37

فتحصّل من جميع ما ذكرناه: أنّ إثبات انحصار العلّة في الشرط لا يوجب ثبوت المفهوم المصطلح أصلا: لا في فرض كون المعلّق مطلق وجود الحكم؛ لما عرفت من ثبوت المفهوم عندئذ ولو مع عدم إثبات الانحصار، ولا في فرض كون المعلّق صرف وجود الحكم؛ لما عرفت من أنّه من الممكن عندئذ أن يكون شيء آخر بقيد مسبوقيّته بالشرط المنقضي أمده علّة اُخرى للحكم، ولا في فرض كون المعلّق شخص الحكم على ما سلّموه من أنّه مع فرض كون المعلّق شخص الحكم لم يمكن إثبات المفهوم بكون الشرط علّة منحصرة بوجه، وإن عرفت ما فيه من أنّه بناءً على تماميّة أحد تقاريب المفهوم ـ وهو كون مقتضى إطلاق العلّة علّيّتها في أيّ حال سواءً تقدّم عليه أو قارنه شيء خاصّ أو لا ـ يوجب انحصار العلّة في الشرط ثبوت المفهوم حتّى مع فرض كون المعلّق شخص الحكم.

وعلى فرض تماميّة هذا المبنى يثبت المفهوم أيضاً بفرض انحصار العلّة في الشرط فيما لو كان المعلّق صرف الوجود من الحكم، بالمعنى الذي لا ينطبق إلّا على أوّل الوجود. والإشكال فيه بإمكان تقييد علّيّة الشيء الآخر بمثل كونه مسبوقاً بالعلّة الاُولى المنقضي أمدها مع سقوط الحكم الأوّل إشكال في أصل ذلك المبنى وثابت حتّى في فرض كون المعلّق شخص الحكم.

فالتحقيق: أنّه لو قبلنا ذلك المبنى كان الانحصار منتجاً للمفهوم إذا كان المعلّق شخص الحكم أو صرف وجوده بلا فرق بينهما؛ لما عرفت من أنّ ذلك الإشكال إشكالٌ على أصل المبنى وغير مختصّ بأحد الفرضين دون الآخر. نعم، لا نحتاج إلى إثبات الانحصار إذا كان المعلّق مطلق وجود الحكم؛ فإنّ نفس تعليق مطلق الوجود كاف في ثبوت المفهوم بلا حاجة إلى إثبات العلّيّة الانحصاريّة.

ولو لم نقبل ذلك المبنى فإثبات الانحصار لا يفيد المفهوم أصلا. وبما أنّ

38

التحقيق بطلان ذلك المبنى فلابدّ أن يقال: إنّ العلّيّة الانحصاريّة لا تفيدنا في إثبات المفهوم أصلا.

إن قلت: بل تفيد المفهوم في فرض واحد، وهو ما لو كان المعلّق صِرف الوجود من الحكم وهو أوّل وجوده وكان الشرط انحلاليّاً، كما إذا قال: (مهما جاءك زيد فأكرمه)، وكان المستفاد منه أنّ في كلّ مرّة جاءنا زيد وجب إكرامه، لا أنّه يجب إكرامه في خصوص المرّة الاُولى. وعندئذ لا إشكال في أنّه قبل مجيئه لا يجب إكرامه؛ لأنّ المفروض أنّ مجيئه علّة منحصرة لأوّل الوجود من وجوب الإكرام، فإذا جاءنا زيد وأكرمناه فالخطاب بـ (إن جاءك زيد فأكرمه) باق بعدُ؛ لفرض انحلاله، فأيضاً يدلّ على عدم وجوب إكرامه قبل مجيئه، وهكذا.

قلت: هذا ليس من المفهوم المصطلح؛ فإنّ النفي المعلّق لوجوب الإكرام إنّما استفيد من خطابات متعدّدة بقوله: (إن جاءك زيد فأكرمه) بحسب الانحلال، فيكون ذلك من قبيل ما لو ضممنا قضيّة إلى قضيّة واستفدنا من مجموعهما النفي المطلق للحكم عند انتفاء الشرط وهذا غير المفهوم.

وبكلمة اُخرى: قد قلنا: إنّ انحصار العلّة في الشرط مع فرض كون المعلّق صرف الوجود إنّما يوجب عدم ثبوت الحكم من ناحية علّة اُخرى قبل انتهاء أمد العلّة الاُولى لا مطلقاً حتّى يكون مفهوماً، ونقول: إنّ في فرض انحلال الشرط أيضاً لم يدلّ انحصار الشرط إلّا على عدم ثبوت الحكم من ناحية علّة اُخرى غير الشرط قبل انتهاء أمده، غاية الأمر أنّ هناك شروطاً عديدة يدلّ الانحصار بالنسبة إلى كلّ واحد منها على عدم ثبوت الحكم من ناحية علّة اُخرى غير ذلك الشرط قبل انتهاء أمده، وهذا غير المفهوم المصطلح. هذا.

وقد ظهر من جميع ما ذكرناه: أنّه يرد على ما سلّمه المشهور والمحقّق

39

العراقيّ رضوان الله عليهم ـ وهو: أنّ لاقتناص المفهوم ركنين: كون الشرط علّة منحصرة، وكون المعلّق سنخ الحكم ـ إشكالات ثلاثة:

الأوّل: أنّه ليست العلّيّة الانحصاريّة ركناً تعيينيّاً لاقتناص المفهوم؛ لأنّه إذا ثبت بالإطلاق كون المعلّق مطلق وجود الحكم كفى ذلك في تحقّق المفهوم؛ فإنّ معناه أنّه إذا وُجد الشرط فقد تحقّق مطلق وجود الحكم. ولو فُرض ثبوت فرد من أفراد الحكم بدون الشرط كان ذلك خلفاً لفرض أنّه لو وُجد الشرط فقد تحقّق مطلق وجود الحكم.

الثاني: أنّه ليس كون المعلّق سنخ الحكم ركناً تعيينيّاً لاقتناص المفهوم، بناءً على مبنى مَن يثبت المفهوم بقاعدة امتناع صدور الواحد من اثنين، فإنّه يكون الركن الأوّل عندئذ كافياً لإثبات المفهوم، فيثبت المفهوم سواءً كان المعلّق مطلق وجود الحكم أو صرف وجوده أو شخصه.

ولا يخفى أنّ هذا الإشكال إنّما هو إشكال جدليّ يرد على مَن يقول بصحّة هذا المبنى، لكنّا لا نقول بصحّته، فلا يكون هذا الإشكال صحيحاً عندنا وإن صحّ إلزام القائل بهذا المبنى بذلك.

الثالث: أنّ ركنيّة الأوّل وهو كون الشرط علّة منحصرة في المفهوم ممنوعة رأساً، وهذا غير الإشكال الأوّل؛ فإنّ الإشكال الأوّل عبارة عن منع كونه ركناً تعيينيّاً، وهذا الإشكال عبارة عن إنكار أصل ركنيّته ولو على نحو البدل، وذلك لما قلناه: من أنّ مبنى إثبات المفهوم بالتشبّث بقاعدة امتناع صدور الواحد عن اثنين غير صحيح، فإنّ امتناع صدور الواحد عن اثنين لا ينافي نشوء الحكم من علّة اُخرى بعد انتهاء أمد العلّة الاُولى وسقوط الحكم الأوّل بالامتثال أو العصيان، وإنّما ينافي نشوءه كذلك قبل سقوطه، فنقول: إنّه إذا كان المعلّق شخص الحكم أو

40

صرف وجوده المنطبق على خصوص أوّل الوجود فلا يتحقّق المفهوم وإن فرض الشرط علّة منحصرة. وإذا كان المعلّق مطلق وجود الحكم فقد عرفت أنّه يثبت المفهوم وإن لم يكن الشرط علّة منحصرة.

