150

والطواف، والزكاة، والخمس، والجهاد، والكفّارات، والعتق. وغير هذه المذكورات من الواجبات والمستحبّات فهي توصّليات: كتطهير البدن والملابس من النجاسة، والإنفاق على الزوجة والأقارب، وصلة الرحم، وتعليم الأحكام، وتكفين الأموات ودفنهم، ووفاء الدين، وأداء الأمانة، ونصح المستشير، والبرّ بالوالدين، وردّ التحية (جواب السلام)، ودفع الظلم عن المظلوم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإنقاذ الإنسان من مهلكة حريق أو غرق ونحوهما، وزيارة مشاهد النبي والأئمّة (عليهم السلام)، وقراءة القرآن، إلى غير ذلك من الواجبات والمستحبّات التوصّلية.

[تفصيل أحكام النيّة:]

(3) نية القربة معناها: الإتيان بالفعل من أجل الله سبحانه وتعالى، فهي الباعث نحو الفعل، سواء كانت هذه النية بسبب الخوف من عقاب الله تعالى، أو رغبةً في ثوابه، أو حبّاً له وإيماناً بأنّه أهل لأن يطاع، فالعبادة تقع صحيحةً إذا اقترنت بنية القربة على أحد هذه الأوجه، ولا يعتبر فيها أن ينوي كون الفعل واجباً أو مندوباً ومستحبّاً، بل يكفي أن يأتي به طاعةً لله تعالى، ولو لم يقصد الوجوب في الواجب أو الاستحباب والندب في المستحبّ والمندوب.

(4) إذا أتى المكلّف بالواجب التوصّليّ ـ كالإنفاق على الزوجة ـ بنية القربة دفع عن نفسه العقاب، واستحقّ بلطف الله تعالى الأجر والثواب. وإذا أتى به بدافع من الدوافع الخاصّة ـ كحبّه لزوجته ـ على نحو لم يكن ليقوم بذلك لولا تلك الدوافع الخاصّة دفع عن نفسه العقاب، ولكنّه لا يستحقّ بذلك الأجر والثواب. وكذلك إذا أحسن الغنيّ بالمال في سبيل من سبل الخير فإنّه إن نوى بذلك القربة إلى الله تعالى استحقّ بلطف الله الثواب، وسمّي إحسانه بالصدقة، وإن لم ينوِ القربة

151

لم يستحقّ ذلك، وكثيراً مايتفضّل الله سبحانه وتعالى عليه بذلك لأنّه أكرم الأكرمين وأوسع المعطين(1).

(5) وإذا أتى المكلّف به بنية القربة وبالدافع الخاصّ معاً على نحو لو لم يكن هناك دافع خاصّ لقام بذلك أيضاً من أجل الله تعالى فقد برئ من العقاب واستحقّ الثواب(2). وأمّا العبادات الواجبة فلا ينجو المكلّف من العقاب بسببها إلّا إذا أتى بها بنية القربة.

(6) نية القربة كما تتحقّق في حالةِ تمييز العبادة كذلك تتحقّق في حالة عدم التمييز.

ومثال ذلك: أنّ الصلاة إلى القبلة واجبة، فقد يميّز القبلة ويعرف أنّ الصلاة إلى هذه الجهة هي الصلاة إلى القبلة فينوي بها القربة، وقد تحتاج معرفته للقبلة إلى السؤال، فلا يعلم هل المطلوب الصلاة إلى هذه الجهة أو تلك؟ فبدلا عن السؤال يصلّي إلى الجهتين معاً بنية القربة دون أن يميّز العبادة المطلوبة بالضبط.

(7) إذا علم المكلّف بأنّ هذا الفعل ليس مطلوباً لله سبحانه وتعالى حرم عليه أن يأتي به بنية القربة، ويسمّى ذلك « تشريعاً » أي « بدعة » والتشريع حرام. وأمّا إذا شكّ في أنّ هذا الفعل هل هو مطلوب لله أو لا؟ وأحبّ أن يأتي به بأمل أن


(1) وخاصّة إذا كان دافعه إلى تلك الأعمال التوصّلية عبارةً عن دوافع الخير الإنسانيّة كالرحمة والرأفة والشفقة وما إلى ذلك، بل لعلّ روايات الثواب تكون شاملةً لهذا الفرض وإن كان فرض قصد القربة هو الفرض الأتمّ والأفضل بلا إشكال.
(2) بل حتّى لو كان كلٌّ من الدافع الإلهي والدافع الخاصّ جزء المحرِّك له نحو الواجب التوصّلي فهو يحصل أيضاً على الثواب بنسبة ما لديه من الدافع الإلهي.
152

يكون مطلوباً له لم يكن آثماً، ويسمّى هذا «احتياطاً». وقد مرّ الحديث عن الاحتياط.

