416

 

دلالة الآية على المفهوم:

أمّا المقام الأوّل: فتارةً يتمسّك بمفهوم الوصف في الآية الشريفة، واُخرى يتمسّك بمفهوم الشرط:

أمّا التمسّك بمفهوم الوصف في الآية الشريفة لإثبات حجّيّة خبر الواحد، فتارةً يكون بدعوى دلالة الوصف بشكل عامّ على المفهوم وهو انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف، فبما أنّ الآية الشريفة وصفت النبأ بكون مَن جاء به فاسقاً، فقد دلّت ـ بناءً على الإيمان بكبرى مفهوم الوصف ـ على عدم وجوب التبيّن إن لم يكن الجائي به فاسقاً، وهو يساوق الحجّيّة كما مضى.

وقد أجابوا على ذلك بمنع المبنى، وهو الإيمان بكبرى مفهوم الوصف، حيث ثبت في محلّه عدم دلالة الوصف على انتفاء سنخ الحكم بانتفائه، خصوصاً في الوصف غير المعتمد على الموصوف كما في الآية الشريفة، فإنّه كاللقب.

واُخرى يكون بدعوى دلالة الوصف على المفهوم في خصوص مورد الآية الشريفة، وإن لم نؤمن بكبرى مفهوم الوصف بشكل عامّ.

وخير تقريب لذلك هو أن يقال: إنّ تعليق الحكم بوصف مع ثبوته في حال آخر، كما لو قيل: (أكرم الرجل العالم) بينما يجب أيضاً إكرام الرجل العادل ولو لم يكن عالماً، يكون بأحد نحوين:

أحدهما: أن يفرض أنّ الحكم في كلا الفرضين جعل بجعل واحد، وإن كان المقدار المبرز بالبيان المشتمل على ذلك الوصف إنّما هو ثبوت ذاك الحكم عند وجود هذا الوصف.

وثانيهما: أن يفرض أنّ الحكم جعل في الفرضين بجعلين، والبيان المشتمل على قيد الوصف بيان لأحد الجعلين.

417

وبما أنّ الثاني كان محتملاً في موارد ذكر الوصف، فسدّ باب احتمال الأوّل لم يكن كافياً للبرهنة على ثبوت المفهوم للوصف، ولكن في خصوص ما نحن فيه لا يكون الثاني محتملاً؛ إذ ليس من المحتمل أن تكون العدالة كالفسق دخيلة في عدم الحجّيّة. وغاية ما يمكن أن يفترض هي عدم كونها ملاكاً للحجّيّة، أمّا كونها ملاكاً لعدم الحجّيّة فغير محتمل، كما هو واضح. وعندئذ فيكون سدّ باب احتمال الأوّل دليلاً على ثبوت المفهوم للآية الشريفة، ونقول: إنّ احتمال الأوّل منفيّ بظهور الآية المباركة؛ إذ حتّى المنكرون لمفهوم الوصف معترفون بانتفاء شخص الحكم بعدم الوصف، ولهذا قالوا: إنّ الأصل في القيد الاحترازيّة. ولهذا ذكروا: أنّ المطلق يحمل على المقيّد عند إحراز وحدة الجعل، وعلى حدّ تعبيرنا نقول: إنّ احتمال الأوّل منفيّ بأصالة تطابق عالم الإثبات لعالم الثبوت، فلو كان الجعل في عالم الثبوت يعمّ حالةً اُخرى غير حالة ثبوت الوصف، وفي عالم الإثبات ربط الحكم بالوصف لزم التخالف بين عالمي الإثبات والثبوت.

وهناك تقريبات(1) اُخرى لاستفادة المفهوم من ذكر الوصف في خصوص الآية الكريمة:

الأوّل: ما يتراءى من كلام الشيخ الأنصاريّ(رحمه الله) من أنّ خبر الواحد إضافة إلى كونه خبراً واحداً قد يكون خبراً قد أتى به الفاسق، وعندئذ فعنوان كون الجائي به فاسقاً عنوان عرضيّ له، بينما عنوان كونه خبراً واحداً هو عنوانه الذاتيّ، وعلّة


(1) البحث من هنا إلى حين الشروع في الردّ على التقريب الماضي لثبوت المفهوم للوصف في خصوص مورد الآية أخذته من تقرير الأخ السيّد علي أكبر ـ حفظه الله ـ لما لم أحضره من الدورة الأخيرة، ولم آخذه ممّا كتبته أنا حين حضوري للبحث لأنّي وجدته أكمل من ذاك.

418

وجوب التبيّن إن كانت هي فسق المخبر فقط فهذا يعني أنّ خبر الواحد بما هو خبر لا يجب التبيّن عنه، وهو معنى حجّيّة خبر غير الفاسق، وإن كانت هي كونه خبراً واحداً من دون دخل للفسق في ذلك، فهذا خلاف ظاهر الآية التي أخذت وصف الفسق في المقام، وإن كانت هناك علّتان لوجوب التبيّن وهما ذات كون الخبر واحداً مع وصف فسق المخبر، فلا يمكن إناطة الحكم بالوصف العرضيّ مادام الوصف الذاتيّ علّة أسبق منه رتبة، والشيء يسند إلى أسبق العلل.

وهذا البيان ـ كما ترى ـ لا يمكن أن يكتمل ما لم يضمّ إليه بياننا؛ إذ بالإمكان كون العلّة هي الوصف العرضيّ وهو الفسق مع احتمال وجود علّة عرضيّة اُخرى وهي العدالة، وهذا لا يدفعه إلّا ما ذكرناه.

على أنّ قاعدة إسناد المعلول إلى أسبق العلل إنّما هي في السبق الزمنيّ لا السبق الرتبيّ.

الثاني: ما جاء في فوائد الاُصول، حيث لم يذكر المحذور العقليّ من لزوم إناطة الحكم إلى أسبق العلل، ولكنّه ذكر محذوراً عرفيّاً، وهو: أنّ العنوان الذاتيّ إذا كان كافياً في ثبوت الحكم فتعليقه على العنوان العرضيّ يكون مستهجناً عرفاً. فقولنا مثلاً: (الدم الملاقي للنجس نجس) يستهجن عرفاً، لكون الدم بذاته نجساً بلا حاجة إلى ملاقاته لنجس آخر.

وهذا الكلام أيضاً ـ كما ترى ـ لا ينفي وحده احتمال كون العدالة وصفاً عرضيّاً آخر يكون كالفسق في المنع عن الحجّيّة، وإنّما ينفي ذلك ببياننا الماضي.

على أنّه يرد على هذا الوجه: أنّه يكفي لمناسبة ذكر الوصف العرضيّ وهو الفسق في الآية التنبيه على القضيّة الخارجيّة من فسق المخبر.

الثالث: ما يمكن أن يكون تعميقاً لبيان الشيخ الأنصاريّ(رحمه الله)، وهو أن يقال: إنّ خبر الواحد في حدّ ذاته إن كان لا يقتضي الحجّيّة فعدم الحجّيّة هنا يكون من باب

419

عدم المقتضي. ولا يسند إلى الفسق كمانع عن الحجّيّة، فإنّ عدم الشيء إذا كان فاقداً لمقتضيه يسند عدمه إلى عدم المقتضي لا إلى وجود المانع، فبدلاً عن أن نقول بأنّ العنوان الذاتيّ أسبق من العنوان العرضيّ نقول: إنّ منشئيّة عدم المقتضي أسبق من منشئيّة وجود المانع. إذن فإسناد عدم الحجّيّة إلى الفسق في الآية الكريمة يدلّ على وجود مقتضي الحجّيّة وهو الخبر، وأنّ الفسق مانع، فخبر غير الفاسق حجّة؛ لأنّ المقتضي وهو ذات الخبر موجود، والمانع وهو الفسق مفقود.

وهذا أيضاً ـ كما ترى ـ لا يمكن تتميمه بغير ضمّ بياننا المتقدّم؛ إذ بدونه يثار احتمال كون العدالة كالفسق مانعاً عن الحجّيّة.