ويأتي هذا الكلام أيضاً إذا بنينا على مبنى المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره)، وهو: أنّ المعلّق شخص الحكم لكن لا بما هو هو بل بما هو فرد من أفراد الطبيعة، وهذا الكلام مرجعه إلى أنّ المعلّق في الواقع هو الطبيعة وسنخ الحكم وإن كان المعلّق في الكلام خصوص هذا الشخص.

فإن شئت فقل: إن كان ما هو المعلّق في الواقع الطبيعة على نحو مطلق الوجود ثبت المفهوم وإن لم يثبت كون الشرط علّة منحصرة، وإن كان ما هو المعلّق في الواقع صرف الوجود من الحكم الذي لا ينطبق إلّا على مطلق الوجود لم يثبت المفهوم وإن ثبت كون الشرط علّة منحصرة، فركنيّة الأوّل ممنوعة رأساً ولا نحتاج في إثبات المفهوم إلى إثباته أصلا.

ويمكن أن يقال: إنّ هذا الإشكال أيضاً إشكال جدليّ كالإشكال الثاني وإلزام لهم على مبناهم، لا إشكال واقعيّ كالإشكال الأوّل بأن يكون عدم الاحتياج إلى الركن الأوّل رأساً صحيحاً في الواقع.

توضيح ذلك: أ نّا لو سلمنا أنّ المعلّق لا يخلو حاله من اُمور ثلاثة: إمّا أن يكون على نحو مطلق الوجود، وإمّا على نحو صرف الوجود، وإمّا أن يكون شخص الحكم، صحّ القول بعدم الاحتياج إلى إثبات العلّيّة الانحصاريّة في إثبات المفهوم رأساً؛ لما عرفت من أنّه على الأوّل يثبت المفهوم حتّى مع عدم العلّيّة الانحصاريّة، وعلى الأخيرين لا يثبت المفهوم حتّى مع ثبوت العلّيّة الانحصاريّة، لكنّا لا نسلّم ذلك، بيانه: أنّهم ذهبوا إلى أنّ الطبيعة إنّما يتعلّق بها الحكم بلحاظ فنائها في بعض

41

الأفراد المخصوصة أو في جميع الأفراد أو في فرد واحد، وينطبق قهراً على أوّل الوجود، فالأوّل هو المقيّد والثاني والثالث مطلقان، إلّا أنّ الأوّل منهما يكون على نحو مطلق الوجود والثاني على نحو صرف الوجود.

لكنّا لم نقبل هذا المبنى ومختارنا في ذلك هو: أنّ الطبيعة لا يعقل فناؤُها في فرد مخصوص أو في جميع الأفراد أو في فرد واحد: فإنّه إن كان المراد فناءها في مفهوم الفرد المخصوص أو الفرد الواحد أو جميع الأفراد ورد عليه: أنّه لا يعقل فناء مفهوم في مفهوم. وإن كان المراد فناءها في مصداق هذه المفاهيم ورد عليه: أنّ الفاني في معنون ليس إلّا نفس عنوانه لا عنوان آخر، فالفاني في مصداق الفرد المخصوص أو فرد واحد أو جميع الأفراد إنّما هو عنوان الفرد المخصوص أو فرد واحد أو جميع الأفراد لا عنوان الطبيعة، وأمّا عنوان الطبيعة فإنّما تفنى في شخصيّتها ومصداقها، والإطلاق عبارة عن إلغاء الخصوصيّات لا الجمع بين الخصوصيّات، ومقتضى أصالة تطابق عالم الثبوت والإثبات أن لا يكون الموضوع أو المتعلّق إلّا ذات الطبيعة.

وإذا كان المعلّق ذات الطبيعة فالشرط إن كان علّة منحصرة فلا محالة لا يوجد فرد من أفراد الطبيعة بعلّة اُخرى، وإلّا لم تكن علّة وجود الطبيعة منحصرة في ذلك، فإنّ الطبيعة منطبقة قهراً على ذلك الفرد، فيتحقّق الانتفاء عند الانتفاء مطلقاً وهو المفهوم. وأمّا إن لم يكن علّة منحصرة فمن الممكن تحقّق بعض أفراد الطبيعة بعلّة اُخرى، فإنّه لا يلزم من ذلك سوى ثبوت علّة اُخرى للطبيعة، حيث إنّها منطبقة على ذلك الفرد، والمفروض أنّه لا مانع من ذلك، فنحتاج ـ أشدّ الاحتياج ـ في إثبات المفهوم إلى إثبات كون الشرط علّة منحصرة إذا كان الجزاء مطلقاً بهذا المعنى.

42

فتحقّق: أنّ ما ينبغي أن يجعل ضابطاً لاقتناص المفهوم أمران:

أحدهما: أن يكون المعلّق بحكم الإطلاق مطلق الوجود الذي هو أحد قسمي المطلق عندهم، فيثبت المفهوم بلا حاجة إلى إثبات كون الشرط علّة منحصرة.

والثاني: ما يكون مركّباً من أمرين: الأوّل: أن يكون المعلّق مطلقاً بالمعنى الذي ذكرناه نحن. والثاني: أن يكون الشرط علّة منحصرة للجزاء.

وإنّما عبّرنا بالعلّة المنحصرة مع أنّه من الممكن ثبوت الانتفاء عند الانتفاء بوجه آخر، كفرض كون الشرط والجزاء معلولين لعلّة منحصرة؛ لأنّه إذا لم يكن المعلّق على الشرط الحكم بمطلق وجوده ـ الذي هو أحد قسمي الإطلاق عندهم ـ لا يكون لنا طريق يمكن أن يركن إليه في مقام الإثبات لتحقّق المفهوم سوى العلّيّة الانحصاريّة، وليس لغيرها من كونهما معلولين لعلّة منحصرة وغير ذلك طريق للإثبات.

فتحقّق: أنّ كون الشرط علّة منحصرة ليس منعزلا عن الركنيّة رأساً، بل هو أيضاً دخيل في ثبوت المفهوم، فإنّه لو قلنا بما هو صريح السيّد الاُستاذ (دامت بركاته) وظاهر الباقين ـ: من أنّ المطلق تارةً يكون فانياً في مطلق وجود الطبيعة وكلّ أفرادها، واُخرى في صرف وجودها المساوق لأوّل وجودها ـ صحّ القول بعدم دخل العلّيّة الانحصاريّة في المفهوم، فإنّه على الأوّل يثبت المفهوم حتّى بدون العلّيّة الانحصاريّة للشرط، وعلى الثاني لا يثبت المفهوم حتّى مع ثبوت العلّيّة الانحصاريّة له.

