للانتباه، كي نثبت بعدم وصول ذلك إلينا قيام سيرة المتشرّعة على حجّيّة ظهور الحال.

ومن الموارد التي قد تعدّ من موارد الاستفادة من سيرة العقلاء وعدم كفاية سيرة

151


المتشرّعة هو ما قد يقال: من أنّ سيرة العقلاء تفيدنا في مقام تعميم الحجّيّة لكلّ أنحاء ظهور الكلام، فإنّنا لو أردنا التمسّك بسيرة المتشرّعة لإثبات حجّيّة الظهور فمعرفة سيرة المتشرّعة إنّما هي بالحدس والقرائن، فيجب أن يقتصر في مثل هذا الدليل اللبّيّ على القدر المتيقّن. فإذا شكّ في أنّهم هل كانوا يعملون بمطلق مراتب الظهور، أو بأقوى المراتب وجب الاقتصار على القدر المتيقّن. وهذا بخلاف السيرة العقلائيّة التي يمكن تلمّسها وتلمّس مدى سعة وضيق دائرتها بصورة مباشرة باعتبار اطّلاعنا على نكتتها.

وقد نقل عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) أنّه أجاب ـ في الدورة التي لم أحضرها على جعل هذا وما يشبهه كحجّيّة ظهور الحال أو الفعل من موارد الاستفادة من سيرة العقلاء ما لا يمكن استفادته من سيرة المتشرّعة ـ بأنّ سيرة المتشرّعة على حجّيّة الظهور إنّما اكتشفناها عن طريق سيرة العقلاء؛ إذ لولا قيام السيرة العقلائيّة على حجّيّة الظهور لما كان عدم عمل المتشرّعة بالظهور أمراً مهمّاً يتناقل كثيراً ويصل إلينا حتماً، وإنّما كان الأمر كذلك لقيام السيرة العقلائيّة على حجّيّة الظهور ممّا جعل فرض عدم عمل المتشرّعة بالظهور له وقعه في التأريخ، فحصل لنا القطع بأنّه لو كان لبان ولوصل إلينا عبر التأريخ الواصل. وحينئذ نقول: لو كان المتشرّعة يعملون بالظواهر وفقاً لدائرة الحجّيّة العقلائيّة فهو المطلوب. أمّا لو كان عملهم ضمن دائرة أضيق ممّا تقتضيه طباع العقلاء فهذا يعني أنّهم في المقامات الخارجة عن تلك الدائرة الضيّقة كانوا قد تلقّوا من الشارع قاعدة اُخرى غير قاعدة العمل بالظهور، وهذا لو كان لوصل إلينا حتماً. وقال(رحمه الله)بحسب النقل: إنّ هذا لا يعني توقّف دليل على دليل كي يلغى الدليل المتوقّف، بل يعني توقّف اكتشاف سيرة المتشرّعة على ذات سيرة العقلاء بغضّ النظر عن إمضائها المكمّل لدليليّتها.

ومن فروض الافتراق بين السيرتين ما نقل بيانه عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في الدورة

152


الأخيرة التي لم أحضرها: إنّ الثابت من سيرة العقلاء إنّما هو العمل بالظهور وحجّيّته في ظهورات الكلمات المتعارفة فيما بين العقلاء ممّا يكون الغالب فيها مطابقتها للمراد، وخلاف ذلك حالة استثنائيّة. أمّا ما لمسناه من الشريعة الإسلاميّة من غلبة الاعتماد على المقيّدات والمخصّصات والقرائن المنفصلة فهذا يمنع عن التمسّك بسيرة العقلاء؛ لأنّه لم يتعارف بين المجتمعات العقلائيّة تكثير الاعتماد على القرائن المنفصلة كي نرى هل يبنون في هذه الحالة على حجّيّة الظهور، أو لا؟ فعلينا أن نثبت حجّيّة ظواهر الشريعة عن طريق سيرة المتشرّعة فحسب.

قال(رحمه الله): إنّ هذه الشبهة قد تذكر لإبطال التمسّك بسيرة العقلاء لإثبات حجّيّة الظهور كما عرفت.

واُخرى تُذكر لا لإبطال ذلك، بل لإثبات أنّ سيرة العقلاء يمرّ طريق إثباتها عبر ثبوت سيرة المتشرّعة حيث يقال: بما أنّ المتشرّعة عملوا بظواهر كلام الأئمّة(عليهم السلام) رغم إكثارهم من الاتّكاء على القرائن المنفصلة نعرف أنّ سيرة العقلاء شاملة لهذا المورد؛ إذ لولاه لوقع أصحاب الأئمّة ابتداءً في حيرة واسعة من أمر هذه الظهورات، ولكثر السؤال والجواب عن مدى جواز الاعتماد عليها، ولوصلنا ذلك، فهذا شاهد على أنّهم بطبعهم العقلائيّ عملوا بظواهر كلمات الأئمّة(عليهم السلام)(1).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يأتي هنا احتمال أنّ المتشرّعة قبل أن يعرفوا أنّ ديدن الشريعة على فصل القرائن عملوا بطبعهم العقلائيّ بظهورات الشريعة، ثمّ بسكوت الشارع عن ذلك استمرّوا متشرّعيّاً في العمل بعد علمهم بديدن الشريعة، فلا تثبت بهذا سيرة العقلاء على العمل بظهور كلام من يعتمد كثيراً على القرائن المنفصلة.

153


وثالثةً تُذكر لإبطال التمسّك بالسيرة لإثبات حجّيّة الظهور نهائيّاً، فلا سيرة العقلاء تثبت؛ لأنّ طريقة خطابات الشارع غير مألوفة لدى المجتمعات العقلائيّة. ولا سيرة المتشرّعة تثبت؛ لما مضى منّا: من أنّ سيرة المتشرّعة على العمل بالظهور يمرّ طريق إثبات معاصرتها للمعصوم عبر ثبوت سيرة العقلاء، فإذا لم تثبت سيرة العقلاء لم تثبت سيرة المتشرّعة.

