31

ويتجلّى هذا بوضوح لو لاحظنا البناء الإسلاميّ الكلّ، ودور العبادات البارز في هذا التصميم الربّانيّ للحياة.

أمّا الشفعاء والشفاعة فقد وضعها الإسلام في الإطار الإيجابيّ البنّاء الباعث على الأمل والمحقّق لغايات كبرى، نافياً عنها السلبيّات المتصوّرة في الشفاعات الخرافيّة.

الرابعة: أنّه ذكر بالنسبة للقسم العالميّ من الأديان: أنّ أصحابه يعرفون كيف يموتون أكثر ممّا يعرفون كيف ينتصرون، وطبّقه على المسيحيّة الواقعيّة التي تربّي أتباعها على الزهد بالدنيا والاهتمام بخلاص الروح من أسر هذه المتع الزائلة، وعدم المساهمة بالتالي في تحقيق أهداف المجتمع في النصرة والعزّة.

وهذه التصوّرات ـ التي طبّقها على ما افترضه هو مسيحيّة واقعيّة ـ بعيدة كلّ البعد عن الإسلام.

فإنّ الإسلام يعتبر الجهاد في سبيل النصر الإسلاميّ، وعزّة المجتمع المسلم، وتطبيق أهداف الإسلام في المجتمع من أفضل العبادات. وممّا لا شكّ فيه أنّ الدوافع الحركيّة في هذا السبيل تتجاوز كثيراً الدوافع المصلحيّة الضيّقة للنصر.

إنّ الانتصار في خلد المسلم يعني دفع عجلة التقدّم الإنسانيّ ذي المسيرة الواحدة عبر التأريخ إلى هدفها النهائيّ العظيم، وهو تحقيق المجتمع الكامل العابد الموحّد المتنعّم بكلّ خصائص السعادة الحقيقيّة. وكلّ مسلم مكلّف في تحقيق أقصى ما يمكن في هذا السبيل.

وما أكثر النصوص الواردة المؤكّدة على الإعداد الكامل لذلك من مثل: ﴿وَ أَعِدّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوّة وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ﴾(1).

إنّ المؤمن ليهتمّ بمصالح مجتمعه أكثر من اهتمامه بذاته ومصالحها، ومن هنا كان الزهد في الإسلام عمليّة تحرير من أسر المصالح الدنيويّة الضيّقة، وعلوّاً معنويّاً للنفس عليها، فلا يأسى على ما فاته، ولا يبطر بما حصل عليه منها.


(1) سورة الأنفال، الآية: 60.

32

إنّ النظم الإسلاميّة كفيلة بتنظيم الحياة وبتسييرها، وإقامة العدل، وإسعاد المجتمع على أفضل الأشكال، وهذا ممّا يحتاج إلى دراسة مستقلّة واسعة لسنا في هذا الكتاب بصددها إلّا بقدر ما يرجع إلى أساس نظام الحكم في الإسلام.

الخامسة: طرح (روسو) موضوع عداء الدين الإقليميّ للآخرين، وإلقائه روح التمزّق بين البشر.

والواقع: أنّ علينا أن نتوقّع هذا التمزّق مع تحكّم المقاييس المادّيّة في الأنظمة الاجتماعيّة، أمّا إذا رجعنا إلى الإسلام وتوحيده للمقاييس الإنسانيّة تحت عنوان (رضا الله) فقد حقّ لنا أن نتوقّع السلام وعدم التمزّق.

أمّا موقف الإسلام ـ في المرحلة التي تسبق توجيهه للعالم ـ من غير معتنقيه، فإنّه يختلف عمّا تصوّره (روسو) بالنسبة للدين الإقليميّ:

فإنّ الإسلام ـ وإن كان ينظر بعداء إلى من يخالفه ـ لكن هذا لا يعني السماح بقتله، بل إذا تجاوزنا المشركين الذين هم معاندون لإنسانيّتهم، يسمح الإسلام للمتديّن الكتابيّ بالبقاء على دينه على شروط معيّنة عادلة(1).

وربما فضّل الإحسان إلى هؤلاء كما هو مبيّن في محلّه(2).

 


(1) يشير سماحته بقوله: «يسمح الإسلام للمتديّن الكتابيّ بالبقاء على دينه على شروط معيّنة عادلة» إلى الشرائط التي تجب مراعاتها من قبل أهل الكتاب ـ وهم اليهود والنصارى والمجوس والصابئة ـ مقابل إقرارهم على ديانتهم، والتي تسمّى في كتب الفقه بشرائط الذمّة، وقد ذكرت تلك الشرائط في كتاب الجهاد من كتب الفقه، كالمبسوط: ج 2، للشيخ الطوسيّ(رحمه الله)، وشرايع الإسلام: ج 1، للمحقّق الحلّيّ(رحمه الله)، فراجع.

(2) يشير سماحته بقوله: «وربما فضّل الإحسان إلى هؤلاء» إلى ما ورد من النصوص في مشروعيّة الإحسان إلى بعض الكفّار، كقوله تعالى ـ في سورة الممتحنة، الآية 8 ـ: ﴿لا يَنْهاكُمُ الله عَنِ الّذينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنّ الله يُحِبّ الْمُقْسِطينَ﴾. والمعنى: لا ينهاكم الله عن أن تحسنوا وتعاملوا بالعدل الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم؛ لأنّ ذلك منكم إقساط، والله يحبّ المقسطين. وهي خاصّة

33

على أنّ هذا العداء له مبرّره المنطقيّ في ضوء ما قلناه في الكلمة الثانية والرابعة من تقييم الدين على أساس الواقع وضمانه للعدالة وإسعاد المجتمع، فإذا أثبت الدين واقعيّته وقيامه على ضوء اُسس العدل والمصالح الواقعيّة فإنّ أيّ مخالفة له في الواقع تعني مخالفة العدالة الحقيقيّة، والمصالح الواقعيّة للإنسانيّة.

وبعد هذا نقول: إنّ الإسلام بكلّ ما يمتلكه من خصائص حقّق انتصاراً عظيماًفي مجال توحيد السلطتين الدينيّة والدنيويّة، الأمر الذي فشلت فيه المسيحيّة،كما يؤكّد ذلك روسو ويمدح النبيّ محمّداً(صلى الله عليه وآله) على هذا الأساس، ويظنّ أنّ ذلك منعبقريّته وبراعته الإداريّة، غافلاً عن أنّ المجال ليس مجال عبقريّة وبراعة إنسانيّة،بل هو قائم على أساس طبيعة الإسلام وروحه الحقيقيّة ممّا نزل على النبيّ محمّد(صلى الله عليه وآله)بالوحي.