لكنّا نقول: إنّ مسألة كلّ الأفراد والفرد الواحد إنّما هي مربوطة بباب العموم، فتارة يقال: (أكرم كلّ عالم)، واُخرى يقال: (أكرم أيّ فرد منهم) بمعنى وجوب إكرام فرد واحد أيّهم كان، وليس ذلك ـ أعني: مفهوم (كلّ) ومفهوم (أيّ) ـ مربوطاً بباب الإطلاق، وإنّما المطلق هو الطبيعة الفانية بمعنى لحاظها خارجيّة، ولا نعني

43

بفنائها إلّا هذا، وإذا كان المعلّق على الشرط ذلك فلا محالة تنتفي الطبيعة مطلقاً بانتفاء الشرط إن كان علّة منحصرة، وأمّا إن كانت هناك علّة اُخرى فبوجودها أيضاً توجد الطبيعة.

وبعد: فتحقيق الكلام في المقام مايلي:

إنّ المعلّق تارةً: يفترض في لبّ الواقع عبارة عن الطبيعيّ بإطلاقه، ويفسّر هذا الإطلاق بمعنى مطلق الوجود، وعندئذ يكون هذا وحده كافياً لاقتناص المفهوم؛ إذ لو وجد قسم للحكم من دون وجود الشرط كان هذا خلف ترتّب مطلق وجود الحكم على الشرط(1).

ولا فرق في ذلك بين فرض ثبوت كون المعلّق هو السنخ بمقدّمات الحكمة، أو فرض إثبات أنّ المعلّق حتّى لو كان شخص الحكم، فالقضيّة دلّت على أنّ المعلّق في لبّ الواقع هو الطبيعيّ، فالمهمّ أنّ المعلّق في لبّ الواقع هو السنخ.

واُخرى: يفترض أيضاً أنّ المعلّق هو مطلق الحكم ولكن يفسّر الإطلاق بالمعنى المختار لنا، وهو إرادة ذات الطبيعة منفصلة عن جميع القيود، وعندئذ فالإطلاق وحده غير كاف لاقتناص المفهوم، ولكن لو أثبتنا دلالة القضيّة على التعليق اللزوميّ يثبت المفهوم.

ولا نقصد هذه المرّة بالتعليق ما كان مقصوداً قبل هذا الكلام من مجرّد الربط أو استلزام الشرط للجزاء، بل المراد منه الآن ما يراد من مثل قولنا: (وجود النهار



(1) ولا فرق في ذلك بين أن نفسّر ترتّب مطلق وجود الحكم على الشرط، بمعنى انحصار مطلق وجود الحكم في هذا الفرد الذي يترتّب على الشرط كما مضى أن نقلناه عن المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، أو نفسّر بمعنى أنّ تمام أنحاء هذا الحكم مترتّب على هذا الشرط ولو بأن يتعدّد أنحاء الحكم المترتّبة على أفراد الشرط.

44

معلّق على طلوع الشمس)، ولا إشكال في دلالة هذا الكلام على انتفاء النهار عند انتفاء طلوع الشمس، في مقابل أن يقال: (طلوع الشمس مستلزم لوجود النهار)، فإنّه لا يدلّ على الانتفاء عند الانتفاء؛ لاحتمال كونه لازماً أعمّ.

وثالثة: يفترض عدم كون الجزاء مطلق الحكم بمعنى مطلق الوجود، ولا التعليق بالمعنى الجديد الذي أشرنا إليه أخيراً، وعندئذ لا سبيل لاقتناص المفهوم إلّا إثبات العلّيّة الانحصاريّة.

فالضابط لاقتناص المفهوم عبارة عن أحد اُمور ثلاثة:

الأوّل: أن تدلّ القضيّة على كون الجزاء مطلق الوجود، وهو الإطلاق الذي يكون من قبيل العموم الاستغراقيّ.

والثاني: أن تدلّ القضيّة على أنّ الجزاء ذات الطبيعة المطلقة بالمعنى الذي اخترناه للإطلاق، وأن تدلّ أيضاً على التعليق اللزوميّ، لا على الصدفة ولا على مجرّد الربط الذي هو غير التعليق بالمعنى الذي أشرنا إليه أخيراً.

والثالث: أن تدلّ القضيّة على العلّيّة الانحصاريّة للشرط بالنسبة لطبيعة الجزاء(1).

هذا هو تمام الكلام فيما هو الضابط لاقتناص المفهوم.

ولنبدأ الآن في البحث عن كلّ قسم من أقسام المفهوم، ومن الله التوفيق وبه الاستعانة، إنّه خير معين.



(1) وإن شئت فعبّر بأنّ الضابط لاقتناص المفهوم أحد أمرين:

الأوّل: كون المعلّق سنخ الحكم: إمّا بمعنى مطلق الوجود، وإمّا بمعنى ذات الطبيعة، وهو المعنى الذي اخترناه للإطلاق، إلّا أنّه على الثاني يحتاج ثبوت المفهوم ـ زائداً على فرض كون المعلّق سنخ الحكم ـ إلى دلالة القضيّة على التعليق بالمعنى الذي أشرنا إليه أخيراً.

والثاني: العلّيّة الانحصاريّة لذات طبيعة الحكم.

45

 

 

 

 

 

 

 

الكلام في أقسام المفهوم

 

مفهوم الشرط

يقع الكلام في مفهوم الشرط في مقامات ثلاثة:

أوّلا: فيما هو مفاد القضيّة الشرطيّة.

ثانياً: في أنّه هل المعلّق سنخ الحكم(1) أو شخصه؟

ثالثاً: في أنّه هل الشرط علّة منحصرة أو لا؟

 

مفاد القضيّة الشرطيّة

أمّا المقام الأوّل: وهو البحث في مفاد القضيّة الشرطيّة بمنطوقها، فيقع البحث فيه من ثلاث جهات:

 

مفاد أداة الشرط:

الجهة الاُولى: في مفاد أداة الشرط.



(1) بأحد المعنيين الماضيين، أعني: مطلق الوجود أو ذات الطبيعة.

46

المشهور بين الاُصوليّين: أنّ أداة الشرط تدلّ وضعاً على تعليق الجزاء على الشرط(1).

لكنّ المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) ذكر: أنّ أداة الشرط إنّما يكون مفادها جعل الشرط مقدّراً، والترتّب إنّما يستفاد من ترتيب الجزاء على الشرط(2)، وليس للأداة دخل في ذلك(3).

ويتّضح مراده(قدس سره) بالنظر إلى ما يقال في الجملة الحمليّة: من أنّها تارةً تكون خارجيّة واُخرى حقيقيّة:

فالخارجيّة ما يكون قد حكم فيه بالمحمول على الموضوع المحقّق الوجود في زمان خاصّ أو في أحد الأزمنة الثلاثة، فمثال الأوّل: (كلّ مَن في العسكر قتل)، ومثال الثاني: (كلّ إنسان يموت).

والحقيقيّة ما يكون قد حكم فيه بالمحمول على الموضوع أعمّ من تحقّقه في أحد الأزمنة الثلاثة وعدمه، وذلك بأن لا يلحظ الموضوع بعنوان الإشارة إلى ما في الخارج، بل يقدّر الموضوع محقّقاً ويحكم عليه وإن لم يكن محقّقاً، وذلك كقولنا: (كلّ إنسان حيوان ناطق)، فإنّه ليس معناه أنّ خصوص الأفراد المتحقّقة في الخارج في أحد الأزمنة حيوان ناطق، بل معناه أنّه كلّما فرض إنسان فهو حيوان ناطق. ونحوه قولنا: (النار حارّة)، فإنّ معناه أنّه كلّما فرض النار فهي



(1) ولو بالمعنى الأوّل للتعليق، أعني: مجرّد الربط والترتّب بالمعنى المنظور إليه من طرف الشرط إلى الجزاء.

