62

 

هل المعلّق سنخ الحكم أو شخصه؟

وأمّا المقام الثاني: وهو أنّه هل المعلّق سنخ الحكم أو شخصه؟ فهذا في الحقيقة بحث عن أحد الركنين على مذاق المشهور لضابط اقتناص المفهوم، حيث إنّهم جعلوا الضابط له أن يكون المعلّق سنخ الحكم ويكون الشرط علّة منحصرة.

وهنا نعقد بحثين:

أحدهما: في إمكان كون المعلّق سنخ الحكم وعدمه.

والثاني: في أنّه هل هناك دليل على كون المعلّق سنخ الحكم أو لا؟

 

إمكان تعليق سنخ الحكم:

أمّا البحث الأوّل ـ وهو في إمكان كون المعلّق سنخ الحكم وعدمه ـ: فالتحقيق هو إمكانه.

ويمكن القول بعدم إمكانه من ناحية أنّ مفاد الهيئة معنى حرفيّ والمعنى الحرفيّ ـ وهو النسبة والربط ـ جزئيّ، فلا يقبل عموماً أو إطلاقاً كي يصبح المعلّق سنخ الحكم.

وأورد الشيخ الأعظم ـ رضوان الله عليه على ما ورد في تقرير بحثه ـ على ذلك: النقض بما إذا كان الوجوب مذكوراً بمادّته كأن يقال: (إن جاءك زيد وجب إكرامه)، ففي هذا القسم لا مجال لهذا الإشكال، فرأى أنّ الإشكال مجاله منحصر بما لو بيّن الطلب بلسان هيئة الأمر لا بلسان (يجب).

وفيه: أنّ المعلّق في هذا القسم أيضاً هو مفاد الهيئة، فهذا النقض خلط بين كون المذكور صريحاً مادّة الوجوب وبين كون المعلّق المادّة، والواقع أنّ المعلّق دائماً هو مفاد الهيئة، فتارةً يكون المعلّق مفاد هيئة (أكرم) واُخرى يكون المعلّق مفاد هيئة (يجب إكرامه) مثلا، وهذا لا يوجب فرقاً في البحث كما هو واضح.

63

وعلى أيّة حال فلنتكلّم في تحقيق أصل الإشكال صحّةً وسقماً فنقول:

لو بنينا على مباني السيّد الاُستاذ ـ مدّظله ـ من أنّ المعلّق هو المدلول التصديقيّ، وأنّ المدلول التصديقيّ لقوله: (أكرم) مثلا هو الطلب الحاصل في نفس المتكلّم فمن المعلوم أنّ الإشكال بهذا التقريب لا مجال له؛ حيث إنّ المعلّق عندئذ ليس معنىً حرفيّاً، لكن لا محيص حينئذ من القول بأنّ المعلّق إنّما هو شخص الحكم ولا يعقل تعليق السنخ، فإنّ المفروض أنّ المعلّق هو المدلول التصديقيّ وأنّه عبارة عن الطلب الحاصل في نفس المولى مثلا، ومن المعلوم أنّ هذا الطلب الحاصل في نفس المولى شخص من أشخاص الطلب لا طبيعيّ الطلب بما هو، إلّا أن يثبت أنّ المعلّق هو شخص الحكم بما هو فرد من أفراد الطبيعيّ.

ولكن مباني السيّد الاُستاذ في الوضع ودلالته على المدلول التصديقيّ غير صحيحة عندنا.

وإذا بنينا على المباني المشهورة تصل النوبة إلى البحث عن هذا الإشكال بهذا النحو من التقريب، وهو: أنّه لا يمكن تعليق سنخ الحكم، من جهة أنّ مفاد الهيئة معنى حرفيّ، وهو جزئيّ لا يقبل الإطلاق أو الحمل على السنخ.

واستراح المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من هذا الإشكال بما تفرّد به من منع كون المعنى الحرفيّ جزئيّاً، فهو يقول: إنّ الحروف والهيئات وضعها عامّ والموضوع له فيها عامّ وتستعمل في ذلك المعنى العامّ، فلا إشكال في المقام.

نعم، مثل قوله: (أكرم) إيجاد للنسبة الطلبيّة على ما ذهب إليه المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) من أنّ الإنشائيّات موجدة لمفاهيمها من النسبة المقصودة، والإيجاد ـ لا محالة ـ يساوق التشخّص، لكن هذا التشخّص ناش من الاستعمال فهو في طول الاستعمال ولا يعقل فرضه في المرتبة السابقة على الاستعمال، بأن يكون الشخص مأخوذاً في المعنى الموضوع له أو المستعمل فيه.

64

فالحرف والهيئة يستعملان في معناهما الذي هو عامّ وإن كان يطرأ التشخّص في طول الاستعمال فإنّ هذا غير كون المفاد جزئيّاً ومشخّصاً.

أقول: ولكنّنا بيّنّا في محلّه فساد المبنى الذي تفرّد به الخراسانيّ من كون الحروف والهيئات موضوعة بالوضع العامّ والموضوع له العامّ وقلنا: إنّ النسبة متقوّمة ذاتاً بالطرفين بحيث يكون الطرفان داخلين في قوامها وحقيقتها، فلا محالة تكون النسبة بين كلّ موضوع ومحمول مباينة بالذات والحقيقة للنسبة بين موضوع ومحمول آخر أو بين ذلك المحمول وموضوع آخر ولو فرضت النسبة بين الموضوعين عموماً مطلق أو من وجه.

فالنسبة في قولنا: (النار حارّة) مع النسبة في قولنا: (نار الكبريت محرقة) مثلا متباينتان؛ لحصول التبدّل فيما هو داخل في قوامها وحقيقتها، ولا يمكن أخذ جامع حقيقيّ بين النسب؛ لأنّ أخذ الجامع يكون بإلغاء الخصوصيّات، والمفروض أنّ خصوصيّة الموضوع والمحمول داخلة في قوام النسبة وحقيقتها، فإلغاؤُها مساوق لإلغاء حقيقتها، وبما أنّ الحروف والهيئات ـ كما برهنّا عليه في محلّه ـ موضوعة للنسبة، فلا محالة ليست من قبيل ما يكون الوضع فيه عامّاً والموضوع له فيه عامّاً، بل من قبيل ما يكون الوضع فيه عامّاً والموضوع له فيه خاصّاً، حيث عرفت أنّ كلّ نسبة مباينة للنسبة الاُخرى بحقيقتها؛ للتقريب الذي عرفت على ما برهنّا عليه في محلّه، فالواضع إنّما تصوّر جامعاً انتزاعيّاًـ على تصوّراتهم في الوضع ـ مشيراً به إلى الأفراد المختلفة الحقيقة ووضع الحرف أو الهيئة بإزائها، وهذا هو معنى كون الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً.

وإذا كان الأمر كذلك وقع الإشكال في تصوير كون المعلّق سنخ الحكم؛ لفرض كون الموضوع له جزئيّاً. وحلّه بحلّ المغالطة.

وعين هذا الإشكال وقع في الجهة الثالثة من المقام الأوّل حيث يقال:إنّ المعلّق

65

على الشرط لا يعقل أن يكون هو مفاد الهيئة من النسبة؛ لأنّه جزئيّ لا يقبل التعليق(1).