على أنّه يرد عليه: أنّ مقتضي الحجّيّة في الحقيقة هو كاشفيّة الخبر، واحتمال الخلاف هو المانع، وكلّما اشتدّ احتمال الخلاف وكثرت قرائنه اشتدّت المانعيّة، ولا شكّ أنّ الفسق قرينة للخلاف، فهو يوجب تشديد المانعيّة، فبالإمكان أن يقال: إنّ ذكر الفسق في المقام من باب إسناد عدم الحجّيّة إلى المانع الشديد مع كون المقتضي للحجّيّة موجوداً، وهذا لا يمنع عن فرض عدم الحجّيّة عند عدم الفسق؛ لوجود المانع بمستوى خفيف.

وللمحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) هنا في تعليقه على الكفاية بيان لتقريب المفهوم في المقام، وهو: أنّه إن فرض في المقام أنّ الوصف العرضيّ هو العلّة لوجوب التبيّن، أو أنّ مجموع الوصفين الذاتيّ والعرضيّ هو العلّة لذلك ثبت المطلوب، وهو عدم وجوب التبيّن عند انتفاء الوصف العرضيّ، وإن فرض خصوص الذاتيّ علّة، أو فرض أنّ كلاًّ منهما علّة، فهو خلاف ظاهر الآية. وقال: إنّه لا يعقل أيضاً أن يكون هذا الوصف العرضيّ علّة مع وجود وصف عرضيّ آخر وهو العدالة يكون علّة اُخرى للحكم؛ إذ لو فرض الجامع علّة، لكان خلاف ظاهر الآية التي أناطت الحكم بخصوصيّة الفسق، ولو فرض كلّ منهما علّة بعنوانه لزم صدور الواحد من اثنين.

420

وأنت ترى أنّ هذا تقريب لأصل ثبوت المفهوم للوصف، فهو راجع إلى الاستدلال بالكبرى العامّة لمفهوم الوصف، وقد أبطلنا ذلك في بحث المفاهيم(1).

 


(1) إبطال احتمال كون العدالة قائمة مقام الفسق بالبيان الذي ذكره هو استدلال ببيانه لأصل كبرى مفهوم الوصف، ومعه لا تبقى حاجة إلى التعرّض لوجود وصفين هنا، وصف ذاتيّ ووصف عرضيّ، ولا يكون هذا الكلام توجيهاً للاستفادة من نكتة الفرق بين الوصفين، بينما ذكر المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) هذا الكلام كتوجيه لذلك.

والذي أظنّه على ضوء مراجعتي لعبارة المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) في المقام ـ في نهاية الدراية، ج 2، ص 74 ـ هو: أنّه أراد التمسّك في المقام بكبرى مفهوم الوصف، ببيان: أنّه لو حلّ وصف آخر محلّ الوصف المذكور في الكلام وكان الجامع هو العلّة، كان هذا خلاف ظاهر دخل الوصف بعنوانه. ولو حلّ وصف آخر محلّه بأن كان كلّ منهما بعنوانه علّة، كان هذا خلاف قاعدة أنّ الواحد لا يصدر من اثنين، ولكنّه(رحمه الله) فرض أنّ هذا البيان العامّ لإثبات كبرى مفهوم الوصف لا يكفي لإثبات المفهوم في خصوص الآية المباركة إلّا بإضافة نكتة اُخرى إليه؛ وذلك لأنّ الآية المباركة مشتملة على ذكر وصفين، وهما وصف الخبريّة ووصف الفسق، وعندئذ يأتي احتمال أن تكون العلّة هي الجامع بين الوصفين، فيقال: إنّ كون العلّة هي الجامع ليس خلاف ظاهر الكلام؛ لأنّ الكلام لم يشتمل على أحد الوصفين بالخصوص كي يقال: إنّ هذا ظاهر في دخله بعنوانه، بل اشتمل على ذكر كلا الوصفين، وهذا يناسب فرض كون علّة الحكم هي الجامع بينهما، كما يناسب فرض علّيّة المجموع، أو خصوص الفسق، فلابدّ من جواب على احتمال علّيّة الجامع بين هذين الوصفين، كي يتمّ الاستدلال بالمفهوم في المقام.

والجواب على ذلك ـ بحسب ما يفهم من عبارة المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) في المقام ـ هو: أنّه إذا كانت العلّة عبارة عن الجامع بين وصفين أحدهما ذاتيّ موجود في كلّ موارد الحكم وهو خبريّة الخبر، والثاني عرضيّ موجود في بعض موارد الحكم وهو فسق

421


المخبر، فالمفروض هو أن يعلّل الحكم بالذاتيّ الموجود في كلّ موارد الحكم، لا العرضيّ المفقود في بعض الموارد.

ثُمّ قال(رحمه الله): لا يقال: إذا كان كلّ منهما علّة فعند اجتماعهما يكونان معاً علّة واحدة، فالحكم الواحد حيث كان منبعثاً عنهما رتّبه عليهما.

وأجاب على ذلك بما محصّله: أنّ ما رتّب على الوصف لو كان هو شخص الحكم تمّ هذا الإشكال، لكن المفروض على القول بمفهوم الوصف هو أنّ الذي رتّب على الوصف هو كلّيّ الحكم، وعندئذ فلو كان الوصف الذاتيّ الموجود في تمام موارد الحكم كافياً في تحقيق الحكم كان المفروض تعليل الحكم بذاك الوصف الذاتيّ، لا بالوصف العرضيّ الذي قد يفقد في بعض الموارد.

أقول: إنّ هذا الكلام الأخير لا يرجع إلى محصّل إلّا بأن يراد من ترتيب كلّيّ الحكم على الوصف تعليق كلّيّ الحكم عليه لا مجرّد استلزام الوصف للحكم، وهذا لو تمّ كان بنفسه ملاكاً كاملاً لاقتناص المفهوم بلا حاجة إلى قانون أنّ الواحد لا يصدر من اثنين. أمّا الاستدلال على مفهوم الوصف بقانون أنّ الواحد لا يصدر من اثنين فليس بحاجة إلى افتراض التعليق، ولا إلى افتراض كون المعلّق سنخ الحكم وكلّيه، فقوله: «إنّ المفروض على القول بالمفهوم كون المرتّب على الوصف كلّيّ الحكم» في غير محلّه.

وعلى أيّ حال، فسواء أثبتنا مفهوم الوصف بفرض تعليق سنخ الحكم، أو أثبتناه بقانون أنّ الواحد لا يصدر من اثنين، فلا حاجة لنا إلى التعرّض لوجود وصف ذاتيّ في المقام ثابت في كلّ الموارد ووصف عرضيّ غير ثابت في كلّ الموارد، أمّا بناءً على تعليق سنخ الحكم فلأنّ الآية على أيّ حال دلّت على تعليق كلّيّ وجوب التبيّن على الفسق، وهذا كاف في ثبوت المفهوم، وأمّا بناءً على قانون أنّ الواحد لا يصدر من اثنين، فلأنّ أخذ

422

بقي(1) الكلام في الوجه الذي نحن ذكرناه لإثبات المفهوم في المقام: من أنّ العدالة لا يحتمل أن تكون دخيلة في عدم الحجّيّة كالفسق، فإذا تمّ انتفاء شخص الحكم بانتفاء الفسق ثبت انتفاء وجوب التبيّن عند العدالة لا محالة؛ لعدم احتمال شخص آخر للحكم متقوّم بالعدالة.

والتحقيق: أنّ هذا الوجه أيضاً غير تامّ؛ إذ يرد عليه اُمور: أهمّها: أنّ الثابت في المقام ليس هو جعل عدم الحجّيّة، حتّى تكون موضوعيّة خبر الواحد الفاسق وخبر الواحد العادل لذلك مساوقة لكون الفسق والعدالة ملاكين لعدم الحجّيّة، فيقال: إنّ ذلك غير محتمل في جانب العدالة. وإنّما الآية الشريفة تبيّن عدم جعل الحجّيّة وجعل خبر الواحد الفاسق موضوعاً لذلك، ومعنى موضوعيّته لذلك أنّ شيئاً مّن الأجزاء التحليليّة لهذا العنوان ـ ومنها الفسق ـ ليس فيه ملاك لجعل الحجّيّة، فخبر الواحد الفاسق ليس حجّة، ومن المحتمل كون خبر الواحد العادل أيضاً موضوعاً لذلك، ولا يلزم من ذلك عدا عدم كون العدالة ملاكاً للحجّيّة لا كونها ملاكاً لعدم الحجّيّة(2).