(2) يعني بالفاء أو بالهيئة التركيبيّة.

(3) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 53 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام)، التعليق رقم: 20، وص 412، التعليق رقم: 248.

47

حارّة، لا بمعنى موضوعيّة ذات الفرض والتقدير حتّى يلزم حصول الحيوان الناطق أو الحرارة بصِرف تصوّر الإنسان أو النار وفرضه، بل بمعنى فرض الموضوع وتقديره.

إذا عرفت هذا قلنا: إنّ المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) أفاد أنّ أداة الشرط لا تفيد التعليق، وإنّما تفيد كون الشرط مفروضاً ومقدّراً، فيكون أعمّ من الموجود في أحد الأزمنة الثلاثة وغيره، نظير الموضوع في القضايا الحمليّة الحقيقيّة.

ثُمّ لمّا رتّب على هذا الشرط الجزاء فمن نفس هذا الترتيب يستفاد ترتّب الجزاء على الشرط، واستشهد(رحمه الله) على مدّعاه باُمور ثلاثة: أحدها: شهادة الوجدان بذلك. والثاني: كون المعروف بين علماء العربيّة ذلك(1). والثالث: أنّ أداة الشرط في اللغة الفارسيّة معناها ذلك، ومن المستبعد جدّاً الفرق في أداة الشرط بين اللغات.

ولكن ما ذكره(قدس سره) لا يمكن المساعدة عليه:

أمّا ما ذكره من شهادة الوجدان فممنوعة، بل الوجدان شاهد على خلافه.

وأمّا ما ذكره من شهادة علماء العربيّة بذلك(2) فإن ثبت فلا حجّيّة فيه.

وأمّا ما ذكره من كون مفاد أداة الشرط في الفارسيّة ذلك فهذا أيضاً ممنوع.

ولدينا برهان على المنع من دون فرق بين اللغات، وهو: أنّه لا إشكال في أنّ



(1) هذا الوجه الثاني غير موجود في كتابه وإنّما ورد فيه: أنّه نسب إلى علماء العربيّة أنّ القضيّة الشرطيّة تفيد ثبوت المحمول في التالي لموضوعه على تقدير المقدّم. راجع نهاية الدراية، ج 2 بحسب طبعة مؤسسّة آل البيت(عليهم السلام)، التعليق رقم: 20.

(2) مضى أنّه لم يذكر ذلك.

48

قولنا: (إن جاء زيد) جملة ناقصة لا يصحّ السكوت عليها، مع أنّ قولنا: (جاء زيد)جملة تامّة يصحّ السكوت عليها، فالنقص إنّما جاء من كلمة (إن)، ولا يعقل أن يجيء النقص من ناحيتها إلّا بأحد وجهين: إمّا بتبديل النسبة التامّة إلى الناقصة وجعل الكلمتين بمنزلة كلمة واحدة، وهي مجيء زيد(1)، وإمّا بأن تكون نفس كلمة (إن) بما لها من خصوصيّة المعنى محتاجة إلى التتميم بالجزاء.

والثاني هو المطلوب لنا؛ فإنّنا نقول: إنّ أداة الشرط تدلّ على تعليق الجزاء على الشرط، والتعليق طبعاً بحاجة إلى طرف يعلّق.

والأوّل باطل؛ فإنّ أداة الشرط لو كانت لمجرّد الفرض والتقدير أصبح عندئذ حالها حال أداة الاستفهام والنفي ونحوهما، فكما أنّ مفاد (جاء زيد) فيما لو دخل عليه الاستفهام أو النفي يبقى نفس مفاد الجملة التامّة ولا يتحوّل إلى معنى مفرد، غاية ما هناك يكشف الكلام بزيادة أداة الاستفهام أو النفي عن أنّه يوجد في نفس المتكلّم داعي الاستفهام عن نفس الجملة التامّة أو النفي لنفس الجملة التامّة، كذلك المفروض في المقام أن تكون الجملة باقية على النسبة التامّة وزيادة أداة الفرض والتقدير عليها موجبة لكشف الكلام عن وجود داعي الفرض والتقدير لنفس تلك الجملة التامّة في نفس المتكلّم.

فالواقع هو: أنّ أداة الشرط ربطت الجزاء بذاك الفرض وعلّقته عليه، وخصوصيّة المعنى هذه بحاجة إلى تكميل؛ لأنّ الربط والتعليق بحاجة إلى مايُربَط أو يُعلّق.

وبكلمة اُخرى: إنّ الأداة لم تكن لمجرّد تلوين الجملة بلون الفرض، وإلّا لكان حال ذلك حال تلوينها بلون الاستفهام أو النفي ولا تصبح الجملة بذلك ناقصة.

هذا. وفي مقابل هذا البرهان الذي ذكرناه يمكن البرهنة لصالح ما أفاده المحقّق



(1) من قبيل (أن) المصدريّة في قولنا: (أعجبني أن جاء زيد).

49

الإصفهانيّ(رحمه الله) من أنّ أداة الشرط إنّما تدلّ على الفرض والتقدير دون التعليق، وهو: أنّه قد يتّفق أنّ الجزاء يكون مستفهماً عنه، كما في قولنا: (إن جاءك زيد فهل تكرمه؟) أو: (فهل تقدر على إكرامه؟) أو قولنا: (إن جاءك عدوّك فكيف حالك؟) ونحو ذلك ممّا يفرض فيه كون مراد المتكلّم هو الاستفهام عن الجزاء، وتفسير ذلك على مسلك الشيخ الإصفهانيّ سهل ولكنّه قد يشكل على مسلكنا.

وتوضيح ذلك: أنّ الاستفهام تارةً: يكون عن أصل القضيّة الشرطيّة، كما لو قال: (هل إن جاءك زيد تكرمه؟) وفي هذا القسم لا يوجد إشكال؛ لأنّ المعلّق هو النسبة الخبريّة الثابتة في الجزاء، والاستفهام استفهام عن أصل التعليق، واُخرى: يكون عن نفس الجزاء، كما ذكرناه من الأمثلة بعد فرض إرادة الاستفهام فيها عن أصل الجزاء ـ كما يناسب ذلك دخول أداة الاستفهام على الجزاء من قبيل: (فهل تكرمه؟) أو كون الاستفهام مستبطناً في موضوع الجزاء من قبيل: (فكيف حالك؟) ـ لا عن أصل القضيّة، وإلّا لرجعت إلى القسم الأوّل. فهنا يوجّه سؤال على مسلكنا من دلالة الأداة على التعليق والربط، وهو: أنّه ما هو المعلّق في المقام، هل المعلّق هو الاستفهام أو المستفهم عنه؟

فإن قيل: إنّ المعلّق هو المستفهم عنه، لزم أن يكون الاستفهام استفهاماً عن أصل التعليق، وهذا هو القسم الأوّل، وكلامنا إنّما هو في القسم الثاني.