وقد تفصّى المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) عن هذا الإشكال بالنسبة للمقام الأوّل بالالتزام بأنّ النسبة كما ربما تكون متقوّمة بطرفين كذلك ربما تكون متقوّمة بثلاثة أطراف: المسند والمسند إليه والشرط، فالنسبة في قولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه) متقوّمة بالإكرام وفاعل الإكرام والشرط، بحيث إذا اُسقط هذا الشرط وقيل: (أكرم زيداً) تغيّرت ماهيّة النسبة وحدثت نسبة اُخرى متقوّمة بطرفين.

وعلى هذا فيرتفع الإشكال، فإنّ النسبة ليست في الحقيقة معلّقة على الشرط حتّى يقال: كيف يمكن تعليقها؟ بل متقوّمة به كتقوّمها بالطرفين الآخرين، وكم فرق بين التقويم والتعليق. هذا ما أجاب به المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) هناك عن الإشكال(2).

لكنّا لم نرتض هذا الجواب وأجبنا عنه بجواب آخر، وهو: أنّه ليست جزئيّة المعنى الحرفيّ جزئيّة وجوديّة، كما هو ظاهر تقريرات الشيخ الأعظم أو صريحه وهو الذي فهمه المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) من التقريرات، بأن يكون جزئيّاً بخصوصيّة



(1) وهنا لم يتعرّض اُستاذنا(رحمه الله) لإشكال آليّة المعنى الحرفيّ كما تعرّض لإشكال جزئيّته، في حين أنّه تعرّض في الجهة الثالثة من المقام الأوّل لكلا الإشكالين، وكأنّ هذا مرتبط بالفرق الجوهريّ الموجود بين البحثين، وهو: أنّ البحث السابق كان مصبّه أصل تعليق النسبة ودعوى ضرورة رجوع القيد إلى المادّة المنتسبة، فقيل: إنّ تعليقها غير ممكن: إمّا لآليّتها وإمّا لجزئيّتها. أمّا هنا فمصّب البحث ليس أصل تعليق النسبة، وإنّما مصبّه السنخيّة، والسنخيّة تضادّ الجزئيّة فيقال: إنّ النسبة جزئيّة، فكيف يمكن أن تعطي معنى سنخ الحكم؟ وذلك بعد فرض الفراغ عن إمكان تعليقها.

(2) راجع نهاية الدراية، ج 2، التعليق رقم: 21، ص 60 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام).

66

الوجود الخارجيّ أو الذهنيّ أو الإنشائيّ، بل جزئيّتها تكون باعتبار طرفيها، حيث إنّ طرفيها كانا داخلين في قوامها، فلا محالة تكون كلّ نسبة مغايرة لنسبة اُخرى في حقيقتها وذاتها.

وأمّا بالنسبة للتقسيمات الطارئة عليها بعد فرض تقوّمها بالطرفين فيعقل فيها الإطلاق والتقييد، فمن الممكن أن تقيّد بالشرط وتعلّق عليه والشرط ليس مقوّماً لها، وإنّما المقوّم لها الأطراف الرئيسة أعني: المسند والمسند إليه.

إذا عرفت هذا قلنا: إنّه إن بنينا في المقام الأوّل على ما أفاده المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) ففيما نحن فيه لا محيص من الالتزام بعدم إمكان تصوير كون المعلّق سنخ الحكم، فإنّ المفروض أنّ ماهيّة النسبة في قولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه) منذ خلقت كانت متقوّمة بأطراف ثلاثة: المسند والمسند إليه والشرط، لا أنّ النسبة مع قطع النظر عن الشرط وفي الرتبة السابقة على الشرط كانت مطلقة فقيّدت بالشرط وعلّقت عليه حتّى يقال: إنّ النسبة المطلقة وسنخ الحكم قد علّق على الشرط.

وهذا بخلاف المسلك الذي سلكناه هناك، فإنّه على ذلك المسلك يكون إمكان تعليق السنخ في غاية الوضوح؛ لما ذكرناه من أنّ النسبة قوامها بالطرفين وهي في حدّ ذاتها قابلة للإطلاق والتقييد، فيمكن أن تفرض هذه النسبة التي تكون في المرحلة السابقة على الشرط مطلقة مقيّدة بالشرط ومعلّقة عليه، فقد علّق سنخ الحكم على الشرط.

 

الدليل على تعليق سنخ الحكم:

وأمّا البحث الثاني: فالظاهر من الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنّه ـ بعد تسليم إمكان كون المعلّق سنخ الحكم ـ لا إشكال بحسب الإثبات بمقتضى جريان مقدّمات الحكمة في أنّ المعلّق هو السنخ. ومن هنا تراهم إنّما يستشكلون

67

ويتباحثون في أنّه هل يمكن تعليق سنخ الحكم أو لا، ولا يتكلّمون في أنّه بعدفرض إمكانه هل هنا إشكال في الإطلاق أو لا؟

ولكن قد يقال: إنّ جريان مقدّمات الحكمة وثبوت الإطلاق فيما نحن فيه لا يخلو من شوب إشكال، بيان ذلك: أنّ جريان مقدّمات الحكمة وثبوت الإطلاق موقوف على أن يكون القيد ممّا يمكن بيانه بنحو لا يخرج الكلام بذلك عن سلك المحاورة العرفيّة، كما أنّه موقوف أيضاً على عدم القطع بعدم كون المولى في مقام بيان القيد لو كان هنا قيد، وعلى هذا فلو ادُّعِيَ أنّ تقييد الحكم مثلا بالملاك الكذائيّ ليس موافقاً للمحاورة العرفيّة لم يتمّ الإطلاق، كما أنّه لو ادّعي أنّ الشارع لم يكن في مقام بيان هذا القيد ـ بشهادة التتبّع في كلماته، مع العلم إجمالاً بثبوت هذا القيد في كثير من أحكامه، ولعلّ الوجه في عدم كونه في مقام بيانه عدم كون التقييد به داخلا في المحاورات العرفيّة ـ لم يتمّ الإطلاق أيضاً.

وعدم استشكال الأصحاب في الإطلاق بعد فرض إمكان تعليق السنخ ثبوتاً إمّا يكون ناشئاً من تماميّة الإطلاق في نظر العرف وعدم تماميّة هاتين الدعويين، أو يكون ناشئاً من عدم التفاتهم إلى ذلك.

هذا. ولكن الإنصاف عدم تماميّة شيء من هذين الإشكالين، فيمكن بيان التقييد بالملاك الخاصّ ببيان عرفيّ، كقوله تعالى في آية النبأ: ﴿أَن تُصِيبُواْ قَوْمَاً بِجَهالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِين﴾ وغير ذلك ممّا يوجد كثيراً في كلمات الشرع، وبيان ملاك الحكم في كلمات الموالي العرفيّة وكلمات الشارع أكثر من أن يحصى، وضمّ الشرط مثلا لا يوجب صيرورة بيان الملاك خارجاً عن المحاورة العرفيّة.

كما أنّ دعوى العلم بعدم كون الشارع في مقام بيان ذلك، بشهادة التتبّع مع العلم

68

إجمالاً بثبوت هذا القيد في كثير من أحكامه ممّا لا ينبغي، فإنّه لو فرضت شهادة التتبّع في كلماته بعدم وجود هذا القيد في تلك الكلمات فمن أين يحصل العلم الإجماليّ بثبوت هذا القيد كثيراً في الواقع حتّى يعلم أنّه ليس في مقام البيان من هذه الجهة؟

ثُمّ إنّه بعد تماميّة جريان الإطلاق في مفاد الجزاء وثبوت كون المعلّق سنخ الحكم، إن بنينا على أنّ مفاد مقدّمات الحكمة هو الإطلاق على نحو مطلق الوجود ـ من قبيل العموم الاستغراقيّ ـ فهذا وحده كاف في اقتناص المفهوم ويثبت أنّ القضيّة الشرطيّة ذات مفهوم.