قال(رحمه الله): والصحيح ثبوت سيرة المتشرّعة في المقام، وكذلك ثبوت سيرة العقلاء بلاحاجة إلى المرور بسيرة المتشرّعة.

أمّا ثبوت سيرة المتشرّعة فصحيح أنّ إثباته يمرّ عبر ثبوت سيرة العقلاء، لكن ليس المقصود بذلك سيرة العقلاء على العمل بظواهر كلمات الأئمّة(عليهم السلام)، وإنّما المقصود بذلك هو سيرة العقلاء على العمل بظواهر كلماتهم فيما بينهم، فإنّ هذا كاف في أن يكون افتراض اُسلوب آخر للتفاهم مع الأئمّة(عليهم السلام) ملفتاً للانتباه، وموجباً لتكاثر النقول والوصول إلينا.

وأمّا ثبوت سيرة العقلاء بغضّ النظر عن سيرة المتشرّعة فلأنّ سيرة العقلاء لها مجالان: أحدهما مجال الأغراض التكوينيّة، والآخر مجال الإدانة والمسؤوليّة والحجّيّة بين يدي المولى. وكثرة الاعتماد على القرائن المنفصلة إن أوجبت تزلزل السيرة فإنّما هو بلحاظ المجال الأوّل؛ إذ ملاك الحجّيّة في المجال الأوّل هو الكاشفيّة التي تزلزلت بكثرة الاعتماد على القرائن المنفصلة. أمّا في المجال الثاني فنفس كلام المولى له موضوعيّة بمعنى من المعاني.

نعم، لا بأس بأن يقال: إنّ هذا العمل لابدّ وأن يكون بعد الفحص عن المخصّصات والقرائن بقدر الإمكان. إذن فالظاهر أنّ كبرى السيرة العقلائيّة بمرتكزاتها منطبقة على المقام.

154


هذا كلّه لو سُلّم بوجود طريقة غير متعارفة لدى الأئمّة(عليهم السلام) ولم نقل بأنّ هذا المطلب وقعت المبالغة فيه، وإلّا فلا منشأ للشبهة من أساسها. انتهى المنقول عن اُستاذنا رضوان الله عليه.

أقول: أمّا مرور إثبات سيرة المتشرّعة على حجّيّة الظهور عبر ثبوت سيرة العقلاء فإن صحّ بالنسبة لإثبات حجّيّة بعض أقسام الظهور بعد تسليم كبرى حجّيّة الظهور في الشريعة في الجملة، لم يصحّ بالنسبة لإثبات أصل الكبرى؛ إذ لولا كبرى حجّيّة الظهور في الشريعة لكان للظهور بديل آخر كان هو الحجّة؛ إذ لا شكّ أنّ المتشرّعة كانوا يأخذون أحكام الشريعة بطريق من الطرق، وعندئذ يكفي لإثبات سيرة المتشرّعة بالمعنى الأعمّ على العمل بظهور الشريعة مجرّد احتمال ثبوت السيرة العقلائيّة على العمل بالظهور وعدم احتمال ثبوتها على بديل له، فيقال: لو كان عمل المتشرّعة على الظهور كان من المعقول عدم تناقل ذلك؛ لاحتمال أنّها كانت تطابق سيرة العقلاء فلم تنقل، ولو كان عمل المتشرّعة على البديل لكان ينقل لنا ذلك؛ لأهمّيّته وكثرة الابتلاء به، وبهذا يثبت عمل المتشرّعة بالظهور، وهذا بنفسه دليل أيضاً على أنّ سيرة العقلاء على العمل بالظهور الثابتة في زماننا كان ثابتاً وقتئذ.

وأمّا كون بناء العقلاء في مجال الأغراض المولويّة شاملاً لظهورات مولىً يُكثر الاعتماد على القرائن المنفصلة لافتراض موضوعيّة لظهور الكلام، فإنّما يتمّ على تقريب لنا مضى لتفسير ثبوت سيرة العقلاء على حجّيّة الظهور: من تفسيره بأنّ العقلاء جعلوا المولويّات العقلائيّة في حدود ظواهر الكلام. أمّا بناءً على التقريب الذي مضى منه(رحمه الله): من أنّ كلاًّ منهم لو تقمّص قميص المولويّة لجعل الظهور حجّة، فمن الواضح أنّ هذا أيضاً راجع إلى نكتة الكاشفيّة التي فرضنا تزلزلها بالاعتماد على القرائن المنفصلة.

155


وأمّا عدم ابتعاد الشارع كثيراً عن طريقة العقلاء فصحيح على ما نراه من عدم قبول التخصيص والتقييد إلّا في ثوب معقول عقلائيّاً وعرفاً. فمثلاً حينما نقيّد ما ورد: من قبول شهادة مَن لم يعرف فسقه، بما دلّ على اشتراط حسن الظاهر، نقيّده بثوب أنّ المقصود ممّن لا يعرف فسقه مَن لم يعرف فسقه بين المرتبطين به: من إخوانه وجيرانه، لا مَن لم يعرف فسقه لدى الحاكم.

ولعلّ قولهم أحياناً: إنّ العامّ الفلانيّ آب عن التخصيص إشارة إلى فقدان ثوب للتخصيص يقبله العرف، وإن كان من المحتمل كونه إشارة إلى وجود مزيّة خاصّة: من قوّة دلاليّة، أو مناسبة عرفيّة، أو ما شابه ذلك ممّا يجعله آبياً عن التخصيص.