وإن قيل: إنّ المعلّق هو الاستفهام، لزم من ذلك أن لا يكون الاستفهام فعليّاً؛ لأنّه معلّق على الشرط، في حين أنّه لا إشكال في فعليّة الاستفهام وانتظار المستفهم للجواب(1).

 



(1) قد تقول: إنّ هذا لا يصلح برهاناً لكلام المحقّق الإصفهانيّ؛ لأنّه سلّم معنا دلالة

50

وهذا البرهان لم يذكره الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) وإنّما نحن نفترضه لصالحه.

ويمكن الجواب على ذلك بأنّنا وإن كنّا لا نقول بأنّ مفاد أداة الشرط مجرّد جعل جملة الشرط في حيّز الفرض والتقدير كما قاله الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله)؛ لأنّنا لو قلنا بذلك لانصدمنا بالبرهان السابق، ولكنّنا أيضاً لا نقول بأنّ أداة الشرط تدلّ على الربط والتعليق فحسب، حتّى يقال: لزم من ذلك كون الاستفهام غير فعليّ قبل فعليّة المعلّق عليه وهو الشرط، بل نقول: إنّ أداة الشرط تدلّ على ربط الجزاء بتقدير الشرط، فيكون مفاد الاستفهام هو الاستفهام الفعليّ عن حال الجزاء على تقدير الشرط، فالاستفهام فعليّ ولكنّ المستفهم عنه أمر تقديريّ، فمفاد قوله مثلا: (إن جاءك زيد فكيف حالك؟): كيف حالك عند مجيء زيد(1).

 

هل مفاد الأداة تعليق المدلول التصديقيّ أو المدلول التصوّريّ؟

الجهة الثانية: في أنّه لئن كانت أداة الشرط تفيد تعليق الجزاء على الشرط أو ربطه به وترتيبه عليه، يبقى السؤال عن أنّها هل تفيد رأساً تعليق المدلول


القضيّة الشرطيّة على تعليق الشرط على الجزاء، غاية الأمر أنّه قال: إنّ هذا التعليق ليس بأداة الشرط بل بالفاء أو بالهيئة التركيبيّة، ولكنّ الواقع أنّه لا يقول هو بالتعليق بهذا المعنى، وإنّما يرى أنّ النسبة في الجزاء إن كانت قبل الشرط بين ركنين: الموضوع والمحمول، فبعد الشرط أصبحت نسبة ذات أركان ثلاثة ثالثها: الشرط، كما ستأتي الإشارة إلى ذلك في المتن.


(1) كأنّ المقصود أنّ تقسيم الاستفهام في القضيّة الشرطيّة إلى الاستفهام عن أصل القضيّة الشرطيّة والاستفهام عن نفس الجزاء، مرجعه في الحقيقة إلى تقسيم المستفهم عنه إلى كونه أصل القضيّة الشرطيّة تارةً ونفس الجزاء اُخرى.

51

التصديقيّ للجزاء على الشرط، أو أنّ مدلولها الأوّليّ هو تعليق المدلول التصوّريّعليه والدلالة التصديقيّة تنعقد بعد ذلك؟

يتّجه الوجه الأوّل بناءً على أحد فرضين:

الفرض الأوّل: أن نبني على مباني السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ من أنّ الوضع عبارة عن تعهّد الواضع، وأنّ الجملة التامّة موضوعة للدلالة التصديقيّة، إذن فالجزاء موضوع للدلالة التصديقيّة على وجوب الإكرام مثلا، ولا محالة يكون هذا المعنى التصديقيّ هو الذي ربط بالشرط وعلّق عليه.

إلّا أنّنا قد برهنّا في محلّه على بطلان هذه المباني وأنّ الوضع ليس عبارة عن التعهّد، وأنّ الدلالة التصديقيّة مستفادة من ظهور الحال لا من الوضع، فلو قال مثلا: (جاء زيد) وأقام قرينة على أنّه في مقام الهزل لم يدلّ على الدلالة التصديقيّة الإخباريّة مع أنّه مستعمل في معناه الحقيقيّ.

الفرض الثاني: أن يقال: رغم أنّ الوضع لم يكن إلّا بلحاظ المدلول التصوّريّ، وأنّ المدلول التصديقيّ ينعقد بعد تمام الكلام بواسطة ظهور الحال، فكان المترقّب دلالة أداة الشرط على تعليق المدلول التصوّريّ للجزاء على الشرط، ولكن من باب ضيق الخناق رجع التقييد إلى الدلالة التصديقيّة؛ لأنّ المدلول التصوّريّ ليس إلّا معنى حرفيّاً غير قابل للتقييد والتعليق، فمفاد الهيئة الناقصة يستحيل تقييدها بالشرط أو تعليقها عليه، فلابدّ أن يكون القيد راجعاً إلى الدلالة التصديقيّة.

ولكنّنا بيّنّا في بحث الواجب المشروط خلاف ذلك وقلنا: إنّ مفاد الهيئة قابل للتقييد والتعليق.

وممّا يشهد أيضاً لكون التعليق راجعاً إلى المدلول التصوّريّ لجملة الجزاء لا التصديقيّ: أنّه قد يتّفق انسلاخ الجزاء عن مدلوله التصديقيّ بوضوح، فلا يمكن

52

أن يكون مدلوله التصديقيّ هو المعلّق، كما لو قال: (ليس إن جاء زيد وجب إكرامه)، أو قال: (هل إن جاء زيد وجب إكرامه؟) ونحو ذلك من الأمثلة، فإنّ المدلول التصديقيّ للجزاء في ذلك إن فُرض عبارة عن قصد الحكاية عن إكرام زيد، فإنّ المعلوم انسلاخه عن ذلك. وإن فُرض هي النسبة السلبيّة أو الاستفهاميّة فالمفروض أنّ أداة السلب أو الاستفهام سلّطت على الجملة الشرطيّة بشرطها وجزائها لا على الجزاء. فهذا دليل على عدم وضع الشرط لتعليق المدلول التصديقيّ للجزاء، وإلّا لأحسسنا بالمؤونة في مثل هذه الأمثلة.

ثُمّ لا يخفى أنّنا لو بنينا على أنّ المعلّق هو المدلول التصديقيّ للجزاء كان ذلك نكتة واضحة لأمر نحسّه بالوجدان، وتوضيح الكلام في ذلك:

أنّ عدم دلالة الجملة الشرطيّة الخبريّة على المفهوم أمر وجدانيّ لنا، وإنّما الكلام في ثبوت مفهوم الشرط في الجمل الطلبيّة، فلو قال مثلا: (إن جُعل الماء على النار أصبح حارّاً) فمن الواضح أنّه لا يدلّ هذا الكلام على أنّه لو جعل تحت حرارة الشمس مثلا لم يصبح حارّاً. ولو قال: (إن طلعت الشمس فالنهار موجود) لم يدلّ على نفي النهار على الإطلاق بانتفاء طلوع الشمس، ولو كان للشرط مفهوم فإنّما هو في باب الأحكام، من قبيل قوله: (إن بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء)، أو قوله: (إن جاءك زيد فأكرمه).

