756

 

 

 

دعوى تقدّم المرجّح الصدوري على المرجّح الجهتي:

 

الأمر الخامس: في أنّه هل هناك تقديم للمرجّح الصدوري على المرجح الجهتي، كما يظهر من بعض كلمات الشيخ الأعظم(قدس سره)(1)، أو لا؟

فنقول: تارة نفرض أنّ هناك دليلا واحداً مشتملا على كلا المرجّحين مع ترتيب بينهما، واُخرى نفرض أنّ كلاّ من المرجّحين مذكور في دليل خاصّ، فلم يعرف الترتيب بينهما من المداليل اللفظية للدليلين، وثالثة نفرض أنّ الدليل لم يذكر المرجّح الجهتي ولا المرجّح الصدوري، وإنما ذكر الدليل أنّه عند تعارض الخبرين لابد من تقديم أقواهما، فكلّ مزيّة توجب الأقوائية تصبح بمقتضى هذا الدليل مرجّحة.

وموقفنا من مسألة تقديم المرجح الصدوري على الجهتي يختلف في كل فرض من هذه الفروض منه في الفرض الآخر:

أمّا في الفرض الأوّل، فمن الواضح أنّه لا موضوع لهذا البحث أصلا؛ إذ المفروض أنّ نفس دليل الترجيح قد تكفّل ببيان الترتيب بين المرجّحين، فنأخذ بأيّ ترتيب دلّ عليه الدليل.

وأمّا في الفرض الثاني، فهنا قد يقال بتقديم المرجّح الصدوري بطبعه على الجهتي باعتبار أنّ الجهة فرع الصدور مثلا.

وهنا نقول: إنّنا تارةً نفرض أنّ مصبّ الترجيح بحسب ما يستظهر من دليل الترجيح الجهتي هو الجهة، ومصبّ الترجيح في المرجّح الصدوري هو الصدور، واُخرى نفرض أنّ مصبّ الترجيح فيهما معاً هو الصدور، وإنما الفرق بينهما هو أنّ نكتة الترجيح في المرجّح الصدوري كامنة في جانب الصدور، وفي المرجّح الجهتي كامنة في جانب الجهة، فهي نكتة جهتيّة أصبحت حيثيّة تعليليّة للترجيح في الصدور.

وهناك تقريبان في كلماتهم لإثبات تقديم المرجّح الصدوري بطبعه على الجهتي. الأوّل منهما يختصّ بما لو فرض أنّ مصبّ الترجيح الصدوري هو الصدور، ومصبّ الترجيح الجهتي هو الجهة. والثاني منهما يشمل حتّى مالو فرض مصبّهما معاً هو الصدور:


(1) راجع الرسائل ص 468 ـ 469 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات رحمة الله.

757

أمّا التقريب الأوّل، فهو: أنّ المرجّح الجهتي اُخذ في موضوعه الفراغ عن الصدور، حيث إنّ الكلام بعد الفراغ عن صدوره من الإمام يمكن أن يقال: إنّه صدر بداعي الجدّ أو التقيّة، ولو لم يكن صادراً منه فلا معنى لكونه بداعي الجدّ أو التقية. وإذا اُخذ في موضوعه الصدور فالمرجّح الصدوري الذي يحكم في مرحلة الصدور يكون حاكماً عليه، وحينما ينفى الفراغ عن صدور أحد الخبرين يكون ذاك نفياً لموضوع الترجيح الجهتي.

وتحقيق الحال في ذلك: أنّ الفراغ عن الصدور يجب أن يفترض ـ إن قيل به ـ في خصوص الخبر المخالف للعامّة، لا الخبر الموافق لهم؛ إذ الخبر الموافق غاية الأمر فيه أنّه لا يثبت صدوره عن جدّ، وهذا غير موقوف على الفراغ عن صدوره، لا أنّه يثبت كونه تقيّةً حتّى يتوقّف على الفراغ عن صدوره.

ومعنى الفراغ عن الصدور ـ الذي إن قيل به فإنّما يقال في الخبر المخالف ـ أحد اُمور ثلاثة:

الأوّل: أن يقصد بذلك إحراز الصدور، بأن يكون قد اُخذ في موضوع الترجيح الجهتي إحراز صدور الخبر المخالف، وعندئذ إن فرض تساويهما من حيث المرجّحات الصدورية فالخبر المخالف للعامّة نحرز صدوره، لا بدليل الترجيح الجهتي، فإنّ دليل أيّ حكم لا يحقّق موضوع ذلك الحكم، بل بدليل حجّيّة خبر الثقة العامّ. وهذا الدليل لا يشمل الخبر الأخر الموافق للعامّة؛ لأنّ إحراز صدوره لغو؛ إذ حتّى لو كان صادراً يرجّح عليه الخبر المخالف بالترجيح الجهتي.

