652

على أساس حساب الاحتمالات كما لو علمنا بنجاسة إحدى الأواني التي رأيناها معرّضة لاستعمال الكفّار ـ مثلاً ـ على أساس استبعادنا بحساب الاحتمالات لعدم استعمالهم لشيء منها صدفة إلى حدّ ذاب احتمال عدم ذلك؛ لضعفه في نفوسنا.

فإن كان العلم الإجماليّ قائماً على أساس البرهان ـ كما في إخبار المعصوم بنجاسة أحد الإناءين ـ فلا محالة يستلزم العلم بقضايا شرطيّة مقدّمها نفي بعض الأطراف، وتاليها إثبات بعض الأطراف الاُخرى؛ لوضوح أنّنا لو علمنا من الخارج بطهارة أحد الإناءين المفترض إخبار المعصوم بنجاسة أحدهما حصل لنا العلم بنجاسة الآخر بنفس البرهان الذي ولّد العلم الأوّل، وهو برهان العصمة؛ لأنّ فرض انتفاء المعلوم بالإجمال في طرف معيّن لا يُفني ذاك البرهان.

أمّا لو كان العلم الإجماليّ نتيجة لحساب الاحتمالات كالعلم بنجاسة إحدى الأواني المئة نتيجة تجمّع مئة قوى احتماليّة واستبعاد احتمال عدم استعمال شيء منها من قبل الكفّار الذين كانت هذه الأواني في معرض استعمالهم، فتمركز هذه القوى الاحتماليّة في مقابل احتمال واحد، وضعف ذاك الاحتمال وهو طهارة الجميع، أوجب زوال ذاك الاحتمال من النفس، فهذا العلم الإجماليّ لا ينحلّ إلى علوم بقضايا شرطيّة مقدّمها نفي بعض الأطراف، وتاليها إثبات المعلوم بالإجمال في الباقي، فلا نستطيع أن نقول ـ مشيرين إلى تسعة وتسعين من هذه الأواني ـ: لو كانت هذه طاهرة إذن فالإناء الآخر هو النجس؛ لأنّ فرض طهارتها كشرط في القضيّة الشرطيّة يعني فرض غضّ النظر عن تسعة وتسعين قوى احتماليّة، فالقوى المئة غير مجتمعة على إثبات نجاسة هذا الإناء على تقدير طهارة الباقي، ولذا لو علمنا بطهارة التسعة والتسعين لم يحصل لنا العلم بنجاسة الفرد الأخير من المئة، وكذلك لا نعلم بأنّه على تقدير طهارة واحد معيّن منها يكون النجس في الباقي؛ لأنّ هذا التقدير يعني تقدير فقد قوّة واحدة من القوى المئة، والمفروض أنّ منشأ

653

العلم إنّما هو القوى المئة، وإلّا لحصل العلم الإجماليّ في تسعة وتسعين منها، فظهر أنّ العلم بالقضايا الشرطيّة الذي جعله علماء الاُصول حتّى اليوم لازماً ذاتيّاً للعلم الإجماليّ ليس لازماً ذاتيّاً له على الإطلاق، بل يدور العلم بالقضايا الشرطيّة في عرض نفس العلم الإجماليّ مدار منشأ ذلك العلم الإجماليّ، فإن كان المنشأ مختلاًّ على تقدير عدم بعض الأطراف ـ كما في العلم الإجماليّ القائم على أساس حساب الاحتمالات ـ لم يحصل العلم بالقضايا الشرطيّة، وإلّا ـ كما في العلم الإجماليّ القائم على أساس البرهان ـ حصل العلم بالقضايا الشرطيّة.

إذا عرفت ذلك قلنا في المقام: إنّه لا يتولّد لنا علم إجماليّ ثالث، ولأجل التوضيح نفترض الآن: أنّ المعلوم بالإجمال صدقه من الأخبار الإلزاميّة واحد، فنقول: إنّنا وإن كنّا نعلم إجمالاً بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو عند رؤية الشمس، وكذلك نعلم إجمالاً بحرمة الدعاء عند رؤية الهلال، أو حكم إلزاميّ آخر، ولكن العلم الإجماليّ الثاني لا ينحلّ إلى العلم بقضايا شرطيّة بأن نفترض العلم بأنّه لو لم يكن الدعاء عند رؤية الهلال حراماً، إذن فهناك حكم إلزاميّ آخر؛ لأنّ العلم الإجماليّ الثاني إنّما كان وليداً لتجمّع الاحتمالات، وقد عرفت أنّ مثل هذا العلم لا ينحلّ إلى العلم بقضايا شرطيّة كي يكون علمنا بصدق الشرط في بعض القضايا الشرطيّة مساوقاً للعلم الإجماليّ الثالث، وهو العلم بفعليّة بعض الجزاءات.

هذا إذا افترضنا أنّ المعلوم بالإجمال في دائرة الأخبار الإلزاميّة واحد، أمّا إذا افترضناه عشرة ـ مثلاً ـ فيأتي فيه أيضاً عين البيان، إلّا أنّه يجعل مصبّ الكلام هو العاشر.

المقام الثاني: في كفاية العلمين الأوّلين وعدمها في تنجيز مادّتي الافتراق بعد فرض الفراغ عن عدم وجود علم إجماليّ ثالث.

654

ولا يتوهّم أنّ هذا البحث بالنسبة لجانب هذا الخبر الإلزاميّ غير مثمر؛ لأنّ المعلوم بالإجمال في دائرة الأخبار الإلزاميّة مقداره أكثر من مقدار مادّة الاجتماع بين العلمين، فيوجد ـ لا محالة ـ علم إجماليّ في دائرة الأخبار الإلزاميّة حتّى بقطع النظر عن مادّة الاجتماع، وهو كاف في تنجيز هذا الخبر الإلزاميّ.

فإنّ هذا التوهّم مدفوع بأنّه وإن كان المعلوم بالإجمال أكثر من مقدار مادّة الاجتماع بين العلمين، فمادّة الاجتماع فرد واحد والمعلوم بالإجمال عشرة مثلاً، لكن المقصود هو بيان تنجّز العاشر بحيث لو ارتكب الجميع عوقب بعقابات عشرة لا تسعة.