لكنّ هذا المبنى غير صحيح عندنا، فصِرف كون مفاد الجزاء سنخ الحكم لا يكفي في كون القضيّة الشرطيّة دالّة على المفهوم، والمفروض غمض العين فعلا عن دلالة القضيّة على العلّيّة الانحصاريّة لسنخ الحكم، وسنتكلّم ـ إن شاء الله ـ عن ذلك في المقام الثالث، فنقول هنا: إنّ كون الجزاء سنخ الحكم بمقتضى الإطلاق بنفسه لا يكفي في دلالة القضيّة على المفهوم، بل يحتاج في ذلك إلى ضمّ أمرين:

الأوّل: أن تكون القضيّة الشرطيّة دالّة على اللزوم، وثبوت الطبيعة صدفة عند شيء لا ينافي ثبوتها صدفة عند شيء آخر أيضاً.

والمعروف بين المحقّقين دلالة أداة الشرط بالوضع على اللزوم، استشهاداً بما نرى وجداناً من المؤونة والكلفة في القضايا الشرطيّة الاتّفاقيّة، كقولنا: (إن جاءك زيد نهق الحمار)، مع أنّ المفروض عدم الملازمة بين مجيء زيد ونهيق الحمار.

ولكن هذا الاستشهاد منقوض بما نراه وجداناً من عدم المؤونة والكلفة في القضايا الشرطيّة الاتّفاقيّة التي جيئت بها للإخبار عن الماضي دون المستقبل، كما إذا قيل: (مهما جاءني زيد نزل المطر) إخباراً عن أنّه كان يتّفق نزول المطر مع

69

زمان مجيء زيد. فلا نشعر بأيّ مؤونة وكلفة في مثل هذا الكلام مع انتفاء الملازمة، ولو كانت أداة الشرط دالّة بالوضع على اللزوم لم يكن فرق بين القضايا الشرطيّة الماضية والقضايا الشرطيّة الاستقباليّة(1).

فالتحقيق: أنّ أداة الشرط لا تدلّ بالوضع على اللزوم، وإنّما تدلّ القضيّة الشرطيّة على اللزوم إذا كانت استقباليّة من ناحية الظهور السياقيّ للدلالة التصديقيّة، حيث إنّ الإخبار عن ترتّب الجزاء على الشرط في القضايا الاستقباليّة مع فرض الصدق لا يمكن إلّا بأحد وجهين: العلم بالملازمة، والعلم من ناحية أمر غير متعارف بأنّه مهما يجيء زيد مثلا ينهق الحمار اتّفاقاً وصدفة، وبما أنّ الثاني بعيد جدّاً يتحقّق للمدلول التصديقيّ للقضيّة ظهور سياقيّ في الفرض الأوّل وهو اللزوم(2).

الثاني: أن تدلّ القضيّة الشرطيّة على التعليق، وإلّا لما دلّت على المفهوم، حيث



(1) قد تقول: إنّ كلمة (مهما) تدلّ على الظرفيّة وهي متعلّقة بالجزاء، فيصبح الشرط مأخوذاً في موضوع الجزاء فينتفي المفهوم، وهذا هو السبب في عدم الإحساس بالمؤونة والكلفة رغم انتفاء الملازمة.

والجواب: أنّ كلمة (مهما) رغم دلالتها على الظرفيّة وتعلّقها بالجزاء ـ وهذا يوجب انتفاء المفهوم ـ تستعمل كثيراً بمعنى الشرط مع الاحتفاظ بظرفيّتها، فكأنّ معناها منحلّ إلى معنيين، وحينما تستعمل كذلك لا نحسّ أيضاً بالمؤونة، رغم أنّها وإن كانت تعطي معنى الظرف وتتعلّق بالجزاء فلا تدلّ على مفهوم، لكنّها في نفس الوقت تستبطن معنى الشرط، فكان المفروض أن نحسّ بالمؤونة ولا ينافي ذلك عدم المفهوم.

(2) والأمر أوضح في القضايا الحقيقيّة، فإنّ الصدفة والاتّفاق لا تكون على نهج القضايا الحقيقيّة.

70

إنّ المفروض عدم دلالتها على العلّيّة الانحصاريّة التي سيتكلّم فيها ـ إن شاء الله ـ في المقام الثالث.

وتوضيح الأمر: أنّه بعد أن فرغنا عن دلالة القضيّة الشرطيّة على اللزوم قلنا: تارةً يفرض لحاظ الربط اللزوميّ من ناحية الشرط وارتباطه بالجزاء، واُخرى يفرض لحاظه من ناحية الجزاء وارتباطه بالشرط. نظير أنّه تارةً يقال: (طلوع الشمس مستلزم لوجود النهار)، واُخرى يقال: (وجود النهار معلّق على طلوع الشمس).

وإن شئت فعبّر بأنّ الربط واللزوم في القضيّة الشرطيّة تارةً ينظر إليه بالعين اليمنى فيسمّى بهذا الاسم وهو اللزوم مثلا، واُخرى ينظر إليه بالعين اليسرى فيسمّى باسم التعليق.

وبكلمة اُخرى: تارةً يفرض أنّ مركز الثقل في ناحية الشرط، واُخرى يفرض أنّه في ناحية الجزاء. فإذا كان في ناحية الجزاء دلّت القضيّة على المفهوم، وإذا كان في ناحية الشرط لم تدلّ عليه ما لم تثبت العلّيّة الانحصاريّة.

ولا يخفى أنّ هذين في الحقيقة قسمان من الربط لا قسم واحد حتّى يقال: إنّ اختلاف الأمر باختلاف النظر ـ بالعين اليمنى أو اليسرى ـ إلى ربط واحد لا معنى له.

والظاهر: أنّ الواضع إنّما وضع الأداة لذات الربط من حيث هو بلا نظر إلى لحاظه بالعين اليمنى(1) أو لحاظه بالعين اليسرى، كما أنّ الظهور السياقيّ إنّما دلّ



(1) نعم هو كذلك، فإنّ الانقسام إلى لحاظه بالنظر إلى العين اليمنى أو اليسرى إنّما يكون بعد فرض الدلالة على اللزوم، فإنّه الذي تارةً ينظر إليه من هذا الطرف واُخرى من ذاك الطرف ويختلف معناه في كلّ من النظرين عن الآخر، دون مجرّد الربط الذي ينسجم مع التصادف المحض. وقد سبق أنّ الأداة لا تدلّ وضعاً على اللزوم.

71

على ذات اللزوم بلا نظر إلى لحاظه بالعين اليمنى أو لحاظه بالعين اليسرى(1). فكون مركز الثقل هذا الطرف أو ذاك الطرف يختلف باختلاف الموارد، ولابدّ من إثباته بالقرائن ولا أرى ضابطاً عامّاً لذلك. نعم، لعلّ تقديم الجزاء على الشرط كقولنا: (أكرم زيداً إن جاءك) يكون باعتبار لحاظ الربط والنظر إليه بالعين اليسرى(2).

وقد تحقّق من جميع ما ذكرناه: أنّ دلالة القضيّة الشرطيّة على المفهوم بنكتة تعليق سنخ الحكم أمر صحيح في الجملة، ونقصه أنّه لا ينضبط فنّيّاً بعنوان خاصّ منطبق على موارده، وإنّما يختلف الأمر باختلاف الموارد والقرائن باعتبار الخصوصيّات؛ لأنّ مقصودنا بتعليق سنخ الحكم تعليق ذات طبيعة الحكم تعليقاً منظوراً إليه بالعين اليسرى ولا ضابط كلّيّ لذلك.