وعلى أيّ حال فالخبر المخالف في المقام لو خلّينا نحن وخصوص دليل الترجيح الجهتي فقط لما أمكننا إثبات حجّيّته؛ لأنّ دليل الترجيح الجهتي قد اُخذ ـ حسب الفرض ـ في موضوعه إحراز الصدور، فهو لا يحقّق موضوعه، ولو خلّينا نحن وخصوص دليل حجّيّة خبر الثقة فقط من دون لحاظ الترجيح لما أمكننا إثبات حجّيّته أيضاً، لمكان التعارض والتساقط، فكلّ من دليلي الحجّيّة العامّ والترجيح يكمّل الآخر، ويثبت بمجموعهما حجّيّة الخبر المخالف.

وإن فرض أنّ الخبر الموافق للعامّة وجد فيه المرجّح الصدوري فدليل الترجيح الصدوري يلغي التعبّد بصدور الخبر المخالف، فلا يمكن إحراز صدوره لا بدليل الترجيح الجهتي كما هو واضح، ولا بدليل الحجّيّة العامّ؛ لأنّه مخصّص بدليل الترجيح الصدوري الذي يلغي التعبّد بصدور الخبر المخالف. إذن فلا يثبت إلاّ صدور الخبر الموافق، فيقدّم الترجيح الصدوري على الترجيح الجهتي؛ لأنّ الترجيح الجهتي قد انتفى موضوعه بالترجيح الصدوري، فثبتت حكومة المرجّح الصدوري على المرجّح الجهتي.

758

إلاّ أنّ هذا إنّما يتمّ لو ثبت كون المأخوذ في موضوع الترجيح الجهتي هو الفراغ عن الصدور بهذا المعنى الأوّل.

الثاني: أن يقصد بذلك واقع الصدور، بأن يكون قد اُخذ في موضوع الترجيح الجهتي كون الخبر المخالف صادراً واقعاً، وعندئذ إن فرض تساويهما من حيث المرجّحات الصدورية أثبتنا صدور الخبر المخالف بدليل الحجّيّة العامّ، وهو لا يشمل الخبر الموافق للغويّة، وإن كان الخبر الموافق مشتملا على الترجيح الصدوري فعندئذ يجب أن نرى أنّ مفاد المرجّح الصدوري هل هو التعبّد بعدم صدور الآخر، أو هو نفي التعبّد بصدور الآخر؟ فإن كان الأوّل فدليل المرجّح الصدوري بنفسه ينفي موضوع الترجيح الجهتي؛ لأنّه نفى صدور الخبر الآخر المخالف للعامّة. وإن كان الثاني فدليل المرجّح الصدوري غاية ما صنع أنّه نفى التعبّد بصدور الخبر الآخر المخالف للعامّة، ونضمّ إليه استصحاب عدم صدوره، فبذلك ينفى موضوع المرجّح الجهتي، فالنتيجة بناءً على التفسير الثاني للفراغ عن الصدور ـ أيضاً ـ هي نتيجة الحكومة.

الثالث: أن يقصد بذلك كون الخبر في نفسه تامّ الملاك للحكم بصدوره، فدليل المرجّح الجهتي يرجع إلى قضية شرطية: شرطها كون الخبر المخالف تامّ الملاك في نفسه، بأن يكون خبر ثقة، جزاؤها إسقاط أصالة الجهة في الخبر الموافق، وعندئذ فلا يمكن نفي موضوع المرجّح الجهتي بوجه من الوجه، فإنّ موضوعه وهو كون الخبر تامّ الملاك في نفسه، وكونه خبر ثقة ثابت قطعاً، وليس هناك ما ينفيه ولو تعبّداً وتنزيلا مثلا، وعندئذ فالمرجّح الصدوري والجهتي في عرض واحد.

إذا عرفت هذا قلنا: إنْ فرضت قرينة خاصة في دليل المرجّح الجهتي تدلّ على فرض الفراغ عن صدور الخبر المخالف بأحد المعنيين الأوّلين فهو، وإلاّ فنفس طبيعة كون المرجّح جهتياً لا يقتضي تقييداً زائداً على الفراغ عن كونه في نفسه تامّ الملاك للحكم بالصدور، فلا يثبت تقديم أحد المرجّحين على الآخر.