والتحقيق: أنّ هذين العلمين ينجّزان مادّتي الافتراق، ويكون الاحتياط فيهما واجباً؛ لأنّ كلّ واحدة منهما طرف لعلم إجماليّ، والعلمان وإن عجزا عن تنجيز مادّة الاجتماع لتعاكسهما في التأثير لكن هذا لا يمنع عن تأثيرهما في مادّتي الافتراق.

ويمكن أن يتخيّل بأحد الوجوه سقوط العلمين عن التأثير حتّى في مادّتي الافتراق:

منها: قياس ما نحن فيه بباب الاضطرار إلى أحد أطراف العلم الإجماليّ بعينه بأن يقال: إنّ مادّة الاجتماع حالها حال ذلك الفرد المضطرّ إليه، فكما يسقط العلم الإجماليّ في ذاك الباب عن التأثير حتّى بالنسبة للفرد غير المضطرّ إليه كذلك الأمر فيما نحن فيه.

ويرد عليه: أنّ القياس مع الفارق؛ إذ في باب الاضطرار يكون التكليف على فرض وجوده في جانب المضطرّ إليه مرفوعاً بالاضطرار، فليس لنا علم بالتكليف على كلّ تقدير، ويصبح احتمال التكليف في الجانب الآخر شكّاً بدويّاً. وأمّا فيما نحن فيه، فنحن غير مضطرّين إلى مادّة الاجتماع ولا إلى تركه، وإنّما نحن مضطرّون إلى جامع المخالفتين الاحتماليّتين، أي: إلى الجامع بين الفعل والترك؛ لاستحالة خلوّ الإنسان عنهما، والاضطرار إلى جامع الفعل والترك لا يرفع

655

التكليف بالفعل أو التكليف بالترك، فكلّ واحد من العلمين الإجماليين ثابت على حاله ولم ينقلب إلى الشكّ البدويّ كما في باب الاضطرار.

ومنها: قياس ما نحن فيه بالتكليف المردّد بين شخصين كما في واجدي المنيّ في الثوب المشترك، بتقريب أنّ كلّ واحد من واجدي المنيّ في الثوب المشترك عالم بثبوت التكليف من قبل المولى، ومع ذلك لا يتنجّز عليه. والسرّ في ذلك أنّ هذا التكليف على تقدير توجّهه إلى غيره لا يكون للمولى حقّ الطاعة على هذا الشخص، ولا يكون هذا التكليف مؤثّراً بالنسبة إليه في عالم الإطاعة وحقّ المولويّة، فعلمه بالتكليف ليس علماً بتكليف ذي أثر في عالم الطاعة وحقّ المولويّة على كلّ تقدير. وكذلك الأمر فيما نحن فيه، فإنّ التكليف على تقدير ثبوته في مادّة الاجتماع ليس داخلاً في دائرة حقّ الطاعة، فعلمنا بالتكليف ليس علماً بتكليف ذي أثر في عالم الطاعة وحقّ المولويّة على كلّ تقدير.

ويرد عليه: أنّ هذا أيضاً قياس مع الفارق، توضيح ذلك: أنّ هنا خلافاً بين الاُصوليّين في أنّ العلم الإجماليّ هل ينجّز واقع المعلوم بحدوده؛ لكونه معلوماً ولو بالإجمال، أو ينجّز الجامع فحسب؛ لكونه المقدار الواصل؟ ولدينا تفصيل في المقام بين الشبهة الموضوعيّة والحكميّة، ولا نريد هنا الدخول في هذا البحث، ونوكله إلى محلّه. وإنّما نقول هنا: إنّ تنجّز الجامع على أيّ حال مسلّم لوصوله بلا إشكال، وهذا الجامع فيما نحن فيه واصل ومتعلّق لحقّ المولويّة، فإنّ الجامع بين مادّة الاجتماع وإحدى مادّتي الافتراق واصل إلى المكلّف ومتوجّه إليه وقابل للتنجيز، وللمولى حقّ الطاعة بهذا المقدار، وليس الجامع كواقع المعلوم في كونه مردّداً بين ما لا يجب امتثاله عقلاً وما يجب امتثاله عقلاً. وأمّا في مثل واجدي المنيّ في الثوب المشترك فليس الأمر كذلك؛ لأنّ الجامع بين تكليف نفسه وتكليف غيره لا يعقل أن يكون متعلّقاً لحقّ المولى عليه، وإنّما هو جامع بين

656

ما يتعلّق به حقّ المولى عليه وما لا يتعلّق به حقّ المولى عليه(1).


(1) ومنها: قياس ما نحن فيه بموارد الانحلال الحكميّ، كما إذا كان أحد طرفي العلم الإجماليّ بالنجاسة مستصحب النجاسة، فأصالة الطهارة في الطرف الآخر تجري؛ لعدم وجود معارض لها. وما نحن فيه من هذا القبيل؛ لأنّ مادّة الاجتماع غير قابلة للتنجيز، فالأصل المرخّص إنّما يكون له مورد في مادّتي الافتراق، فيجري فيهما؛ لعدم الابتلاء بالمعارضة مع الأصل في مادّة الاجتماع.

ويرد عليه: أنّ قياس المقام بمثل ما إذا كان أحد طرفي العلم الإجماليّ بالنجاسة مورداً لاستصحاب النجاسة قياس مع الفارق؛ وذلك لوجهين:

الأوّل: أنّ الصحيح في باب الانحلال الحكميّ أنّ الانحلال الحكميّ لا يكون بمجرّد اختصاص الأصل المرخّص بأحد الطرفين، بل يكون بثبوت أصل إلزاميّ عقليّ أو شرعيّ في الطرف الآخر، كي لا يساوق الترخيص في هذا الطرف للترخيص في المخالفة القطعيّة أو الترخيص القطعيّ في المخالفة، ففي باب استصحاب نجاسة أحد الطرفين يكون الانحلال الحكميّ تامّاً؛ لأنّ أصالة الطهارة في الإناء غير مستصحب النجاسة لا تساوق الترخيص في المخالفة القطعيّة أو الترخيص القطعيّ في المخالفة. وهذا بخلاف المقام؛ لأنّ مادّة الاجتماع لا يوجد فيها أصل إلزاميّ، فالترخيص في مادّة الافتراق يساوق الترخيص في المخالفة القطعيّة، أو الترخيص القطعيّ في المخالفة.