(8) الرياء: هو الإتيان بالفعل من أجل كسب ثناء الناس وإعجابهم، وهذا حرام في العبادات، فأيّ عبادة يأتي بها الإنسان بهذا الدافع تقع باطلةً، ويعتبر الفاعل آثماً؛ سواء أتى بالفعل من أجل الناس وحدهم، أو من أجلهم ومن أجل الله معاً، وقد سمّي ذلك في بعض الأحاديث بالشرك.

وأمّا في التوصّليات فلا يحرم الرياء، ولا يبطل العمل، فمن أنفق على الفقراء ووصل أرحامه وبرّ والديه لا لشيء إلّا من أجل الحصول على ثنائهم وحبّهم، أو من أجل أن يصبح مشهوراً بين الناس بحسن السلوك يقع العمل صحيحاً، ولا يعتبر آثماً، ولكن يفوته رضوان من الله أكبر.

(9) الرياء إذا حصل للإنسان بعد الفراغ من عبادته، بأن صلّى ـ مثلا ـ ثمّ حاول أن يتحدّث وينوِّه بذلك لكسب رضا الناس وثنائهم لا يبطل بذلك العمل.

(10) وإذا كان المكلّف مُقدِماً على العبادة من أجل الله سبحانه وتعالى مخلصاً له في نيته، ولكنّه كان مذموماً لدى الناس ومتّهماً بعدم التديّن فحاول التظاهر بعبادته تلك أمام الآخرين ليدفع عنه التهمة جاز ذلك وصحّت عبادته.

(11) ويكره للإنسان ـ ولا يحرم ـ أن يتحدّث إلى الآخرين بما يقوم به من طاعات وعبادات ﴿فَلا تُزَكُّوا أنْفُسَكُمْ هُوَ أعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾(1).

ويستثنى من ذلك ما إذا كان يحتمل نفع الآخرين دينياً بهذا الحديث؛ لما فيه من ترغيب لهم في الطاعة وكان هذا الاحتمال هو الدافع.

 


(1) النجم: 32.
153

(12) ولا ضير على الإنسان إذا عبد ربّه فاطّلع على ذلك غيره صدفةً، فشعر العابد بالسرور لاطّلاع الغير على عبادته وطاعته فإنّ شعوره هذا لا كراهة فيه، ولا ينقص من قدره.

(13) وليس من الرياء أن يتعبّد الإنسان أو يحسن عبادته بدافع ترغيب الآخرين في الطاعة، ومجاراته أو تقريب دينه ومذهبه إلى قلوبهم، ولكن على أن يكون الدافع هو ذلك فقط، لا إعلاء شأنه وتقريب شخصه بوصفه الخاصّ إلى القلوب، وإلّا كان رياءً محرّماً.

(14) العُجب: هو أن يشعر الإنسان بالزهو وبالمنّة على الله سبحانه بعبادته، وأنّه أدّى لربّه كامل حقّه، وهذا محرّم شرعاً، إلّا أنّ العبادة لا تبطل به، ولكن يذهب به ثوابها.

وأمّا مجرّد سرور الإنسان بعبادته وطاعته فلا ضير فيه ولا إثم.

(15) إذا كان في العبادة بعض الفوائد الصحية أو الجسدية أو النفسية فأتى المكلّف بها من أجل الله سبحانه وتعالى ومن أجل بعض تلك الفوائد فهل تقع العبادة منه صحيحة ؟ ومثال ذلك: من يتوضّأ بنية القربة ومن أجل التنظيف معاً.

والجواب: أنّ نية القربة إذا كانت كافيةً لدفع المكلّف إلى القيام بتلك العبادة حتّى ولو لم يلتفت إلى تلك الفوائد صحّ عمله، وإذا لم يكن المكلّف ليتحرّك من أجل الله وحده لولا تلك الفوائد الإضافية فالصلاة باطلة.

(16) الإيمان شرط أساسي في صحة العبادة، أيّ عبادة، فلا تقع العبادة من الإنسان صحيحةً إلّا إذا كان قلبه عامراً بالإيمان.

(17) وليس التلفّظ شرطاً لنية القربة في شيء من العبادات، فهي شيء في النفس ولا يجب أن يتلفّظ به باللسان.

(18) وعلى العموم يعتبر التستّر بأداء العبادات المستحبّة أفضل من

154

التجاهر بها أمام الناس؛ لكي تكون النية أوضح إخلاصاً، ويستثنى من ذلك ما إذا كان للعامل غرض ديني في التجاهر للترغيب في الطاعة.