 


الفسق في الآية لا محالة ظاهر في دخله بعنوانه في الحكم، ومجرّد ذكر كلا الوصفين لا يبرّر احتمال كون الدخيل هو الجامع بينهما، بل تبقى كفاية الجامع، وعدم دخل الوصف بعنوانه خلاف ظاهر أخذ العنوان، فإذا ثبت أنّ الفسق بعنوانه دخيل في الحكم ثبت المفهوم؛ لأنّ ترتّب الحكم على عنوان آخر أيضاً منفصلاً عنه يستلزم صدور الواحد من اثنين.

(1) من هنا عدنا إلى الدورة التي حضرناها من البحث.

(2) أمّا لزوم لغويّة ذكر الفسق فيكفي في دفعه ترتّب فائدة مّا عليه، كالتنبيه على فسق مَن نزلت الآية بشأنه، أو كون الفسق مقوّياً لانتفاء ملاك الحجّيّة.

423

ويرد أيضاً على هذا الوجه: أنّ هذا البيان لو تمّ فإنّما يثبت حجّيّة خبر الواحد في الجملة لا على الإطلاق؛ وذلك لما يمكن أن يفترض: من حالة اُخرى غير العدالة قد تجتمع مع العدالة، كعدم الظنّ بصحّة الخبر، أو وجود أمارة على خلافه تكون كالفسق ملاكاً لعدم الحجّيّة(1).

وأمّا التمسّك بمفهوم الشرط في الآية الشريفة لإثبات حجّيّة خبر الواحد، فبعد فرض الفراغ عن كبرى دلالة القضيّة الشرطيّة على المفهوم يقع الكلام في المقام في أنّ مقياس اقتناص المفهوم من القضيّة الشرطيّة، هل ينطبق على ما نحن فيه، أو لا؟

وحاصل ما قد يقال في المقام هو: أنّ القضيّة الشرطيّة فيها أركان ثلاثة: الشرط، والموضوع، والجزاء، وهو الحكم، وانتزاع المفهوم عبارة عن عدم ترتّب الحكم على هذا الموضوع عند عدم هذا الشرط، فلابدّ من فرض موضوع محفوظ في كلا جانبي وجود الشرط وعدمه، وليس المراد بالموضوع في المقام ما كان موضوعاً بحسب عالم الجعل والتشريع، أي: تمام ما اُخذ مفروض الوجود في عالم جعله وتشريعه؛ إذ من المعلوم أنّ الشرط داخل في الموضوع بهذا المعنى، بل المقصود من الموضوع في المقام الركن الأساسيّ الذي اُضيف إليه الشرط أوّلاً، واُضيف إليه الحكم في طول إضافة الشرط. وبهذا ظهر أنّ هذا الركن الأساس إن كان ينتفي بانتفاء الشرط كما في مثل: (إن وجد عالم فأكرمه) لم يكن للكلام مفهوم؛ إذ المفهوم ـ كما عرفت ـ عبارة عن انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط،


(1) ويمكن أن يورد أيضاً على هذا الوجه: أنّ ذكر كلمة (الفاسق) وإن كان ظاهراً في دخل الفسق في وجوب التبيّن، لكن يكفي إشباعاً لهذا الظهور افتراض أنّ الفسق دخيل في روح الحكم في المقام، بمعنى تشديده لملاك الحكم، فملاك وجوب التبيّن ثابت في كلّ خبر غير قطعيّ، ولكنّه يشتدّ فيما إذا كان المخبر فاسقاً.

424

والمفروض أنّه لا موضوع عند انتفاء الشرط حتّى ينتفي الحكم عنه، وهذا هو الذي يسمّى بالسالبة بانتفاء الموضوع، فلابدّ أن يكون وجود الموضوع محفوظاً في كلا جانبي وجود الشرط وعدمه حتّى يكون للكلام مفهوم. وعندئذ نأتي إلى محلّ الكلام لنرى أنّ الشرطيّة هل هي من القسم الأوّل، أو من القسم الثاني؟

وأحسن مَن جمع الكلام في المقام هو المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، فنقتصر هنا على ذكر كلامه مع التعليق عليه، ثُمّ بيان ما هو مقتضى التحقيق في المقام فنقول:

قد أفاد المحقّق العراقيّ(قدس سره) في المقام: أنّ موضوع وجوب التبيّن ـ وهو النبأ ـ يتصوّر وقوعه موضوعاً على أنحاء ثلاثة:

الأوّل: أن يكون الموضوع هو ذات النبأ، وتمام المعاني الاُخرى الحاصلة من قوله: ﴿إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ﴾ تكون مندرجة في الشرط لا في الموضوع، فكأنّ الآية قالت: (النبأ إن جاء الفاسق به فتبيّنوا)، ومفهومه انتفاء وجوب التبيّن عند انتفاء مجيء الفاسق بالنبأ. ولانتفاء مجيء الفاسق بالنبأ حالتان: حالة انعدام النبأ بقول مطلق، وحالة مجيئه من ناحية العادل، وانتفاء الجزاء في الحالة الاُولى يكون بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، وفي الحالة الثانية يكون بنحو السالبة بانتفاء المحمول، فالمفهوم بحسب الحقيقة يكون منحلاًّ إلى جانبين، جانب منه يكون من السالبة بانتفاء الموضوع، فيخرج عن باب الدلالة اللفظيّة، وجانب منه يكون من باب السالبة بانتفاء المحمول، فيتمّ المفهوم باعتبار هذا الجانب.

الثاني: أن يكون الموضوع نبأ الفاسق لا ذات النبأ على الإطلاق، فكأنّه قال: (نبأ الفاسق إن جاءكم فتبيّنوا). وعليه ينحصر انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط بالسالبة بانتفاء الموضوع؛ إذ لو لم يجئنا نبأ الفاسق لم يكن نبأ الفاسق الذي هو الموضوع موجوداً حتّى يجب التبيّن عنه أو لا يجب.

الثالث: أن يكون الموضوع النبأ المجيء به، ويبقى الفسق في الشرط، فكأنّه

425

قال: (النبأ الذي جيء به إن كان الجائي به فاسقاً فتبيّنوا). وعندئذ يتمحّض المفهوم في السالبة بانتفاء المحمول بعكس الثاني، فإنّ النبأ الذي فرض أنّه جيء به إن لم يكن الجائي به فاسقاً كان ذلك مساوقاً لمجيء العادل به؛ لأنّ كون النبأ مجيئاً به مفروغ عنه.

ثُمّ استظهر هو(قدس سره) من هذه الاحتمالات الثلاثة الاحتمال الأوّل، ولذا قال بتماميّة المفهوم في الآية الشريفة.

وهذا خير ما اُفيد في المقام في حلّ الخصومة بين الشيخ الأعظم وصاحب الكفاية(قدس سرهما)، حيث إنّ الشيخ الأعظم أنكر مفهوم الشرط في المقام باعتبار أنّ القضيّة هنا مسوقة لبيان تحقّق الموضوع، وكأنّه كان نظره إلى الشقّ الثاني، وصاحب الكفاية صار بصدد حلّ المطلب وتصحيح المفهوم بناءً على ثبوت مفهوم الشرط، وكان نظره إلى الشقّ الثالث، والمحقّق العراقيّ(قدس سره) أوضح بهذا التحقيق أنّ أمر الآية ليس منحصراً في الشقّ الثاني المتمحّض في السالبة بانتفاء الموضوع، أو الشقّ الثالث المتمحّض في السالبة بانتفاء المحمول، بل نلتزم بالشقّ الأوّل، ويكون السلب المنتزع من هذا التعليق سلباً مزدوجاً ينحلّ إلى السلب بانتفاء الموضوع والسلب بانتفاء المحمول، فبلحاظ الأوّل يخرج عن باب المفاهيم، وبلحاظ الثاني يدخل في باب المفاهيم. فيتمّ عندئذ الاستدلال بالآية الكريمة.