وهناك مورد آخر منقول عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في دورته الأخيرة لفرض الافتراق بين التمسّك بسيرة العقلاء والتمسّك بسيرة المتشرّعة، وهو الظهورات التي تستنبط من قِبَل الفقيه الألمعيّ، والتي لا يلتفت إليها الإنسان الاعتياديّ عادة، والتي تتوقّف على مناسبات الحكم والموضوع، أو نكات اُخرى دقيقة. والظهورات التي تتمّ بدعوى إلغاء خصوصيّة مورد النصّ وتعدّي العرف إلى غير المورد. فظهورات من هذا القبيل تشبه الرأي والقياس، فيتأتّى احتمال مردوعيّتها بأدلّة الردع عن الرأي والقياس. صحيح أنّ أدلّة الردع عن الرأي والقياس لا يتمّ لها إطلاق لمثل هذه الموارد لأنّ هذه الموارد هي على أيّ حال داخلة في باب الظهور اللفظيّ لا في باب التمسّك بذات الرأي والقياس. لكن احتمال شمول النهي عن الرأي والقياس لأمثال هذه الظواهر كاف لعدم إمكانيّة التمسّك بسيرة العقلاء لإثبات حجّيّتها؛ لأنّ التمسّك بها فرع القطع بعدم الردع الملازم للإمضاء، وقد جاء احتمال الردع. ففي مثل هذه الموارد لابدّ من اللجوء إلى سيرة المتشرّعة التي ليس التمسّك بها بحاجة إلى الإمضاء.

156


وقد نقل عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) عدّة أجوبة على هذا الكلام:

الأوّل: أنّ هذا المقدار لا يكفي في الردع عن السيرة بعد فرض انعقادها وعموم نكتتها؛ إذ لابدّ من ردع واضح صريح في إرادة ذلك، فمجرّد التشابه بين بعض الظهورات والقياس أو إعمال الرأي المردوع عنه ـ الذي هو بنفسه قياس مع الفارق ـ لا يشكّل ردعاً، فعدم الردع المناسب ثابت.

الثاني: أنّنا نثبت بسيرة العقلاء حجّيّة الظواهر التي ليست من هذا القبيل، من قبيل العمومات والإطلاقات اللفظيّة، والمقاميّة، والسياقيّة، ثُمّ نتمسّك ببعض هذه الظواهر التي دخلت في القدر المتيقّن لإثبات حجّيّة بقيّة الظواهر. ونذكر هنا طائفتين:

1 ـ ما دلّ على التمسّك والعمل بكتاب الله والسنّة والرجوع إليها. وموضوع هذه الطائفة هو الكتاب والسنّة. فإمّا أن يكون المقصود بذلك الجانب اللفظيّ، وعندئذ يكون مقتضى الإطلاق هو التمسّك بكلّ الدلالات اللفظيّة. وإمّا أن يكون المقصود بذلك هو الجانب المعنويّ، وعندئذ فالإطلاق المقاميّ يقتضي كون المقصود التمسّك بمعاني الكتاب والسنّة عن طريق فهم العقلاء والعرف للكتاب والسنّة، فرجعنا مرّة اُخرى إلى حجّيّة جميع الظهورات.

2 ـ ما دلّ على تحكيم دلالات القرآن ابتداءً، من قبيل رواية عبد الأعلى مولى آل سام التي جاء فيها: «يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله»، وروايات العرض على كتاب الله والأخذ بما وافق وطرح ما خالف كتاب الله. وهذه الطائفة ظاهرة في حجّيّة كلّ الدلالات اللفظيّة العرفيّة للكتاب.

الثالث: أنّ النهي عن العمل بالرأي والقياس لم يكن في بدايات عصر التشريع، وإنّما جاء في زمن متأخّر حيث شاع التمسّك بالقياس. فسيرة العقلاء على حجّيّة كلّ ظهور

157


كانت ثابتة في صدر التشريع، وتمّ إمضاؤها بعدم الردع، فاحتمال الردع يكون راجعاً إلى احتمال نسخ الإمضاء، فيستصحب بقاء الإمضاء. وهذا عمل بإطلاق دليل الاستصحاب، وهذا الإطلاق داخل في القدر المتيقّن ممّا ثبتت حجّيّته بسيرة العقلاء.

الرابع: (وهذا إن لم يكن جواباً تامّاً فهو مؤيّد للجوابين السابقين على أقلّ تقدير) أنّه روي عن الأئمّة(عليهم السلام)التمسّك بأمثال تلك الظهورات، وبالتتبّع يمكن الحصول على مجموعة معتدّ بها من تلك الروايات. فهناك روايات يتمسّك فيها الإمام بالإطلاقات والعمومات العرفيّة، وهذه خارجة عن محلّ الكلام. وهناك روايات وردت بصدد تفسير الآيات سواء كان تفسيراً وفق الظاهر أو خلاف الظاهر، وهذه أيضاً خارجة عن محلّ الكلام. وهناك روايات يتمسّك فيها الإمام(عليه السلام)بظهور لا نعرف وجهه أصلاً، وهي أيضاً خارجة عن محلّ الكلام، وقد تكون مؤيّدة. وهناك روايات يذكر الإمام فيها حكماً ويصير في مقام استفادة ذلك من القرآن، فيتمسّك بظهور ضعيف ممّا هو بحاجة إلى ضمّ مناسبات الحكم والموضوع، أو الالتفات إلى نكتة لا يفهمها إلّا الألمعيّ من الناس، وهذه هي محلّ الشاهد في المقام. وهي روايات كثيرة وإن كانت جملة منها لا تخلو عن المناقشة سنداً أو دلالة. منها ما يلي:

1 ـ ما عن عمر بن يزيد عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: «قال الله تعالى في كتابه: ﴿فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذَىً مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَام أَوْ صَدَقَة أَوْ نُسُك﴾ فمن عرض له أذى أو وجع فتعاطى ما لا ينبغي للمحرم إذا كان صحيحاً فصيام ثلاثة أيّام، والصدقة على عشرة مساكين يشبعهم من الطعام، والنسك شاة يذبحها فيأكل ويطعم، وإنّما عليه واحد من ذلك»(1).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل، ج 9، ب 14 من بقيّة كفّارات الإحرام، ح 2، ص 296.