وعندئذ نقول: لو آمنّا بأنّ المعلّق في القضيّة الشرطيّة عبارة عن المدلول التصديقيّ للجزاء يصبح عدم دلالة الشرطيّة الخبريّة على المفهوم مبرهناً بوضوح؛ لأنّ قوله: (إن طلعت الشمس فالنهار موجود) إن دلّ على الانتفاء عند الانتفاء فإنّما دلّ على انتفاء إخباره عن وجود النهار عند انتفاء طلوع الشمس، ومن الواضح أنّ هذا لا يستلزم انتفاء وجود النهار عند انتفاء طلوع الشمس.

53

ولكن قد عرفت أنّ الصحيح هو أنّ المعلّق على الشرط ابتداءً هي الدلالة التصوّريّة للجزاء لا التصديقيّة.

نعم، هنا مجال للبحث مرّة اُخرى عن أنّه هل تقتضي الجملة الشرطيّة تعليق الدلالة التصديقيّة للجزاء على الشرط تبعاً، وليس ابتداءً وبالأصالة أو لا؟

وتحقيق الكلام في ذلك ما يلي:

إنّ الجملة الشرطيّة لو كانت من سنخ ما أشرنا إليها ممّا يكون من الواضح انسلاخ الجزاء فيها عن المدلول التصديقيّ، كما في مثل: (ليس إن جاء زيد وجب إكرامه) أو (هل إن جاء زيد وجب إكرامه؟)، فمن الواضح أنّه هنا لا مجال للبحث عن تعليق الدلالة التصديقيّة للجزاء على الشرط ولو بالتبع.

وأمّا فيما لا يكون من هذا القبيل فقد يكون المدلول التصديقيّ للجزاء معلّقاً على الشرط وقد لا يكون، والأمر بيد المتكلّم.

وتوضيح ذلك: أنّنا تارةً: نصبّ البحث على الجمل الشرطيّة الخبريّة، واُخرى: على الطلبيّة:

أمّا في الجملة الخبريّة كقولنا: (إن جاءني زيد أكرمته): فالمتكلّم قد يقصد كون مركز الدلالة التصديقيّة نفس النسبة بين الشرط والجزاء، وقد يقصد كون مركزها النسبة الموجودة في الجزاء وليس ما بين الشرط والجزاء:

أمّا في الفرض الأوّل: فالدلالة التصديقيّة للكلام فيه إنّما هي نفس تعليق الدلالة التصوّريّة للجزاء على الدلالة التصوّريّة للشرط، ولا يقصد المتكلّم الحكاية عن الجزاء والكشف عنه أبداً، وإن كان يتمّ الكشف عن الجزاء بالملازمة متى ما تحقّق الشرط، إلّا أنّ هذا الكشف لم يكن مقصوداً مباشرة للمتكلّم، وما لم يتحقّق الشرط لم يتحقّق الكشف عن الجزاء، كما قالوا: إنّ صدق القضيّة الشرطيّة لا يتوقّف على صدق طرفيها.

54

وفي هذا القسم من الواضح عدم تعليق المدلول التصديقيّ للجزاء على الشرط؛ لأنّ مصبّ الدلالة التصديقيّة لم يفرض هو الجزاء حتّى يكون معلّقاً على الشرط، وإنّما مصبّها ذات التعليق، ومن هنا يكفي في صدق القضيّة ثبوت التعليق واقعاً وإن لم يتحقّق طرفاها في الخارج إلى الأبد.

وأمّا في الفرض الثاني ـ وهو ما لو قصد المتكلّم كون مركز الدلالة التصديقيّة في كلامه هو الجزاء ـ: فهذا أيضاً ينقسم إلى قسمين:

الأوّل: أن يقصد المتكلّم الكشف عن تحقّق الجزاء في الخارج تحقّقاً حتميّاً، فكأنّه فرض من المفروغ عنه أنّ الشرط سيتحقّق فسيتحقّق الجزاء، ويقصد الكشف عنه كشفاً فعليّاً وليس كشفاً يتمّ عند تحقّق الشرط.

وهنا أيضاً من الواضح عدم كون المدلول التصديقيّ معلّقاً على الشرط، فإنّ المفروض أنّ الحكاية وإن كان مصبّها الجزاء لكنّها ثابتة على نحو التنجيز. وعلى هذا فإن تحقّق في الخارج ـ في وقت من الأوقات ـ الجزاء بتحقّق الشرط كان الكلام صادقاً، وإلّا كان الكلام كاذباً، فصدق القضيّة الشرطيّة هنا مشروط بصدق طرفيها.

ولا يخفى أنّ هذا الفرض خلاف الظاهر من جهة أنّ الجزاء وقع مصبّاً للدلالة التصوّريّة والتصديقيّة، ولكنّ الدلالتين اختلفتا من حيث التعليق والتنجيز.

ويشهد لما ذكرنا من كون هذا الفرض خلاف الظاهر: أنّ مَن تكلّم بجملة شرطيّة لا يكذّبه أحد بصِرف عدم تحقّق طرفيها في الخارج إلى الأبد.

والثاني: أن يقصد المتكلّم أيضاً الكشف عن تحقّق الجزاء في الخارج لا بمعنى الكشف الحتميّ، فقصد الكشف وإن كان فعليّاً ولكنّ الكشف ليس فعليّاً، وإنّما يتحقّق متى ما تحقّق الشرط، وما لم يتحقّق الشرط ليس له كشف عن الجزاء، فلا يكون الكلام كذباً بصِرف عدم تحقّق الشرط والجزاء في الخارج إلى الأبد، فهنا أيضاً لا يكون صدق القضيّة الشرطيّة متوقّفاً على صدق طرفيها.

55

وهنا يكون المدلول التصديقيّ للجزاء معلّقاً ـ لا محالة ـ على الشرط، وتكون الحكاية غير متحقّقة قبل تحقّق الشرط في الخارج إلّا على نحو تحقّق الجعل في ظرف صِرف تقدير الشرط بما هو فان في ذات الشرط، إن قلنا بأنّ أداة الشرط ليست موضوعة للربط فقط، بل موضوعة للربط بالتقدير بما هو فان في ذات المقدّر، وإلّا فليست الحكاية متحقّقة فعلا حتّى بهذا النحو(1).

هذا كلّه في الجمل الخبريّة.

وأمّا إذا كانت الجملة إنشائيّة: فأيضاً تارةً: يكون مصبّ القصد الأوّليّ هو الكشف عن النسبة الثابتة بين الجزاء والشرط بما هي معنى حرفيّ ـ أو قل: الكشف عن ذات تعليق الجزاء على الشرط ـ فلا محالة تنسلخ الجملة الإنشائيّة عن كونها جملة إنشائيّة وتكون جملة خبريّة، ولذا يكون ذلك خلاف الظاهر(2)، والمدلول



(1) لا يخفى أنّ الكشف الذي يمكن أن يتأخّر عن قصد الكشف إنّما هو الكشف التكوينيّ، وأمّا الكشف الحكائيّ بالكلام فلا يتخلّف عن قصد الكشف بالكلام. نعم، يتمّ مع ذلك تعليق الدلالة التصديقيّة ـ أو قل: الكشف الحكائيّ ـ على الشرط بمعنى التحصيص والتقويم، ويكشف ذلك عن تعليق المحكيّ.

