77

 

 

 

 

المـد خـل

 

إنَّ العمل في سبيل تزكية النفس ضروريٌّ لكلِّ إنسان مؤمن إلى آخر عمره، ولن يصل إلى مستوىً يغنيه عن مجاهدة النفس وطلب التقوى والتزكية؛ وذلك لأمرين:

أوّلاً: إِنَّ الكمال لا يتناهى ـ والكمال المطلق هو الله سبحانه وتعالى ـ فلن يصلَ العبد يوماً ما إلى نهاية طريق غير متناه فلا يحقُّ له أن يقول يوماً: إِنَّني اكتفيت.

وثانياً: إِنَّه لو فُرِضَ لأَحد من السالكين أن أراد ـ لا سمح الله ـ الوقوف على حدٍّ معين من التزكية، فليس تركه لعمليّة المجاهدة والتزكية سبباً لوقوفه في حدِّه، بل يكون سبباً لتراجعه القهقرى، تماماً كالجسد الذي لو لم يصله طعامه لتحلَّلت قواه، ولانهدَّت أركانُه.

وقلَّ ما يصل أحدٌ إلى مستوى من قال الله تعالى بشأنه: ﴿ واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنا ... ﴾(1) فسواءٌ فُسِّرت الآيات التي آتاها الله تعالى إِيِّاه بمعنى أسماء الله العظمى، أو بأَيِّ تفسير آخر، لا إشكال في أَنَّ هذا التعبير يدلُّ على وصول هذا الشخص إلى مقامات سامية يندر أن يصلَ إليها أحد، ولكنّه مع ذلك لم يسلم من


(1) السورة 7، الأعراف، الآية: 175.

78

الانزلاق إلى حدٍّ إِنَّ الله ـ سبحانه ـ قال بشأنه: ﴿فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ * ولَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إلى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(1).

ويندر أن يصل أحدنا في المقامات السامية إلى ما وصل إِليه إِبليس الذي قيل عنه: إنَّه أصبح معلِّماً للملائكة، والذي ورد بشأنه في نهج البلاغة قوله(عليه السلام)(2): « فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس إذ أَحبط عمله الطويل وجهده الجهيد ـ وكان قد عبد الله ستَّة آلاف سنة لا يُدرى أَمن سِني الدنيا أم من سِني الآخرة ـ عن كبر ساعة واحدة، فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته؟! كلاَّ ما كان الله سبحانه ليُدخِل الجنَّة بشراً بأمر أَخرج به منها ملكاً، إِنَّ حكمه في أهل السماء وأهل الأرض لواحد، وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة(3) في إِباحة حمىً حرَّمه على العالمين...».

أَلم تسمع قِصَّة محمّد بن عليّ بن بلال الذي كان من ثقات الإِمام العسكري(عليه السلام)، وبلغ من الشأن أَنَّ أبا القاسم حسين بن روح(رحمه الله) الذي صار بعد ذلك أَحد النوَّاب الخاصِّين للإِمام(عليه السلام) كان يراجعه في الاسترشاد به فيما اختلف فيه الشيعة من التفويض وغيره، ولكنَّه بعد ذلك أَخلد إلى الأرض واتَّبع هواه، وادَّعى البابيَّة، وورد التبرِّي منه من قبل الإِمام صاحب الزمان ـ عجَّل الله تعالى فرجه ـ على يد


(1) السورة 7، الأعراف، الآيتان: 175 ـ 176.

(2) نهج البلاغة: 386، رقم الخطبة: 192.

(3) الهَوادة: بمعنى المحاباة، أي: ليس بين الله وبين أحد اختصاص به وميل خاص إِليه في أَن يُبيح له حمىً محرَّماً على باقي الناس.

79

أبي جعفر محمّد بن عثمان(1).

وقد ورد عن الرضا(عليه السلام)، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أَنَّه قال: « الدنيا كلُّها جهل إِلاَّ مواضع العلم، والعلم كلُّه حُجَّة إلاَّ ما عمل به، والعمل كلُّه رياء إلاَّ ما كان مخلصاً، والإِخلاص على خطر حتّى ينظر العبد بما يُختَم له»(2).

وبهذا نفهم أَنَّنا يجب أن نكون دائماً على حذر من سوء العاقبة ولابدَّ لنا من تحصيل علاج لمشكلة سوء العاقبة.

وعلاج مشكلة سوء العاقبة عبارة عن مجموع أَمرين:

الأَمر الأوَّل: التضرُّع إلى الله سبحانه وتعالى وطلب حسن العاقبة منه، كما يشهد لذلك ما ورد بشأن أَحمد بن هلال العبرتائي(3) الذي كان صالحاً في أوَّل أمره، وقد حجَّ أربعاً وخمسين حِجَّة، عشرون منها على قدميه، وكان رواة أصحابنا بالعراق قد لقوه وكتبوا منه، ثُمَّ خرج ذمُّه من قبل إِمامنا أَبي محمّد العسكري سلام الله عليه، وكتب(عليه السلام) إلى قوَّامه بالعراق: «إحذروا الصوفيَّ المتصنِّع» فأنكر رواة أصحابنا في العراق ماورد بذمِّه، فحملوا القاسم بن علاء على أَن يراجع في أَمره، فخرج مرَّة أُخرى ذمُّه والتبرِّي منه، فثبت قوم على إنكار ما خرج فيه، فعاودوه فيه، فخرج: « لا شكر الله قدره، لم يدعُ المرء ربَّه بأَن لا يزيغ قلبه بعد أَن هداه، وأَن يجعل ما منَّ به عليه مُستقرّاً ولا يجعله مُسْتَوْدعاً ... ».