158


فظاهر كلام الإمام هو تفريع الحكم الذي ذكره على الآية المباركة، بينما لا يمكن استنباط ما ذكره من الآية إلّا بمناسبات الحكم والموضوع، وقد عمّم الحكم لكلّ ما لا ينبغي للمحرم، في حين أنّ الآية إنّما جرت في خصوص حلق الشعر(1).

2 ـ ما عن معاوية بن عمّار قال: «سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن طائر أهليّ اُدخل الحرم حيّاً، فقال: لايمسّ؛ لأنّ الله تعالى يقول: ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾»(2) . فاستدلّ الإمام(عليه السلام)بالآية المباركة لعدم جواز مسّ الطير الداخل في الحرم، في حين أنّ كلمة ﴿مَن﴾ لا تشمل الحيوانات.

3 ـ ما عن محمّد بن مسلم قال: «سألت أحدهما(عليهما السلام) عن رجل كانت له جارية فاُعتقت، فزوّجت، فولدت، أيصلح لمولاها الأوّل أن يتزوّج ابنتها؟ قال: لا، هي حرام وهي ابنته. والحرّة والمملوكة في هذا سواء، ثُمّ قرأ هذه الآية: ﴿وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ﴾»(3).

فإلغاء الإمام(عليه السلام) لخصوصيّة الكون في حجر الزوج وتعدّيه إلى غير ذلك إنّماهو بمناسبات الحكم والموضوع التي جعل القيد وارداً مورد الغالب، كما ادّعاه الفقهاء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) التعميم لا يفهم من الآية ولو بظهور ضعيف، فهذا فهم للإمام(عليه السلام) باعتبار أنّ عنده علم الكتاب لا تمسّك بالظهور، فالرواية أجنبيّة عن المقام.

(2) الوسائل، ج 9، ب 12 من كفّارات الصيد، ح 11، ص 201. وهذا كما ترى خارجعمّا نحن فيه؛ لأنّ تطبيق (مَن) على غير ذوي العقول يكون بعلم الإمام(عليه السلام) لا بظهور ضعيف للكلام.

(3) الوسائل، ج 14، ب 18 من أبواب مايحرم بالمصاهرة ونحوها، ح 2، ص 351.

159


بعد ذلك في هذه الآية(1).

4 ـ ما عن عبد الله بن سنان قال: «قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): على الإمام أن يسمع من خلفه وإن كثروا؟ فقال: ليقرأ قراءة وسطاً يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا﴾»(2). فإنّ حاقّ مدلول هذه الآية غير واضح. ولكن تستظهر منها القراءة بصورة متوسّطة كما استفاده الإمام(عليه السلام).

5 ـ صحيحة زرارة، قال: «قلت لأبي جعفر(عليه السلام): ألا تخبرني من أين علمت وقلت: إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك فقال: يا زرارة، قاله رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ونزل به الكتاب من الله عزّ وجلّ؛ لأنّ الله عزّ وجلّ قال: ﴿فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُم﴾. فعرفنا: أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسل، ثمّ قال: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ﴾. فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه، فعرفنا: أنّه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين، ثمّ فصل بين الكلام فقال: ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُم﴾. فعرفنا حين قال ﴿بِرُؤُوسِكُم﴾: أنّ المسح ببعض الرأس؛ لمكان الباء، ثمّ وصل الرجلين بالرأس، كما وصل اليدين بالوجه، فقال: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَينِ﴾. فعرفنا حين وصلهما بالرأس: أنّ المسح على بعضهما. ثُمّ فسّر ذلك رسول الله(صلى الله عليه وآله)للناس فضيّعوه...»(3).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بل هذا الحديث أجنبيّ عن المقام؛ إذ هذه البنت لم تكن ربيبة لهذا الرجل؛ لأنّها ليست بنت زوجته، وإنّما هي بنت من كانت زوجته، فهذا التعدّي إنّما هو من علم الإمام(عليه السلام) بالكتاب وليس تمسّكاً بظهور ضعيف.

(2) الوسائل، ج 4، ب 33 من القراءة في الصلاة، ح 3، ص 773 و774. واحتمال كون مقصود الإمام(عليه السلام) تفسير الآية لا الاستدلال بها وارد، فتصبح الرواية أجنبيّة عمّا نحن فيه.

(3) الوسائل، ج 1، ب 23 من الوضوء، ح 1، ص 291.

160


فقد استدلّ الإمام(عليه السلام) بالآية المباركة على كون المسح ببعض الرأس لمكان الباء، مع أنّ الباء قيل: إنّها لا تكون للتبعيض بل للإلصاق، ومع ذلك يمكن استفادة التبعيض منها؛ لأنّ إلصاق المسح بالرأس بسبب الباء يشعر عرفاً بتخفيف الإلصاق الذي يكفي فيه مسح البعض.

6 ـ رواية الحسن بن عليّ الصيرفيّ، عن بعض أصحابنا، قال: «سئل أبو عبدالله(عليه السلام)عن السعي بين الصفا والمروة فريضة أم سنّة؟ فقال: فريضة. قلت: أو ليس قد قال الله عزّ وجلّ: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾؟ قال: كان ذلك في عمرة القضاء، إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)شرط عليهم أن يرفعوا الأصنام من الصفا والمروة، فتشاغل رجل ترك السعي حتّى انقضت الأيّام واُعيدت الأصنام، فجاؤوا إليه فقالوا: يا رسول الله، إنّ فلاناً لم يسع بين الصفا والمروة وقد اُعيدت الأصنام. فأنزل الله عزّ وجلّ: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾ أي: وعليهما الأصنام»(1).