والثاني: أنّ الانحلال الحكميّ إنّما يوجب جريان البراءة الشرعيّة لا العقليّة، والبراءة الشرعيّة في المقام ليست مخصوصة بمادّة الافتراق، فإنّ مادّة الاجتماع أيضاً مجرى للبراءة عن الوجوب أو الحرمة في حدّ ذاتها؛ لأنّ مادّة الاجتماع وإن لم تكن قابلة للتنجيز العقليّ لكنّها قابلة لجعل الاحتياط الشرعيّ في أحد الطرفين فقط من الوجوب أو الحرمة، فتجري البراءة الشرعيّة لا محالة في حدّ ذاتها التي تقابل الاحتياط الشرعيّ، ويقع التعارض بينها وبين البراءة الشرعيّة في مادّة الافتراق. وهذا بخلاف مثال جريان استصحاب النجاسة في أحد طرفي العلم الإجماليّ، فإنّ أصالة الطهارة في هذا المثال تصبح بلا معارض.

657

واستيعاب الكلام لتمام الجهات في هذا المقام موكول إلى بحث كبراه الذي يأتي ـ إن شاء الله ـ في محلّه حتّى يسهل التكلّم فيه بعد الاطّلاع على مباني البحث: من اقتضاء العلم الإجماليّ أو علّيّته، ونحو ذلك، وثمراتها.

 

مع الأصل اللفظيّ الفوقانيّ:

المبحث الثاني: في ملاحظة هذا الخبر مع أصل لفظيّ فوقانيّ كأصالة العموم والإطلاق في الكتاب والسنّة القطعيّة، فإن فرض توافقهما فلا ثمرة في المقام، وإن فرض تخالفهما: فإمّا أن يكون الخبر إلزاميّاً والعامّ ترخيصيّاً، أو بالعكس، أو أن يكون كلاهما إلزاميّين بأن يدلّ أحدهما على الوجوب والآخر على التحريم، فهنا ثلاث صور:

الصورة الاُولى: أن يكون الخبر إلزاميّاً والعامّ ترخيصيّاً. وقد ذكر المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) وغيره من المحقّقين أيضاً ـ على ما أتذكّر ـ: أنّه لا يعمل بخبر الواحد؛ لأنّ العمل به إنّما هو من باب منجّزيّة العلم الإجماليّ، وأصالة الاشتغال، ومن المعلوم أنّ هذا الأصل لا يقاوم في مقابل العموم الترخيصيّ المقطوع بحجّيّته.

وأورد على ذلك السيّد الاُستاذ بأنّنا نعلم إجمالاً بتخصيص بعض تلك العمومات الفوقانيّة، فيقع التعارض بين تلك الاُصول اللفظيّة والتساقط، فلا يمكن التمسّك بأيّ عامّ، أو مطلق ترخيصيّ.

أقول: دعوى مثل هذا العلم الإجماليّ تحتاج إلى حساب دقيق في الفقه لتصفية مقدار ما عندنا من العمومات والمطلقات الثابتة بالدليل القطعيّ، وما في قبالها: من أخبار آحاد مخصّصة ومقيّدة، ومدى كثرتها، لكي نرى هل يتقوّى عندنا احتمال التخصيص حتّى يصل إلى درجة العلم أو لا ؟ وفي أكبر الظنّ: أنّ مثل هذا العلم الإجماليّ غير موجود، فإنّنا لو أفرزنا العمومات والمطلقات

658

الترخيصيّة الثابتة بالدليل القطعيّ لم يكن لنا علم بتخصيصها بأكثر من المخصّصات المعلومة تفصيلاً بالإجماع ونحوه من الأدلّة القطعيّة، أو بأخبار الآحاد المتراكمة التي يحصل منها الظنّ الاطمئنانيّ، فإنّنا وإن كنّا نعلم إجمالاً بورود مخصّصات أو مقيّدات من الأئمّة(عليهم السلام)أزيد من المقدار المعلوم بالتفصيل، لكن لا نعلم كون بعض تلك المخصّصات والمقيّدات غير المعلومة بالتفصيل مخصّصاً ومقيّداً للعمومات والإطلاقات القطعيّة، فلعلّها جميعاً مخصّصة ومقيّدة لما لم يصلنا بنحو القطع، فأصالة العموم والإطلاق في القطعيّات سليمة عن المعارض؛ إذ لا تجري أصالة العموم والإطلاق في غير القطعيّات المفروض عدم ثبوت حجّيّتها كي يقع التعارض بينهما.

ولو سلّمنا القطع بوجود تخصيص زائد للعمومات والإطلاقات القطعيّة فهذه التخصيصات الاُخرى غالباً لها علوم إجماليّة صغيرة، وينحصر تأثيرها في دائرة تلك العلوم الإجماليّة الصغيرة، فمثلاً في قوله تعالى: ﴿أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْع﴾ نعلم ببعض المخصّصات القطعيّة، وهو ما دلّ على أن لا يكون البائع مكرهاً، وتوجد بعض المخصّصات الظنّيّة كشرط البلوغ، أو ماليّة العين مثلاً، فلو ظننّا بشرط البلوغ وبطلان بيع الصبيّظنّاً معتدّاً به إمّا باعتبار ورود رواية على ذلك، أو باعتبار فرض الشهرة، أو الإجماع، أو نحو ذلك، وظننّا أيضاً بشرط الماليّة وبطلان بيع ما لا توجد له ماليّة، وهكذا، جمعنا ثلاثة أو أربعة من مثل هذه الموارد، فعندئذ يحصل الاطمئنان بوجود تخصيص في بعض هذه الموارد(1)، ويقتصر أثر هذا العلم أو الاطمئنان الإجماليّ على مورده.