 

الكلام في دلالة القضيّة الشرطيّة على العلّيّة الانحصاريّة

المقام الثالث: في دلالة القضيّة على العلّيّة الانحصاريّة وعدمها.

وهي في نظر المشهور أحد ركني اقتناص المفهوم، ونحن نقول: إنّ الضابط على ما مضى هو كون الشرط علّة منحصرة لذات طبيعة الحكم، أمّا افتراض كون الجزاء مطلق وجود الحكم فهو وحده يحقّق المفهوم دون حاجة إلى بحث العلّيّة الانحصاريّة.



(1) فإنّ الظهور السياقيّ قائم على أساس دلالة القرائن والأحوال، فقد يختلف الأمر من حال إلى حال.

(2) يمكن أن يكون المفهوم في موارد تقديم الجزاء على الشرط بسبب دلالة تقديم ما حقّه التأخير على الحصر.

72

وقد ذكروا لإثبات العلّيّة الانحصاريّة وجوهاً ويظهر لك من التأمّل فيها أنّ دلالة القضيّة الشرطيّة على المفهوم كانت مفروغاً عنها عندهم بحسب الفهم العرفيّ، فصاروا بصدد التفتيش عن النكتة الفنّيّة لذلك فاستدلّوا على المفهوم بما استدلّوا، فمثلا نقول: هل كان من المحتمل أن يتشبّث في إثبات المفهوم بقاعدة (أنّ الواحد لا يصدر إلّا من الواحد) مع أنّه يدّعى أنّ المفهوم ظهور عرفيّ؟ فمثل هذا الكلام ناش من مسلّميّة أصل النتيجة.

ثُمّ إنّا نرى وجداناً ـ بحسب الذوق العرفيّ ـ عدم ثبوت المفهوم في القضايا الإخباريّة، مثلا إن قيل: (إذا طلعت الشمس فالنهار موجود)، أو قيل: (إذا جاور الماء النار اكتسب الحرارة)، لم يتوهّم العرف أنّ هذا الكلام يدلّ على انتفاء وجود النهار أو اكتساب الحرارة بانتفاء الشرط، وجميع ما استدلّوا به لإثبات العلّيّة الانحصاريّة تكون بحيث لو تمّ واحد منها لأنتج ثبوت المفهوم حتّى في القضايا الإخباريّة.

ولنا تقريب خاصّ لإثبات العلّيّة الانحصاريّة يمتاز عن تقريبات القوم بأنّه إنّما يثبت ذلك في الأحكام دون الإخباريّات، ولنذكر ذلك التقريب أوّلا، ثمّ نذكر ـ ان شاء الله ـ سائر التقريبات مع إبطالها، فنقول ومن الله التوفيق:

 

التحقيق في دلالة القضيّة الشرطيّة على العلّيّة الانحصاريّة:

التحقيق: أنّ القضيّة الشرطيّة في باب الأحكام تدلّ على اللزوم العلّيّ الانحصاريّ لطبيعة الحكم فيثبت المفهوم:

أمّا دلالتها على اللزوم: فلما عرفت من الظهور السياقيّ للمدلول التصديقيّ، فإنّ الشارع حينما يحكم بشيء كأن يقول: (إن جاءك زيد فأكرمه) ليس بصدد

73

التكلّم عن علم بالغيب، ومقتضى ظاهر كلامه الملازمة بين مجيء زيد ووجوب إكرامه، وفَرض أنّ الموضوع لوجوب الإكرام شيء آخر يكون دائماً مصادفاً لمجيء زيد من باب الاتّفاق يكون خلاف الظهور السياقيّ، فإنّه لا يعلم ذلك عادة إلّا بوسيلة العلم بالغيب.

وأمّا دلالتها على العلّيّة: فلخصوصيّة في باب الأحكام توجب ثبوت العلّيّة ولا توجد تلك الخصوصيّة في الإخباريّات.

بيان ذلك: أنّ المدلول التصديقيّ في الإخباريّات عبارة عن قصد الحكاية، وكما يمكن الحكاية عن وجود شيء عند وجود علّته، كذلك يمكن الحكاية عن وجود شيء عند ما يكون هو مع ذلك الشيء معلولا لشيء ثالث مثلا، بل ربّما لا يكون المتكلّم مطّلعاً على علّة مجيء عمرو، وإنّما هو مطّلع على أنّه مهما جاء زيد جاء عمرو. هذا في الإخباريّات.

وأمّا في الأحكام فالدلالة التصديقيّة لمثل قوله: (أكرم زيداً) بحسب الفهم العرفيّ من ظاهر الكلام ليست عبارة عن قصد الحكاية عن جعل الوجوب بل نفس جعل الوجوب، ولذا لا يشكّ العرف في أنّ مثل هذا الكلام لا يتّصف بالصدق والكذب. وعلى هذا فيثبت أنّ نفس الجعل مقيّد بالشرط الذي هو مجيؤه مثلا، لا قصد الحكاية عن الجعل، والمقيّد للجعل إنّما هو موضوع الحكم وعلّته، ولا يعقل تقيّده بما يلازم موضوع الحكم وعلّته.

وتوضيح ذلك: أنّه بعد أن ثبت ـ بمقتضى أصالة التطابق بين المدلول التصوّريّ والتصديقيّ ـ أنّ المدلول التصديقيّ ـ وهو عبارة عن الجعل ـ مقيّد بالشرط، ومعنى تقيّده به أنّه يكون تقدير الشرط مقوّماً لوجوده، نقول: إنّه على ما حقّقناه في محلّه ليس للمجعول وجود آخر في الخارج عند وجود الشرط، حتّى يفرض كون

74

الشرط تارةً علّة حقيقيّة له واُخرى ملازماً لعلّته، كما كان يفرض في باب الحكاية، حيث إنّ المحكيّ عنه له وجود خارجيّ عند وجود الشرط، فيفرض أنّ الشرط علّة حقيقيّة له تارةً وملازم له اُخرى، بل المجعول وجوده عين وجود الجعل، فمعنى كون الشرط علّة للحكم إنّما هو عبارة عن كون تقدير الشرط مقوّماً للجعل وكون المقدَّر محصّصاً للمجعول، وهذا هو معنى الموضوعيّة ولا نعني بالعلّيّة في باب الأحكام إلّا هذا.

ففرق كبير بين باب الحكاية وباب الحكم، ففي باب الحكاية حتّى لو كانت الدلالة التصديقيّة موازية للجزاء لا للربط الشرطيّ فالشرط قيّد تلك الدلالة قلنا: كما يمكن تضييق الحكاية بما يكون علّة للمحكيّ كذلك يمكن تضييقها بما يلازم المحكيّ، وكلّ ما يلزم من ذلك هو انتفاء الحكاية بانتفاء الشرط وليس انتفاء المحكيّ بانتفائه.

أمّا في باب الجعل فليس للمجعول وجود على حدة حتّى يعقل أن تضيّق دائرة الجعل تارةً بعلّة المجعول واُخرى بملازمه، بل المجعول وجوده عين وجود الجعل، وما ضيّق الجعل بتقديره ليس هو إلّا المحصّص للمجعول وهو الموضوع للحكم، وليس مقصودنا بالعلّيّة في باب الأحكام إلّا الموضوعيّة لا غير.