فقد استظهر السائل من نفي الجناح في الآية الترخيص ونفي الوجوب، فإنّ الواجب لا يناسب عرفاً أن يعبّر عنه بلا جناح، وإن كان بحسب اللغة لا ضير فيه. والإمام(عليه السلام)قد أمضى هذا الاستظهار، ولكنّه حاول أن يلفته إلى أنّ التعبير بذلك إنّما جاء بلحاظ خصوصيّة واقعة معيّنة كان يتوهّم فيها سقوط السعي، لابتلائه بمحذور تواجد الأصنام، فنفي الجناح ليس بلحاظ أصل عمل السعي بل بلحاظ إتيانه في تلك الحال. وكلّ هذا إعمال عنايات ومناسبات عرفيّة تتدخّل في تشكيل الظهور كما هو واضح.

7 ـ رواية حكم بن الحكم قال: «سمعت أبا عبد الله(عليه السلام) يقول وسئل عن الصلاة في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل، ج 9، ب 1 من السعي، ح 6، ص 511.

161


البيع والكنائس فقال: صلّ فيها قد رأيتها ما أنظفها. قلت: أيصلّى فيها وإن كانوا يصلّون فيها؟ قال: نعم، أما تقرأ القرآن: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً﴾ صلّ إلى القبلة وغرّ بهم»(1).

8 ـ رواية عبد الأعلى مولى آل سام قال: «قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): عثرت فانقطع ظفري، فجعلت على إصبعي مرارة، فكيف أصنع بالوضوء؟ فقال: يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجلّ، قال الله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج﴾امسح عليه»(2).

إلى غير ذلك من روايات ممّا إذا كان في كثير منها مجال للنقاش دلالةً أو سنداً أمكن أن تجعل بمجموعها مؤيّدة للجوابين السابقين.

انتهى ما نقل عن اُستاذنا(رحمه الله) في الجواب على الشبهة الماضية.

وأيضاً نقل عنه(رحمه الله) أنّه قال: وقد يقال: إنّ الدلالات الالتزاميّة العرفيّة ـ وهي الالتزاميّة التي ليست من باب استحالة الانفكاك عقلاً، من قبيل دلالة ما يدلّ على مطهّريّة الماء على طهارته بالالتزام العرفيّ ـ قد ورد الردع عن حجّيّتها في رواية أبان المعروفة التي ردعت أبان عن إنكاره لصحّة كون دية قطع أربعة أصابع من أصابع المرأة أقلّ من دية ثلاثة أصابع، مع أنّه لا شكّ في الدلالة الالتزاميّة العرفيّة لدليل مقدار دية قطع ثلاثة أصابع من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل، ج 3، ب 13 من مكان المصلّي، ح 3، ص 438. وهذا أيضاً خارج عمّا نحن فيه؛ لعدم وجود أيّ ظهور للآية الكريمة في المقصود.

(2) الوسائل، ج 1، ب 39 من الوضوء، ح 5، ص 327. وهذا أيضاً خارج عمّا نحن فيه؛ لعدم ظهور الآية الكريمة إلّا في نفي وجوب المسح على العضو المجروح للحرج، أمّا ما هو البديل فلا يظهر من الآية الكريمة ولو بظهور ضعيف.

162

 

2 ـ تعيين موضوع الحجّيّة

وأمّا الجهة الثانية ـ وهي في البحث عن موضوع حجّيّة الظهور ـ فنقول: إنّ للكلام قسمين من الظهور:

القسم الأوّل: هو الظهور التصوّريّ، وهو عبارة عن إلقاء اللفظ معناه الموضوع له في الذهن. وهذا بابه ليس باب الكشف بل باب العلّيّة والإيجاد، ويكفي في إيجاد المعنى في الذهن الوضع، وكون السامع عالماً به، فعندئذ يؤثّر اللفظ أثره من نقش المعنى في الذهن ولو صدر من جدار لا من إنسان واع.

 


أصابعها على عدم كون مقدار دية قطع أربعة أصابع أقلّ من ذلك.

وهذا الكلام قد يجعل إشكالاً على حجّيّة القطع الناشئ عن طريق العقل. ويجاب عليه بأنّ الإمام لعلّه إنّما عاتب أبان على تقصيره في مقدّمات حصول القطع لا على الالتزام بما قطع به.

وقد يجعل إشكالاً على ثبوت إمضاء الشريعة للسيرة العقلائيّة القائمة على حجّيّة الدلالات الالتزاميّة العرفيّة.

والجواب: أنّ الزجر والتأنيب لم يكن لعدم حجّيّة الدلالة الالتزاميّة العرفيّة، بل كان على تحكيمها على النصّ، حيث سمع أبان بالعراق النصّ على كون دية أربعة أصابع أقلّ من دية ثلاثة أصابع، وردّه بعدم معقوليّة ذلك، بل إنّ الإمام(عليه السلام)ذكر له ذلك مباشرة وبقي مع ذلك مصرّاً على الاستغراب، وهذا ما سمّـاه الإمام(عليه السلام)بالقياس وأ نّبه عليه.

وإن شئت قلت: إنّ وضوح الفرق في الجملة بين الرجل والمرأة في الدية في الشريعة الإسلاميّة لا يبقي للنصّ دلالة من هذا القبيل، فلا يبقى إلّا الاستحسان والقياس.

انتهى المنقول عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله).