والتحقيق: أنّ هذا الكلام لا يرجع إلى محصّل بحسب الصناعة؛ إذ هو خلط بين موضوع القضيّة الشرطيّة، وموضوع الحكم وهو الجزاء. توضيح ذلك:

أنّ الذي يجب انحفاظه في كلتا الحالتين، أي: حال وجود الشرط وانتفائه كي لا يكون النفي من باب السالبة بانتفاء الموضوع إنّما هو موضوع الحكم لا موضوع القضيّة. ومقصودنا بموضوع الحكم وهو الجزاء ما تعلّقت به مادّة الجزاء في المرتبة السابقة على التقييد بالشرط. ومقصودنا بموضوع القضيّة الشرطيّة هو

426

ما في جملة الشرط ممّا هو خارج عن دائرة الفرض والتقدير الشرطيّ. فصحيح أنّ موضوع القضيّة ـ ولو فرضت حمليّة ـ يكون غالباً مقدّر الوجود وبنحو القضيّة الحقيقيّة، ولكن التقدير قد يكون مستتراً كما هو الحال في القضيّة الحمليّة، وقد يكون بارزاً وبأداة الشرط كما هو الحال في شرط القضيّة الشرطيّة، فما كان في جملة الشرط داخلاً في دائرة الفرض والتقدير الشرطيّ فهو الشرط، وما كان فيها خارجاً عن هذه الدائرة ـ ولو كان مقدّر الوجود بالمعنى الثابت في القضايا الحقيقيّة الحمليّة ـ فهو موضوع القضيّة الشرطيّة، وقد يوجد في القضيّة الشرطيّة مضافاً إلى الشرط وموضوع القضيّة شيء ثالث وهو موضوع الجزاء، وهو ما تعلّقت به مادّة الجزاء في الرتبة السابقة على التعليق على الشرط، كما لو قال: (إن جاءك زيد فتصدّق على الفقراء)، فموضوع القضيّة هو زيد، والشرط هو المجيء، وموضوع الجزاء هو الفقراء، والشرط ليس دخيلاً في موضوع الجزاء بالمعنى المقصود هنا، أي: ما تعلّقت به مادّة الجزاء قبل التعليق وإن كان بحسب عالم الثبوت موضوعاً له بمعنى دخله فيما قدّر وفرض في عالم الجعل تثبيتاً للحكم عليه، والتقدير الشرطيّ انصبّ على مفاد جملة الشرط، ومفاده هو النسبة القائمة بين المجيء وزيد في قولنا: (إن جاء زيد)، إلّا أنّ هذه النسبة القائمة بين المجيء وزيد وإن كانت نسبتها إليهما على حدّ سواء؛ إذ كلاهما طرفان لها لكن تقديرها بلحاظ أداة الشرط إنّما يتّجه نحو محمولها لا نحو موضوعها، أعني: أنّ تقدير النسبة في قولنا: (إن جاء زيد) هو تقدير بلحاظ المجيء لا بلحاظ أصل وجود زيد؛ والدليل على ذلك أنّنا لو قدّمنا زيداً على أداة الشرط وقلنا: (زيد إن جاءك فتصدّق على الفقراء) لم نجد فرقاً بين الكلامين من حيث المفاد. وموضوع القضيّة والشرط دائماً متباينان؛ لما عرفت: من أنّ الأوّل خارج عن دائرة الفرض الشرطيّ، والثاني داخل فيها. نعم، كلاهما يجب أن يؤخذا من جملة الشرط في

427

القضيّة الشرطيّة، فجملة الشرط تنقسم إلى قسمين، قسم منها يكون داخلاً في نطاق الفرض والتقدير الشرطيّ، والقسم الآخر يكون داخلاً في نطاق الموضوع الذي هو المركز الرئيسيّ للقضيّة الشرطيّة، وتمييز أحد القسمين من الآخر يكون بيد العرف.

وأمّا موضوع الحكم، أعني: موضوع الجزاء الذي تعلّقت به مادّة الجزاء قبل التعليق، فقد يكون مبايناً لموضوع القضيّة الشرطيّة وللشرط معاً، كما في المثال الماضي، فموضوع الجزاء فيه هو الفقراء وهو غير الشرط، أعني: المجيء، وغير موضوع القضيّة الشرطيّة وهو زيد، وقد يكون متّحداً مع موضوع القضيّة الشرطيّة كما في قولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه)، فموضوع القضيّة وموضوع الحكم كلاهما هو زيد، وقد يكون داخلاً في دائرة الفرض والتقدير وغير مباين للشرط كما في قولنا: (إن أخبرك زيد فلا تعتن)، فموضوع الحكم هو الخبر لا زيد، حيث إنّ المقصود هو عدم الاعتناء بإخباره لا بنفسه، وقد أخذ الخبر في دائرة الفرض والتقدير الشرطيّ، والذي يجب انحفاظه في الحالتين حتّى لا يكون النفي من باب السالبة بانتفاء الموضوع ويتمّ المفهوم إنّما هو موضوع الحكم ولو فرض مبايناً لموضوع القضيّة، وإذا انحفظ موضوع الحكم لا يضرّ عدم انحفاظ موضوع القضيّة، فلو قيل: (إن رزقت ولداً فتصدّق على الفقراء) كان المفهوم ثابتاً لهذا الكلام مع أنّ موضوع القضيّة وهو الولد غير محفوظ عند انتفاء الشرط، وأنت ترى أنّ مفهومه ـ وهو عدم وجوب التصدّق على الفقراء ـ ليس سلباً بانتفاء الموضوع رغم أنّ موضوع القضيّة غير منحفظ، والمفهوم في الحقيقة قوامه بأن يكون للجزاء في الرتبة السابقة على الشرط إطلاق، فيقيّد بعنوان الشرط، فيدلّ هذا التقييد على ارتفاع الحكم عن غير مورد القيد، فإن لم يكن يشمل إطلاقه فرضاً من الفروض لم يعقل أن يقال: إنّ تقييده بالشرط رفع هذا الحكم عن هذا الفرض، فلو قال

428

المولى: (إن جاءك عالم عادل فأكرمه) لم يدلّ بمفهومه على نفي الحكم عن العالم الفاسق، أو العادل الجاهل مثلاً، إلّا على أساس مفهوم الوصف واللقب. أمّا مفهوم الشرط فلا، فإنّ الجزاء لا يدلّ في نفسه إلّا على وجوب إكرام العالم العادل، لعود الضمير في (أكرمه) إلى العالم العادل، ولا يعقل إطلاق الحكم للجاهل أو الفاسق كي يدلّ التقييد على رفعه عنهما فيتمّ المفهوم. وكذلك لو قال: (إن رزقت ولداً فاختنه)، فإنّ الجزاء في نفسه يستحيل شموله لفرض عدم رزق الولد كي يتمّ المفهوم.

وبالالتفات إلى ما ذكرناه يظهر أنّ ما اُفيد في المقام خلط بين موضوع القضيّة وموضوع الحكم، فتشخيص الموضوع بكونه ما عدا ما دخل في دائرة الشرط صحيح بلحاظ موضوع القضيّة لا موضوع الحكم، فجملة الشرط مشتملة على خصوصيّات ثلاث: النبأ، والمجيء، والفسق. فمن الصحيح ما أفاده المحقّق العراقيّ(رحمه الله): من أنّ ما دخل منها في دائرة الشرط يجرّد عن الموضوع، وما بقي خارجاً عن دائرة الشرط كان هو الموضوع، لكن هذا إنّما يرجع إلى موضوع القضيّة الشرطيّة الذي عرفت تباينه دائماً مع الشرط، ولا يرجع إلى موضوع الحكم وهو الجزاء؛ إذ عرفت أنّه قد يتباين مع الشرط وقد لا يتباين، بينما الموضوع الذي يجب انحفاظه على كلا تقديري الشرط وعدمه كي يتمّ المفهوم إنّما هو موضوع الجزاء، وليس موضوع القضيّة الشرطيّة(1).