وأمّا دلالتها على كون العلّة علّة منحصرة لطبيعة الجزاء: فتثبت بمعونة نكتتين:

النكتة الاُولى: جريان الإطلاق ومقدّمات الحكمة بلحاظ الجزاء، فيثبت بذلك أنّ المعلّق في لبّ الواقع طبيعة النسبة لا حصّة خاصّة منها. وتوضيح المقصود:

أنّه لا إشكال في أنّ المدلول التصوّريّ للجزاء وهو قوله مثلا: (أكرمه) هو ذات النسبة بين إكرام زيد والفاعل بلا أيّ قيد. لا أقول ذلك بحكم الإطلاق، فإنّ الإطلاق لا يجري بلحاظ المدلول التصوّريّ، بل أقول: إنّ المدلول التصوّريّ

75

لقوله: (أكرمه) تكويناً ذلك، فإنّ المفروض أنّه لا يوجد في كلامه في مقام الانتساب إلّا إكرام زيد والفاعل المستتر، فقهراً ليس المدلول التصوّريّ إلّا طبيعة النسبة بين إكرام زيد والفاعل وهو المخاطب.

وبما أنّ المدلول التصديقيّ لذلك هو الجعل الثابت في نفس المولى نقول هنا: إنّنا نستفيد من الإطلاق ومقدّمات الحكمة، ببيان أنّ مقتضى تطابق عالم الإثبات والثبوت هو أنّه كما لم يكن الموجود في عالم الإثبات إلّا طبيعة النسبة بلا دخل خصوصيّة في التعليق، كذلك في عالم الثبوت ـ وهو ما في نفس المولى ـ ليست خصوصيّة دخيلة في التعليق. فهذا الجعل المنكشف بهذا الكلام وإن كان في نفسه جعلا واحداً لكنّه معلّق بما هو فرد من أفراد الطبيعيّ بحكم الإطلاق وأصالة التطابق بين عالم الإثبات والثبوت، وإن شئت فعبّر بأصالة التطابق بين المدلول التصوّريّ والتصديقيّ.

ثُمّ إنّ مقصودنا بكون هذا الجعل معلّقاً بما هو فرد من أفراد الطبيعيّ من دون دخل خصوصيّة في التعليق هو: نفي احتمال دخل خصوص بعض ملاكات أشخاص الحكم في التعليق، وبقاء بعض الملاكات على إطلاقها، وبالتالي ثبوت بعض حصص الحكم غير مشروط بالشرط.

فإن قلت: تعليق الشارع لحكم على شرط لا يكون إلّا بسبب اقتضاء ملاكه لذلك، فأصل دخل الملاك في التعليق مقطوع به، وإنّما الشكّ في أنّ خصوصيّة الدخل هل هي مخصوصة بملاك معيّن أو شاملة لجميع الملاكات، وأيّ ترجيح للثاني على الأوّل؟

فلو قال مثلا: (إن جاءك زيد فأكرمه) يكون لملاك الإكرام دخل في التعليق، وهنا احتمالان: أحدهما: أن يكون الدخيل في التعليق جميع ملاكاته، فيكون

76

المعلّق في لبّ الواقع جميع الحصص الناجمة عن تعدّد الملاكات. والثاني: أن يكون الدخيل في التعليق ملاك خاصّ من ملاكات وجوب الإكرام، فلا يكون المعلّق إلّا حصّة معيّنه من النسبة، وكلاهما مشتمل على نوع تقييد، فكيف يمكن تعيين الاحتمال الأوّل بالإطلاق؟

نعم، لو فرضنا أنّ التعليق لا يقتضيه الملاك بل يقتضيه نفس الحكم، ولكن احتملنا وجود مانع في بعض حصص الحكم عن التعليق أمكن أن يقال: إنّ مقتضى إطلاق الحكم هو أنّ المعلّق ذات طبيعة الحكم بلا دخل للحصّة الفارغة عن ذاك المانع في التعليق، ولكن من المقطوع به في القضايا الشرطيّة في شرعنا كلاًّ أو جلاًّ أنّ الأمر ليس كذلك.

قلنا: أوّلا: لو تمّ هذا الكلام فإنّما يتمّ لو فرض أنّ محتملات التعليق منحصرة في أمرين: أحدهما دخل ملاك خاصّ من ملاكات الحكم في التعليق، والآخر دخل كلّ الملاكات فيه، ولكن هنا احتمال ثالث وهو كون الدخيل: الجامع بين الملاكات، وعندئذ نقول: إنّ الجزاء مقيّد قطعاً بأحد هذه الملاكات على جميع المحتملات الثلاثة، وعنوان أحد الملاكات ينطبق على كلّ واحد منها على سبيل البدل، وقد شككنا في قيد زائد وهو تقيّده بملاك خاصّ من تلك الملاكات ـ الذي هو عبارة عن الاحتمال الأوّل ـ أو تقيّده بجميع تلك الملاكات، أعني: دخل كلّ منها في التعليق ـ وهو عبارة عن الاحتمال الثاني ـ والشكّ في القيد الزائد ينفى بالإطلاق.

وثانياً: لو فرض الأمر منحصراً في الاحتمالين الأوّلين يقال هنا كلام آخر، وهو: أنّه لو فرض دخل جميع الملاكات في التعليق فلا حاجة في نظر العرف إلى بيان القيد؛ لأنّ المفروض عندئذ أنّ جميع حصص النسبة معلّقة لا حصّة خاصّة.

77

ولو فُرض دخل ملاك خاصّ وقع الاحتياج إلى بيان القيد؛ لأنّ المفروض أنّ المعلّق عندئذ حصّة خاصّة من النسبة، فلابدّ من تخصيصها بالذكر.

والخلاصة: أنّ الاحتمال الأوّل والثاني وإن كان كلاهما مساوقاً للتقييد لكن القيد على النحو الثاني لا حاجة في نظر العرف إلى بيانه، بخلافه على النحو الأوّل، فينفى التقييد على النحو الأوّل بعدم البيان، والتقييد على النحو الثاني يكون مناسباً للمفهوم لا منافياً له(1).

إن قلت: أيّ فرق بين قوله: (إن جاءك زيد فأكرمه) وقوله: (أكرم زيداً العالم)، ونحوه قوله: (أكرم زيداً) مثلا؟ فلو كان مقتضى الإطلاق كون المعلّق على الشرط طبيعة الحكم لا حصّة خاصّة مثلا، كان مقتضى الإطلاق في المعلّق على أيّ شيء ـ شرطاً كان أو وصفاً أو لقباً أو غيرها ـ ذلك، ولا وجه للتفصيل بين تعليق وتعليق، مع أنّهم أنكروا المفهوم للوصف واللقب، خصوصاً الثاني وهو اللقب.



(1) لا يخفى أنّ خصوصيّة ملاك مّا لو كانت دخيلة في التعليق فهي حيثيّة تعليليّة للتعليق، وليست قيداً في الجعل المعلّق أو الحكم، كتقيّد الحكم ـ بالصلاة المعلّق على زوال الشمس ـ بالخلوّ من الحيض مثلا، فلا معنى لنفيه بالإطلاق. وترتّب جعل واحد ناشئ من أحد الملاكات على الشرط كاف في صدق ترتّب طبيعيّ الجعل بما هو عليه؛ لأنّ الملاك ـ كما قلنا ـ لم يكن قيداً في هويّة الجعل أو الحكم.