(2) لا يخفى أنّ هذا البيان لو تمّ فهو لا يكون دليلا على كون الدلالة التصديقيّة في الظهور العرفيّ بإزاء الجزاء في القضايا الإنشائيّة فحسب، بل يكون دليلا على أنّ الدلالة التصديقيّة في القضايا الشرطيّة في الظهور العرفيّ تكون بإزاء الربط الشرطيّ سواء في الإنشائيّات أو الإخباريّات؛ وذلك لأنّ هذا لا يبرز نكتة تقتضي الإنشائيّة في القضايا الشرطيّة التي كان جزاؤها إنشائيّاً، وإنّما هذا بيان لنكتة أنّ الدلالة التصديقيّة فيها لو كانت في مقابل الربط الشرطيّ لا الجزاء لكانت القضايا الشرطيّة التي يكون جزاؤها إنشائيّاً إخباريّة تحتمل الصدق والكذب، بينما هذا خلاف الظاهر عرفاً.

56

التصديقيّ للجزاء في هذا الفرض غير معلّق على الشرط؛ لأنّه لم يقصد أصلا.

واُخرى: يكون مصبّ القصد ذات الطلب، وفي هذا الفرض تتمّ دلالة القضيّة الشرطيّة على تعليق(1) المدلول التصديقيّ للجزاء على الشرط بالتبع، بحكم أصالة التطابق بين الدلالة التصديقيّة والدلالة التصوّريّة.

 

هل الأداة تدلّ على تقييد المادّة أو الهيئة؟

الجهة الثالثة: في أنّه بعد ما ثبت أنّ أداة الشرط تدلّ على الربط كما عرفت في الجهة الاُولى، وما تدلّ على ربطه بالشرط مباشرةً هو المدلول التصوّريّ كما عرفت في الجهة الثانية، هل هي تدلّ على ربط المدلول التصوّريّ للمحمول في الجزاء الذيعبّر عنه المحقّق النائينيّ(قدس سره) بالمادّة المنتسبة، أو على ربط المدلول التصوّريّ للنسبة بين الموضوع والمحمول فيه كما عبّرنا بذلك في خلال البحث عن الجهة الثانية؟

 


لكن يبقى سؤال، وهو: أنّه لماذا اختلفت الشرطيّة التي جزاؤها إنشائيّ عن الشرطيّة التي جزاؤها حكائيّ في كون مصبّ الدلالة التصديقيّة الربط الشرطيّ أو الجزاء ولِم لم يتساويا في ذلك؟ حتّى لو كان لازمه أن لا يتكوّن للقضايا الشرطيّة التي جزاؤها إنشائيّ ظهور في الإنشاء.

وبكلمة اُخرى نقول: إنّ الظاهر عرفاً من القضيّة الشرطيّة هو كون مصبّ القصد عبارة عن النسبة الثابتة في الجزاء على تقدير الشرط، لا النسبة بين الشرط والجزاء، بدليل ما نراه من أنّ القضيّة الشرطيّة تتبع ـ في كونها خبريّة أو إنشائيّة ـ جزاءها، وليست دائماً خبريّة، فحينما يكون الجزاء إنشائيّاً لا تحتمل الجملة الشرطيّة الصدق والكذب.


(1) وهنا أيضاً يكون التعليق بمعنى التحصيص والتقويم.

57

الحقّ هو الثاني وهو المشهور. وذهب المحقّق النائينيّ(رحمه الله) إلى الأوّل، فلا يرى فرقاً من هذه الجهة ـ أعني: جهة رجوع القيد إلى ذات الواجب ـ بين شرائط الواجب وشرائط الوجوب في عالم الإثبات، وإن كان بينهما فرق في عالم الثبوت. فالوضوء مثلا في عالم الثبوت قيد للصلاة والوقت قيد لوجوبها، لكن في عالم الإثبات يكون كلاهما قيداً للصلاة.

نعم، الفرق بينهما في عالم الإثبات هو: أنّ قيد الواجب كالوضوء قيد له في مرحلة سابقة على الوجوب، فالوجوب طارئ على الصلاة المقيّدة بذلك القيد، فلا محالة يجب تحصيل القيد، وهذا بخلاف قيد الوجوب كقوله: (إذا زالت الشمس فصلّ) وقوله: (إن استطعت فحجّ)، فزوال الشمس أو الاستطاعة في عالم الإثبات قيد للصلاة أو الحجّ، لكنّه ليس قيداً لذلك في المرحلة السابقة على الوجوب، بأن يفرض مثلا أنّه قيّد أوّلا الحجّ بكونه عن استطاعة ثُمّ طرأ عليه الوجوب، فوجب على الناس أن يحجّوا عن استطاعة حتّى يجب تحصيل الاستطاعة، بل طرأ هذا القيد على المادّة في عرض طروّ الوجوب عليها، فأفاد تضييق دائرة الوجوب ولم يجب تحصيله.

والوجه في رجوع قيد الوجوب إلى الواجب لا إلى معنى الهيئة وهو النسبة: أنّ معناها معنى حرفيّ لا يقبل الإطلاق والتقييد. هذا ما أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(1).

وظاهر تقرير بحث الشيخ الأنصاريّ(رحمه الله) أيضاً هو رجوع القيد إلى المادّة. ومن هنا يُعترض عليه بأنّ هذا يعني إرجاع قيود الوجوب إلى قيود الواجب فيجب تحصيل الاستطاعة مثلا للحجّ.

ونقل الشيخ النائينيّ(رحمه الله) عن الميرزا الشيرازيّ أنّ مقصود الشيخ الأنصاريّ لم



(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 415 و130 ـ 132، وفوائد الاُصول، ج 1 ـ 2، ص 479 و179 ـ 183 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

58

يكن إرجاع الشرط إلى المادّة أو إلى الواجب بمعناه البسيط الساذج المفهوم،والذي يعني عدم انقسام الشروط إلى شروط الوجوب وشروط الواجب، بل تبقى شروط الوجوب في لبّ الواقع شروطاً للوجوب وإن لم يمكن بحسب عالم الإثبات والإنشاء إرجاع القيد إلى النسبة. ونكتة الفرق بحسب ما ذكرناه عن الشيخ النائينيّ(رحمه الله) ما عرفت من أنّ القيد طرأ على المادّة في عرض طروّ الوجوب وعروضه، فلم يدخل تحت دائرة الوجوب حتّى يجب تحصيله.

أقول: إنّ هذا الكلام يشتمل في الحقيقة على مطلبين:

أحدهما: عدم إمكان رجوع القيد إلى الهيئة.

والثاني: إمكان رجوع قيود الوجوب إلى المادّة.

أمّا المطلب الأوّل: فالوجه في عدم إمكان تقييد مفاد الهيئة أمران:

أحدهما: أنّ المعنى الحرفيّ جزئيّ حقيقيّ فلا يعقل فيه الإطلاق والتقييد.

الثاني: أنّ المعنى الحرفيّ ملحوظ آليّاً لا استقلاليّاً، والإطلاق والتقييد يحتاج إلى لحاظ الشيء استقلالا.

وقد ردّ ذلك المحقّق الخراسانيّ(1) والمحقّق العراقيّ(2) والمحقّق الإصفهانيّ(3)ـ قدّست أسرارهم ـ والسيّد الاُستاذ(4) ـ مدّظلّه ـ كلٌّ ببيان.



(1) راجع الكفاية، ج 1، ص 153 بحسب الطبعة المشتملة في حواشيها على تعليقات المشكينيّ.