والأمر الثاني: أَن يعمد الإنسان إلى عدم خروج النكتة السوداء في قلبه؛ وذلك بترك الذنب. ولو خرجت يعمد إلى علاجها ومحوها بالتوبة قبل أَن تتَّسع، فإِنَّ في


(1) راجع معجم رجال الحديث 16/309 فصاعداً.

(2) البحار 2/29.

(3) راجع معجم رجال الحديث 2/356.

80

سَعتها خطرَ استيعاب السواد للقلب، وسقوط الإنسان إلى ما لا رجعة له منه، كما ورد في الحديث عن أَبي بصير قال: سمعت أَبا عبدالله(عليه السلام) يقول: «إِذا أَذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإِن تاب انمحت، وإِن زاد زادت حتى تغلب على قلبه، فلا يفلح بعدها أَبداً»(1).

وورد عن زرارة، عن أَبي جعفر(عليه السلام)(2) قال: «ما من عبد إِلاَّ وفي قلبه نكتة بيضاء، فإِذا أَذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإِن تاب ذهب ذلك السواد، وإِن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطِّي البياض، فإِذا غطَّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أَبداً، وهو قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَا كَانُوا يَكْسِبُون﴾(3)».

وقد ورد عن أَبي محمّد الحسن العسكري(عليه السلام)، عن آبائه(عليهم السلام)، قال: كتب الصادق (عليه السلام) إلى بعض الناس: «إِن أَردت أَن يُختمَ بخير عملك حتى تُقبض وأَنت في أَحسن الأَعمال، فعظِّم لله حقَّه، أَن تبذل نعمائه في معاصيه، وأَن تغترَّ بحلمه عنك، وأَكرمْ كلَّ مَنْ وجدته يذكرنا أَو ينتحل مودَّتنا، ثُمَّ ليس عليك صادقاً كان أَو كاذباً، إِنَّما لك نيَّتك وعليه كذبه»(4).

إِنَّ السلوك إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ بعد تكميل أُصول العقائد بحاجة إلى أركان ثلاثة: إلى كتاب يكون دستوراً لعمله، وإلى عبادة بينه وبين ربِّه يختلي فيها مع الله سبحانه، وإلى سلوك مع الطبيعة ومع الناس، أو قلْ: ارتباط مع المخلوقات،


(1) الوسائل 15/302، الباب 40 من جهاد النفس، الحديث 12.

(2) المصدر السابق 15 / 303، الحديث 16.

(3) السورة 83، المطففين، الآية: 14.

(4) البحار 78/195.

81

فالكتاب الأوَّل هو: القرآن الكريم، والعبادة الأُولى هي: الصلاة، والارتباط الأوّل بالطبيعة وبالناس هو: كشف أسرار الطبيعة، واستثمارها في سبيل مصالح الناس وارتباط الرعاية، والهداية، وقضاء الحوائج للناس. وبكلمة مختصرة: العمل معهم بما تقتضيه خلافة الله عزَّ وجلَّ على وجه الأرض.

وممَّا يشهد للأوّل ـ أعني: ضرورة جعل القرآن كتاباً للدستور والتدبُّر فيه ـ قوله سبحانه وتعالى: ﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفالُهَا﴾(1).

وممَّا يشهد للثاني ـ أَعني: أَنَّ أوّل العبادات التي يتقرَّب بها إلى الله والتي تكون أَساس تهذيب النفس هي الصلاة ـ قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ والمُنْكَرِ...﴾(2).

وممَّا يشهد للثالث ـ أَعني: ضرورة كون الارتباط بالطبيعة والناس ارتباط الخلافة ـ قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً...﴾(3).

فإِنَّ الذي يبدو لنا: أَنَّ المقصود بالخلافة خلافة الله، وليس خلافة إِنسان سابق على وجه الأرض؛ لأَنَّ المتكلم إِذا أَطلق كلمة ( الخليفة ) وأَراد الخلافة عن غير نفسه، كان عليه ذكر غيره. وأيضاً الذي يبدو لنا هو: أَنَّ المقصود خلافة البشر لا خلافة آدم(عليه السلام) بالخصوص، كما يشهد لذلك اعتراض الملائكة بقولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ...﴾(4).

وعليه نحصر حديثنا في المَدخل بكلمات مختصرة عن خمس نقاط:


(1) السورة 47، محمّد(صلى الله عليه وآله)، الآية: 24.

(2) السورة 29، العنكبوت، الآية: 45.

(3) السورة 2، البقرة، الآية: 30.

(4) المصدر السابق.

82

الاُولى: ما يظهر من الآيات المباركات من الربط الوثيق بين القرآن والصلاة.

الثانية: التأكيد على كون القرآن هو الكتاب الأوّل لدُسْتُور السالك إلى الله تعالى.

الثالثة: التأكيد على أَنَّ الصلاة هي العمل الأوّل والأساس لتهذيب النفس.

الرابعة: التأكيد على ضرورة العمل الاجتماعي مع الناس ومع الطبيعة، وأَنَّ ذلك لا ينافي العمل في سبيل تهذيب النفس وتزكيتها، بل بالإمكان أَن يجعل ذلك بنداً من بنود التهذيب والتزكية.

الخامسة: التمييز بين العارفين بالعرفان الصحيح، والمتصوِّفة أَو العرفاء الكاذبين.