 


(1) وهذا الاطمئنان إنّما يكون منجّزاً لو كان ناتجاً عن المضعّف الكيفيّ الموجب لكون الاستبعاد منصبّاً ابتداءً على مجموع الأطراف منقسماً منه إلى كلّ فرد منالأطراف.

659

وبكلمة اُخرى: لو سلّمنا وجود تخصيص زائد معلوم فلا نسلّم به بأكثر من هذا المقدار، وهو العلوم الإجماليّة الصغيرة المخصوصة بموارد معيّنة، ولا يوجد لنا علم إجماليّ يقع كلّ ما احتملت مخصّصيّته طرفاً له.

الصورة الثانية: أن يكون الخبر ترخيصيّاً والعامّ إلزاميّاً، وعندئذ يؤخذ أيضاً بالعامّ، فإنّ الخبر الترخيصيّ لم يؤخذ به في مقابل أصالة الاشتغال، فما ظنّك بمعارضته لأصالة العموم أو الإطلاق في الدليل القطعيّ الصدور ؟!

وهنا أيضاً استشكل السيّد الاُستاذ بأنّنا نعلم إجمالاً بورود بعض المخصّصات الترخيصيّة على تلك العمومات الإلزاميّة، فتتساقط الاُصول اللفظيّة في تلك القطعيّات بالتعارض.

ولكن رغم ذلك قال السيّد الاُستاذ بوجوب العمل بالعامّ، لا من باب الحجّيّة، بل من باب العلم الإجماليّ بإرادة العامّ ولو في بعض هذه العمومات، وأنّنا لا نحتمل أنّ العامّ ليس مراداً في شيء منها.

أقول: لا يمكن المساعدة على شيء من الدعويين:

أمّا الدعوى الاُولى ـ وهي دعوى العلم الإجماليّ بالتخصيص ـ فالإشكال فيها هو الإشكال في الفرض السابق.

وأمّا الدعوى الثانية ـ وهي دعوى العلم الإجماليّ بإرادة العموم في بعض


أمّا لو كان ناتجاً عن المضعّف الكمّيّ فحسب، ومنصبّاً ابتداءً على كلّ فرد من الأطراف، وبالتركيب بين هذه الاستبعادات الظنّيّة تولّد الاطمئنان بعدم المجموع، فهذا الاطمئنان لا يزيد عقلائيّاً على أصل الظنون التي تركّب منها، ولا يمنع عن التمسّك في كلّ مورد من موارد تلك الظنون بالأصل اللفظيّ أو العمليّ النافي للتكليف في مورده.

660

الموارد ـ فيرد عليها: أنّه هل المقصود بكون العامّ مراداً في بعض هذه العمومات هو العلم الإجماليّ بإرادة العامّ في قبال هذه الأخبار المخصّصة، أو العلم الإجماليّ بإرادة العامّ في قبال كلّ ما يتصوّر كونه تخصيصاً له ؟

فإن كان المقصود هو الأوّل فمرجع هذا إلى دعوى العلم الإجماليّ بكذب بعض المخصّصات الترخيصيّة، وهذا خلاف الوجدان، فإنّنا نحتمل أنّ تمام ما ورد في الكتب الأربعة: من الأخبار الترخيصيّة غير المبتلاة بالمعارض والتي يحتمل صدورها من المعصوم، صادراً كلاًّ من المعصوم، فلا علم لنا بأنّ العامّ صادق في بعض هذه الموارد، وأنّ بعض هذه الأخبار كاذبة.

وإن كان المقصود هو الثاني ـ أعني: العلم بإرادة العموم في قبال التخصيص من كلّ جهة ـ فلا إشكال في ثبوت هذا العلم؛ إذ فرض التخصيص من كلّ جهة يستلزم إلغاء أصل الدليل العامّ رأساً إلّا أنّ هذا لا أثر له في المقام، فإنّ العلم الإجماليّ بالتخصيص الموجب لتعارض العمومات وتساقطها ـ كما فرض ـ كان في العمومات المقابلة للتخصيصات الواردة في أخبار الآحاد، فهي متساقطة بحسب الفرض، وباقي العمومات باقية على حجّيّتها، والعلم الإجماليّ بصدق بعض العمومات المتردّدة بين ما هو حجّة وما هو غير حجّة لا يوجب ضرورة الاحتياط في دائرة غير الحجّة؛ إذ من المحتمل أن تكون العمومات الصادقة كلّها في دائرة العمومات التي هي حجّة بالفعل(1). فتحصّل: أنّه بعد سقوط أصالة العموم بالعلم الإجماليّ بالتخصيص


(1) نعم، كان بإمكان السيّد الخوئيّ أن يقول بضرورة الاحتياط في دائرة العمومات المقابلة للتخصيصات الواردة، ببيان: أنّنا وإن علمنا إجمالاً بصدق خمسة من التخصيصات مثلاً، ولكنّنا نجري على الإجمال أصالة العموم فيما عدا العموماتالخمسة

661

ـ بحسب فرضه ـ لا يوجد علم إجماليّ منجّز، فيكون العمل على طبق الأخبار النافية.

الصورة الثالثة: أن يكون الخبر والعامّ أحدهما إيجابيّاً والآخر تحريميّاً، وهنا أيضاً يرجع إلى العامّ ولا أثر للخبر، فإنّ الأخذ به إنّما يكون لأصالة الاشتغال الساقطة في قبال الدليل الاجتهاديّ.

هذا. ولو سلّمنا ما مضى عن السيّد الاُستاذ: من العلم الإجماليّ بتخصيص بعض العمومات، والعلم الإجماليّ ببقاء بعضها على عمومه، تأتّى فيما نحن فيه القول بأنّ العلم والخبر كلّ منهما غير حجّة في نفسه، وكلّ منهما طرف لعلم إجماليّ بالإلزام، والعلمان الإجماليّان متعاكسان في مادّة الاجتماع، ويكون ذلك من معارضة خبر إلزاميّ لأصالة الاشتغال، ولا يؤثّر العلمان في مادّة الاجتماع، ويؤثّران في مادّتي الافتراق.