[النيابة والاستئجار في العبادات:]

(19) ولا يجوز في العبادة النيابة عن الحي، بمعنى أنّ الإنسان لا يمكنه أن يصلّي عن قريب أو صديق أو أيّ شخص آخر لا يزال حياً، لا الصلاة الواجبة على ذلك القريب أو غيره، ولا صلاة مستحبة يقصد بها النيابة عنه، ومثل الصلاةسائر العبادات فإنّ ذلك لا يصحّ. ويستثنى من هذا: الحجّ المستحبّ، والطواف المستحبّ، والعمرة المستحبّة، فإنّها عبادات لكن يمكن للشخص أن ينوب فيها عن الحي، وكذلك الحجّ الواجب في حالة خاصة يأتي شرحها في فصول الحجّ.

وينبغي أن لا يفهم من ذلك أنّه لا يصحّ للإنسان أن ينوب عن الحي في كلّ أوجه البرّ والخير، بل يصحّ أن ينوب عنه الإنسان في أوجه البرّ وصلة الفقراء وزيارة المشاهد المشرّفة، ونحو ذلك من المستحبات التوصلية.

وإذا أراد الإنسان أن ينفع شخصاً لا يزال حيّاً بعبادته أمكنه أن يأتي بصلاته أو عباداته الاُخرى المندوبة بصورة أصيلة ـ أي بدون أن ينوي بها النيابة ـ ثمّ يطلب من الله تعالى أن يسجّل ثواب العمل لذلك الشخص عسى أن يمنّ الله تعالى عليه بإجابة طلبه.

(20) تجوز النيابة في العبادات عن الميّت، فيصلّى عنه ويُصام عنه، إلى غير ذلك من العبادات، واجبةً كانت أو مستحبّة، كما يمكن الإتيان بالعبادة بصورة أصيلة ـ أي بدون نية النيابة ـ ثمّ إهداء ثوابها إلى الميّت، نظير ما أشرنا إليه في

155

الفقرة السابقة بالنسبة إلى الحي.

(21) كلّما صحّ التبرّع بالعبادة عن شخص صحّ أيضاً استئجار شخص للقيام بتلك العبادة نيابةً عنه، وهناك شرط أساسي لهذه الصحة، وهو: أن يكون الدافع للأجير للقيام بهذا العمل هو الخوف من الله سبحانه وتعالى أن يأكل الاُجرة حراماً، على نحو لا يكون مستعدّاً لأخذ الاُجرة حتّى لو تيسّر له أخذها ما لم ينجّز العمل الذي استُؤجر لأدائه؛ لكي لا تكون الاُجرة حراماً عليه ولا يكون خائناً، فإنّ هذا القدر من النية الحسنة لدى الأجير يحقّق نية القربة التي لا تصحّ عبادة بدونها.

وأمّا إذا كان الأجير مستعدّاً لأخذ الاُجرة على أيِّ وجه اتّفق، وهو لا يؤدّي العمل إلّا لأنّه لا يتاح له أن يقبض تلك الاُجرة إلّا بأداء العمل، إذا كان الأجير كذلك فلا تصحّ منه النيابة والعبادة؛ لأنّ عمله يكون تجارياً بحتاً من أجل المال، ولا أثر للخوف من الله ورعاية حقّه فيه.

(22) ويحرم على الإنسان مهما تعبّد وأطاع ربّه أن يأمن عقابه ويثق ثقةً مطلقةً بمستقبله ومنقلبه، كما يحرم عليه مهما قصّر وأذنب أن ييأس من رحمته ويقنط من عفوه، ويعتبر ذلك الأمن من عقابه وهذا اليأس من رحمته من كبائر الذنوب.

(23) ولئن كانت العبادات مقصورةً على اُمور معيّنة كالصلاة والصيام ونحوهما فإنّ بإمكان الإنسان شرعاً أن يحوّل أعماله ومساعيه الصالحة في مختلف جوانب حياته إلى عبادة إذا أتى بها على وجه يرضي الله سبحانه وتعالى ومن أجله، فمن عمل في وجه من وجوه الكسب المباح من أجل القيام بما يجب عليه أو يستحبّ له من الإنفاق على عائلته كان عمله عبادةً، وهكذا.

156

[تقسيم العبادات:]

هذه أحكام موجزة عامة عن العبادات، وسنستعرض نوعاً بعد نوع مع أحكام كلّ نوع بالتفصيل على الترتيب التالي:

أوّلا: نقدّم الصلاة باعتبارها أهمّ العبادات.

ثانياً: نقدّم الطهارة على الصلاة؛ لأنّ الطهارة شرط أساسي في الصلاة.

ثالثاً: سنستعرض أحكام الحجّ أيضاً، ولكن بصورة موجزة، اعتماداً في التفاصيل على مناسك الحجّ التي أ لّفناها بهذا الصدد (موجز أحكام الحجّ).