وأمّا التقريب الثاني، فحاصله: أنّه فرق بين المرجّح الجهتي والمرجّح الصدوري، فالمرجّح الصدوري مفاده ترجيح أحد الخبرين لنكتة استحكام فيه، وهيّ الأصدقية مثلا. وهذا الاستحكام ثابت، سواء فرض له معارض أو لا، فإذا كان له معارض قدّم على معارضه لأجل ما فيه من الاستحكام. وأمّا المرجّح الجهتي فهو يقدّم أحد الخبرين صدوراً أو جهةً لنكتة وهن في الخبر الآخر، وتلك النكتة هي أنّ موافقة الخبر الآخر للعامّة جعلت أمارةً على التقيّة، إلاّ أنّ هذه الأماريّة لا تكون في خبر موافق للعامّة من دون معارض، ولذا

759

لا يحمل كلّ خبر موافق للعامّة على التقية، وإنّما هي في خصوص الخبر الموافق للعامّة المبتلى بالمعارض.

فتحصّل من هذا الكلام مجموع مقدّمتين:

الاُولى: أنّ مرجع المرجّح الجهتي إلى جعل موافقة العامّة أمارة على التقية.

والثانية: أنّ هذه الأمارية مختصّة بصورة التعارض. ويستنتج من ذلك: أنّ كلّ ما يحلّ التعارض في مرتبة سابقة يرفع موضوع هذا المرجّح، إذن فالمرجّح الصدوري يتقدّم عليه.

إلاّ أنّ التحقيق: أنّ كلتا المقدّمتين غير صحيحة:

أمّا الأولى، فلاحتمال كون الترجيح هنا ـ أيضاً ـ بنكتة استحكام الخبر المخالف، وشدّة إحكامه، وعدم تطرّق احتمال التقيّة فيه، وهذا نكتة مطلقة ثابتة حتّى عند عدم التعارض، ولا قرينة على أنّ النكتة أماريّة موافقة العامّة على التقيّة.

وأمّا الثانية، فبعد فرض تسليم أنّ النكتة أمارية موافقة العامّة على التقيّة نقول: إنّ هذه الأمارية وإن لم تكن مطلقة إلاّ أنّها مقيّدة بالمعارضة بلحاظ دليل الحجّيّة الاولى، فهي فرع التعارض بلحاظ ذاك الدليل، فرفع التعارض بلحاظ دليل ثانوي اسمه دليل الترجيح الصدوري ليس رافعاً لموضوعها، وإن شئت قلت: إنّ القدر المتيقّن من تقييد هذه الأمارية إنّما هو تقييدها بالمعارضة بلحاظ دليل الحجّيّة الاُولى، ولا قرينة على التقييد الزائد، وهي المعارضة بلحاظ كلّ دليل.

وأمّا في الفرض الثالث، وهو ما لو دل الدليل على ترجيح ما هو الأقوى من الخبرين المتعارضين فعندئذ كلّ ما ذكرناه في الفرض الثاني لا يأتي هنا، وإنّما يجب أن نلحظ في المقام حساب الاحتمالات، فمثلا إذا كان أحد الخبرين صادراً من الأصدق لكنّه موافق للعامّة، والخبر الآخر صادراً من غير الأصدق لكنه مخالف للعامة، فلا بدّ من ملاحظة درجة احتمال الكذب في خبر غير الأصدق مع درجة احتمال الجامع بين الكذب والتقيّة في خبر الأصدق، فأيّهما كان أقوى كان الخبر الآخر هو المقدّم، وهذا يختلف باختلاف الموارد.

هذا تمام ما أردنا تدوينه في مبحث التعادل والتراجيح، وبه تمّ الفراغ من تدوين القسم الثاني من أبحاث الاُصول المسمّاة بمباحث الاُصول العقليّة تقريراً لأبحاث سيدنا الاُستاذ آية الله العظمى الشهيد السيّد محمّدباقر الصدر(قدس سره)، وكان الفراغ من التدوين المجدّد لما سجلته عن مجلس درس سيدنا الاستاذ(قدس سره) في اليوم الرابع من جمادى الاُولى من سنة 1414 الهجرية القمرية في قم المقدّسة

والحمد لله أوّلا وآخراً، وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.