 

مع التعارض بين خبرين:

المبحث الثالث: في التعارض بين خبرين، فإن كان أحدهما إيجابيّاً والآخر تحريميّاً تساقطا، فإنّ كلاًّ منهما وإن كان مقتضى طرفيّته لعلم إجماليّ بالإلزام التنجيز، لكن تنجيزهما معاً غير ممكن، وتنجيز أحدهما ترجيح بلا مرجّح ولا معنى لحقّ المولويّة في هذا المورد.

 


التي قابلت تلك التخصيصات الخمسة، وبهذا يثبت تعبّداً بقاء قسم من العمومات المقابلة للتخصيصات على عمومها، وهذا يوجب علينا الاحتياط في دائرة جميع تلك العمومات؛ لعدم تعيّن المخصّص منها من غير المخصّص. وهذا البيان وإن أمكن النقاش فيه فلسفيّاً لعدم العلم بتعيّن تلك الخمسة ولا ما عداها في الواقع، ولكنّه بيان مقبول عرفاً، وبالتالي يوجب البناء تعبّداً على حجّيّة بعض هذه العمومات وعلى ما يلزمه من وجوب الاحتياط.

662

وإن كان أحدهما ترخيصيّاً والآخر إلزاميّاً فالصحيح أنّه لابدّ من الأخذ بالخبر الإلزاميّ ولا عبرة بالخبر الترخيصيّ؛ لأنّ الأوّل طرف للعلم الإجماليّ الأوّل المنجّز، والثاني طرف للعلم الإجماليّ الثاني الذي لا أثر له.

وهناك وجه للقول بعدم تأثير الخبر الإلزاميّ الذي في قباله خبر ترخيصيّ يمكن أن يذكر من قِبَل المستدلّين بذلك التقريب العقليّ، وهو أن يقال: إنّ لنا مضافاً إلى العلوم الإجماليّة الثلاثة الماضية التي يقال بانحلال الأوّل منها بالثاني، والثاني بالثالث، علماً إجماليّاً رابعاً في خصوص دائرة الأخبار الإلزاميّة غير المبتلاة بالمعارض، ويدّعى من قبل ذاك المستدلّ انحلال العلم الثالث بالرابع كما انحلّ العلم الثاني بالثالث إن ساعد وجدانه على كون المعلوم بالعلم الرابع بمقدار المعلوم بالعلم الثالث، فبالتالي لا يجب الاحتياط في دائرة الأخبار الإلزاميّة المبتلاة بالمعارض.

لكنّك عرفت أنّ انحلال العلم الثاني بالثالث ممنوع حتّى مع تساوي المعلومين، وكذلك الأمر هنا(1).

 


(1) لا يخفى أنّه لو سلّم في المقام تساوي المعلومين فلابدّ من انحلال العلم الثالث بالرابع، ولا يمكن قياسه بالعلم الثاني والثالث؛ لأنّ النسبة بين الأخبار الإلزاميّة غير المبتلاة بالمعارضة مع الأخبار الإلزاميّة المبتلاة بها هي التباين لا العموم من وجه، بخلاف النسبة بين الأخبار والشهرات مثلاً، والعلم الثاني إنّما لم ينحلّ بالثالث رغم فرض تساوي المعلومين؛ لأنّ النسبة بين الأخبار والشهرات كانت عموماً من وجه، فأمكن دعوى أنّ المعلوم بالإجمال في الأخبار وإن كان بقدر المعلوم بالعلم الثاني لكن الشهرات أيضاً فيها قدر معلوم بالإجمال مردّد بعضه بين مادّة الافتراق ومادّة الاجتماع، واحتمال انطباقه على مادّة الاجتماع أوجب أن لا يكون المعلوم بالعلم الثاني أكثر من المعلوم بالعلم

663

هذا تمام الكلام في هذا التقريب العقليّ في المقام. ونغضّ النظر عن سائر الوجوه العقليّة المذكورة هنا ومناقشتها.

وإلى هنا تمّ كلامنا في الأمارات التي قام الدليل الصحيح على حجّيّتها في مقام إثبات الأحكام الشرعيّة.

 

 


الثالث، واحتمال انطباقه على مادّة الافتراق أوجب عدم الانحلال. أمّا في المقام، فلو فرض العلم الإجماليّ بصدق بعض الأخبار الإلزاميّة المبتلاة بالمعارض كان هذا مساوقاً لكون المعلوم بالعلم الثالث أكثر من المعلوم بالعلم الرابع؛ إذ لا توجد مادّة اجتماع بين المبتلاة بالمعارض وغير المبتلاة بالمعارض كي يحتمل الانطباق على مادّة الاجتماع، ولو لم يفرض العلم الإجماليّ بصدق بعض الأخبار الإلزاميّة المبتلاة بالمعارض صحّ القول بانحلال العلم الثالث بالعلم الرابع بعد فرض تساوي المعلومين.

665

الأمارات الظنّيّة

5

 

 

 

الظنّ

(مقدّمات الانسداد)

 

 

○معنى الكشف والحكومة.

○تنقيح الكلام في مقدّمات الانسداد.

○تلخيص مباني الكشف والحكومة.

 

 

 

667

 

 

 

 

 

 

 

قد تدّعى حجّيّة مطلق الظنّ في استنباط الأحكام الشرعيّة، ويستدلّ على ذلك بوجوه، وشيء منها لا يمكن المساعدة عليه، ونحن نقتصر من بينها على ذكر ما يسمّى بدليل الانسداد، فنقول:

قد اُ لّف دليل الانسداد من مقدّمات تذكر بعنوان محاولة إثبات حجّيّة مطلق الظنّ بها، ويبحث عن تماميّة ذلك وعدمها.