هذا، وروسو يعالج مشكلة الفصل بين السلطتين بسحق سلطة الدين وتمييعه وتلخيصه في كلمات مختصرة، وهو علاج صحيح لو كان المنظور إليه هو المسيحيّة التي ينظر إليها، أمّا علاج المشكلة الحقيقيّة فهو عبارة عن توحيد السلطتين الذي قام به


بالمشركين من أهل المعاهدة والذمّة.

وكقوله تعالى ـ في سورة الإنسان، الآية: 7 ـ 8 ـ: ﴿يُوفُونَ بِالنّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْمًا كانَ شَرّهُ مُسْتَطيراً، وَ يُطْعِمُونَ الطّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكيناً وَ يَتيماً وَ أَسيراً﴾، وسياق هاتين الآيتين وما بعدهما سياق الإقصاص، حيث تذكر قوماً من المؤمنين تسمّيهم الأبرار وتكشف عن بعض أعمالهم وهو الإيفاء بالنذر وإطعام مسكين ويتيم وأسير، وتمدحهم، والشاهد على كون الآيات مدنيّة كون الأسر إنّما كان بعد هجرة النبيّ(صلى الله عليه وآله) وظهور الإسلام على الكفر والشرك، لا قبلها.

هذا، وقد روى الخاصّة والعامّة أنّها نزلت في قصّة مرض الحسنين(عليهما السلام) ونذر عليّ وفاطمة(عليهما السلام) وفضّة جارية لهما: إن برئ الحسنان(عليهما السلام) ممّا بهما أن يصوموا ثلاثة أيّام. (راجع للتفصيل: تفسير الميزان، السيد الطباطبائيّ: ج 20، ص 126 فما بعد، وتفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسيّ، ج 1، ص 207 فما بعد).

فإطعام الأسير من قبل أهل البيت(عليهم السلام) دليل مشروعيّة الإحسان إلى بعض الكفّار.

34

الإسلام على ضوء تعاليم السماء لا لمجرّد براعة الرسول(صلى الله عليه وآله) في الإدارة»(1).

 


(1) قدّم سماحته الجواب عن تصوّرات روسو وفقاً للواقع الإسلاميّ، ومن المناسب الإشارة الى الخلفيّات الكنسيّة، والتأريخ المسيحيّ الذي يشكّل الخلفيّة النفسيّة والفكريّة التي انطلق منها كلام روسو ومن قال ما يناضر كلامه في تعريف الدين ممّا مضى ذكره، مبتدئين بالخيوط الاُولى للقضيّة وهي اعتناق اُوروبّا للمسيحيّة:

اعتناق اُوروبّا للمسيحيّة:

إنّ اُوروبّا ـ التي كانت على الوثنيّة ـ اعتنقت الدينَ النصرانيّ منذ القرن الأوّل للميلاد، ولم يألُ أباطرة الرومان الوثنيّون جهداً في القضاء على هذه الديانة التي تفشّت في مستعمراتهم، واستخدموا لتحقيق ذلك صنوف الاضطهاد والتنكيل طيلة القرون الثلاثة الاُولى، ومثال ذلك:

1 ـ قتل (مرقص) في الإسكندريّة عام (68م)، وهو الذي أدخل الديانة الجديدة إلى مصر.

2 ـ في عصر الإمبراطور دقلديانوس عام (248م) بلغ الاضطهاد والقتل ذروته، وأطلقت الكنيسة القبطيّة على ذلك العصر (عصر الشهداء) لكثرة ما قتل فيه من أتباع الديانة المسيحيّة.

لكن في عام (325م) مع اقتراب نهاية عظمة الإمبراطوريّة الرومانيّة اعتنق إمبراطور روما (قسطنطين) ـ ولو في آخر أيّامه بتعميده في مرض موته على رواية ـ الديانة المسيحيّة، وهو الذي نقل مركز الإمبراطوريّة من روما إلى القسطنطينيّة وجعل المسيحيّة دين الدولة، ممّا أدّى لانتشار المسيحيّة بشكل واسع، وسيطرتها على الحكم والملوك اللاحقين.

لكن هل الديانة المسيحيّة التي أصبحت الديانة الرسميّة للإمبراطوريّة الرومانيّة هي الديانة التي نزلت على عيسى(عليه السلام)؟

وقبل الإجابة عن ذلك السؤال علينا أن نستعرض مجمل الديانات والعقائد التي كانت سائدة في حوض البحر المتوسّط مولد الديانة المسيحيّة الحاليّة، وهي:

1 ـ الديانة اليهوديّة: وهي إحدى الديانات السماويّة.

2 ـ العقيدة المترائيّة: وهي عقيدة وثنيّة قديمة، قوامها الكاهن والمذبح، ترى أنّه لا خلاص للإنسان إلّا بافتداء نفسه عن طريق تقديم القرابين للآلهة بواسطة الكهّان.

3 ـ الوثنيّة المصريّة: ومن معتقداتها أنّ الآلهة ثلاثة: (حورس) الذي كان ابناً لسيراييس، و (سيراييس) الذي هو في الوقت نفسه حورس، و (إيزيس) والدة حورس.

4 ـ الوثنيّة الرومانيّة: ديانة الإمبراطوريّة الرسميّة، ومن مبادئها: أ ـ التثليث: (جوبيتر، مارس، كورنيوس) ب ـ عبادة الإمبراطور الذي يدّعي الربوبيّة. ج ـ تقديس الصور والتماثيل وعبادتها.

35


5 ـ أفكار فلسفيّة: من أهمّها: الفلسفة الرواقيّة التي تعني من الوجهة العمليّة: الانقطاع عن الدنيا، واعتبار إنكار الذات أسمى الغايات النبيلة، مناقضة بذلك الفلسفة الإباحيّة الأبيقوريّة التي كانت فاشية في المجتمع الرومانيّ.

ولو أنّنا حاولنا أن نستنبط من مجموع هذه العقائد عقيدة واحدة مشتركة لخرجنا بعقيدة تقوم على أربع دعائم:

1 ـ اعتقاد الفداء والخلاص. 2 ـ التثليث. 3 ـ عبادة الزعماء وتقديس تماثيلهم. 4 ـ الرهبانيّة.