83

 

 

 

 

النقطة الأُولى

وهي التشابك الموجود بين كتاب السالك

وهو القرآن وأَساس أَعماله وهي الصلاة

 

إِنَّ كلَّ أَحد يعلم أَنَّ الصلاة لا تكون إِلاَّ مع قـراءة القرآن من سورة الحمدالتي هي أُمُّ الكتاب وسورة أُخرى.

وقد ورد في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): « أَنَّ قراءة القرآن في الصلاة أفضل من قراءة القرآن في غير الصلاة »(1).

والتشابك بين القرآن والصلاة منعكس في آيات عديدة، من قبيل قوله سبحانه وتعالى:

1 ـ ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ...﴾(2).

ويحتمل أن يكون النظر الخاصّ في هذه الآية المباركة إلى تلاوة الكتاب ضمن إِقامة الصلاة بالخصوص، ولا ينافي ذلك إِطلاق النظر إلى تلاوة الكتاب منفردةً عن الصلاة أيضاً.

2 ـ ﴿وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾(3). وقد فُسِّرت


(1) البحار 92 / 200.

(2) السورة 29، العنكبوت، الآية: 45.

(3) السورة 7، الأعراف، الآية: 204.

84

الآية في خبر صحيح(1) بقراءة القرآن ضمن الصلاة من قبل إِمام الجماعة.

3 ـ ﴿ أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً﴾(2).

والظاهر: أَنَّ المقصود بقرآن الفجر هو: القرآن ضمن صلاة الصبح.

4 ـ ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذينَ مَعَكَ واللهُ يُقدِّرُ الَّيْلَ والنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُم مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ...﴾(3).

والظاهر: أَنَّ النظر الخاصّ، إلى قراءة القرآن ضمن صلاة الليل، ولا ينافي ذلك فرض الإطلاق لقراءة القرآن مستقلَّة عن الصلاة أيضاً.

5 ـ ﴿بِسْمِ الله الرَحْمن الرَحِيم يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً﴾(4).

والظاهر: أَنَّ هذه الآيات ـ أيضاً ـ ناظرة إلى ترتيل القرآن ضمن صلاة الليل. والتي مضى ذكرها من الآية عشرين من نفس السورة كأنَّها تخفيف عن الرسول(صلى الله عليه وآله) وأصحابه عمّا نطقت به هذه الآية على أساس أَنَّ الله تعالى علم أنّه منهم مرضى ... الخ.

وكأَنّ في هذه الآيات المباركات إرشاداً للسالك إلى الله وبياناً لنكتة تربويّة


(1) الوسائل 8/355، الباب 31 من صلاة الجماعة، الحديث 3.

(2) السورة 17، الإسراء، الآية: 78.

(3) السورة 73، المزّمّل، الآية: 20.

(4) السورة 73، المزَّمّل، الآيات: 1 ـ 7.

85

هامّة، توضيحها: أَنَّ السالك إلى الله وإن كان جميع أعماله عبادة وبأَهداف إِلهية، ولكنّه بحاجة ماسَّة يوميّاً إلى أَن يُفرِّغ شيئاً من وقته للمناجاة مع الله والتكلُّم معه والتوجّه الحضوري إِليه، وليس كالتوجّه العام الثابت في كلِّ الأعمال القربيّة كالجهاد، والأمر بالمعروف، وتحقيق مصالح الإسلام والمسلمين، ومراعاة الضعفاء والمحتاجين، وتحصيل العلوم الإسلاميّة النافعة، أو العلوم النافعة للبشر، وما إلى ذلك ممّا تكون كلُّها عبادة بالمعنى العام. وخير ساعة يفرغها السالك لهذا النمط من تربية النفس هي: أَن تكون من الليل ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً﴾. ولا نشكُّ في أَنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله)كانت جميع أعماله عبادة، ولم يكن شيء منها عملاً دنيويّاً، بل كان صارفاً وقته تماماً فيما يريد الله: من جهاد، أو إرشاد، أو إصلاح أُمور المجتمع الاسلاميّ، أو حلِّ مشاكل المسلمين، أو غير ذلك، وبرغم ذلك قال له الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً﴾. وهذا يعني: أَنَّه لم يكن المقصود بهذا الكلام تأجيل الأعمال الدنيويّة للنهار كي يخلو جوف الليل للعبادة الخاصّة، بل المقصود تأجيل كلّ شيء حتّى الأعمال العباديّة بمعناها العام للنهار كي يخلو جوف اللّيل للعبادة الخاصّة. وبهذا يثبت ما قلناه: من أَنَّ السالك إلى الله لا يكفيه أَن تكون كلُّ أعماله عبادة بالمعنى العام، بل هو بحاجة إلى تخصيص شيء من أوقاته (وأفضلها جوف الليل) للمناجاة مع الربِّ بحضور القلب بمعناه الخاصِّ.

وقد قالوا في تفسير قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً﴾(1): إِنَّ المقصود به أمر النبيِّ(صلى الله عليه وآله)بصلاة الليل لينال بذلك مقام الشفاعة(2).


(1) السورة 17، الإسراء، الآية: 79.

(2) راجع تفسير «نمونه» 12 / 224 ـ 225 و 231 ـ 232.