 


(1) لا يخفى أنّ موضوع القضيّة الشرطيّة هو الذي حملت عليه القضيّة الشرطيّة بما لها من جملة الشرط وجملة الجزاء، والجملة الشرطيّة ليست دائماً تمتلك موضوعاً من هذا القبيل. ولكن لو امتلكت موضوعاً من هذا القبيل فلابدّ من انحفاظها عند انتفاء

429


الشرط كي يتمّ المفهوم؛ لأنّ أصل التعليل الدالّ على المفهوم إنّما فرض في دائرة ذاك الموضوع، وهذا هو المعنى الحقيقيّ لموضوع القضيّة الشرطيّة، وهو الذي ذكره اُستاذنا(رحمه الله)فيما لم أحضره من الدورة الأخيرة ـ على ما يظهر ممّا كتبه بعض المقرّرين ـ ومثّل لذلك بقوله: «إذا التقى الختانان وجب الغسل» بناءً على استظهار أنّ الختانين موضوع للقضيّة الشرطيّة، فتعليق وجوب الغسل على التقاء الختانين إنّما هو في دائرة فرض وجود الختانين، فالقضيّة لا تدلّ بمفهومها بالنسبة لمن أدخل ولم يتمّ بشأنه التقاء الختانين باعتباره لا يمتلك ختاناً على أنّه لم يجب عليه الغسل. وأمّا مثل قولنا: (إن رزقت ولداً فتصدّق على الفقراء)، فليس الولد فيه موضوعاً للقضيّة الشرطيّة كي يقال: إنّ المفهوم تامّ رغم انتفاء موضوع القضيّة الشرطيّة بانتفاء الشرط، وإنّما هو موضوع لجملة الشرط، فالقضيّة الشرطيّة تشتمل على موضوع لجملة الشرط وموضوع لجملة الجزاء، وقد يوجد موضوع لأصل القضيّة الشرطيّة بشرطها وجزائها، ولا محالة يكون ذاك أيضاً داخلاً في موضوع الحكم.

أمّا ما ذكره المحقّق العراقيّ(رحمه الله) في المقام فقد جاء في مقالاته مختصراً(1) وفي نهاية الأفكار(2) مشروحاً، وهو صياغة للمطلب في قالب آخر يختلف شيئاً مّا عن الصياغة التي ذكرها اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)هنا لمرامه. وحاصل ما يستفاد من كلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله)هو: أنّه إذا أردنا أن نعرف ما هو موضوع المفهوم يجب أن نجرّد موضوع الحكم في المنطوق عن القيد الذي اُخذ فيه بواسطة ما فرض دالّاً على المفهوم: من شرط

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ج 2، ص 31 و32.

(2) القسم الأوّل من الجزء الثالث، ص 111 و112.

430


أو وصف أو غاية، وإلّا لما أمكن اقتناص المفهوم في أيّ قضيّة من القضايا إطلاقاً، فلو قال: (إن ركب الأمير يوم الخميس فخذ ركابه)، فيوم الخميس بما أنّه قيد اُخذ في الشرط يجب أن يجرّد موضوع المفهوم عنه؛ إذ معنى دلالة الشرط على المفهوم دلالته على نفي الحكم في فرض انتفاء الشرط، وفي الآية المباركة إن فرض أنّ الشرط هو المجيء فقط، إذن في طرف المفهوم ينفى المجيء فقط، ويبقى النبأ وقيد الفسق داخلين في موضوع المفهوم، ويكون المفهوم: نبأ الفاسق إن لم يجأ به لا يجب التبيّن عنه. وهذه قضيّة سالبة بانتفاء الموضوع. وإن فرض أنّ الشرط هو مجيء نبأ الفاسق، أي: المجيء بكلّ قيوده المذكورة في الآية لا ذات المجيء فحسب، فموضوع المفهوم سيكون مجرّداً عن إضافة النبأ إلى الفاسق أيضاً، كما هو مجرّد عن المجيء، ويصبح المفهوم هكذا: النبأ إن لم يجئ به الفاسق لا يجب التبيّن عنه، وهذا قد يكون مع عدم النبأ أصلاً، وقد يكون مع عدالة الجائي به، فالمفهوم مزدوج من السالبة بانتفاء الموضوع والسالبة بانتفاء المحمول. وإن فرض أنّ الشرط هو إضافة المجيء إلى الفسق فموضوع المفهوم لا يجرّد إلّا عن إضافة المجيء إلى الفسق لا عن أصل المجيء به، فالمفهوم يعني: النبأ المجيء به إن لم يكن الجائي به فاسقاً لا يجب التبيّن عنه، وهذا منحصر في معنى السالبة بانتفاء المحمول. وبما أنّ ظاهر قوله: ﴿إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا﴾ هو كون المجيء بجميع خصوصيّاته وإضافاته المأخوذة في الكلام شرطاً لا ذات المجيء من دون قيوده، ولا إضافة المجيء إلى الفاسق من دون ذات المجيء. إذن فالمتعيّن هو الفرض الثاني، ومعه يكون المفهوم مزدوجاً من السالبتين.

وهذا الكلام ليس فيه تعرّض لموضوع القضيّة الشرطيّة بمعنى ما يوجد في القضيّة الشرطيّة: من مركز خارج عن التقدير الشرطيّ اُضيفت إليه الجملتان الشرط والجزاء، ولا

431


موضوع الجزاء بالمعنى الذي قاله اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، أي: ما هو موضوعه قبل التعليق، ولا فيه خلط بين المعنيين للموضوع.

نعم، هذا الكلام فيه فراغان:

الأوّل: أنّ دخل الشرط في الحكم يتصوّر على نحوين:

أحدهما: دخله فيه على نحو الشرطيّة لذات الحكم، كاشتراط وجوب التصدّق على الفقراء برزق الولد في قولنا: (إن رزقت ولداً فتصدّق على الفقراء)، وهذا ممّا لا إشكال في ضرورة تجريد موضوع المفهوم عنه. وإلّا للزم إنكار أصل مفهوم الشرط وهو خلف.

والثاني: دخله في موضوع الحكم بمعنى كونه قيداً لما تعلّق به الحكم كالفسق في الآية الكريمة؛ إذ لا شكّ أنّ التبيّن الذي اُمر به في الآية إنّما هو التبيّن عن نبأ الفاسق، فليس مجيء نبأ الفاسق يترتّب عليه وجوب التبيّن حتّى عن أنباء العدول، وإنّما يترتّب عليه وجوب التبيّن عن نبأ الفاسق، ولو أنّ أحداً أنكر المفهوم عند دخل الشرط في موضوع الحكم بهذا المعنى لم يكن هذا خلفاً لأصل الإيمان بمفهوم الشرط؛ إذ يبقى مجال لمفهوم الشرط في المورد الذي يكون الشرط شرطاً لذات الحكم، ولا يكون قيداً لمتعلّقه، كما في مثل (إن رزقت ولداً فتصدّق على الفقراء) و(إن جاءك زيد فأكرمه)، نعم يلزم من إنكار المفهوم في ذلك بحجّة دخول القيد في موضوع حكم المنطوق بهذا المعنى إنكار مفهوم الوصف واللقب؛ لأنّهما داخلان في موضوع حكم المنطوق بهذا الشكل، ولا ضير في ذلك؛ إذ ربّ من يؤمن بمفهوم الشرط ولا يؤمن بمفهوم الوصف واللقب.