وبالنظر إلى تلك الدعائم الأربع نستطيع أن نستنتج: أنّ تلك العقيدة المشتركة إذا قارنّاها بالعقيدة النصرانيّة التي اعتنقتها اُوروبّا سنجد أنّ تلك العقيدة المشتركة هي بعينها دعائم الدين النصرانيّ الذي دخلت فيه اُوروبّا على أنّها رسالة سماويّة، فإنّ اُوروبّا لم تدخل في النصرانيّة حقيقةً، وإنّما ألبست وثنيّتها ثوباً نصرانيّاً، ومن أدلّة ذلك مايقوله القرآن الكريم ـ في سورة التوبة: 3 ـ: ﴿وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله وَ قالَتِ النّصارى الْمَسيحُ ابْنُ الله ذلِك قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الّذينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَ نّى يُؤْفَكُونَ﴾. ومعنى يضاهئون: يشابهون. والمراد بالذين كفروا من قبل: هم الوثنيّون من الروم واليونان وشمال أفريقيا، لا العرب؛ لأنّ قول النصارى بالتثليث أقدم من تأريخ اختلاطهم بعرب الجاهليّة القائلين بأنّ الملائكة بنات الله، بل لم يكن العرب آنذاك على درجة من الرقيّ الحضاريّ الذي يؤهّلهم للمرجعيّة في ذلك. (راجع: تفسير الميزان للطباطبائيّ،ج 3، ص 305 فما بعد، منشورات جامعة المدرّسين، وقد أورد بحثاً مفصّلاً حول انحرافات الديانة المسيحيّة).

ونظير ذلك ورد ـ في سورة المائدة 77 ـ: ﴿قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا في دينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَ لا تَتّبِعُوا أَهْواءَ قَوْم قَدْ ضَلّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلّوا كَثيرًا وَ ضَلّوا عَنْ سَواءِ السّبيلِ﴾.

تحريف العقيدة:

إنّ عمليّة تحريف العقيدة النصرانيّة تمحورت ابتداءً على القول بأنّ للمسيح طبيعة إلهيّة، ويرى الكثيرون أنّ اليد الطولى في التحريف كانت لمبشّر تسمّيه المسيحيّة (بولس)، وهو الذي أثار موضوع اُلوهيّة المسيح لأوّل مرّة، وكانت هذه الدعوى البذرة الاُولى للتثليث.

بولس هذا ولد في مدينة (طرسوس) في (كيليكية) الواقعة في آسيا الصغرى (تركيا اليوم)، في فترة محتملة بين السنة الخامسة والعاشرة للميلاد. كان اسمه عند الولادة شاول وترعرع في كنف اُسرة يهوديّة، كما أنّه كان أيضاً مواطناً رومانيّاً عمل كصانع خيم، وكان مهتمّاً بدراسة الشريعة اليهوديّة حيث انتقل إلى اُورشليم ليتتلمذ على يد (غامالائيل) الفريسيّ أحد أشهر المعلّمين اليهود في ذلك الزمن.

36


وبعد أن أصبح شاول نفسه فريسيّاً متحمّساً ذا ميول متطرّفة عمل على محاربة المسيحيّة الناشئة على أنّها فرقة يهوديّة ضالّة تهدّد الديانة اليهوديّة الرسميّة، فنرى أوّل ظهور له في سفر أعمال الرسل في الإصحاح السابع حيث كان يراقب الشماس (استفانوس) وهو يُرجَم حتّى الموت، بينما كان يحرس هو ثياب الراجمين. وعقب إعدام (استفانوس) شنّ اليهود حملة اضطهاد بحقّ كنيسة اُورشليم مسبّبين في تشتّت المسيحيّين في كلّ مكان، فقام بولس بعد أن نال موافقة الكهنة بتتبّع المسيحيّين حتّى مدينة دمشق ليسوقهم موثّقين إلى اُورشليم. وفي طريقه إلى دمشق وبحسب رواية العهد الجديد حصلت رؤيا لشاول (بولس) سبّبت في تغيير حياته، حيث أعلن الله له عن ابنه بحسب ما قاله هو في رسالته إلى الغلاّطيّين، وبشكل أكثر تحديداً فقد قال بولس: أنّه رأى (الربّ يسوع)! (راجع للمزيد: التوضيح في حال الإنجيل والمسيح: الشيخ كاشف الغطاء، ص 68 ـ 73، إعداد مركز الأبحاث العقائديّة، قم المقدّسة، وهل العهد الجديد كلمة الله، د. منقذ بن محمود السقار، ص 21 فما بعد، سلسلة الهدى والنور (2)، السعوديّة).

فالرجل الذي كان عدوّاً للمسيحيّة أصبح رسول المسيحيّة والواضع لأهمّ أساسيّاتها و من أئمّة دعاتها و أعظم أعمدتها، فمن بين السبعة والعشرين سفراً من كتاب (العهد الجديد) نجد أنّ القدّيس بولس قد أ لّف ثلاثة عشر سفراً منها!

ويُذكر: أنّ من التحريفات التي دعى إليهار بولس هي:

1 ـ المسيح ابن الله.

2 ـ المسيحيّة دين عالميّ ليس خاصّاً ببني إسرائيل.

3 ـ عيسى صلب تكفيراً لخطايا البشر.

4 ـ قيامة عيسى(عليه السلام) من الأموات، وأنّه صعد وجلس عن يمين الله.

وبذلك أدخل بولس تغييراً عظيماً على دين النصارى ما دفع كثيراً من الباحثين إلى القول بأنّ مؤسّس الديانة المسيحيّة بشكلها وتركيبتها الحاليّة هو بولس وليس المسيح.

وقد شهدت الثلاثة قرون الاُولى التي تسمّيها الكنيسة بعصر الهرطقة (أي: عصر الاعترضات على الفكر الثالوثيّ الكنسيّ) صراعاً محتدماً بين أتباع بولس، ومنهم بابا الإسكندريّة وهو رئيس أنصار التثليث في وقته، وبين منكري التثليث وعلى رأسهم (آريوس) وهو كاهن من الإسكندريّة، ولم يكتب النصر النهائي للثالوثيّين إلّا في مجمع نيقية الذي عقد بناءً على تعليمات من الإمبراطور قسطنطين الأوّل في عام (325م) لدراسة الخلافات في كنيسة الإسكندريّة، إذ أنكر (آريوس) اُلوهيّة عيسى، فاعتقد أنّه كان هناك وقت لم يكن عيسى موجوداً فيه، واعتبره رفيعاً بين مخلوقات الله ومن صنعه، كما اعتبر أنّ روح القدس من صنع الله أيضاً. بينما أكّد (الكسندروس) الأوّل بابا الإسكندريّة ورئيس أنصار التثليث

37


أنّ طبيعة المسيح هي من نفس طبيعة الله، و تغلّب رأي الكسندروس الأوّل، ورفض (آريوس) و اثنين من القساوسة الموحّدين بإصرار التوقيع على إيمان المجمع بالطبيعة الإلهيّة للمسيح، فتمّ نفيهم إلى اليرا (البلقان حاليّاً) أو سجنهم، وحرّقت كتب (آريوس)، و سُمّي مذهبه ببدعة آريوس. (راجع للتفصيل: أضواء على المسيحيّة، د. رؤف شبليّ، ص 96 ـ 99، منشورات المكتبة العصريّة، صيدا ـ بيروت، عام 1975م).