وذكر المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): أنّ مقدّمات الانسداد خمس:

1 ـ العلم الإجماليّ بالتكليف.

2 ـ انسداد باب العلم والعلميّ، أي: الحجّة في مقام إثبات التكليف.

3 ـ عدم جواز إهمال الأحكام.

4 ـ عدم جواز الرجوع إلى الاُصول في تمام الموارد من قبيل: البراءة، والاستصحاب، والتخيير، أو الرجوع إلى مجتهد يؤمن بالانفتاح، وعدم وجوب الاحتياط في جميع الموارد.

5 ـ عدم جواز الرجوع إلى الوهم في قبال الظنّ(1).


(1) الموجود في الكفاية هو عدم جواز الرجوع إلى الوهم أو الشكّ.

668

وهذا التأليف لصورة الدليل ومقدّماته لا يخلو من مؤاخذات، فترى أنّ المقدّمة الاُولى ـ وهي العلم الإجماليّ بالأحكام ـ ليست مقدّمة في عرض سائر المقدّمات، ويتمّ دليل الانسداد بدونها، وإنّما هي دليل من أدلّة ما يقال في المقدّمة الرابعة: من عدم جواز الرجوع إلى الاُصول النافية. وأنّ المقدّمة الثالثة وهي عدم جواز إهمال الأحكام: إن اُريد بها ترك امتثالها بنفيها بالأصل، فهي راجعة إلى ما في المقدّمة الرابعة: من عدم جواز الرجوع إلى الاُصول النافية. وإن اُريد بها وجوب تحديد الموقف العمليّ في قبال تكاليف المولى ولو بإجراء البراءة، وحرمة إهمالها بمعنى ترك تحديد الموقف العمليّ تجاهها، فهذا عبارة اُخرى عن مولويّة المولى وثبوت حقّ الطاعة له علينا، وأنّه ليس حاله بالنسبة لنا حال إنسان اعتياديّ، وهذا مسلّم ومفروغ عنه قبل علم الاُصول، وليس ممّا يبحث عنه في دليل الانسداد، ولا ينبغي جعله مقدّمة من مقدّمات دليل الانسداد(1). وإن اُريد بها أنّ الأحكام باقية، ولم تنسخ، ولم ترفع بواسطة انسداد باب العلم والعلميّ، ورد عليه ما أوردناه على المقدّمة الاُولى.

وعلى أيّ حال، فالذي ينبغي أن يقال في مقام ترتيب صورة دليل الانسداد: إنّه بعد أن فرغنا قبل علم الاُصول في ثبوت أحكام علينا، وثبوت حقّ الطاعة للشارع في أحكامه، ووجوب تحديد الموقف العمليّ تجاهها لابدّ من تأسيس هذا الموقف، وطريقة الخروج عن عهدة المولويّة على أحد الاُسس الآتية:

1 ـ على أساس القطع.

2 ـ على أساس الحجّة.

3 ـ على أساس إجراء الاُصول بالنسبة لكلّ مورد مورد.


(1) وإلّا فإثبات وجود الله أيضاً مقدّمة من مقدّمات دليل الانسداد.

669

4 ـ على أساس الاحتياط التامّ.

5 ـ على أساس التقليد.

6 ـ على أساس الأخذ بما يقابل الظنّ وهو الوهم.

7 ـ على أساس الظنّ.

والحصر وإن لم يكن عقليّاً لكنّه شبيه بالحصر العقليّ بعد وضوح بطلان غير هذه الاُمور السبعة.

فإذا أبطلنا تمام الشقوق الستّة الاُولى انحصر الأمر في السابع وهو الظنّ.

671

 

 

 

 

 

 

 

معنى الكشف والحكومة

ثُمّ إنّ دليل الانسداد تارةً يؤلّف بشكل ينتج الكشف، واُخرى يؤلّف بشكل ينتج الحكومة، وقبل درس ذلك ينبغي فهم معنى الكشف والحكومة:

أمّا الكشف: فواضح، وهو: أنّ العقل يكشف بواسطة هذه المقدّمات عن جعل الشارع حكماً ظاهريّاً بحجّيّة الظنّ ومنجّزيّته.

وأمّا معنى الحكومة: فهو على ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) حكم العقل عند الانسداد بحجّيّة الظنّ بمعنى منجّزيّته ومعذّريّته، كحكمه بمنجّزيّة القطع ومعذّريّته.

وأورد على ذلك السيّد الاُستاذ بأنّ العقل ليس جاعلاً ومشرّعاً كي يحكم بحجّيّة الظنّ، وإنّما شأنه درك لزوم امتثال المولى وعدم مخالفته، ومن هنا فسّر السيّد الاُستاذ الحكومة بتفسير آخر.

وأمّا المحقّق النائينيّ(رحمه الله) فهو أيضاً لم يقبل بتفسير المحقّق الخراسانيّ للحكومة، وفسّرها بتفسير آخر. وإشكاله على تفسير المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) هو: أنّ الحجّيّة كانت من ذاتيّات القطع لا من ذاتيّات الظنّ، لكون القطع كشفاً تامّاً، والظنّ كشفاً ناقصاً، وما يكون أمراً خارجاً عن ذاتيّات شيء يستحيل أن يدخل في وقت من الأوقات في ذاتيّاته، فحجّيّة الظنّ دائماً لا تعقل إلّا بالجعل.

672

وبالإمكان أن يجعل مجموع الإشكالين ـ أعني: إشكال السيّد الاُستاذ، وإشكال المحقّق النائينيّ ـ إشكالاً واحداً ذا شقّين، بأن يصاغ الإشكال على المحقّق الخراسانيّ ببيان: أنّه هل المراد من حكم العقل بحجّيّة الظنّ عند الانسداد جعله للظنّ حجّة، أو إدراكه الحجّيّة بذاته لا بجعل جاعل ؟ فعلى الأوّل يرد عليه: أنّه ليس من وظيفة العقل الجعل والتشريع، وعلى الثاني يرد عليه: أنّ الحجّيّة التي لم تكن من ذاتيّات الظنّ ـ لكونه كشفاً ناقصاً ـ يستحيل أن تصبح من ذاتيّاته لدى عروض الانسداد، بل لعلّ هذا هو المقصود للمحقّق النائينيّ(رحمه الله)، فإنّه يستفاد كلا شقّي الإشكال من تقرير الشيخ الكاظميّ(قدس سره)(1).