87

 

 

 

 

النقطة الثانية

وهي ضرورة التدبُّر في القرآن للسالك إلى الله

 

فقد مضى أَنَّه ممّا يدلُّ على ذلك قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا﴾(1) وقد ورد عن الصادق(عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: ﴿أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا﴾ إنَّ لك قلباً ومسامع وإنّ الله إِذا أراد أَن يهدي عبداً فتح مسامع قلبه، وإِذا أراد به غير ذلك ختم مسامع قلبه، فلا يصلح أبداً. وهو قوله عزَّ وجلَّ: ﴿أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا﴾(2).

وأيضاً ممّا يدلُّ من الآيات القرآنيّة على أَنَّ القرآن كتاب التربية والتزكية وشفاء النفس من الأدْواء الروحيّة قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلاَّ خَسَاراً﴾(3). ومن الواضح: أَنَّ المقصود بذلك الشفاء من الأمراض الروحيّة. ومثل هذه الآية قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾(4).


(1) السورة 47، محمّد(صلى الله عليه وآله)، الآية: 24.

(2) تفسير «نمونه» 21/470.

(3) السورة 17، الإسراء، الآية: 82 .

(4) السورة 10، يونس، الآية: 57.

88

وممّا يدلُّ على ذلك ـ أيضاً ـ قوله سبحانه وتعالى: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَل لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الاَْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾(1).

فلو أنّ قلوبنا لم تخشع ولم تتصدّع من خشية الله فهذا دليل على أنّ القرآن لم ننزّله بمعنى الكلمة على قلوبنا، ولم نهضمه فيما بين جوانحنا، وحينما نقرأه لا نهتم


(1) السورة 59، الحشر، الآية: 21.

وهذه الآية من الآيات التي تدلُّ ـ على ما يبدو لنا ـ على أنَّ للجماد نوع شعور مناسب لنشأته بحيث لو أَنزل الله ـ تعالى ـ هذا القرآن بالنشأة المناسبة لنشأة الجبل لخشع وتصدَّعَ من خشية الله. ونظير هذه الآية قوله تعالى: ﴿... فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً ...﴾ السورة 7، الاعراف، الآية: 143.

فالمقصود هنا ـ أيضاً ـ تجلِّي الربّ بالنشأة المناسبة لنشأة الجبل. ونظير هاتين الآيتين قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِل عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ السورة 2، البقرة، الآية: 74.

فلو أمكن حمل قوله تعالى:﴿لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ﴾ و ﴿لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ﴾ على نوع من البيان الاستعاري أو الكنائي أو المجازي والبلاغي إذ فُرِضَ تفجر النهر والتشقق بالماء من قبيل لين القلب، فكيف نفسر قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّه﴾؟! إِلاّ بتفسير: أنَّ للجماد نشأة خاصة به، وله بلحاظ تلك النشأة الخشية من الله تعالى. ومن هنا يبدو أنَّ ما يقال من تفسير عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال بعرضها على أهلها كالملائكة، أو بكون ذلك تمثيلاً وتقديراً، وكون الإباء والاشفاق بعنوان لسان الحال، كلُّ هذه بعيدة عن الواقع، بل الآية محمولة على معناها الظاهري والحقيقي، إلاّ أَنَّ العرض كان بالنشأة المناسبة لنشأة الجمادات. وما أحلى ما قال الرومي بالفارسيّة:

گر ترا از غيب چشمى باز شد
با تو ذرات جهان همراز شد
نطق خاك ونطق آب ونطق گل
هست محسوس حواس اهل دل
جمله ذرّات در عالم نهان
با تو ميگويند روزان وشبان
ما سميعيم وبصير وبا هشيم
با شما نامحرمان ما خامشيم

89

إلاّ بقراءة الألفاظ من دون إنزال المعاني بدقيق الكلمة على أفئدتنا.

وفي الحديث عن الصادق(عليه السلام): «لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه، ولكنّهم لا يبصرون»(1). وكلّنا نعلم أنّ كتاب الشخص يمثّل شخصيّته، وحتّى الرسالة المختصرة التي تُردّد بين صديقين قد تُمثّل شخصية صاحب الرسالة، فمن الطبيعي أنّ يقال: «لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه ولكنّهم لا يبصرون» وهذا المعنى صادق بلحاظ كتابي الآفاق والأنفس أيضاً، كما قال الله تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ ...﴾(2)، إلاّ أنّه بالنسبة للقرآن أوضح وأسهل للدرك لدى الناس الاعتياديين.

وتوجد بعض القصص والحكايات في تأثير التدبّر في القرآن وإحيائه للقلوب من قبيل:

1 ـ ما يُحكى عن الفضيل بن عياض: أنّه كان في أوّل أمره يقطع الطريق بين ابيورد وسرخس، وعشق جارية، فبينما يرتقي الجدران إليها سمع تالياً يتلو: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ...﴾(3). فقال: يا ربِّ قد آن، فرجع وأوى إلى خربة، فإذا فيها رفقة، فقال بعضهم نرتحل، وقال بعضهم حتّى نصبح، فإنّ فضيلاً على الطريق يقطع علينا. فتاب الفضيل وآمنهم. وحكي أنّه جاور الحرم حتّى مات(4).

2 ـ قيل: كان لفضيل ولد اسمه عليّ، وكان أفضل من أبيه في الزهد والعبادة، إلاّ أنّه لم يتمتع بحياته كثيراً، وكان سبب موته أنّه كان يوماً في المسجد الحرام واقفاً


(1) البحار 92 / 107.

(2) السورة 41، فصّلت، الآية: 53.

(3) السورة 57، الحديد، الآية: 16.

(4) سفينة البحار 7/103، مادة (الفضيل).