(2) راجع المقالات، ج 1، ص 321 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم، ونهاية الأفكار، ج 1 ـ 2، ص 313 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(3) راجع نهاية الدراية، ج 2، التعليق رقم: 21، ص 60 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام).

(4) راجع المحاضرات للفيّاض، ج 2، ص 320 ـ 321 بحسب الطبعة التي نشرها دار الهادي للمطبوعات بقم.

59

والعجب من السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ حيث تصدّى إلى دفع هذه الشبهة من غير تعرّض لعدم موضوع لهذه الشبهة من رأسها، على ما هو مقتضى مبانيه مدّظلّه، حيث إنّه يقول: إنّ أداة الشرط تدلّ على تعليق المدلول التصديقيّ لا المدلول التصوّريّ، وإنّ المدلول التصديقيّ في قولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه) عبارة عن الحكم بوجوب الإكرام، وهو أمر نفسانيّ وليس معنى حرفيّاً، وعندئذ ـ كما ترى ـ لا مجال لهذا البحث إشكالا وجواباً.

ونقول من باب الحمل على الصحّة: إنّه لعلّه لم يتعرّض لعدم الموضوع لهذه الشبهة على مبانيه؛ لوضوح ذلك(1) وإنّما أشغل نفسه بردّ الإشكال على تقدير تسليم مباني المشهور.

وعلى أيّة حال فنحن قد تعرّضنا لإشكال عدم إمكان رجوع القيد إلى مفاد الهيئة وأجبنا عليه في بحث الواجب المطلق والمشروط، وقد اخترنا أنّ معنى الهيئة وهو معنى حرفيّ قابل للإطلاق والتقييد.

وأمّا المطلب الثاني: فالتحقيق عدم إمكان إرجاع قيد الوجوب إلى المادّة. وما أفاده المحقّق النائينيّ(قدس سره) من إرجاعه إليها ـ بالتقريب الذي عرفت ـ ليس في الغرابة بأدنى ممّا نُسب إلى الشيخ(رحمه الله) من رجوع قيد الوجوب إلى قيد الواجب بالمعنى الساذج.



(1) قد تقول: إنّ الأمر النفسانيّ الذي كشف عنه بالدلالة التصديقيّة وجود خارجيّ جزئيّ نفسيّ، فما معنى تعليقه؟

ولكنّ الواقع أنّ هذا التعليق يكون من سنخ معلّقيّة كلّ معلول خارجيّ على علّته، بناءً على أنّ نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلّة إلى المعلول، ويكون من سنخ تحصيص كلّ حكم بموضوعه، بناءً على أنّ نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة التحصيص.

60

بيان ذلك: أنّه لو أرجعنا قيد الوجوب إلى المادّة مع فرض عدم كونه قيداً لها في المرتبة السابقة على طروّ الوجوب فلا يخلو الأمر من أحد وجهين:

الأوّل: أن يكون القيد راجعاً إلى ذات المادّة من حيث هي، لا من حيث كونها معروضة للوجوب، فمجيء زيد مثلا قيد لذات الإكرام بما هو إكرام لا بما هو واجب، فطروّ القيد على المادّة يكون في عرض طروّ الوجوب عليها.

ويرد عليه: أنّه بعد أن كان المفروض أنّ المقيّد بهذا القيد ذات الإكرام من حيث هو، لا من حيث كونه معروضاً للوجوب، لا يكون الوجوب عندئذ مضيّقاً باعتبار هذا القيد، وهذا خلاف المفروض من كونه في لبّ الواقع قيداً للوجوب وكون دائرة الوجوب باعتبار الشرط ـ وهو المجيء مثلا ـ مضيّقة، وإن لم تكن مضيّقة فلا محالة يجب تحصيل القيد لتحصيل الواجب.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّنا وإن أرجعنا القيد في كلام المولى إلى الإكرام من باب ضيق الخناق، لكنّنا بقرينة الحكمة ـ أي: من باب صون كلام الحكيم عن اللغويّة ودلالة الاقتضاء ـ نفهم أنّ الوجوب مضيّق، وإلّا للغى تقييد الإكرام بهذا القيد ما لم ينته الأمر إلى شرط الواجب أو شرط الوجوب.

ولكن هذا كما ترى، فإنّ المعنى المستفاد عرفاً من مثل قوله: (إن جاءك زيد فأكرمه) ـ وهو الحكم المضيّق ـ ليس متوقّفاً على توجّه العرف إلى دلالة الاقتضاء، كما يقال في مثل (اسأل القرية): إنّ دلالة الاقتضاء تدلّ على إرادة سؤال أهل القرية، بل يستفاد من طبع القضيّة مع عدم التوجّه والنظر إلى هذه الاُمور.

إذن فالتضييق ثابت حتّى في دائرة المدلول التصوّريّ، ودلالة الاقتضاء إنّما تنفع بالنسبة للمدلول التصديقيّ.

61

والثاني: أن يقال: إنّ القيد لا يرجع مباشرة إلى الإكرام، وإلّا لوقع تحت دائرة الوجوب ووجب تحصيله؛ لما عرفت من عدم معقوليّة العرضيّة بالشكل الذي مضى بيانه في الوجه الأوّل، ولا يرجع إلى النسبة الطلبيّة أو البعثيّة بين زيد والإكرام؛ لما افترضنا من عدم إمكان تقييدها، فيبقى أن يكون المقصود برجوع القيد إلى المادّة المنتسبة كون القيد راجعاً إلى ربط طلب بالإكرام، فالإكرام بما هو مطلوب تقيّد بمجيء زيد.

فإن كان هذا هو مقصود الشيخ النائينيّ(رحمه الله) ورد عليه:

أوّلا: أنّ القيد على هذا صار في طول الوجوب، وقد صرّح الشيخ النائينيّ(رحمه الله)بأنّهما في عرض واحد.

وثانياً: أنّ هذا رجع في الحقيقة إلى تقييد النسبة بين الإكرام والطلب؛ لأنّ المفروض أنّه إنّما قيّد الإكرام بمجيء زيد بما هو معروض للطلب، ومعنى تقييده بالمجيء بهذه الحيثيّة ـ لا بما هو ـ ليس إلّا أنّه في الحقيقة قيد لهذه الحيثيّة، وليس هذا إلّا كرّاً على ما فرّ منه، فإنّه(رحمه الله) رفع اليد عن كون القيد قيداً للنسبة بين الإكرام وزيد؛ لأنّها معنى حرفيّ غير قابل للإطلاق والتقييد، وهذا الإشكال عيناً يتأتّى في فرض جعل القيد قيداً للنسبة بين الإكرام والطلب.

وثالثاً: أنّ النسبة بين الإكرام وزيد هي نسبة طلبيّة، وليست هنا نسبة اُخرى بين الإكرام والنسبة الطلبيّة حتّى يفرض القيد قيداً لها. وبالجملة: إنّما الموجود هنا اُمور ثلاثة: الإكرام، وزيد، والنسبة الطلبيّة بينهما. والنسبة بذاتها متقوّمة ومرتبطة بالطرفين، لا أنّها تحتاج في ارتباطها بأحد طرفيها إلى نسبة اُخرى بين تلك النسبة وأحد الطرفين تتقوّم بهما حتّى ترتبط هذه النسبة بذاك الطرف.

فقد تحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ المعلّق هو النسبة لا المادّة المنتسبة.