ولابدّ من سدّ هذا الفراغ بدعوى أنّ العرف ـ بناءً على مذاق الإيمان بمفهوم الشرط ـ يؤمن بمفهوم الشرط حتّى فيما لو شكّل الشرط قيداً لمتعلّق الحكم مادام موضوع الحكم قبل التعليق على الشرط فارغاً عن هذا القيد. فمثلاً لو قال: (النبأ إن جاء به فاسق فتبيّنوا عنه)

432

والصحيح في المقام عدم ثبوت المفهوم للآية الشريفة. توضيح ذلك: أنّه يشترط في انعقاد المفهوم للقضيّة الشرطيّة أمران:

الأوّل: أن يكون لموضوع الحكم في المرتبة السابقة على عروض تقييد عليه من ناحية الشرط إطلاق، حتّى يكون التقييد الشرطيّ هدماً لهذا الإطلاق في المرتبة المتأخّرة وينتزع من ذلك المفهوم، فإن لم يكن له إطلاق في المرتبة السابقة لم يتصوّر تقييده بالشرط في المرتبة المتأخّرة حتّى ينتزع من ذلك المفهوم، فإنّ التقييد فرع وجود إطلاق ذاتيّ للموضوع. فإذا قيل: (إن حيّاك شخص بتحيّة ردّ عليه التحيّة) لم يكن له مفهوم يدلّ على عدم وجوب الردّ قبل الابتداء بالتحيّة؛ لأنّ الردّ في نفسه لا يعقل قبل الابتداء بالتحيّة.

 


لا يقلّ ظهوراً في المفهوم عن مثل (إن جاءك زيد فأكرمه)، رغم أنّ متعلّق التبيّن هو نبأ الفاسق، ولكنّ القيد عرف بالشرط، ولولاه فموضوع التبيّن إنّما هو طبيعيّ النبأ الذي رجع إليه الضمير.

الثاني: أنّه بعد ما نسلّم في نقطة الفراغ الأوّل أنّ قيد موضوع الجزاء لو اُستفيد من الشرط فموضوع المفهوم يجرّد عنه، ونسلّم أنّ الفسق اُخذ في الشرط، ولكن إنّما نجرّد موضوع المفهوم عنه لو لم يكن هناك دالّ آخر على هذا القيد في موضوع الجزاء بحيث يصبح موضوع الجزاء في الرتبة السابقة على الشرط مطلقاً. أمّا لو كان موضوع الجزاء مقيّداً بذلك في الرتبة السابقة على الشرط فلا معنى لاقتناص المفهوم من ناحية الشرط بانتفائه، وإنّما يدخل ذلك في مفهوم الوصف واللقب. إذن فلابدّ أن نعرف أنّ قيد الفسق في موضوع وجوب التبيّن هل هناك دالّ عليه بقطع النظر عن الشرط، أو لا؟ فالمفروض ملء هذا الفراغ باستظهار رجوع الضمير المحذوف في الجزاء إلى طبيعيّ النبأ مثلاً، فلو تمّ هذا الاستظهار تمّ المفهوم في المقام.

433

الثاني: أن لا يكون موضوع الحكم داخلاً تحت دائرة الفرض والتقدير الشرطيّ، وقد عرفت فيما مضى أنّ الموضوع الذي يكون دائماً في قبال الشرط ولا يعقل دخوله تحت دائرة الفرض الشرطيّ إنّما هو موضوع القضيّة، أمّا موضوع الحكم فقد يدخل تحت دائرة التقدير الشرطيّ وقد لا يدخل، فهنا نقول: إنّه يشترط في دلالة القضيّة الشرطيّة على المفهوم أن لا يكون موضوع الحكم داخلاً تحت دائرة الفرض والتقدير الشرطيّ، ودليلنا على ذلك فهم العرف، ولهذا لم يتوهّم أحد دلالة قولك: (إن أخبرك زيد فلا تعتن) بمفهوم الشرط على عدم حرمة الاعتناء بإخبار عمرو، وليس هذا عدا مفهوم اللقب. وهذا بخلاف ما لو قيل: (إن كان الإخبار من زيد فلا تعتن)، والسرّ في الفرق بين المثالين هو ما ذكرناه: من الشرط الثاني، حيث إنّ الإخبار الذي هو موضوع الحكم أصبح في المثال الأوّل داخلاً تحت الفرض الشرطيّ، وفي المثال الثاني كان خارجاً عنه. ولهذا أيضاً ترى الفرق بين قولنا: (إن أكرم زيد عمراً فأكرمه)، أي: أكرم عمراً، وقولنا: (إن أكرم زيد عالماً فأكرمه)، أي: أكرم ذاك العالم، حيث إنّ دلالة الأوّل على المفهوم في غاية الجلاء والوضوح، بينما دلالة الثاني على المفهوم لا تخلو من خفاء وغموض، وليست واضحة كالأوّل. والسرّ في ذلك أنّ موضوع الحكم في المثال الأوّل ـ وهو عمرو ـ لا يحتمل دخوله تحت دائرة الفرض والتقدير؛ لكونه جزئيّاً حقيقيّاً، وموضوع الحكم في المثال الثاني ـ وهو العالم ـ كلّيّ يحتمل دخوله تحت دائرة الفرض والتقدير الشرطيّ(1).

 


(1) شهادة هذين المثالين على صحّة الشرط الثاني عرفاً غير واضحة:

أمّا المثال الأوّل: فقد يكون الفرق بين قولنا: (إن أخبرك زيد فلا تعتن)، وقولنا: (إن كان

434


الإخبار من زيد فلا تعتن) هو: أنّ الضمير المحذوف في الجزاء ـ أي: لا تعتن به ـ يعود في الثاني إلى كلمة الإخبار المذكورة صريحاً في الشرط بمدلول اسميّ، وهذا ظاهره أنّ موضوع الجزاء هو طبيعيّ الإخبار بينما الشرط هو كون الإخبار من زيد، ومن الواضح أنّ الموضوع لا ينتفي بانتفاء الشرط، فكان الكلام دالّاً بمفهومه على أنّه إن كان الإخبار من غير زيد يعتني به، أمّا في قولنا: (إن أخبرك زيد فلا تعتن) فالضمير في الجزاء يعود إلى ما هو مقتنص من الشرط وغير مصرّح به. وكما يمكن أن يقتنص من جملة (أخبرك زيد) عنوان الإخبار كذلك يمكن أن يقتنص منها عنوان إخبار زيد. وعلى الثاني يكون مفهوم الشرط سالبة بانتفاء الموضوع، ويكون الشرط الأوّل منتفياً، ومع الإجمال في مرجع الضمير ووجود احتمال كون القضيّة مسوقة لبيان تحقّق الموضوع لا يتمّ المفهوم، فليس هذا شاهداً لوجود شرط ثان لاقتناص المفهوم.

وأمّا المثال الثاني: فهناك فرق بين قولنا: (إن أكرم زيد عمراً فأكرمه) وقولنا: (إن أكرم زيد عالماً فأكرمه)، وهو: أنّ الضمير في (أكرمه) في الأوّل راجع إلى عمرو، وعمرو إنسان واحد لا يتعدّد بإكرام زيد إيّاه وعدمه، ولذا يكون الظاهر من الكلام أنّ موضوع وجوب الإكرام هو عمرو، وهو لا ينتفي بانتفاء الشرط، بينما الضمير في الثاني راجع إلى عالم، والعالم ليس فرداً واحداً، بل هو متعدّد، ويمكن أن يشار إلى بعضهم بعنوان (من أكرمه زيد) وإلى البعض الآخر بعنوان (من لم يكرمه زيد)، وقد أصبح (عالم) طرفاً للنسبة الناقصة محصّصاً للنسبة التامّة الثابتة بين الإكرام وزيد، وتلك النسبة تخصّص بالقسم الأوّل لا محالة وهو من يكرمه زيد. ومن هنا يأتي احتمال أن يكون مرجع الضمير هو العالم الذي أكرمه زيد، فينتفي الموضوع بانتفاء الشرط، وعلى هذا الاحتمال يكون الشرط الأوّل للمفهوم منتفياً. لذا كان ثبوت المفهوم في الأوّل أوضح منه في الثاني، فهذا لا

435

إذا عرفت ذلك قلنا: إنّ موضوع الحكم في آية النبأ يوجد فيه احتمالان:

الأوّل: أن يكون موضوع الحكم هو نفس الفاسق، بأن يكون التبيّن تبيّناً عن حال الفاسق هل له غرض وداع للكذب في هذه القضيّة، أو لا؟ وهل له عداوة مع مَن نسب إليهم ما يشينهم، أو لا؟

والثاني: أن يكون موضوع الحكم هو النبأ.