وعلى أيّ حال، فمقصود المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) كما يستفاد من عبارته ليس هو جعل العقل الحجّيّة للظنّ حتّى يرد عليه الشقّ الأوّل من الإشكال، وإنّما مقصوده هو إدراك العقل لحجّيّة الظنّ عند الانسداد على حدّ إدراكه لحجّيّة القطع، فإن ورد عليه إشكال فإنّما يرد عليه الشقّ الثاني من الإشكال. والصحيح عدم ورود هذا الشقّ من الإشكال عليه أيضاً، فإنّ حجّيّة القطع كما مضى منّا تفصيلاً ليس من اللوازم الذاتيّة للقطع بالمعنى الذي يقولونه، وإنّما هي مرتبطة بحقّ المولويّة، وواقع المطلب: أنّ للمولى حقّ الطاعة علينا، فلو فرضنا ـ مماشاةً في النتيجة مع الأصحاب ـ أنّ الداخل في دائرة هذا الحقّ هو خصوص التكاليف المعلومة أنتج ذلك كون القطع حجّة دون الظنّ والشكّ، والحجّيّة التي ثبتت للقطع بهذا النحو لا مانع من ثبوتها بهذا النحو للظنّ أحياناً، بأن يحكم العقل في بعض الأحيان بأنّ التكاليف المظنونة داخلة تحت دائرة حقّ المولويّة لنكتة مّا كدخول التكاليف المعلومة إطلاقاً في تلك الدائرة. والصحيح: أنّ ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من معنى الحكومة في غاية المتانة.


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 3، ص 102.

673

 

تفاسير اُخرى للحكومة:

بقي في المقام: بيان ما فسّر به السيّد الاُستاذ والمحقّق النائينيّ الحكومة بعد اعتقادهما ببطلان تفسير المحقّق الخراسانيّ لها:

أمّا السيّد الاُستاذ فقد فسّر الحكومة بالتبعيض في الاحتياط، وأنّه بعد أن تنجّز الحكم بالعلم الإجماليّ يحكم العقل ابتداءً بالاحتياط التامّ، وإذا جازت مخالفة الاحتياط في الطرف الموهوم والمشكوك لنكتة مّا اقتصر العقل على الحكم بالاحتياط في الطرف المظنون.

أقول: إن كان مقصود السيّد الاُستاذ جعل اصطلاح جديد للحكومة؛ لعدم معقوليّة المعنى المرتكز لدى الأصحاب، فله الأمر، ولكن المفروض أن يعبّر عندئذ بتعبير من قبيل: (إنّني اُسمّي التبعيض في الاحتياط بالحكومة، وأنّ الحكومة بمعناها المرتكز غير معقولة)، لا بمثل تعبير: (إنّ معنى الحكومة هو التبعيض في الاحتياط). وإن كان مقصوده تفسير الحكومة بالمعنى المصطلح لدى الأصحاب، فهو عجيب، فإنّ الحكومة ليست هي التبعيض في الاحتياط عند أحد، فإنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله)على ما في تقرير بحثه المكتوب بقلم نفس السيّد الاُستاذ، وتقريره الآخر الذي كتبه الشيخ الكاظميّ مصرّح بأنّ الحكومة غير التبعيض في الاحتياط، وبعض كلمات الشيخ الأعظم(رحمه الله)لا يخلو من إشعار بذلك، بل بعض كلماته لدى البحث عن تعميم الظنّ وإهماله صريح أو كالصريح في ذلك، وهو الذي فهمه منه تلميذه الميرزا الشيرازيّ الكبير(رحمه الله)وكذلك المحقّق النائينيّ(قدس سره)، ومدرسة الميرزا الشيرازيّ الكبير وكذلك مدرسة المحقّق النائينيّ تعتقدان أنّ من مفاخر الشيخ الأعظم إبطال دليل الانسداد بإبداء التبعيض في الاحتياط في قبال ما يستدلّ عليه بالانسداد من الكشف أو الحكومة. وهناك معركة مفصّلة دائرة بين الشيخ الأعظم

674

والمحقّق النائينيّ كتبها السيّد الاُستاذ بقلمه، وكذلك الشيخ الكاظميّ حول أنّ الشيخ الأعظم يرى أنّ دليل الانسداد لو تمّ فهو منتج للحكومة، والمحقّق النائينيّ يرى أنّه يستحيل إنتاجه للحكومة، فلو لم يكن عقيماً فهو ينتج الكشف، ولو كان عقيماً فالنتيجة هي التبعيض في الاحتياط. هذا حال الشيخ الأعظم والمحقّق النائينيّ(قدس سرهما)، وأمّا المحقّق الخراسانيّ فقد عرفت ما فسّر به الحكومة.

والخلاصة: أنّ شيئاً من الاتّجاهات العامّة في الاُصول لا يفسّر الحكومة بالتبعيض في الاحتياط.

وأمّا المحقّق النائينيّ فكلامه في تفسير الحكومة بنحو يباين التبعيض في الاحتياط مشوّش في كلا تقريريه خصوصاً في تقرير الشيخ الكاظميّ، ولعلّ هذا التشويش هو الذي أدّى بالسيّد الاُستاذ إلى القول بأنّ الحكومة هي التبعيض في الاحتياط.