163

القسم الثاني: هو الظهور التصديقيّ. وهذا بابه باب الكشف والدلالة، ولا يكفي فيه مجرّد الوضع والعلم به بل يكون متوقّفاً على عدم القرينة المتّصلة. ولهذا الظهور شقّان طوليّان:

الأوّل: الدلالة الاستعماليّة، وهي الدلالة على أنّ المتكلّم قد قصد بإيجاده للفظ إخطار المعنى التصوّريّ الذي مضى ذكره في ذهن السامع. وهذه الدلالة غير موجودة في مثل اللفظ الصادر من الجدار، وتوجد في كلام الإنسان الواعي ولو مع القرينة على كون مقصوده الهزل والاستهزاء ونحو ذلك. نعم، لا توجد مع القرينة المتّصلة على عدم إرادة إخطار ذاك المعنى، كما لو قامت قرينة على إرادة إخطار خلاف ذلك كما في القرينة على المجاز، أو قامت قرينة على مجرّد عدم إرادة تفهيم المعنى الموضوع له.

والثاني: الدلالة الجدّيّة، وهي الدلالة الكاشفة عن كون داعي المتكلّم إلى إخطار المعنى الذي أراد إخطاره هو الجدّ لا الهزل ونحوه، فيقصد حقّاً بمثل: (زيد قائم) الحكاية، وبمثل (صلّ) الطلب التشريعيّ، وهكذا. وهي دلالة سياقيّة تنتفي عند صدور اللفظ من الجدار، وكذلك عند قيام القرينة المتّصلة على الخلاف ولو على مثل الهزل والاستهزاء.

والظهور التصديقيّ بكلا شقّيه يكون في مرحلة عدم القرينة المتّصلة، ولا يكون مشروطاً بعدم القرينة المنفصلة.

فتحصّل: أنّ هناك مرحلتين للظهور:

مرحلة الوضع، وهي مرحلة الظهور التصوّريّ.

ومرحلة عدم القرينة المتّصلة، وهي مرحلة الظهور التصديقيّ.

وأمّا مرحلة عدم القرينة المنفصلة فليست مرحلة للظهور أصلاً، وإنّما هي مرحلة الحجّيّة.

164

وكلمات المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في ذلك مضطربة، ففي بعضها يجعل مرحلة عدم القرينة المنفصلة مرحلة الحجّيّة والكشف، ولفظ الكشف وإن أمكن حمله على معنى الظهور كما يمكن حمله على معنى الحجّيّة، ولكن قد قرن به كلمة الحجّيّة. وفي بعضها جاء التصريح بجعل ذلك مرحلة للظهور، فذكر(رحمه الله): أنّ الظهور التصديقيّ على قسمين: الظهور فيما قال، والظهور فيما أراد. فالأوّل يكفي فيه عدم القرينة المتّصلة، والثاني مشروط بعدم القرينة المنفصلة(1).

والتحقيق: أنّه إن أراد(قدس سره) بالظهور فيما أراد الدلالة الجدّيّة في قبال الدلالة الاستعماليّة كفى فيه عدم القرينة المتّصلة. وإن أراد بذلك البناء على أنّ هذا هو


(1) هذا التشويش واقع فيما هو المنقول في أجود التقريرات عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله)في المجلّد الثاني في بحث الظهور، ص 91. أمّا ما هو المنقول عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في أجود التقريرات في المجلّد الثاني في التعادل والتراجيح، ص 508، فظاهره أنّ القرينة المنفصلة ترفع المرتبة الثانية من الظهور التصديقيّ. وأمّا ما هو المنقول عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في أجود التقريرات في المجلّد الأوّل في العامّ والخاصّ،ص 454 و455، فظاهره أنّ القرينة المنفصلة ترفع حجّيّة الظهور ولا ترفع أصل الظهور. وكلّ هذه التشويشات تنتفي إذا افترضنا أنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله)يقصد بالمرتبة الثانية للظهور التصديقيّ الحجّيّة، فكأنّه يرى للكلام دلالة تصوّريّة، ودلالة تصديقيّة، وحجّيّة للظهور. ويرى أنّ القرينة المنفصلة لا تهدم الظهور ولكن تهدم حجّيّة الظهور. وأمّا مسألة الحاجة إلى أصالة عدم القرينة وعدمها فالذي يظهر من المنقول عن المحقّق النائينيّ(رحمه الله)في أجود التقريرات، المجلّد الثاني في بحث التعادل والتراجيح، ص 508، هو عدم حاجة حجّيّة الظهور إلى أصالة عدم القرينة في القرينة المتّصلة فضلاً عن المنفصلة. وكذا ظاهر ما جاء في نفس المجلّد في بحث الظهور، ص 93، حيث افترض أصالة الظهور في عرض أصالة عدم الغفلة عن ذكر القرينة وغير محتاجة إليها، فراجع.

165

مراد المتكلّم فهو مرحلة الحجّيّة لا الظهور. وإن أراد قسماً آخر للظهور فنحن لا نتعقّله.

وبعد هذا نقول: لا إشكال في أنّ المقصود بحجّيّة الظهور هو إثبات لزوم البناء على الدلالة التصديقيّة الجدّيّة، فإنّ الدلالتين الاُوليين لا علاقة لهما بما هما ـ وبالمباشرة ـ بالوظيفة العمليّة أصلاً. والكلام يقع في أنّ موضوع الحجّيّة هل هو الدلالة التصوّريّة مع عدم العلم بالقرينة على الخلاف، أو الدلالة التصديقيّة مع عدم العلم بالقرينة المنفصلة على الخلاف، أو الدلالة التصديقيّة مع عدم القرينة المنفصلة على الخلاف واقعاً؟ اختار المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) الأوّل، والمحقّق النائينيّ(رحمه الله)الثالث، والمختار هو الثاني.