أمّا بناءً على الاحتمال الأوّل، فمن الواضح عدم ثبوت المفهوم لهذه القضيّة


يكون شاهداً على وجود شرط ثان لدلالة الشرطيّة على المفهوم.

والصحيح: أنّ موضوع الجزاء إن دخل في التقدير الشرطيّ فإمّا أن يفترض وجود جزء آخر أيضاً في التقدير الشرطيّ غير موجود في موضوع الجزاء، أو يفترض أنّ ما هو داخل في التقدير الشرطيّ هو نحو خاصّ من وجود موضوع الجزاء لا وجوده على الإطلاق، أو لا يفترض شيء من هذا القبيل. فعلى الثاني يكون انتفاء الشرط مساوقاً لانتفاء موضوع الجزاء، فينتفي المفهوم لانتفاء الشرط الأوّل. وعلى الأوّل لا يكون انتفاء الشرط مساوقاً لانتفاء الجزاء، ولا نكتة في كون مجرّد دخول موضوع الجزاء في التقدير سبباً لانتفاء المفهوم بلحاظ الجزء الآخر، أو القيد المأخوذ في التقدير الشرطيّ والذي بانتفائه لا ينتفي موضوع الجزاء.

والحاصل: أنّه لا مبرّر لافتراض شرط ثان لاقتناص مفهوم الشرط، وهو عدم كون موضوع الجزاء داخلاً في التقدير الشرطيّ، وإنّما الصحيح أنّه إن دخل في التقدير الشرطيّ، وكان انتفاء الشرط بانتفائه، فهذا يعني السالبة بانتفاء الموضوع. أمّا لو انتفى الشرط بغير انتفائه فالمفهوم ثابت لا محالة.

ولعلّ هذا هو السرّ فيما رأيته في تقرير بحث اُستاذنا الشهيد في المقام فيما لم أحضره من الدورة الأخيرة: من أنّه لم يتعرّض أصلاً لشرطيّة عدم كون موضوع الجزاء داخلاً في التقدير الشرطيّ.

436

لانتفاء الشرط الأوّل؛ إذ موضوع الحكم ـ وهو الفاسق ـ ليس له في الرتبة السابقة على الشرط إطلاق يشمل فرض العدالة، ويكفي في سقوط دلالة الآية على المفهوم أن يكون هذا الاحتمال وارداً ولو بشكل متساو مع الاحتمال الثاني، بأن تفرض الآية مجملة ومردّدة بين الاحتمالين.

وأمّا بناءً على الاحتمال الثاني، وهو أن يكون التبيّن مضافاً إلى حال نبأ الفاسق لا إلى حال نفس الفاسق، فعندئذ نقول: إنّ في الآية الشريفة كلمتين تدلاّن على عنوان النبأ، أحدهما بنحو بارز، وهي كلمة (النبأ) الواردة في الآية، والاُخرى بنحو مستتر، وهي مادّة (المجيء) في قوله: ﴿إِن جَاءَكُمْ﴾، فإنّ المجيء بالنبأ معناه الإنباء بالنبأ، والفرق بينه وبين النبأ هو الفرق بين الإيجاد والوجود، فمرجع التبيّن يجب أن يكون أحد هذين الأمرين.

فإن فرض مرجع التبيّن هو المجيء، فالشرط الثاني مختلّ؛ لأنّ المجيء اُخذ في دائرة الفرض والتقدير، ولذا ترى أنّه لا يحتمل أحد مفهوم الشرط في قولنا: (إن أنبأك زيد فتبيّن عن ذلك)(1).


(1) قد مضى منّا عدم تماميّة الشرط الثاني من أساسه. وهنا نقول: إنّ التبيّن إذا رجع إلى معنى النبأ المقتنص من ﴿جَاءَكُمْ فَاسِقٌ﴾ أو من (أنبأك زيد)، فكما يحتمل رجوعه إلى طبيعيّ النبأ كذلك يحتمل رجوعه إلى نبأ فاسق أو نبأ زيد، فإنّه كما يمكن اقتناص مفهوم طبيعيّ النبأ من ﴿جَاءَكُمْ﴾ أو (أنبأك) كذلك يمكن اقتناص حصّة من النبأ من ﴿جَاءَكُمْ فَاسِقٌ﴾ أو (أنبأك زيد)، وهي نبأ الفاسق أو نبأ زيد، وهذا الاحتمال الثاني يبطل المفهوم؛ إذ عليه يكون موضوع الجزاء هو نبأ فاسق أو نبأ زيد، وهو ينتفي بانتفاء الشرط، فيكون المفهوم سالبة بانتفاء الموضوع.

لا يقال: إنّ النبأ في قولنا: (إن أنبأك زيد) مصرّح به وليس مقتنصاً. فإنّه يقال: إنّ المعنى المصدريّ مقتنص من الفعل، ولا يمكن رجوع الضمير إلى الفعل من دون تجريده عن معنى الهيئة.

437

وإن فرض مرجع التبيّن هو النبأ قلنا:

أوّلاً: إنّه لا يبعد اختلال الشرط الثاني أيضاً وإن لم نجزم به، فإنّنا قلنا فيما سبق: إنّ تمييز موضوع القضيّة عن الشرط وهو الداخل تحت الفرض والتقدير الشرطيّ يكون بيد العرف. ولا يبعد أن يقال: إنّه بحسب نظر العرف يكون تمام الكلمات في قوله: ﴿إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ﴾داخلة تحت دائرة الفرض والتقدير الشرطيّ ما عدا كلمة (الفاسق). ويشهد لذلك ما تراه: من أنّه لا يتفاوت أبداً مفاد الكلام بتقديم كلمة (الفاسق) عن أداة الشرط أو تأخيره، فلو قلنا: (الفاسق إن جاءكم بنبأ) لم يكن مفاده مختلفاً عن قولنا: (إن جاءكم فاسق بنبأ)، ولا إشكال في قولنا: (الفاسق إن جاءكم بنبأ) في أنّ الفاسق خارج بمقتضى الفهم العرفيّ عن دائرة الفرض والتقدير الشرطيّ، وأنّ باقي الكلمات كلّها داخلة تحت دائرة الفرض.

ولو لم نجزم بما قلناه كفى في إبطال المفهوم احتمال أنّ النبأ في الآية داخل تحت دائرة الفرض، وعدم قيام قرينة ـ ولو من ناحية الارتكاز العرفيّ ـ على خروجه عن تلك الدائرة.

وثانياً: إنّ الشرط الأوّل أيضاً مختلّ في المقام؛ إذ لو كان التبيّن راجعاً إلى كلمة (النبأ) فظاهر الكلام أنّ موضوع الجزاء هو نبأ الفاسق لا طبيعيّ النبأ، فإنّ كلمة (النبأ) وإن كانت بنفسها تدلّ على طبيعيّ النبأ، ولكن بتعدّد الدالّ والمدلول تدلّ على نبأ الفاسق(1). فنفس الكلمة تدلّ على طبيعيّ النبأ، والباء وهيئة الكلام تدلّ


(1) والأولى أن يقال: إنّ مرجع الضمير يصبح مجملاً مردّداً بين طبيعيّ النبأ ونبأ الفاسق، حيث إنّ كلمة (النبأ) دلّت على طبيعيّ النبأ، وبتعدّد الدال والمدلول اُريد نبأ الفاسق، فلا نعلم أنّ الضمير رجع إلى هذا أو ذاك، والإجمال كاف في عدم تماميّة المفهوم.