90

بقرب ماء زمزم فسمع قارياً يقرأ: ﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَان وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ﴾ فصعق ومات(1).

3 ـ رُوي: أنّ رجلاً جاء إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقال: علّمني ممّا علّمك الله، فأودعه الرسول إلى رجل من أصحابه كي يعلّمه القرآن، فعلّمه سورة الزلزلة.. إلى قوله تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَهُ﴾، فقام الرجل وقال: حسبي هذا، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «رجع فقيهاً»(2).

ويناسب هنا أن نتذكّر كلام إمامنا أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصف المتّقين: «... أمّا الليل فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن، يرتّلونه ترتيلاً، يحزّنون به أنفسهم، ويستثيرون به دواء دائهم، فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً، وتطلّعت نفوسهم إليها شوقاً، وظنّوا أنّها نصب أعينهم، وإذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنّوا أنّ زفير جهنّم وشهيقها في أُصول آذانهم ...»(3).

نعم، إنّ القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين، ولكنّه في نفس الوقت لا يزيد الظالمين إلاّ خساراً، كما هو معروف بشأن الخوارج الذين كانوا تالين للكتاب. وقد روي أنّه خرج أمير المؤمنين(عليه السلام) ذات ليلة من مسجد الكوفة متوجهاً إلى داره، وقد مضى ربع من الليل ومعه كميل بن زياد(رحمه الله)، وكان من خيار شيعته ومحبّيه، فوصل في الطريق إلى باب رجل يتلو القرآن في ذلك الوقت، ويقرأ قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ الَّيْلِ ...﴾(4) بصوت شجيّ حزين، فاستحسن كميل ذلك في باطنه، وأعجبه حال الرجل من غير أن يقول شيئاً، فالتفت صلوات الله عليه إليه وقال: «يا


(1) المصدر السابق، والآيتان: 49 ـ 50 في سورة 14 إبراهيم.

(2) تفسير «نمونه» 27/231 ـ 232، والآيتان: 7 ـ 8 في السورة 99، الزلزلة.

(3) نهج البلاغة: ص410، رقم الخطبة: 193.

(4) السورة 39، الزمر، الآية: 9.

91

كميل لا تعجبك طنطنة الرجل، إنّه من أهل النار، وسأُنبّؤك فيما بعد» فتحيّر كميل لمكاشفته له على ما في باطنه، ولشهادته بدخوله النار مع كونه في هذا الأمر وتلك الحالة الحسنة. ومضت مدّة متطاولة إلى أن آل حال الخوارج إلى ما آل، وقاتلهم أمير المؤمنين(عليه السلام)، وكانوا يحفظون القرآن كما أُنزل، فالتفت أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى كميل بن زياد وهو واقف بين يديه والسيف في يده يقطر دماً، ورؤوس أُولئك الكفرة الفجرة محلّقة على الأرض، فوضع رأس السيف على رأس من تلك الرؤوس وقال: يا كميل: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ...﴾، أي: هو ذاك الشخص الذي كان يقرأ القرآن في تلك الليلة، فأعجبك حاله، فقبّل كميل قدميه (عليه السلام) واستغفر الله(1).

 


(1) سفينة البحار 7/538، والبحار 33/399.

93

 

 

 

 

النقطة الثالثة

وهي أنّ الصلاة هي العمل الأوّل

والأساس لتهذيب النفس

 

فقد قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ ... أَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾(1).

وقد يبدو للخاطر: أنّه ما معنى إخباره سبحانه وتعالى عن نهي الصلاة عن الفحشاء والمنكر في حين أنّ أكثر الناس الاعتياديين لا تنهاهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر، بدليل أنّهم يصلّون وفي نفس الوقت ـ أيضاً ـ يصدر منهم بعض الفسوق.

ولكن الواقع: أنّه في الغالب بل الدائم لا تنفك الصلاة عن النهي عن الفحشاء والمنكر، إلاّ أنّ هذا النهي يتقدّر بقدر حضور المصلي لدى المليك المقتدر في صلاته. وكيف يتعقَّل ـ عادة ـ أن يحضر العبد بمحض اختياره ورغبته لدى سلطان دنيويّ في اليوم خمس مرّات، ويحسّ بعظمته وجلاله ثمَّ لا يؤثِّر ذلك في ترك مخالفته لذلك السلطان، أو تقليل المخالفة ولو جزئياً؟! فإذا كان هذا حال الحضور لدى سلطان دنيويّ عاجز مسكين مستكين فكيف بالحضور لدى المليك المقتدر ؟ وإن كانت سَعة رحمته قد تُجرّئ العبد على المعصية. «فلو اطّلع اليوم على ذنبي


(1) السورة 29، العنكبوت، الآية: 45.

94

غيرك ما فعلته، ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته، لا لأنّك أهون الناظرين إليَّ، وأخفّ المطّلعين عليّ، بل لأنّك ياربّ خير الساترين، وأحكم الحاكمين، وأكرم الأكرمين...»(1). نعم، يتقدَّر النهي عن الفحشاء والمنكر بقدر ما يكون للإنسان من حضور القلب، فمن يضعف ويقلُّ حضوره يقلّ نهي الصلاة إيّاه عن الفسوق، ولكن لو كان يترك الصلاة لكان يتوغّل في هاوية الفسوق أكثر، ومن يتمُّ حضوره في الصلاة أمام الربّ بتمام ما للكلمة من معنى يكون ذلك في نهيه إيّاه من الفحشاء والمنكر بمرتبة ما يوازي العصمة أو يقاربها.