فقدان الشريعة:

إنّ الانحراف العقائديّ الذي حصل في الديانة الكنسيّة والذي حوّلها إلى ديانة روحيّة تدريجاً، وبناء تعاليمها على أنّ الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل، وعدم قدرتها على معالجة المسألة التشريعيّة ونظام الحكم، وبالتالي فقدان الشريعة والقوانين المنظّمة للحياة المدنيّة.. أوجد فراغاً كبيراً، وفتح باب الاجتهادات الشخصيّة لرجال الدين وتدخّلاتهم غير المتّزنة في شؤون الحياة، ومن ثمّ حصول ذلك الطغيان المعروف في تأريخ الكنيسة.

صور طغيان رجال الكنيسة:

لم تدع الكنيسة جانباً من جوانب الحياة دون أن تمسكه بيد من حديد، وتغلّه بقيودها العاتية، فهيمنت على المجتمع من كلّ نواحيه الدينيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والعلميّة، وفرضت على عقول الناس وأموالهم وتصرّفاتهم وصاية لا نظير لها البتّة، وإنّ التأريخ ليفيض في الحديث عن طغيان الكنيسة ويقدّم نماذج حيّة له في كلّ شأن من الشؤون، ولنستعرض بعض الصور لذلك الطغيان الذي ولّد هذا النفور والمضادّة وإساءة الظنّ لدى عموم المفكّرين والباحثين بكلّ ما يرتبط بالكنيسة في فترة ما يسمّى بعصر التنوير أو الحداثة في اُوروبّا:

الطغيان الدينيّ:

منذ أن ظهر إلى الوجود ما يسمّى المسيحيّة الرسميّة في مجمع نيقية (325م) الذي فرضت فيه عقيدة التثليث، وحرّمت ولعنت مخالفيها، عزّزت الكنيسة سلطتها الدينيّة بادّعاء حقوق لا يملكها إلّا الله، مثل حقّ الغفران، وحقّ الحرمان، ولم تتردّد في استعمال هذه الحقوق واستغلالها، فحقّ الغفران أدّى إلى المهزلة التأريخيّة (صكوك الغفران) المعروفة، وحقّ الحرمان عقوبة معنويّة بالغة كانت شبحاً مخيفاً للأفراد والشعوب في آن واحد، فأمّا الذين تعرّضوا له من الأفراد فلا حصر لهم، منهم الملوك أمثال (فردريك) وهنري الرابع الألمانيّ، وهنري الثاني الإنجليزيّ، ورجال الدين المخالفين من آريوس حتّى مارتن لوثر قائد

38


حركة الإصلاح البروتستانتيّة، والعلماء والباحثون المخالفون لآراء الكنيسة من (برونو) إلى (أرنست رينان) وأضرابهما.

وأمّا الحرمان الجماعيّ فقد تعرّض له البريطانيّون عندما حصل خلاف بين الملك يوحنّا ملك الإنجليز وبين البابا، فحرمه البابا وحرم اُمّته، فعطّلت الكنائس من الصلاة، ومنعت عقود الزواج، وحملت الجثث إلى القبور بلا صلاة، وعاش الناس حالة من الهيجان والاضطراب حتّى عاد يوحنّا صاغراً يقرّ بخطيئته، ويطلب الغفران من البابا، ولما رأى البابا ذلّه وصدق توبته رفع الحرمان عنه وعن الاُمّة.

ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل أنشأت (محاكم التفتيش) لمعاقبة من يخالف المعتقد الرسميّ الذي تتبنّاه الكنيسة، وكانت الضحيّة الاُولى لهذه المحاكم مسلمي الأندلس الذين اُبيدوا إبادة تامّة بأقسى وأشنع ما يتخيّله الإنسان من الهمجيّة والوحشيّة، ثمّ ظلّت تمارس أعمالها على مخالفي الكنيسة وإن لم يكونوا مسلمين أو متأثّرين بالحضارة الإسلامية..

الطغيان السياسيّ:

إنّ فقدان الشريعة وضياع أو تحريف القوانين المدنيّة أسهم وبشكل كبير في أن تفرض الكنيسة نفسها وصيّة على الملوك والاُمراء، وترغمهم على الخضوع المذلّ لها، وتجعل معيار صلاحهم منوطاً بمقدار ما يقدّمونه لها من مراسم الطاعة وواجبات الخدمة.

لقد ظلّت النفسيّة الاُوروبّيّة تعاني تمزّقاً رهيباً بسبب الصراع المزمن الذي دار بين الكنيسة وبين الملوك، والمنافسة الشديدة بين الطرفين للقبض على مقاليد المجتمع وكسب ولاء الأفراد.

ولم تكن الحرب بين أتباع البابوات وأنصار الأباطرة إلّا حرباً بين حزبين متناحرين لا يكاد أحدهما يتميّز عن الآخر إلّا في الشعارات التي يخفي تحتها مطامعه الدنيويّة البحتة.

كان ملوك اُوروبّا يضيقون ذرعاً بتدخّل الكنيسة المتعنّت في كلّ شؤونهم، ذلك التدخّل الذي لا يجدون له مبرّراً، وفي نظرهم لم يكن لرجال الدين عليهم ميزة إلّا القداسة.

وليس ثمّة شكّ في أنّ النصر ظلّ حليف الكنيسة طيلة القرون الوسطى بسبب سلطتها الروحيّة البالغة، وهيكلها التنظيميّ الدقيق، واستبدادها المطلق، ولذلك فقد كان البابوات هم الذين يتولّون تتويج الملوك والأباطرة، ومن كان يرفض الرضوخ فإنّه من حقّ البابويّة أن تعلن الحرب الصليبيّة عليه، وتحرم اُمّته.

الطغيان الماليّ:

الملاحظ أنّ الأناجيل المسيحيّة برغم تحريفها لم تنه عن شيء نهيها عن اقتناء الثروة والمال، ولم تنفّر من شيء


39

 

مفهوم الوطن:

يتطرّق سماحة السيّد المرجع ـ دام ظلّه ـ إلى تحديد مفهوم الوطن بعد أن ينتهي من مناقشة روسو في تحديد مفهوم الدين، فيقول:

«ما يستنتج من النصّ المتقدّم لروسو هو: أنّ الوطن عبارة عن الأرض التي يعيش عليها جماعة شكّلوا أطرافاً للعقد الاجتماعيّ(1) وأنشؤوا شكلاً من أشكال الدولة».