نعم، لو كان المدّعى ثبوت التعليق بمعنى التوقّف ـ وهو الربط المنظور إليه بالعين اليسرى ـ لم يكن يكفي توقّف فرد من الطبيعيّ على الشرط في توقّف الطبيعيّ عليه؛ إذ يكفي في عدم توقّفه عليه وجود فرد آخر خارج حدوده، إلّا أنّ هذا رجوع إلى وجه آخر لإثبات المفهوم فرغنا قبلا عن عدم تماميّته غير وجه العلّيّة الانحصاريّة التي نتكلّم عنها فعلا.

78

قلت: إنّ مقتضى التحقيق في هذا المقام هو أن يقال: إنّ الإكرام في قوله مثلا: (أكرم زيداً) له نسبتان: نسبة تامّة بعثيّة أو طلبيّة بينه وبين المخاطب، ونسبة ناقصة بينه وبين زيد. فهناك جملتان: جملة تامّة يصحّ السكوت عليها، وجملة ناقصة لا يصحّ السكوت عليها ولا تفيد سوى معنى إفراديّ وهو إكرام زيد، ومن المستحيل أن تكون هذه النسبة الناقصة في عرض النسبة التامّة، ببرهان: أنّه لو كان كذلك لكان قوله: (أكرم زيداً) ممّا لا يصحّ السكوت عليه؛ لاشتماله على جملتين: إحداهما يصحّ السكوت عليها والاُخرى لا يصحّ السكوت عليها، وهذا كما ترى بديهيّ البطلان.

وبذلك يتنقّح أنّه مهما اجتمعت نسبة تامّة ونسبة ناقصة على شيء واحد ـ كما في هذا المثال، حيث إنّهما اجتمعتا على كلمة (الإكرام) ـ كانت النسبة الناقصة مأخوذة في طرف النسبة التامّة، وقد حقّقنا في محلّه: أنّ النسبة ليست عارضة على طرفيها كعروض العرض على محلّه، بل طرفاها مقوّمان لها، وعليه فلا يعقل أن يجري الإطلاق في النسبة بالنظر إلى طرفيها. نعم، بعد فرض تقوّمها بالطرفين وتحقّقها لو علّقت على شيء أمكن دعوى الإطلاق فيها بالنظر إلى ما علّقت عليه.

فظهر: أنّ نسبة الإكرام إلى المخاطب لا يتصوّر فيها الإطلاق بالنظر إلى الإكرام والمخاطب؛ لأنّهما مقوّمان لها لا أنّها معلّقة عليهما، ولا بالنظر إلى زيد الذي هو الواجب إكرامه؛ لما عرفت من أنّ النسبة الناقصة اُخذت في موضوع النسبة التامّة، فهي مقوّمة للنسبة التامّة لا أنّ النسبة التامّة معلّقة عليها، فحال اللقب بالنظر إلى هذه النسبة التامّة حال المقوّم لا المعلّق عليه، ونحوه الوصف بخلاف الشرط.

وفي نهاية الكلام نشير إلى أنّ ما ذكرناه من التقريب للإطلاق في الجزاء في باب الأحكام إنّما يتمّ بناءً على ما هو المختار من أنّ الجعل والحكم عبارة عمّا في

79

عالم نفس المولى ويكون قوله: (أكرمه) كاشفاً عنه. وأمّا إذا بنينا على أنّه بقوله مثلا: (أكرمه) يوجد الحكم والجعل فلا يتمّ هذا التقريب، فإنّه مضى أنّ مقدّمات الحكمة إنّما تجري بلحاظ المدلول التصديقيّ وعالم الثبوت بدعوى أصالة تطابق عالم الإثبات معه، فيثبت أنّ ما في نفس المولى من الجعل مطابق لما في كلامه، ولكن لو فُرض أنّه ليس في نفس المولى جعل فكيف نقول: إنّ مقتضى الأصل تطابق عالم الإثبات مع عالم الثبوت؟ وأين عالم الثبوت حتّى يكون عالم الإثبات مطابقاً له؟

النكتة الثانية: بعد أن عرفت أنّ المعلّق بمعنى المترتّب على الشرط هو شخص الحكم ولكنّه لا بما هو شخص الحكم، بل بما هو قد انطبقت عليه طبيعة الحكم، فالتعليق في لبّ الواقع سرى إلى طبيعة الحكم، بقي في المقام نقص آخر في اقتناص المفهوم، وهو: أنّ طبيعة الحكم يمكن أن تكون مترتّبة على هذا الشرط وهو مجيء زيد مثلا الموجب لإكرامه، وتكون في نفس الوقت مترتّبة على شرط آخر أيضاً وهو مرضه الموجب أيضاً لإكرامه، فكيف نثبت انحصاريّة العلّة؟

والجواب: قد ظهر ممّا سبق أنّ المعلّق في جعله هذا هو شخص الحكم، وإن سرى التعليق في لبّ الواقع إلى ذات الطبيعة. ولا شكّ في أنّ الشرط في شخص كلّ حكم أو كلّ جعل علّة منحصرة بالنسبة لذاك الشخص؛ إذ قد مضى منّا برهان ملفّق(1) على أنّ الموضوع لشخص الحكم يكون علّة منحصرة له، وهو: أنّه لو لم



(1) مضى ذلك في بحث مناقشة كلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، حيث مضى تحليل كلام المحقّق العراقيّ إلى دعاوى أربعة مع مناقشة جميع تلك الدعاوى، وقد ذكر الكلام المذكور هنا لدى مناقشة دعواه الثانية.

80

يكن الموضوع لشخص الحكم خصوص عنوان (المجيء) مثلا فلا يخلو الأمر من أحد أمرين: الأوّل: أن يكون للمجيء عِدل وهو المرض مثلا، وهذا خلف فرض كون المعلّق شخص الحكم، فإنّه يستحيل أن يكونا معاً موضوعاً لشخص واحد من الحكم، بأن يكون كلّ واحد منهما تمام الموضوع له؛ فإنّ الجعل الواحد لا يعقل له إلّا موضوع واحد. والثاني: أن لا يكون الموضوع للحكم عنوان المجيء بل عنوان أحدهما، أي: واحد من المجيء والمرض مثلا، وهذا خلاف ظاهر الكلام، فإنّ ظاهره أنّ نفس عنوان المجيء موضوع، فقد تنقّح أنّ الشرط علّة منحصرة لشخص الحكم الذي يحمله الجزاء، فإذا سرى التعليق في لبّ الواقع إلى طبيعة الحكم علمنا أنّ الشرط علّة منحصرة لطبيعة الحكم.

وإن شئت فعبّر بأنّ التعليق على شكل العلّيّة الانحصاريّة يسري من هذا الشخص من الحكم ـ الذي ثبت له ذلك بوصفه مصداقاً لطبيعة الحكم ـ إلى كلّ شخص آخر مماثل له(1).



(1) لا يخفى أنّ هذا البرهان على ثبوت المفهوم للشرط قد قام على أساس افتراض كون مصبّ الدلالة التصديقيّة هو الجزاء، فتكون تلك الدلالة معلّقة تبعاً على الشرط أو مترتّبة على الشرط بتبع التصوّريّة، وعندئذ نثبت بالإطلاق كون الحكم معلّقاً أو مترتّباً على الشرط بما هو ذات طبيعة الحكم، ثمّ نثبت انحصار العلّة به وعدم وجود بديل لهذا الشرط بالبيان الذي عرفت.

لكنّنا لدينا نقاش في أصل دعوى كون مصبّ الدلالة التصديقيّة هو الجزاء دون الجملة الشرطيّة.