438

على قيد الفسق؛ وذلك لأنّ النبأ جعل حدّاً ومحصّصاً للنسبة التامّة في قوله ﴿إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ﴾، فالفاسق قد يجيء بالنبأ، وقد يجيء بالفاكهة، وقد يجيء بشيء آخر، فكلمة (النبأ) حصّصت هذه النسبة التامّة بواسطة النسبة الناقصة وصارت حدّاً لها. ومن المعلوم أنّ النبأ الذي يقع حدّاً لنسبة المجيء إلى الفاسق غير النبأ الذي يقع حدّاً لنسبة المجيء إلى العادل، وهذا بخلاف الفاكهة ـ مثلاً ـ في قولنا: (إن جاءكم فاسق بفاكهة فلا تأكلوها)؛ فإنّ الفاكهة لا تتعدّد بكون الجائي بها الفاسق أو العادل، ولكن النبأ يتعدّد بذلك. فحال النبأ حال الكتاب، ولا يتوهّم أحد أنّ قوله: (إن ألّف زيد كتاباً فاقرأه) يدلّ بمفهوم الشرط على أنّه إن ألّف عمرو كتاباً لم تجب قرأته، فإنّ الكتاب يتحصّص، ويكون الكتاب الذي ألّفه زيد غير الكتاب الذي ألّفه عمرو. وهذه قاعدة متّبعة في تمام ما يكون من هذا القبيل، فما يتحصّص لا يكون دالّاً على المفهوم، وما لا يتحصّص يدلّ على المفهوم ما لم يختلّ شرط آخر للمفهوم.

وإنّما لم نقل ـ على تقدير رجوع التبيّن إلى المجيء ـ بكون موضوع الجزاء هو الحصّة ـ أعني: نبأ الفاسق ـ لأنّ المجيء ليس طرفاً للنسبة الناقصة وحدّاً، كما هو الحال في كلمة النبأ، وإنّما هو طرف للنسبة التامّة، والنسبة التامّة تقتضي لحاظ كلّ من طرفيها مستقلاًّ، فالمجيء يدلّ على طبيعيّ المجيء.

هذا كلّه بناءً على أن يكون (النبأ) في الآية الكريمة بمعنى الإخبار، ولكن من القريب عندي ـ وإن كنت لا أجزم به ـ أن يكون الظاهر من (النبأ) في قوله: ﴿إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ﴾ هو المنبأ، بقرينة جعله متعلّقاً لـ ﴿جَاءَكُمْ﴾ الذي هو بمعنى أنبأكم، فكأنّه قال: إن جاءكم فاسق بمنبأ ـ أي: بقصّة ـ كما يقول: أخبرته بخبر، أي: بمطلب مخبر به، وإلّا لكان شبه التكرار، ومن المعلوم أنّ القصّة لا تتعدّد بكون المخبر بها شخصاً فاسقاً أو عادلاً.

439

فإن تمّ هذا الكلام كانت العمدة في الإشكال في المقام هي الإشكال من ناحية الشرط الثاني.

بقي في المقام التعرّض لإشكال آخر على الاستدلال بمفهوم الآية أفاده المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) في تعليقه على الكفاية، وأجاب عليه:

وحاصل الإشكال هو: أنّ موضوع وجوب التبيّن لو كان طبيعيّ النبأ لا نبأ الفاسق، والوجوب المتعلّق بالطبيعيّ يسري لا محالة إلى تمام أفراده، لزم من ذلك أنّه حينما يخبر الفاسق عن نبأ يجب التبيّن حتّى عن أخبار العدول، وهذا خلاف الوجدان، فيكون هذا برهاناً على أنّ موضوع وجوب التبيّن ليس هو طبيعيّ النبأ، بل الحصّة الخاصّة منه وهي نبأ الفاسق، فبانتفاء الشرط ينتفي موضوع الحكم، ويكون المفهوم من السالبة بانتفاء الموضوع. هذا حاصل ما ذكره مع أدنى تغيير.

وأجاب(قدس سره) على ذلك بأنّ المقصود من كون موضوع وجوب التبيّن طبيعيّ النبأ ليس هو الطبيعيّ الملحوظ بنحو الوجود الساري، بل المراد به ذات الطبيعيّ بلا ملاحظة سريانه إلى تمام الأفراد، ولا مانع من أنّه يكون موضوع الحكم في مرتبة الموضوعيّة مطلقاً بهذا المعنى بلا قيد مجيئه من الفاسق أو من العادل، ثُمّ يتقيّد في المرتبة المتأخّرة عن ذلك من ناحية الشرط، ويتحصّص إلى حصّة مضافة إلى الفاسق، وحصّة مضافة إلى العادل، وفائدة الإطلاق في المرتبة السابقة هي انتزاع المفهوم؛ إذ لولا فرض إطلاقه في المرتبة السابقة، وتقييده في المرتبة المتأخّرة لما أمكن انتزاع المفهوم في المقام. هذا خلاصة ما أفاده في مقام الجواب مع أدنى تغيير أيضاً.

والتحقيق: أنّه لا محصّل لهذا الجواب، ولا لذاك الإشكال:

أمّا الجواب فيرد عليه: أنّه إن اُريد بذلك التفصيل بين الإطلاق الملحوظ بنحو الوجود الساري والإطلاق بنحو صرف الوجود بدعوى: أنّ الأوّل يوجب

440

السريان، والثاني لا يوجب السريان، وإطلاق النبأ في المقام في مرتبة موضوعيّته من قبيل الثاني، وباصطلاحنا الماضي في بحث المطلق والمقيّد اُريد التفصيل بين الإطلاق الذاتيّ والإطلاق اللحاظيّ، فالإطلاق الذاتيّ لا يقتضي السريان، والإطلاق اللحاظيّ يقتضي السريان، ففيه ما حقّقناه في ذاك البحث من اقتضاء الإطلاق الذاتيّ أيضاً للسريان.

وإن اُريد بذلك بيان عدم السريان من ناحية التقييد بالشرط في المرتبة المتأخّرة، وأنّ هذا الإطلاق إطلاق مرتبتي لا إطلاق واقعيّ(1)؛ إذ النبأ وإن كان في المرتبة السابقة مطلقاً لكنّه حصّص في المرتبة المتأخّرة بالتقييد بالشرط إلى حصّتين. ففيه: أنّ مصبّ التقييد بالشرط هو الحكم لا الموضوع، أي: أنّ الذي يفحص عنه لا زال هو طبيعيّ النبأ إلّا أنّ وجوب الفحص مشروط بإتيان الفاسق بنبأ، فيعود الإشكال، وهو: أنّه يلزم من ذلك أنّ ورود نبأ من قِبل الفاسق يوجب التبيّن عن كلّ نبأ حتّى أنباء العدول، وهذا غير محتمل، فلابدّ أن يفترض أنّ موضوع وجوب التبيّن هو نبأ الفاسق، ومعه يكون المفهوم سالبة بانتفاء الموضوع.

وأمّا الإشكال فجوابه يكون بانحلال القضيّة، وبما أنّ هذه الآية في نفسها ليس لها مفهوم بحسب الواقع فمن المستحسن أن ننقل هذه المغالطة إلى مثال آخر كي يتّضح الجواب عنها، فلنفرض أنّ الآية كانت هكذا: (النبأ إن جاء به الفاسق فتبيّنوا)، ومعناه أنّ طبيعيّ النبأ إن جاء به الفاسق فتبيّنوا عنه، فيقال: إنّه يلزم من ذلك وجوب التبيّن عن نبأ العادل أيضاً بواسطة ثبوت نبأ الفاسق، وهذه مغالطة


(1) الظاهر أنّ هذا هو مقصود المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) لا التمسّك لنفي سريان الحكم بعدم لحاظ السريان. وإنّما ذكر عدم لحاظ السريان في الرتبة السابقة على الشرط تمهيداً لبيان تقيّد الإطلاق بالشرط؛ إذ لو لوحظ السريان في مرتبة الموضوع لم يعقل التقييد بعد ذلك.