 


تنفيرها من الحياة الدنيا وزخرفها، حتّى أنّ المتأمّل فيها لابدّ أن يؤخذ بروعة الأمثلة التي ضُربت للحياة الدنيا ومتاعها الزائل. وجاءت القرون التالية فشهدت مفارقة عجيبة بين مفهوم الكنيسة عن الدنيا وبين واقع الكنيسة العمليّ، فقد أصبح رجال الكنيسة أكبر ملاّك الأراضي، وأكبر السادة الإقطاعيّين في اُوروبّا، فقد كان (دير فلدا) مثلاً يمتلك (15000) قصر صغير، وكان (دير سانت جول) يملك ألفين من رقيق الأرض، وكان الكوين فيتور (أحد رجال الدين) سيّداً لعشرين ألفاً من أرقّاء الأرض. (راجع للتفصيل: العلمانيّة نشأتها وتطوّرها وآثارها في الحياة الإسلاميّة المعاصرة، الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحواليّ، الفصل الأوّل من الباب الثاني، ط جامعة اُمّ القرى ـ السعوديّة، وأضواء على المسيحيّة، د. رؤف شبليّ، ص 127 ـ 131، منشورات المكتبة العصريّة، صيدا ـ بيروت، عام 1975م)

فكان لهذا الطغيان وغيره ممّا لايسع المجال لذكره مردوداته السلبيّة الواسعة في النفسيّة الغربيّة، وتكوّن مفهومها عن الدين، بل كان ذاك التدخّل والنفوذ الواسعان العامل الأهمّ في قيام الثورة ضدّ الكنيسة، والمناداة بفصل الدين عن الدولة بتخيّل أنّ تلك المآسي وليدة الدين نفسه، فعمّمت المقولة غير مميّزة بين التجربة الكنسيّة والتجارب الدينيّة الاُخرى كالإسلاميّة مثلاً، لذا لم يكن ما حصل في التأريخ الاُوروبّيّ بالأمر الهيّن الذي يمرّ مرور الكرام عبر ذاكرة التأريخ لمراحل تكوّن الفكر الغربيّ، وإنّما كان الشرارة الاُولى لبدء السير نحو فصل الدين عن الدولة، وثمّ عن ميادين الحياة الاُخرى، بل تحولّت حركة الفكر تدريجاً نحو تأسيس مبدأ النسبيّة في مجال الأخلاق والفنّ والأدب، ثمّ الدين نفسه، منطلقة من القول بالنسبيّة في فهم نصوص الدين خاصّة، والفهم والمعرفة البشريّة عامّة.

وهذا التأريخ بهذه الصورة البشعة يتقاطع تماماً مع تأريخ تدوين كتاب الإسلام الخالد (القرآن الكريم)، والتأريخ المشرق لانتشار الإسلام، وسموّ مفاهيمه الفكريّة وتشريعاته الاجتماعيّة وتنظيمه لمؤسّساته الدينيّة والسياسيّة والاقتصاديّة في مجتمعه المدنيّ. وعليه فلا يقاس ما لدى الإسلام العظيم بما لدى الكنيسة.

(1) نظريّة العقد الاجتماعيّ التي دعا إليها روسو كأساس للحكم قد مضى نقاشها وإبطالها من قبل سماحته مدّ ظله

40

ثمّ يناقش سماحته هذا المفهوم عن الوطن وفق الرؤية الإسلاميّة، فيقول:

«ولكن هذا المفهوم عن الوطن يرفضه التصوّر الإسلاميّ للدولة، وإنّما الوطن عند الإسلام هو كلّ بلاد المسلمين، حيث تحكمها دولة إسلاميّة واحدة بقانون إسلاميّ واحد شرّعته لها السماء، ولم يقم على أساس من تعاقد اجتماعيّ وأمثاله.

ولا يمكننا تصوّر دول إسلاميّة عديدة في حال وجود الإمام(عليه السلام)، أمّا في حال غيبته فيمكن تصوّر مناطق عديدة تحكمها رئاسات، ولكنّها كلّها تطبق النظام الإسلاميّ بما فيه من تشريعات، وهي جميعاً تحكم بالنيابة عن الإمام(عليه السلام)(1).

 


في ص18 من كتاب أساس الحكومة الإسلاميّة، وهي (باختصار منّا عن: تأريخ الفلسفة الحديثة، يوسف كرم، ص 202 ـ 204) تتلخّص في أنّ روسو يرى أنّ الاجتماع أضحى ضروريّاً بعد أن خرج الإنسان من حالة التوحّد التي يراها روسو الحالة الطبيعيّة التي لعلّه لم يكن يعرف حتّى أهله فيها، بل لا لغة له ولا صناعة، ولا فضيلة ولا رذيلة من حيث إنّه لم يكن له مع أفراد نوعه أيّة علاقة، لكن الأسباب الطبيعيّة كالجدب والبرد والحرّ والفيضانات والزلازل دفعته لأن يتعاون مع غيره من أبناء نوعه، ويقيم معهم اجتماعاً، فاخترعت اللغة وتغيّر السلوك وبرز الحسد ونشبت الخصومة، ولا رادع فيها؛ إذ لاقانون إلّا خوف الانتقام، وبسبب تزايد سيطرة الإنسان على الطبيعة باستعماله للآلة وما مكّنه الاجتماع تزايد التفاوت في الثراء وتفاقم معه الخصام، فصار الانسان الطيّب بالطبع شريراً بالاجتماع.

ويرى روسو أنّه برغم المضارّ الناجمة عن الاجتماع لا ينبغي التفكير في فضّه والعودة إلى الحالة الطبيعيّة، بل لابدّ من إصلاح مساوئه بإقامة الحكومة الصالحة، وأن يُهيّأ لها المواطنون الصالحون بالتربية، فالفكرة التي عالجها روسو في كتابه (العقد الاجتماعي) هي إيجاد ضرب من الاتّحاد يحمي بقوّة المجتمع شخص كلّ عضو وحقوقه، ويسمح لكلّ شخص ـ وهو متّحد مع الكلّ ـ بأن لايخضع إلّا لنفسه، وبأن تبقى له الحرّيّة التي كان يتمتّع بها من قبل. ويرى روسو أنّ هذا الفرض ممكن التحقّق بأن تجتمع الكثرة المفكّكة على أن تؤلّف شعباً واحداً وأن تحلّ القانون محلّ الإرادة الفرديّة وما تولّده من خصومات، والقانون هو إرادة الكلّ التي تقرّ المنفعة العامّة، والإرادة الكلّيّة مستقيمة دائماً، فيرغم الفرد أو الأقلّيّة على الخضوع لها، فالمجتمع القائم على العقد يؤلّف هيأة معنويّة أو شخصاً عامّاً يقوم به الحقّ بعد أن كان كلّ فرد يتبع إرادته الخاصّة.

(1) هذا بحسب الحكم الفقهيّ الأوّليّ، بمعنى عدم وجود ما يدلّ على تحريم وجود مناطق عديدة تحكمها رئاسات

41

وعليه، فليست لدينا في التصوّر الإسلاميّ أوطان متعدّدة وإنّما هناك وطن إسلاميّ واحد هو ما يدعى في الفقه الإسلاميّ (دار الإسلام). ونقترح حصر التعبير عن الأرض الإسلاميّة بهذا الاصطلاح، وقصر التعبير بالوطن على مجال أحكام المسافر، حيث يختلف حكم المسافر في وطنه (أي: الأرض التي يقيم بها) عنه في حالة سفره إلى أماكن اُخرى.