وقد روي عن ابن عباس: أنّه أُهدي إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) ناقتان عظيمتان، فجعل إحداهما لمن يصلّي ركعتين لا يهمّ فيهما بشيء من أمر الدنيا. ولم يجبه أحد سوى عليّ(عليه السلام)، فأعطاه كلتيهما(2).

وقد ورد ـ أيضاً ـ أنّ عليّاً(عليه السلام) كان في صلاته يستغرق في الله إلى حدّ اُستخرج السهم من رجله في حال الصلاة فلم يلتفت(3). وقد روى الفيض الكاشاني(رحمه الله)في المحجّة: أنّ مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) وقع في رجله نصل، فلم يمكّن من إخراجه، فقالت فاطمة(عليها السلام): أخرجوه في حال صلاته، فإنّه لا يحسّ بما يجري عليه، فأُخرج وهو(عليه السلام) في صلاته(4).

ومن هنا قيل: إنّه اُعترض على بعض الخطباء ـ وقيل: إنّه ابن الجوزي ـ بأنّ عليّاً(عليه السلام) مع استغراقه الكامل في ذات الله لدى الصلاة كيف التفت إلى السائل وأعطاه خاتمه؟!


(1) دعاء أبي حمزة الثمالي.

(2) البحار 41/18.

(3) تفسير «نمونه» 4/428، وأنوار المواهب: 160.

(4) المحجة البيضاء 1/397 ـ 398.

95

فأجاب الخطيب بالبداهة بقراءة هذين البيتين:

يسقي ويشربُ لا تُلْهِيهِ سكرتُه
عن النديمِ ولا يلهو عن الكاسِ
أطاعه سُكرُهُ حتّى تمكَّنَ من
فعلِ الصُحاة فهذا أفضلُ الناسِ(1)

وكأنّ المقصود: أنّ عمل الالتفات إلى السائل والتصدِّق عليه كان عبادة. فالالتفات إلى ذلك في أثناء الصلاة كان ـ أيضاً ـ التفاتاً إلى الله؛ ولهذا لم يصبح استغراقه في ذات الله مانعاً عن ذلك، ولم يكن هذا الالتفات التفاتاً إلى النفس كما في فرض الالتفات إلى إخراج السهم ـ مثلاً ـ حتّى يكون نسيانه لذاته في الصلاة مانعاً عن ذلك.

وقد ورد في وصايا رسول الله(صلى الله عليه وآله) لأبي ذرّ: «يا أبا ذرّ رَكْعتان مقتصدتان في تفكّر خيرٌ من قيام ليلة والقلبُ ساه»(2).

وروي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): أنّه رأى رجلاً يعبث بلحيته في صلاته فقال: «أما انّه لو خشع قلبهُ لخشعت جوارحُه»(3).

وعن النبيّ(صلى الله عليه وآله): «إذا قام العبد إلى صلاته وكان هواه وقلبه إلى الله انصرف كيوم ولدته أُمّه»(4).

وأيضاً روي عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «مَنْ صلّى رَكْعتين لم يُحدّث فيهما نفسه بشيء من الدنيا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»(5).

وأيضاً روي عن النبيّ(صلى الله عليه وآله): «أنّ العبد ليصلّي الصلاة لا يُكتب له سدسُها ولا


(1) أنوار المواهب: 160 ـ 161.

(2) البحار 77 / 82 .

(3) مجمع البيان مج 4 / 7 / 176، في ذيل تفسير قوله تعالى: ﴿الذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ السورة 23، المؤمنون، الآية: 2.

(4) كتاب أسرار الصلاة للحاج ميرزا جواد الملكي: 127، ط الناشر مكتبة فرهومند.

(5) المحجة البيضاء 1/349.

96

عشُرها، وإِنّما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها»(1).

وأيضاً روي عن بعض أزواج النبيّ(صلى الله عليه وآله) قالت: كان رسول الله يحدّثنا ونحدّثه، فإذا حضرت الصلاة فكأنّه لم يعرفنا ولم نعرفه شغلاً بالله عن كلِّ شيء. وكان عليّ(عليه السلام) إذا حضر وقت الصلاة يتململ ويتزلزل، فيقال له: مالك يا أمير المؤمنين؟! فيقول: «جاء وقت أمانة عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها». وكان عليّ بن الحسين(عليه السلام) إذا حضر الوضوء اصفرّ لونه(2).

وأيضاً ورد عن الرسول(صلى الله عليه وآله): «لا صلاة لمن لم يطع الصلاة، وطاعة الصلاة أن ينتهي عن الفحشاء والمنكر»(3).

وعن الصادق(عليه السلام): «من أحبّ أن يعلم أقُبلت صلاته أم لم تقبل فلينظر هل منعت صلاته عن الفحشاء والمنكر، فبقدر ما منعته قبلت منه»(4).

وبمعرفة معنى نهي الصلاة عن المنكر، وأنّ النهي يقوى ويتمّ إذا قوي حضور قلب المصلّي لدى الله وتمَّ، قد يتّضح معنى غسل الصلاة لدرن الروح باليوم خمس مرّات كمن يغسل بدنه بنهر جار باليوم خمس مرّات، فلا يبقى درن في بدنه، كما ورد عن الباقر(عليه السلام) عن رسول الله(صلى الله عليه وآله): «لو كان على باب دار أحدكم نهرٌ، فاغتسل في كلِّ يوم منه خمس مرّات أكان يبقى في جسده من الدرن شيء ؟ قلنا: لا، قال: فإنّ مثل الصلاة كمثل النهر الجاري كلّما صلّى صلاة كفّرت ما بينهما من الذنوب»(5).