وما يستخلص من تلك العبائر المشوّشة هو: أنّ التبعيض في الاحتياط يكون في مورد العلم الإجماليّ بأحكام عديدة دار أمرها بين عدّة أطراف، وثبت عندنا عدم وجوب الاحتياط في بعض تلك الأطراف، فنرفع اليد عن قاعدة وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجماليّ بمقدار ما ثبت من جواز الترك، ونلتزم بالاحتياط في باقي الأطراف، والحكومة تكون في مورد العلم بحكم واحد وتنجّزه بالعلم مع دوران أمر امتثاله بين الامتثال الظنّيّ والامتثال الوهميّ، كما لو علمنا بوجوب الصلاة إلى القبلة، ودار أمر القبلة بين القبلة المظنونة والقبلة الموهومة، فيتنزّل العقل ـ بعد فرض عدم وجوب ما تقتضيه القاعدة الأوّليّة: من الصلاة إلى كلتا الجهتين لضيق الوقت مثلاً ـ إلى الامتثال الظنّيّ، فهذه هي حجّة عقليّة للظنّ مرتبطة بباب الامتثال وعالم الطاعة بعد تنجّز التكليف، وهذه هي الحكومة لا ما ذكره المحقّق الخراسانيّ: من حكم العقل بحجّيّة الظنّ في عالم التنجيز.

675

وأورد(قدس سره) إشكالين على ما اختاره الشيخ الأعظم(رحمه الله): من أنّ مقدّمات الانسداد لو تمّت أنتجت الحكومة، نذكرهما هنا؛ إذ قد يؤثّران في فهم مقصوده في الفرق بين الحكومة والتبعيض في الاحتياط:

الإشكال الأوّل: أنّ التنزّل من الامتثال القطعيّ إلى الامتثال الظنّيّ إنّما يكون بالحكومة حينما تنجّز التكليف وعجزنا عن امتثاله القطعيّ، فحكم العقل بالامتثال الظنّيّ. أمّا في المقام الذي علمنا فيه بأحكام مردّدة بين المظنونات والمشكوكات والموهومات، فالمبرّر للتنزّل إلى العمل بالمظنونات، إمّا هو الإجماع على بطلان الامتثال الاحتماليّ، أو عدم وجوب الاحتياط التامّ. فإن فرضنا الإجماع على بطلان الامتثال الاحتماليّ، فهنا يثبت الكشف؛ لأنّ العمل بالمظنونات إنّما يكون امتثالاً تفصيليّاً لا احتماليّاً إذا كان الظنّ أمارة شرعيّة، وإن فرضنا أنّ الإجماع لم يقم على بطلان الامتثال الاحتماليّ وإنّما قام على عدم وجوب الاحتياط التامّ، فلا محالة تصل النوبة إلى التبعيض في الاحتياط وليس الحكومة، فدليل الانسداد أمره دائر بين أن يكون عقيماً، أو أن ينتج الكشف.

الإشكال الثاني: أنّ العمل بالمظنونات ليس امتثالاً ظنّيّاً للأحكام حتّى يقال: إنّ هذا تنزّل من الامتثال القطعيّ إلى الامتثال الظنّيّ من باب الحكومة، وإنّما يحصل الامتثال الظنّيّ للأحكام إذا عمل بالمظنونات والمشكوكات معاً، فإنّ طرح مشكوك الوجوب يساوق الشكّ في الامتثال، والجمع بين الامتثال المظنون في مورد والامتثال المشكوك في مورد آخر ينتج الشكّ في الامتثال بلحاظ المجموع.

وقد ورد في أجود التقريرات الذي كتب في دورة متأخّرة عن الدورة التي كتبها الشيخ الكاظميّ جواب على هذا الإشكال سنبحثه فيما يأتي إن شاء الله.

وقبل أن نتعمّق أكثر من هذا فيما نحدس أن يكون هو مقصود المحقّق النائينيّ(رحمه الله)رغم تشويش العبائر في التقريرين نشير إلى تعبير ورد في تقرير الشيخ الكاظميّ

676

قد يؤيّد ما نريد توضيحه، وذلك أنّه وإن ورد عن المحقّق النائينيّ التعبير بالتفصيل بين فرض تعدّد الحكم ووحدته، وأنّ الحكومة إنّما تكون في الثاني، والتبعيض في الاحتياط يكون في الأوّل، ولكن هناك تعبير ورد في تقرير الشيخ الكاظميّ(1)مرّة أو مرّتين، وهو التعبير بالشبهة الموضوعيّة والشبهة الحكميّة، وأنّ حكم العقل بحجّيّة الظنّ على نحو الحكومة إنّما يأتي في الشبهة الموضوعيّة دون الحكميّة.

 

توجيهات فنّيّة لكلام المحقّق النائينيّ:

وبعد: يمكن أن يكون المقصود الذي انعكس في التقريرين بشكل مشوّش هو التفصيل بين كون الشبهة موضوعيّة أو حكميّة من دون نظر إلى كون الحكم واحداً أو متعدّداً(2)، وإذا كان مقصوده ذلك فهناك وجه فنّيّ لهذا التفصيل بحسب مباني


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 3، ص 90.

(2) وممّا يشهد لذلك أنّ أجود التقريرات ـ وهو الذي عبّر بدلاً عن الشبهة الموضوعيّة بتعبير «الحكم الواحد» ـ عطف على الحكم الواحد قوله: «أو ما يكون في حكمه كما إذا علم المكلّف بفوات صلوات متعدّدة»(1)، وما يعقل أن يفترض هو السرّ في جعل هذا كالحكم الواحد، هو أن يكون المقياس الحقيقيّ عند المحقّق النائينيّ ما شرحه اُستاذنا الشهيد: من تنجّز الواقع بحدّه الواقعيّ بالعلم، كما هو الحال في الحكم الواحد في الشبهات الموضوعيّة، وهذا المقياس موجود على رأي المحقّق النائينيّ في الصلوات الفائتة المردّدة بين الأقلّ والأكثر، حيث يعتقد(رحمه الله)أنّ العدد الواقعيّ الفائت هو الذي تنجّز بالعلم. إذن فالمقياس الحقيقيّ ليس في عنوان الحكم الواحد والمتعدّد، وإلّا فمثال الصلوات الفائتة يكون من المتعدّد لا الواحد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع أجود التقريرات، ج 2، ص 136.