والذي يدعونا إلى هذا الاقتراح هو ما يحمله مصطلح الوطن العامّ من إيحاءات غربيّة تبرّر اختلاف الوطنين على أساس اختلاف العقد الاجتماعيّ للمجموعتين اللتين تسكنان على قطعتين من الأرض، أو على أساس الاختلاف القوميّ أو العنصريّ أو الجغرافيّ أو حتّى مجرّد اختلاف مناطق النفوذ القائم على أساس القوّة العسكريّة ونحو ذلك.

هذا، بينما يرى الإسلام أنّ الفاصل الحقيقيّ بين الوطنين هو الإيمان والكفر لا غير»(1).

 

ثالثاً: توطئة وتعريف موجز بالكتاب:

توطئة في التقليد:

إنّنا ندرك إجمالاً ـ بمقتضى إيماننا بالإسلام ووجوب العمل بمقتضاه، أو بحكم إقرارنا بمولويّة المولى الحقّ تعالى ـ وجود تكاليف في الشريعة وإلزامات صادرة للعباد من قبل المولى الحقّ تعالى، فلابدّ من امتثالها والخروج عن المسؤوليّة تجاهها أداءً لحقّ مولويّة المولى تعالى وشكراً للمنعم على نعمه الجمّة علينا، ولامتثال تلك التكاليف توجد طرق


إسلاميّة في أدلّة الفقه، إلّا أنّ المصلحة الإسلاميّة العليا تقتضي وحدة الولاية دائماً لما في ذلك من قوّة ومنعة وعزّة للإسلام والمسلمين، فلابدّ من مراعاتها ما أمكن. وهذا ما أفتى به سماحة السيّد ـ دام ظلّه ـ في المسألة رقم (48) من كتاب الفتاوى المنتخبة، ج 2، ص 22، الطبعة العاشرة، حيث قال: «تعدّد الولايات بتعدّد الأقاليم ليس فيه عيب فقهيّ، ولكنّ المصلحة الإسلاميّة العليا تقتضي بالدرجة الاُولى وحدة الولاية مع الإمكان».

(1) أساس الحكومة الإسلاميّة: ص 44 ـ 45.

42

ثلاثة: إمّا هو العمل بالاحتياط، أو تحصيل الاجتهاد وبذل الوسع في تحصيل الحكم الشرعيّ، أو العمل بالتقليد والرجوع الى الفقيه لأخذ الفتوى منه.

وقد قال فقهاؤنا الأعاظم: إنّه لا شكّ في أنّ العمل بالاحتياط أو وفق الاجتهاد مجز ومفرغ لذمّة المكلّف عن المسؤوليّة تجاه تلك التكاليف، أمّا العمل بالتقليد، فهو أيضاً مجز، وقد ذكروا أدلّة متعدّدة لذلك، ونريد هنا أن نطلع القارئ الكريم ـ بلغة مبسّطة ـ على بعضها ليكون على معرفة بأدلّة الفقه على إجزاء التقليد الذي هو طريق عامّة المؤمنين لتحصيل البراءة تجاه تكاليف المولى تعالى كخطوة نحو التثقيف الفقهيّ المطلوب من كلّ المؤمنين الكرام حفظهم الله.

ونكتفي بتبسيط بعض ما ذكره سماحة السيّد المرجع ـ دام ظلّه ـ في بحوثه العليا كدليل لإجزاء العمل بالتقليد، فقد ذكر دام ظلّه(1): أنّه يمكن الاستدلال لإجزاء التقليد بروايات أهل البيت(عليهم السلام) و بسيرة العقلاء والمتشرّعة المعاصرين للمعصوم(عليه السلام).

أمّا الروايات، فقد وردت روايات متعدّدة عن أهل البيت(عليهم السلام) يستفاد منها إجزاء العمل بالتقليد، نكتفي بذكر ثلاثة منها:

الرواية الاُولى: وهي صحيحة من حيث السند، عن أحمد بن إسحاق، عن أبي الحسن(عليه السلام) قال: «سألته وقلت: من اُعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال: العمريّ ثقتي، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع، فإنّه الثقة المأمون»(2).

فإنّ سؤال السائل: «من اُعامل؟ وعمّن آخذ؟» عامّ يشمل السؤال عن أخذ الفتوى


(1) المؤسف أنّ بحث الاجتهاد والتقليد لم يطبع ـ على شكل كتاب ـ بعدُ برغم الفترة الطويلة التي مضت عليه، حيث إنّه بدأ بحثه فيه يوم 22 جمادى الاُولى عام (1414 هـ)، وما نذكره فهو عمّا كتبناه عن درسه الشريف. نعم، طبعت أخيراً بعض أجزائه في مجلّة (فقه أهل البيت(عليهم السلام)) بدءاً بالعدد (49).

(2) وسائل الشيعة، للشيخ الحرّ العامليّ، ج 27 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ص 138.

43

وعن أخذ الخبر، وكذا جواب الإمام(عليه السلام) بقوله: «فاسمع له وأطع» يشمل أخذ الفتوى على أقلّ تقدير إذا لم نقل بشموله للحكم الولائيّ أيضاً.

الرواية الثانية: وهي تامّة من حيث السند، عن إسحاق بن يعقوب(1) قال: «سألت محمّد بن عثمان العمريّ أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان(عليه السلام): أمّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبّتك....: وأمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله»(2).

وهي واضحة الدلالة على مشروعيّة التقليد وأخذ الفتوى؛ لأنّ الحجّيّة نسبت إلى نفس الراوي لا إلى ما ينقله، هذا فضلاً عن دلالتها على ولاية الفقيه وحجّيّة حكمه.

الرواية الثالثة: وهي تامّة من حيث السند أيضاً، عن يونس بن يعقوب قال: «كنّا عند أبي عبد الله(عليه السلام) فقال: أما لكم من مفزع؟! أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟! ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النصريّ؟»(3).

وبقرينة سؤال الإمام(عليه السلام) عن المفزع في ظرف يصعب اللقاء به مع ملاحظة أنّ عامّة الناس ترجع إلى الرواة أو الفقهاء لأخذ الموقف العمليّ والنتيجة النهائيّة المستنبطة ممّا هو محفوظ لديهم من الروايات يكون إرجاع الإمام(عليه السلام) إلى الحارث لأخذ الفتوى، لا لأخذ الرواية فقط.