هذا. ولا يخفى أنّه وإن كان البناء على العمل بالظهور عقلائيّاً في موارد الشكّ في وجود القرينة عدا ما سيأتي استثناؤه ـ إن شاء الله تعالى ـ ممّا لا إشكال فيه، ولكن يقع البحث فلسفيّاً في تحليل جعل الحجّيّة للعقلاء في هذه الموارد، فبناء على ما اختاره المحقّق النائينيّ(رحمه الله)يرجع الأصل العقلائيّ مع الشكّ في وجود القرينة إلى أصلين:

الأوّل: أصالة عدم القرينة.

والثاني: حجّيّة الظهور.

وفائدة الأصل الأوّل هي تنقيح موضوع الأصل الثاني؛ إذ قد اُخذ في موضوع حجّيّة الظهور عدم القرينة المتّصلة والمنفصلة. أمّا القرينة المتّصلة فلأنّ عدمها دخيل في أصل تكوّن الظهور، وأمّا القرينة المنفصلة فلأنّ المفروض في مبناه(رحمه الله)دخل عدمها في حجّيّة الظهور، فلابدّ أوّلاً من إحراز عدم القرينة ولو بالأصل ثُمّ التمسّك بحجّيّة الظهور.

وأمّا بناءً على ما اختاره المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) فلا حاجة إلى أصالة عدم

166

القرينة أصلاً، فإنّ موضوع الحجّيّة ـ بحسب مبناه ـ مركّب من الظهور التصوّريّ، وعدم العلم بالقرينة، وكلا الجزءين محرزان بالوجدان.

وأمّا بناءً على المبنى المختار ففي القرينة المنفصلة لا حاجة إلى دفعها بالأصل؛ لأنّ جزء الموضوع هو عدم العلم بالقرينة المنفصلة وهو ثابت بالوجدان، لا عدم القرينة المنفصلة واقعاً.

وفي القرينة المتّصلة نكون بحاجة إلى دفعها بالأصل؛ لأنّ عدمها دخيل في أصل تكوّن الظهور.

ثُمّ إنّ المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) برهن على عدم الحاجة إلى أصالة عدم القرينة في القرينة المنفصلة بأنّ من المستحيل دخل عدم القرينة المنفصلة في الواقع في الحجّيّة عند العقلاء؛ لأنّ الشيء بوجوده الواقعيّ وبغضّ النظر عن وصوله ولو بمرتبة الوصول الاحتماليّ لا يعقل مانعيّته عن تأثير الظهور المولويّ في جري العقلاء على وفقه؛ لأنّ جري العقلاء عمل اختياريّ من قِبَل العاقل، والعمل الاختياريّ يستحيل أن يتأثّر بأمر خارج عن صقع النفس وغير واصل ببعض مراتب الوصول، فالذي يمكن أن يمنع العقلاء عن العمل بالظهور ليس هو القرينة بوجودها الواقعيّ، بل إمّا هو العلم بوجود القرينة، أو احتماله. والثاني خلف؛ إذ هو يعني سقوط الظهور عن الحجّيّة بمجرّد احتمال القرينة المنفصلة، وهذا مقطوع البطلان فيتعيّن الأوّل(1).

 


(1) واستمرّ(رحمه الله) ـ في نهاية الدراية، ج 2، ص 66 و67 ـ في تكميل البرهان بإسرائه إلى باب القرينة المتّصلة أيضاً ببيان: أنّ الموضوع للحجّيّة ليس هو الظهور الفعليّ (يعني الظهور التصديقيّ) وإنّما هو الظهور الوضعيّ؛ إذ لو كان الموضوع هو الظهور الفعليّ للزم


167


عدم إمكان التمسّك بالظهور عند الشكّ في وجود القرينة المتّصلة ولو بمعونة أصالة عدم القرينة؛ لأنّ البناء على عدم المانع إنّما يجري مع فرض إحراز المقتضي، بينما الشكّ في وجود القرينة يستدعي الشكّ في أصل المقتضي بناءً على كون المقتضي هو الظهور الفعليّ. إذن فموضوع بناء العرف والعقلاء هو الظهور الوضعيّ الذاتيّ، والذي يمنع عن تأثير هذا الظهور في تحقيق الحجّيّة لا يمكن أن يكون هو عدم القرينة المتّصلة واقعاً؛ لأنّ الشيء بوجوده الواقعيّ لايؤثّر في عمل العقلاء وبنائهم، فيجب أن يكون المانع إمّا هو العلم بالقرينة، أو احتمالها. والثاني باطل، فليس مجرّد الاحتمال صارفاً لهم عن العمل بالظهور، حيث إنّه ليس مفهماً لغيره. فالمتعيّن هو الأوّل.

أقول: إنّ قاعدة المقتضي والمانع ليست قاعدة عقلائيّة؛ لأنّ القواعد العقلائيّة لاتكون إلّا كاشفة، لا تعبّديّة محضة، ولا كاشفيّة لهذه القاعدة، والبناء على عدم القرينة ليس من باب البناء على عدم المانع بعد إحراز المقتضي، وإنّما هو من باب ندرة غفلة السامع عن القرينة، إذن فبالإمكان أن يكون موضوع الحجّيّة هو الظهور الفعليّ بوجوده الواصل ولو وصولاً ظنّيّاً من خلال أصالة عدم الغفلة دون كفاية مجرّد الوصول الاحتماليّ. وكان بإمكانه(رحمه الله) أن يترك الحديث عن قاعدة المقتضي والمانع، ويقول ابتداءً: إنّه عند الشكّ في القرينة المتّصلة لا يخلو الأمر من أحد فروض ثلاثة:

1 ـ عدم ثبوت الحجّيّة.