وورد في رواية اُخرى عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أحدهما(عليهما السلام)يقول:


(1) المصدر السابق 1 / 368.

(2) المحجة البيضاء 1/378.

(3) تفسير «نمونه» 16/286 و 287.

(4) تفسير «نمونه» 16/286 و 287.

(5) الوسائل 4/12، الباب 2 من أعداد الفرائض، الحديث 3.

97

إنّ عليّاً(عليه السلام) أقبل على الناس فقال: أَيّة آية في كتاب الله أرجى عندكم ؟ فقال بعضهم: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ...﴾(1). قال: حسنة وليست إيّاها. وقال بعضهم: ﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ(2) ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً﴾(3). قال: حسنة وليست إيّاها. فقال بعضهم: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾(4). قال: حسنة وليست إيّاها. وقال بعضهم: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾(5). قال: حسنة وليست إيّاها. قال ثمَّ أحجم الناس فقال: مالكم يا معاشر المسلمين؟ قالوا: لا والله ما عندنا شيء. قال: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: أرجى آية في كتاب الله: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ (6). وقال: يا عليّ والذي بعثني بالحقّ بشيراً ونذيراً إنّ أحدكم ليقوم إلى وضوئه فتساقط عن جوارحه الذنوب، فإذا استقبل الله بوجهه وقلبه لم ينفتل عن صلاته وعليه من ذنوبه شيء كما ولدته أُمّه، فإن أصاب شيئاً بين الصلاتين


(1) السورة 4، النساء، الآيتان: 48 و116.

(2) لعلّه إشارة إلى أنّ المذنب قد ظلم نفسه وأضرّ بنفسه وليس بربّه، فإنّ الله غنيّ عن العالمين.

(3) السورة 4، النساء، الآية: 110.

(4) السورة 39، الزمر، الآية: 53.

(5) السورة 3، آل عمران، الآيتان: 135 ـ 136.

(6) السورة 11، هود، الآية: 114. وستأتي في بحث الشفاعة رواية اخرى تعيّن أرجى آية في آية الشفاعة.

98

كان له مثل ذلك حتّى عدّ الصلوات الخمس، ثُمّ قال: يا عليّ إنّما منزلة الصلوات الخمس لأُمتي كنهر جار على باب أحدكم، فما ظنّ أحدكم لو كان في جسده درن ثمَّ اغتسل في ذلك النهر خمس مرّات في اليوم أكان يبقى في جسده درن؟! فكذلك والله الصلوات الخمس لاُمتي(1).

وفي أكبر الظنّ أنّ المقصود هو: إمكانية غسل الدرن بالصلوات الخمس لا زوال الدرن قهراً، فإنّ الصلاة شُبِّهت بنهر الماء ولو أنّ أحداً دخل فيه عشرات المرّات، وخرج من دون أن يغتسل وينظف بدنه بفرك ونحوه، لم يخلص من درنه، وكذلك الصلاة إنّما تغسل الدرن وتزيل الذنوب لمن يغسل بها روحه. ويشهد لذلك قوله(صلى الله عليه وآله): «فإذا استقبل الله بوجهه وقلبه...» إذن فلو لم يستقبل الله إلاّ بتوجيه الوجه نحو الكعبة، ومن دون التوجّه بالقلب نحو الله، لم تكن فيه هذه الفائدة بكاملها، وإن كانت لا تخلو صلاته عن شيء من هذه الفائدة. وكذلك يشهد للمقصود تمسّكه(عليه السلام) بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ فأكبر الظنّ: أنّ المقصود بهذه الآية ليس هو مجرّد أن الحسنة تقتضي عفو الله عن ذنب العبد بمعنى ترك عقابه عليه (وان كانت الحسنة لا تخلو من تأثير في ذلك)، فإنّ هذا ليس إذهاباً للسيّئات؛ لأنّ عفو الله بترك العقاب عليها لا يعني زوالها واضمحلالها، فهي موجودة، إلاّ أنّ الله ـ تعالى ـ برحمته ربّما لا يؤاخذ العبد عليها ويعفو عنه. أمّا الإذهاب الحقيقي للسيّئات فهو عبارة عن غَسل الدرن الذي اتّجه إلى الروح، وإزالة الظلمة التي سيطرت على القلب بسبب الذنوب، ومحو الآثار التي خلّفت الذنوب على النفس. وهذا هو الذي يكون ذكرى للذاكرين، فقد يتخيّل المؤمن الذي ابتلى بالذنب ـ نتيجةً لعدم العصمة ولاستيلاء الشهوات عليه المودعة فيه من قبل الله تعالى ـ أنّه لا علاج للخلاص عن السقوط الذي وقع فيه،


(1) البحار 82 / 220.

99

فيذكِّره الله ـ تبارك وتعالى ـ بأنّك تستطيع علاج مرض الذنوب بدواء الحسنات.

ولعلّه اتَّضح بهذا ـ أيضاً ـ معنى ما ورد عن أبي جعفر(عليه السلام) من كون «الصلاة عمود الدين مثلها كمثل عمود الفسطاط إذا ثبت العمود ثبتت الأوتاد والأطناب، وإذا مال العمود وانكسر لم يثبت وتد ولا طنب»(1).