أمّا سيرة العقلاء(4)، فهي قائمة ـ في اُمورهم الحياتيّة ممّا قبل الإسلام إلى يومنا هذا ـ على رجوع غير المتخصّص إلى المتخصّص فيما تخصّص فيه، كرجوع عامّة الناس إلى


(1) أثبت سماحة السيّد ـ دام ظلّه ـ وثاقة إسحاق بن يعقوب في مواضع متعدّدة من كتبه، منها ولاية الأمر في عصر الغيبة، الطبعة الثالثة، ص 120.

(2) وسائل الشيعة، ج 27 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت، ص 140.

(3) المصدر السابق، ص 145.

(4) ويوجد لها تقريبان، اخترنا ذكر الأوّل لسهولة فهمه.

44

الطبيب لمعرفة الدواء والشفاء من المرض، أو المهندس في مسائل الإعمار والبناء، وبماأنّ هذه السيرة لم يرد فيها نهي من قبل الشارع يوجب الردع عنها فنستكشف إمضاء الشارع لها وقبول سراية هذه السيرة إلى المجالات الشرعيّة، فيصحّ إذن رجوع عامّة الناس إلى الفقهاء لمعرفة الحكم الشرعيّ.

أمّا سيرة المتشرّعة، أي: سيرة المتديّنين الملتزمين بالأحكام الشرعيّة، فهي قائمة منذ زمن النبيّ(صلى الله عليه وآله) على الرجوع إلى العلماء ورواة الحديث في معرفة الأحكام الشرعيّة، ولو لم تكن هذه هي سيرتهم في معرفة الأحكام الشرعيّة، وكانت لديهم طريقة اُخرى، لكانت غير مألوفة ولكثرت الأسئلة بشأنها من المعصوم(عليه السلام)، ولوصلتنا تلك الطريقة وعرفناها ولو ببعض الروايات الضعيفة، لكن لم نجد شيئاً من ذلك حتّى في كتب غير الشيعة، فيثبت أنّ سيرة المتديّنين الملتزمين كانت قائمة على الرجوع إلى العلماء ورواة الحديث في معرفة الأحكام الشرعيّة عند عدم القدرة على السؤال من المعصوم، وهذا يعني مشروعيّة التقليد(1).

 

تعريف موجز بالكتاب

الكتاب الذي بين يديك ـ أخي القارئ ـ هو مجموعة تمثّل ما تلوناه عليك من ظاهرة التقليد في سيرة المتشرّعة والمؤمنين، والارتكاز المتشرّعيّ في رجوع عامّة الناس المقيّدين بأحكام الشريعة إلى الفقيه الواجد لشرائط الإفتاء لأخذ الفتوى منه، فهي عدد كبير إذن من الاستفتاءات التي وجّهها العديد من مقلّدي سماحة السيّد المرجع دام ظلّه، وقد تجمّعت لدى مكتب سماحته على مدى سنين طويلة تقارب الثلاثين سنة؛ إذ كان دأب المكتب ولا يزال على أن يستنسخ الاستفتاء بعد الإجابة عنه، ومن ثمّ يحتفظ


(1) نعم، لابدّ من تقليد الفقيه العادل الأعلم الواجد لسائر الشرائط المذكورة في الرسالة العمليّة على شرح وتفصيل لا يناسبه هذا الموجز.

45

بنسخة منه لديه. ولمّا تزايدت الطلبات من المقلّدين على إصدار رسالة عمليّة بادر المكتب إلى تبويب تلك الاستفتاءات وتهذيب أسئلتها، ثمّ عرضت على سماحة السيّد مدّ ظلّه للنظر فيها، وبعد إقرارها من قبل سماحته تمّ طبع الجزء الأوّل منها باسم (الفتاوى المنتخبة) عام (1417 هـ)، وتمّ طبع الجزء الثاني منها عام (1423 هـ)، وتكرّرت طباعة الجزءين مرّات عديدة، مع إضافات وتدقيقات متكرّرة.

وقد اُدمج الجزءان بعد حذف بعض المسائل غير الضروريّة وإضافة مسائل جديدة إليهما مع إصلاح الأخطاء المطبعيّة وتفكيك بعض الأبواب التي كانت تتضمّن كتابين أو أكثر من كتب الفقه، وجعل كلّ كتاب على حدة، وبعد مراجعتهما من قبل سماحة السيّد المرجع وملاحظة الموقف الفقهيّ النهائيّ لدى سماحته في مسائلهما، تمّ طبعهما ضمن كتاب واحد مثلما هو بين يديك.

وما زالت الاستفتاءات تترى على مكتب سماحته إلى اليوم، وما زالت طريقة تجميع الاستفتاءات قائمة، وستلحق ـ إن شاء الله ـ بعد تهذيب أسئلتها وتبويبها بالطبعات القادمة من الكتاب.

هذا، وغرضنا النهائيّ من هذا المجهود ـ كما هو سرّ موافقة سماحة السيّد المرجع دام ظلّه على طبعه ونشره ـ أن يتفقّه أتباع مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) ويعرفوا حلال شريعتهم وحرامها، وقد ورد التشديد والتأكيد البالغ من قبل أئمّة أهل البيت(عليهم السلام) في هذا الأمر.

فقد روى العلاّمة المجلسيّ(رحمه الله) في البحار(1) عن أحمد بن سليمان، عن محمّد بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ(عليهم السلام)، عن جابر بن عبد الله: «قال: قال النبيّ(صلى الله عليه وآله): ما عبد الله ـ عزّوجلّ ـ بشيء أفضل من فقه في دين، أو قال: في دينه». قال أحمد: فذكرته لمالك بن أنس فقيه أهل دار الهجرة فعرفه وأثبته لي عن جعفر بن محمّد(عليهما السلام).


(1) ج 1، ص 213، ح 8.

46

وعن سليمان بن عمر، عن أبي عبد الله، عن أبيه(عليهما السلام) قال: «لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتّى يكون فيه خصال ثلاث: التفقّه في الدين، وحسن التقدير في المعيشة، والصبر على الرزايا»(1).

وعن إسحاق بن عمّار قال: سمعت أبا عبد الله(عليه السلام) يقول: «ليت السياط على رؤوس أصحابي حتّى يتفقّهوا في الحلال والحرام»(2).

وعن محمّد، قال: قال أبو عبد الله وأبو جعفر(عليهما السلام): «لو اُتيت بشابّ من شباب الشيعة لايتفقّه لأدّبته». قال: وكان أبو جعفر(عليه السلام) يقول: «تفقّهوا وإلّا فأنتم أعراب»(3).

أي: فأنتم في الجهل بالأحكام الشرعيّة كالأعراب، وهم سكّان البادية الذين لا يعلمون الأحكام وحدود ما أنزل الله على رسوله(صلى الله عليه وآله).

نسأل الله تعالى أن يجعل ذلك خالصاً لوجهه الكريم ويتقبّله بأحسن القبول، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

 


(1) المصدر السابق، ح11.

(2) المصدر السابق، ح 12.