2 ـ ثبوت الحجّيّة على أساس أصالة عدم القرينة.

3 ـ ثبوت الحجّيّة مادمنا غير جازمين بالقرينة المنفصلة بلا حاجة إلى أصالة عدم القرينة.

والأوّل: باطل؛ لأنّ المفروض مسلّميّة أصل الحجّيّة عند الشكّ في القرينة، وإنّما

168

أقول: إنّ هذا الكلام مبنيّ على ما هو المشهور في تفسير السيرة العقلائيّة على جعل الحجّيّة: من أنّها عبارة عن الجري العمليّ للعقلاء طبق الظهور، فيقال: إنّ الواقع بما هو يستحيل أن يؤثّر في عمل العقلاء. أمّا على ما مضى منّا: من تفسير الحجّيّة العقلائيّة بمعنى أنّ كلّ عاقل من العقلاء لو تقمّص قميص المولويّة لجعل


الكلام في أنّ تخريج ذلك فنّيّاً هل هو على أساس أصالة عدم القرينة المنقّحة لموضوع الحجّيّة، أو على أساس دعوى الحجّيّة ابتداءً.

والثاني: يعني دخل واقع القرينة وعدمها في الحساب؛ إذ لولا دخل ذلك لا معنى للتمسّك بأصالة عدم القرينة، بينما لا يعقل دخل الواقعيّات وبقطع النظر عن الوصول في البناءات والأعمال العقلائيّة.

والثالث: هو المقصود، وهو عبارة اُخرى عن كون موضوع الحجّيّة هو الظهور الوضعيّ زائداً عدم العلم بالقرينة على الخلاف.

والجواب: أنّ بالإمكان افتراض أنّ موضوع الحجّيّة هو الظهور الوضعيّ زائداً وصول عدم القرينة وصولاً علميّاً أو ظنّيّاً ناشئاً من غلبة عدم الغفلة من دون كفاية مجرّد وصوله وصولاً احتماليّاً. أو قل: إنّ موضوع الحجّيّة هو الظهور الفعليّ التصديقيّ الواصل عن طريق مجموع أمرين: أحدهما ثبوت الظهور الوضعيّ، والآخر ثبوت عدم القرينة ثبوتاً علميّاً، أو ناشئاً عن غلبة عدم الغفلة دون كفاية مجرّد احتمال عدم القرينة. وأمّا مسلّميّة الحجّيّة عند الشكّ في القرينة المتّصلة فنحن لا نسلّم بها إلّا بحدود ما إذا كان احتمال القرينة ناشئاً من احتمال الغفلة. أمّا إذا نشأ من القطع بتقطيع النصّ مثلاً، كما لو تمزّق جزء من رسالة المولى واحتملنا وجود القرينة المتّصلة في الجزء التالف فلا نسلّم بحجّيّة الظهور كما سيأتي في المتن إن شاء الله تعالى. وهذا كلّه بغضّ النظر عمّا سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في المتن: من إشكال اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) على أصل فكرة أنّ المانع عن الحجّيّة لا يمكن أن يكون أمراً واقعيّاً، وبغضّ النظر عن الوصول.

169

الظهور حجّة على عبيده، فكون واقع مّا بما هو وبغضّ النظر عن الوصول مأخوذاً في موضوع هذا الجعل أمر معقول، كما أنّ الوثاقة مأخوذة في موضوع حجّيّة خبر الواحد. فليكن ما نحن فيه من قبيل حجّيّة خبر الواحد.

نعم، مع هذا نحن نؤمن بالنتيجة التي أرادها المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله): من عدم الحاجة إلى أصالة عدم القرينة المنفصلة، وكفاية عدم العلم بالقرينة، ولكن ببرهان آخر:

وهو: أنّ الاُصول العقلائيّة تكون بحسب طبع العقلاء وارتكازهم، وباعتراف الأصحاب اُصولاً معتبرة بما لها من الكشف، لا اُصولاً تعبّديّة صرفة. ومن الواضح أنّ عدم صدور القرينة المنفصلة على الخلاف إنّما حصل الظنّ به من ناحية نفس ظهور الكلام وغلبة مطابقته للواقع، فلولا ظهور العامّ في العموم ـ مثلاً ـ وغلبة مطابقته للواقع لكان احتمال صدور الخاصّ واحتمال عدم صدوره متساويين، والذي رجّح احتمال عدم صدور الخاصّ إنّما هو صدور العامّ، إذن فالكشف إنّما هو لنفس الظهور الذي شككنا في وجود قرينة منفصلة على خلافه، ولا كاشفيّة إطلاقاً في الرتبة السابقة على ذلك لأصالة عدم القرينة المنفصلة، فلو افترضنا أنّ العقلاء يجرون في الرتبة السابقة على حجّيّة الظهور أصالة عدم القرينة لكان معنى ذلك أنّ أصالة عدم القرينة أصل تعبّديّ محض لديهم. وهذا خلاف دأب العقلاء في اُصولهم العقلائيّة.

وحاصل الكلام: أنّه لا توجد لدينا نكتتان مستقلّتان كلّ منهما توجب الظنّ النوعيّ بشيء كي يفترض وجود أصلين عقلائيّين: أصالة عدم القرينة، وأصالة الظهور. وإنّما هناك نكتة واحدة هي الظهور توجب الظنّ بأنّ المتكلّم أراد ما هو الظاهر من الكلام، ولم يرد خلافه معتمداً على قرينة منفصلة. إذن فالأصل العقلائيّ هنا منحصر بأصالة الظهور نتمسّك بها ما لم نعلم بالقرينة المنفصلة على الخلاف.

إذن فالوجه الثالث من الوجوه الثلاثة التي أشرنا إليها في مستهلّ البحث ـ وهو كون