وليعلم أنّ الصلاة صُمِّمت بشكل يساعد على حضور القلب، وتلهم بكل خطواتها ذكر الله سبحانه وتعالى، وتساعد إلى حدّ كبير في النهي عن الفحشاء والمنكر.

ولتوضيح ذلك نذكر نموذجاً مختصراً عن إلهامات الصلاة بقدر ما يتطلّبه هذا المدخل المختصر:

 

فأوَّلاً ـ استقبال الكعبة:

إنّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ موجود في كلّ مكان، ونسبة جهة الكعبة وما يعاكسها إليه سواه ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ...﴾(2)، ولكنالإسلام أراد للإنسان اتّجاهاً حسّياً لدى إرادة الاتّجاه إلى الله، باعتبار أنّ الإنسان خُلِق حسّياً أكثر من كونه عقليّاً، فجعل الكعبة رمزاً لبيت الله، وأمرنا بالتوجّهإلى جهة المسجد الحرام بقوله تعالى: ﴿ ... وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ...﴾(3)، أفيكون من وظيفتنا في الصلاة توجّه الجسم إلى ما جعل رمزاً لبيت الله، ولا يكون من وظيفتنا توجّه القلب في الصلاة إلى الله سبحانه والذي به تتمّ روح العبادة؟!


(1) البحار 82 / 218.

(2) السورة 2، البقرة، الآية: 115.

(3) السورة 2، البقرة، الآيتان: 144 و 150.

100

وثانياً ـ التكبير:

لئن كبّرنا ـ حقّاً ـ متوجّهين إلى مغزى التكبير، وقاصدين معناه، ومؤمنين بأنّ الله أكبر من كلّ شيء، أفهل يُعقل أن نعصي الله، ونتّجه إلى غيره من هدف صغير أو كبير ممّا هو لا شيء بالقياس إلى الله سبحانه وتعالى؟!

 

وثالثاً ـ سورة الفاتحة:

وليست هي أوَّل سورة نزلت من القرآن، فعجباً لماذا أصبحت فاتحةً للكتاب؟! أفلا يرمز ذلك إلى عظمة هذه السورة المباركة، ولقد فُسِّر السبع المثاني بهذه السورة، وجُعِل السبع المثاني في عرض تمام القرآن في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾(1). وفي الحديث عن عليّ(عليه السلام)قال: «سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله) يقول: إنّ الله ـ تعالى ـ قال لي: يا محمّد ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾، فأفرد الامتنان عليَّ بفاتحة الكتاب، وجعلها بإزاء القرآن العظيم. وإنّ فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش...»(2).

ولفاتحة الكتاب ميزة لم توجد في أيّة سورة أُخرى من سور القرآن، وهي: أنّ جميع سور القرآن لسانها لسان مخاطبة الله سبحانه وتعالى للناس، ماعدا هذه السورة المباركة التي كان لسانها من أوّلها إلى آخرها لسان مخاطبة العبد لله سبحانه وتعالى(3).. ولعلّ هذا هو السرّ في أنّه لا تخلو صلاة منها، ولا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب(4). ولعلَّ هذا هو السرّ أو أحد الأسرار في جعل هذه السورة أوّل


(1) السورة 15، الحجر، الآية: 87 .

(2) تفسير البرهان: 1 / 41.

(3) تفسير «نمونه» 1/2.

(4) راجع الوسائل 6/37 ـ 39، الباب 1 من أبواب القراءة في الصلاة.

101

سورة من القرآن برغم نزولها المتأخّر.

ومن يبدأ القراءة في الصلاة بالاستعانة بالله الرحمن الرحيم، ويعترف بأنّه تعالى مالك يوم الدين، ويحصر العبادة والاستعانة بالله تعالى، كيف يتّخذ بعد ذلك إلههُ هواه، ويستعين بنعم الله ـ تعالى ـ على معصيته؟!

 

ورابعاً ـ الركوع والسجود:

وقد قالوا عنهما: إنّهما عبادة ذاتيّة؛ لأنّ العبادة تذلّل، والتذلّل بالعبائر إنّما تكون بمعانيها اللُغويّة التي تختلف من لغة إلى لغة ومن قوم إلى قوم، في حين أنّ دلالة الركوع والسجود على التذلّل دلالة عالمية أجمع عليها كلّ الملل وكلّ اللغات، فكأنّ دلالتها على ذلك ذاتيّة، ومن يتذلّل لله بهكذا تذلّل بمحض اختياره ومن دون أيّ إجبار؛ لأنّ « ... اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل »(1)كيف يعارض الله ـ تعالى ـ بعد ذلك بمعصيته؟!

إلى هنا تكلّمنا حول تفسير قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ والمُنْكَرِ ...﴾(2). ولا بأس بتكميل البحث بحديث مختصر عن ذيل الآية، وهو قوله تعالى: ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ...﴾ وفيه احتمالان:

الاحتمال الأوّل: أن يكون المقصود بالذكر ذكر العبد لله تعالى. ويؤيّد هذا الاحتمال ما ورد في تفسير الذكر في هذه الآية المباركة عن الصادق(عليه السلام)من قوله: «ذكر الله عندما أحلّ وحرّم»(3). وليس معنى الآية على هذا الاحتمال: أنّ ذكر الله أكبر من الصلاة، وذلك لوضوح أنَّ الصلاة من أبرز مصاديق الذكر وأكملها، بل


(1) نهج البلاغة: 80، رقم الخطبة: 42.

(2) السورة 29، العنكبوت، الآية: 45.

(3) تفسير «نمونه» 16/289.