(3) المصدر السابق، ص 114، ح 16.

49

 

 

القسم الاول

في العبادات

 

 

 

 

○ كتاب الاجتهاد والتقليد والولاية.

○ كتاب الطهارة.

○ كتاب الصلاة.

○ كتاب الصوم.

○ كتاب الخمس.

○ كتاب الزكاة والصدقة.

○ كتاب الحجّ والعمرة.

○ كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

○ مسائل متفرّقة.

51

 

 

العبادات

1

 

 

 

 

 

كتاب

الاجتهاد والتقليد والولاية

 

 

 

 

○ الفصل الأوّل: مسائل في الاجتهاد والتقليد.

○ الفصل الثاني: مسائل في ولاية الفقيه.

 

53

 

 

 

 

 

الفصل الأوّل

مسائل في الاجتهاد والتقليد

(المسألة: 1) ما هو تعريف الاجتهاد بحسب رأيكم؟

الجواب: الاجتهاد هو ملكة الاستنباط، على الأقلّ بالمستوى المألوف لدى فقهاء الوقت.

(المسألة: 2) ما هو تعريف التقليد بحسب رأيكم؟

الجواب: التقليد هو الالتزام بفتاوى من يجب تقليده.

(المسألة: 3) هل وجوب التقليد في فروع الدين هو أمر تقليدي، أو اجتهادي؟

الجواب: اجتهادي، ويكفي في ذلك بناء العقلاء بالرجوع إلى المتخصّصين في كافّة الاُمور التخصّصيّة كالطبّ وغيره.

(المسألة: 4) ما هي السورة أو الآيات التي أوجبت على المكلّف التقليد في أحكام الدين أو العمل بالاحتياط؟

الجواب: اعتبر العلماء دليل التقليد من القرآن مثل قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون﴾، إلّا أنّ العمدة في دليل التقليد هي الروايات أوّلاً، وثانياً: بناء العقلاء في رجوع غير أهل الخبرة إلى أهل الخبرة في كافّة الفنون.

(المسألة: 5) هل يجب الرجوع في التقليد في مسألة خلافيّة ـ مثل تغطية

54

الوجه للمرأة ـ إلى الأعلم، أو له اختيار غيره؟

الجواب: المشهور بين العلماء هو وجوب الرجوع إلى الأعلم، وهذا هو رأينا أيضاً.

(المسألة: 6) هل تقليد الأعلم فتوى أو احتياط وجوبي؟

الجواب: وجوب تقليد الأعلم فتوى.

(المسألة: 7) شخص بلغ سنّ التكليف وطلب معرفة تكليفه ـ حينئذ ـ فبحث في أحاديث آخر الأئمّة: الإمام الحجّة (عليه السلام)، فوجد أنّه في حديث له وجّه الناس إلى الفقهاء ليأخذوا منهم الأحكام تقليداً، وثبت له صحّة وحجّيّة هذا الحديث بطريقة معيّنة، ثمّ حين أراد التقليد وجدَ بعض الفقهاء يوجبون تقليد الأعلم، والبعض الآخر يجيزون تقليد الأعلم وغيره، فما هو تكليفه؟ هل يجب عليه تقليد الأعلم، أو يجوز له التقليد مطلقاً؟ وما هو المسوّغ على تقدير وقوع الفرضين؟

الجواب: لو عرفَ الأعلم وجب عليه تقليده، ولو لم يعرف الأعلم تخيّر في تقليد من يشاء من الفقهاء العدول.

(المسألة: 8) شخصٌ توفّي مرجع تقليده وأراد معرفة موقفه من فتاوى المتوفّى باللجوء إلى أحد المجتهدين لتحديد ذلك الموقف، فهل يرجع إلى الأعلم أو يجزيه غيره؟

الجواب: لو عرف أعلم الأحياء رجعَ إليه في جواز البقاء على تقليد الميّت أو عدم جوازه، فلو لم يجوّز له البقاء على تقليد الميّت رجع إليه في مسائله، ولو لم يعرف أعلم الأحياء تخيّر في الرجوع إلى من يرغب فيه من الفقهاء العدول، فيرجع إليه في جواز البقاء على تقليد الميّت وعدم جوازه، فلو لم يُجز له البقاء على تقليد الميّت رجع إليه في جميع مسائله.

(المسألة: 9) لدى شخص مسائل ويصعب عليه الحصول على الحكم الشرعي

55

لمسائله ممّن يقلّده سواء للبعد أو للعراقيل الموجودة، فهل يصحّ له أخذ حكم هذه المسائل من مجتهد غير الذي هو مقلّده مع عدم النظر إلى كونه أعلم، أم لا؟

الجواب: مع صعوبة الحصول على رأي من يقلّده يأخذ رأي فقيه آخر، ومادام هو لا يعرف من هو أعلم الباقين بعدَ مقلَّده يكون مخيّراً في الرجوع إلى من شاء منهم.

(المسألة: 10) شهد أحد المبلّغين لنا في ألمانيا الغربيّة بأنّ سماحتكم أعلم الأحياء، فهل يجزي ذلك للرجوع إليكم في الاُمور المستحدثة، أم علينا أن نجد شخصاً آخر من أهل الخبرة يشهد بأعلميّتكم من جميع الأحياء؟

الجواب: يكفي في رأيي الشاهد الواحد، ولكن لا يصحّ لك تقليدي في هذه المسألة؛ لأنّه يستبطن الدور، فلا بدّ لك من تحصيل شاهد ثان. نعم، لو أنّك لم تملك بالنسبة للآخرين شاهداً كان بإمكانك أن تجعل الشاهد الواحد مرجّحاً.

(المسألة: 11) هناك اُمور قد نسيتها من الأحكام من كتاب (الفتاوى الواضحة)، فهل يجوز مراجعتها في الكتاب والعمل بها؟

الجواب: نعم، يجوز لك ذلك من باب البقاء على تقليد الميّت.

(المسألة: 12) شخص قلّد السيّد الإمام(قدس سره) في حياته دون الفحص عن الأعلم وإنّما على أساس ما حقّقه من انتصار للإسلام، وبعد ذلك اعتقد على أساس إخبار ثقة أنّ تكليفه التخيير في التقليد بين السيّد الإمام وأحد المراجع الموجودين على أساس تساويهما في الأعلميّة، فهل يصدق أنّ تقليد هذا المكلّف مشكوك الصحّة؟ وما هو تكليفه الآن بعد وفاة الإمام (رضوان الله عليه) على فرض صحّة تقليده السابق أو عدم صحّته؟

الجواب: ليفحص الآن عن أعلم الأحياء، فإن عرفه عمل بما يفتي به من البقاء على تقليد السيّد الإمام(قدس سره)أو العدول عن السيّد الإمام(قدس سره)إليه، وإن لم يعرفه وتردّد