توضيح ذلك: أنّ البرهان الذي مضى لاُستاذنا الشهيد(رحمه الله) على ظهور الجملة الشرطيّة

81


ـ في الإنشائيّات ـ في كون الدلالة التصديقيّة موازية للنسبة الحرفيّة الكامنة في الجزاء، دون النسبة الربطيّة الثابتة بين الشرط والجزاء، كان عبارة عن أنّه لو كانت موازية في الظاهر العرفيّ للربط الشرطيّ لا للجزاء لانسلخت الجملة الشرطيّة الإنشائيّة عن كونها إنشائيّة وأصبحت إخباريّة تحتمل الصدق والكذب، في حين أنّ الفهم العرفيّ في القضيّة الشرطيّة لا يساعد على ذلك.



ولكنّي أقول: إنّ تبعيّة الجملة الشرطيّة للجزاء في الإنشائيّة والإخباريّة صحيحة حتّى لو افترضنا أنّ مصبّ الدلالة التصديقيّة هو الربط بين الشرط والجزاء؛ وذلك لأنّ النكتة في إنشائيّة الإنشاء وخبريّة الخبر هي أنّ مفاد الخبر هو ما في النفس من قصد الكشف عن الواقع، فإن طابق الكشف الواقع كان صادقاً وإلّا كان كاذباً. وأمّا الإنشاء كالطلب فبما أنّ نفس المنكشف موجود في نفس المتكلّم أصبح مفاده عرفاً نفس هذا المنكشف كالطلب لا قصد الكشف عنه، ولذا لا يحتمل فيه الصدق والكذب.



والربط بين الشرط والجزاء حينما يكون الجزاء خارجيّاً خارجيّ، فتكون الدلالة التصديقيّة عبارة عن قصد الكشف عن ذاك الربط، فتكون القضيّة خبريّة، وحينما يكون الجزاء ثابتاً في النفس ثابت في النفس، فيكون المدلول التصديقيّ عبارة عن نفس الربط لا قصد الكشف عنه، فتكون القضيّة إنشائيّة. وعليه فدعوى ظهور الشرطيّة ولو في خصوص الإنشائيّة ـ على الأقلّ ـ في كون مصبّ الدلالة التصديقيّة هو الجزاء ـ كي لا تنسلخ عن كونها قضيّة إنشائيّة ـ غير صحيحة.



بل نُقل لي عن الدورة المتأخّرة لبحث اُستاذنا الشهيد عن الدورة التي سجّلتُ منها بحث المفاهيم القول بأنّ ظاهر القضيّة الشرطيّة سواءً كانت حكائيّة أو إنشائيّة هو كون



82


مركز الدلالة التصديقيّة الربط الشرطيّ لا الجزاء، وذلك ببيان: أنّ النسبة الموجودة في داخل الجزاء كانت بحسب عالم الدلالة التصوّريّة طرفاً للنسبة الربطيّة بين الشرط والجزاء، فجعلها محوراً في عالم الدلالة التصديقيّة يكون خلاف أصالة التطابق بين العالمَين، فالظاهر أنّ مصبّ الدلالة التصديقيّة هي النسبة الربطيّة كي تبقى النسبة الجزائيّة طرفاً في كلا العالمَين.

وقد وجدنا هذا البيان بعد ذلك في تقرير السيّد الهاشميّ حفظه الله، ج 3، ص 159.

هذا. وبالإمكان أن يقال: إنّ سلخ الدلالة التصديقيّة عن الجزاء والإيمان بكونها بإزاء الربط الشرطيّ ـ أو قل: سلخها عن التعليق ـ لا يبطل مفهوم الشرط، فلتكن الدلالة التصديقيّة بإزاء الربط الشرطيّ لا الجزاء، ولكن أليس هذا الربط الشرطيّ له طرفان: أحدهما الشرط، والآخر النسبة التصوّريّة التامّة بين الموضوع والمحمول في الجزاء، والربط دلّ على ترتّب الطرف الثاني على الأوّل، كي ينتهي الأمر في عالم الدلالة التصديقيّة إلى التصديق بكون النسبة الجزائيّة مترتّبة على الشرط، فإذا أثبتنا بالإطلاق ومقدّمات الحكمة ـ بلحاظ هذه الدلالة التصديقيّة ـ أنّ طرفها ذات النسبة الجزائيّة وهي النسبة الإرساليّة مثلا بما هي كذلك ومن دون دخل أيّة خصوصيّة في ذلك، فلا محالة بانتفاء الشرط تنتفي هذه النسبة وبانتفائها ينتفي الحكم ويثبت المفهوم.

الجواب: أنّ هذا البيان وإن أثبت علّيّة الشرط للجزاء ولكنّه سدّ علينا باب إثبات الانحصار؛ وذلك لأنّ هذا البيان جعل طبيعيّ النسبة الجزائيّة مترتّباً على الشرط ليس شخص الحكم؛ لأنّ الحكم ـ وهو المدلول التصديقيّ ـ لم يحمله الجزاء بل حمله الربط الشرطيّ، وطبيعيّ النسبة الجزائيّة يتحمّل شرطين متبادلين، بأن يُجعل تارةً على شرط

83


كي يترتّب الطبيعيّ عليه، واُخرى على شرط آخر كي يترتّب الطبيعيّ عليه أيضاً، وليس طبيعيّ النسبة الجزائيّة عبارة عن حكم واحد كي يقال: إنّ الحكم الواحد لا يقبل شرطين متبادلين فيثبت الانحصار، ولا عبارة عن كلّ الأحكام كي يقال: لو بقي الجزاء من دون هذا الشرط في مورد كان خلف ترتّب كلّ الأحكام على هذا الشرط، حتّى يثبت المفهوم بنفس كون المعلّق مطلق الوجود بلا حاجة إلى مسألة العلّيّة الانحصاريّة./p>

وعلى أيّة حال فقد اتّضح بمجموع ما سردناه مواطن الضعف في برهان اُستاذنا الشهيد(رحمه الله):

فأوّلا:إنّ مصبّ الدلالة التصديقيّة هو الربط الشرطيّ وليس الربط الجزائيّ، فلم يثبت تعليق شخص الحكم؛ لأنّ المعلّق هو الجزاء وليس هو المصبّ الحامل للدلالة التصديقيّة.

وثانياً: إنّ احتمال دخل خصوصيّة بعض الملاكات لا يمكن نفيه بالإطلاق؛ لأنّه حيثيّة تعليليّة للجعل وليس حيثية تقييديّة للجعل.

لعلّ بعض هذه الاُمور هو الذي أوجب ما نقل من عدول اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) عن البرهنة بالبرهان اللمّيّ على ثبوت المفهوم للشرط في الدورة الأخيرة لبحثه.

بقي في المقام تقريب آخر لإثبات مفهوم الشرط، وهو: أن نقول: بعد أن انتهينا إلى أنّ المعلّق هي النسبة التامّة المستبطنة في الجزاء بدلالتها التصوّريّة نجري الإطلاق بلحاظ هذه النسبة، ولا نفسّر الإطلاق ابتداءً بمعنى مطلق الوجود ولا بمعنى صرف الوجود الذي يطبّق في كلماتهم على أوّل الوجود، حتّى يعترض على ذلك بأنّ المعنى الصحيح للإطلاق إنّما هو كون النظر مرتكزاً على حاقّ الطبيعة مع رفض جميع القيود، فالإطلاق نفسّره بهذا التفسير الصحيح فنقول: إنّ المعلّق على الشرط ـ بمعنى المترتّب على الشرط لا بمعنى

84


التعليق بالعين اليسرى ـ هو ذات طبيعة الحكم المستبطن في الجزاء، إلّا أنّ هذا ينتهي إلى تعليق مطلق الوجود؛ لأنّ حكم الطبيعة إذا ثبت على واقع الطبيعة بلا أيّ قيد سرى ـ لا محالة ـ إلى كلّ حصصها وأفرادها، كما يسري وجوب الإكرام في قولنا: (أكرم العالم) إلى جميع أفراد العالم، مع أنّ الموضوع للحكم ليس إلّا طبيعة العالم من دون قيد، فإذا ترتّبت كلّ أفراد طبيعة الحكم على الشرط انتفى كلّ أفراد الطبيعة في فرض انتفاء الشرط لا محالة.

إلّا أنّ هذا التقريب إنّما كان يتمّ فيما لو كان الجزاء محكوماً بتعليقه بالعين اليسرى على الشرط، لا فيما إذا كان الشرط هو المحكوم بترتّب الجزاء عليه بالعين اليمنى كما هو المفروض فعلا، فإنّ الإطلاق عندئذ في الجزاء المترتّب على الشرط ليس شموليّاً.

وهذا أشبه شيء بما نقوله في مثل (الرمّان مفيد): من أنّ الإطلاق الشموليّ ثابت في الموضوع وهو الرمّان؛ لأنّه حكم عليه بالفائدة، والحكم مترتّب على ما كان رمّاناً، فكلّما وجد فرد من الرمّان وجد طبيعيّ الرمّان فسرى عليه ـ بالانحلال ـ الحكم بكونه نافع ومفيد. وأمّا بلحاظ المحمول وهو المفيد فلا يثبت الإطلاق الشموليّ ولا تثبت للرمّان تمام الفوائد والمنافع؛ لأنّنا لم نحكم على الفائدة إلّا بثبوتها للرمّان، ويكفي في صدق ذلك ثبوت فائدة واحدة له؛ لأنّ الطبيعيّ يوجد بفرد واحد، ولم نحكم على طبيعة (ما كان فائدة) بترتّبها على الرمّان كي يسري ذلك في كلّ موارد صدق الفائدة.

ثمّ إنّني أتذكّر أنّ اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) كان يستدلّ لإثبات المفهوم للشرط بدليل إنّيّ، وهي صحيحة أبي بصير الواردة في الوسائل عن محمّد بن الحسن، بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير ـ يعني المرادي ـ قال: «سألت أبا عبدالله(عليه السلام)

85


عن الشاة تذبح تتحرّك ويهراق منها دم كثير عبيط. فقال: لا تأكل، إنّ عليّاً(عليه السلام) كان يقول: إذا ركضت الرجل أو طرفت العين فكل». وسائل الشيعة، ب 12 من أبواب الذبح، ح 1.

وجه الاستدلال بهذا الحديث هو: أنّ الراوي كأنّما احتمل أنّ خروج دم كثير عبيط كاف في صدق التذكية، فأجابه الإمام(عليه السلام) بعدم كفاية ذلك واشتراط تحرّك الرجل أو الطرف، واستشهد بكلام الإمام عليّ(عليه السلام) حيث كان يقول: «إذا ركضت الرجل أو طرفت العين فكل»، فلولا دلالة القضيّة الشرطيّة على نفي العِدل للشرط إذن لم يكن كلام عليّ(عليه السلام) دليلا على عدم قيام خروج دم كثير عبيط مقام تحرّك الرجل أو الطرف.

إلّا أنّه يمكن المناقشة في دلالة الحديث بأنّ تحرّك الرجل أو الطرف يدلّ على درجة من الحياة أقوى من فرض مجرّد خروج دم كثير عبيط، ولا إشكال في أنّه إذا شرط الحكم بحدّ من الحدود دلّ على انتفاء الحكم في الحدّ الأخفّ الذي هو موجود دائماً مع الحدّ الأوّل وقد يوجد وحده، وإلّا لكان ذكر الشرط لغواً. وإنّما الكلام يقع في حدّ آخر قد يجتمع مع الحدّ الأوّل وقد يفترقان. فحال هذه الراوية حال أن يقول: (إذا زالت الحمرة المشرقيّة فصلّ)، ولا إشكال في دلالته على عدم كفاية استتار القرص الذي هو قبل زوال الحمرة دائماً.

ولعلّ هذا هو السرّ في استدلاله(عليه السلام) في المقام بكلام عليّ(عليه السلام)رغم أنّ المذكور فيه كلمة (إذا) لا كلمة (إن)، و(إذا) ظرف يتعلّق بالجزاء فيصبح الكلام من الشرط المسوق لتحقّق الموضوع، اللّهمّ إلّا أن يستظهر أنّ المقصود من (إذا) هنا محض الشرطيّة دون الظرفيّة.

ثمّ إنّ المنقول ـ كما أشرنا ـ عن دورة الدرس الأخيرة لاُستاذنا(رحمه الله) هو عدوله عن الإيمان بوجود برهان لمّيّ لإثبات المفهوم للشرط واكتفاؤه بدعوى الاستظهار العرفيّ ودلالة الوجدان العرفيّ على ذلك.

86


وقد نقل الأخ السيّد علي أكبر ـ حفظه الله ـ عن الدورة الأخيرة أنّه قال(رحمه الله):

إنّ مفهوم الشرط لا يمكن إثباته بالبرهان وإنّما ندّعيه بالتبادر والوجدان والانصراف. وينصرف همّنا إلى التنسيق بين الوجدانات التي قد يتراءى أنّها متضاربة لكي نتأكّد من صحّة وجداناتنا أوّلا، ولكي نعرف حقيقة هذه الدلالة الوجدانيّة على المفهوم هل هي بالوضع أو بالإطلاق مثلا، فإنّ لذلك أثراً في مقام التعارض والجمع مع باقي الأدلّة.

وتلك الوجدانات التي قد يتراءى التضادّ بينها خمسة:

1 ـ الوجدان القائل بأنّه لو استعمل الشرط في غير فرض العلّيّة الانحصاريّة لم تلزم مؤونة المجاز.

2 ـ الوجدان القاضي بدلالة مثل قوله: (إن جاءك زيد فأكرمه) على المفهوم.

3 ـ الوجدان القاضي بأنّه لو لم يقصد بالقضية الشرطيّة المفهوم لم يلزم المجاز.

4 ـ الوجدان القاضي بأنّ المفهوم ـ على تقدير القول به ـ قابل للتجزئة، فلو ثبت بديلٌ للشرط بدليل جعلنا ذاك الدليل مقيّداً للمفهوم وبقينا ننفي باقي البدائل بالمفهوم.

5 ـ الوجدان القاضي بعدم المفهوم في القضايا الإخباريّة كقوله: (إن شربت السمّ تموت).

أمّا الوجدان الأوّل مع الثاني: فيوجد أمامهما للمحقّقين اتّجاهان:

الأوّل: الجمع بينهما ببيان أنّ دلالة القضيّة الشرطيّة على العلّيّة الانحصاريّة بالإطلاق لا بالوضع، فبفرض عدم انحفاظ العلّيّة الانحصاريّة لا يلزم المجاز.

والثاني: إنكار الوجدان الثاني كما ذهب إليه المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) الذي لم يتمّ عنده الإطلاق فأنكر مفهوم الشرط.

والصحيح هو: الجمع بين الوجدانين بإنكار توقّف الدلالة على المفهوم على ثبوت