رابعاً: أنّ الزكاة والخمس على الرغم من كونهما عبادتين سوف ندرجهما في القسم الثاني؛ لأنّ الجانب المالي فيهما أبرز وأهمّ. كما أنّ الجهاد سوف ندرجه في القسم الرابع؛ لأنّه يدخل في نطاق السلوك العام، وعلى هذا الأساس سوف نستعرض العبادات، بادئين بالطهارة، ثمّ الصلاة، فالصيام، فالاعتكاف، ثمّ الحجّ والعمرة، ونختم القسم الأوّل بالكفّارات.

157

العبادات

2

الطهارة

 

 

○   أقسام الماء وأحكامه.

○  الوضوء.

○  الغُسل.

○  التيمّم.

○  أنواع النجاسات.

○  أنواع المطهّرات.

 

 

159

الطهارة

1

أقسام الماء وأحكامه

 

 

○   تمهيد.

○  أقسام المياه.

○  حكم القليل والكثير.

○  أحكام متفرّقة للماء.

 

 

161

تمهيد

 

أهمّ العبادات الصلاة، فإنّها عمود الدين، وقد أوجب الشارع على المصلّي أن يكون متطهّراً من الخبث ومن الحدث.

ونقصد بالخبث هنا: النجاسة، ومردّ النجاسة إلى أشياء مادية تقع تحت الحواسّ: كالدم والبول والغائط والميتة، وغيرها من الأخباث، (أي النجاسات التي يأتي الكلام عنها).

وأمّا الحدث في اصطلاح الفقهاء فلا يدرك بالحسّ، بل هو أمر معنويّ يوجب الوضوء أو الغسل، ومثاله الجنابة.

والخبث يُزال وتحصل الطهارة منه بالغسل بالماء الطاهر، وبوسائل اُخرى أحياناً، كالأرض. والحدث يُزال وتحصل الطهارة منه بالوضوء بالماء الطاهر، أو الاغتسال به، وبالتيمّم بالتراب أحياناً. وسيأتي في الأبواب المقبلة تفصيل الحديث عن كلّ ذلك إن شاء الله تعالى.

ولمّا كان الماء الطاهر هو المطهّر الرئيس من الحدث والخبث تعيّن في البداية أن نتحدّث عن الماء وأقسامه، ومتى يكون طاهراً ومطهّراً من الحدث والخبث؟ ومتى لا يكون كذلك؟

162

[أقسام المياه]

 

الماء مطلقٌ أو مضاف:

(1) ينقسم الماء إلى مطلق ومضاف، وتختلف أحكام كلٍّ منهما عن أحكام الآخر، وسنعرض الفرق والاختلاف في الفقرات الآتية.

والمراد بالماء المطلق: هذا الماء الذي يفهمه كلّ الناس من قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْء حَيٍّ﴾(1). وهو الذي يجري في الأنابيب إلى البيوت والحمّامات والفنادق والمعابد.... إلى آخره، ويشربه الإنسان والحيوانات؛ ويحيا به الشجر والنبات، ونغتسل به، ونطهّر الأجسام والثياب، ومنه ماء البحر، والمذاب من الثلج والبرد، والمياه المعدنية، وبالتالي فلا يحتاج الماء المطلق إلى تفسير؛ لوضوح معناه.

والمضاف هو: إمّا ماء مطلق خالطه جسم آخر، فأخرجه عن وضعه الطبيعي وسلب عنه اسم الماء، فلم يعد ماءً حقيقةً كالشاي وماء الورد، وإمّا ماء اعتصر من جسم، كماء البطّيخ والليمون.

(2) الماء المطلق والمضاف كلاهما طاهر، لك أن تشرب منهما وتستعملهما بما شئت. والفرق الأساس بين حكم المطلق وحكم المضاف يتمثّل فيما يلي:

أوّلا: أنّ الماء المطلق لك أن تطهّر به الشيء المتنجّس ـ كالإناء والثوب


(1) الأنبياء: 30.
163

والبدن ـ إذا أصابته النجاسة، وليس لك أن تطهّره بالمضاف.

وثانياً: أنّ الماء المطلق لك أن تتوضّأ به، وتغتسل من الجنابة، أو أيّ غسل آخر، وليس لك أن تتوضّأ أو تغتسل بالمضاف، وهذا معنى الكلمة الفقهية القائلة: « الماء المطلق طاهر في نفسه، ومطهّر لغيره من الحدث والخبث، وأنّ الماء المضاف طاهر في نفسه، ولكنّه لا يرفع حدثاً ولا يزيل خبثاً ».

وثالثاً: أنّ الماء المطلق لا يتأثّر ولا يتنجّس بملاقاة النجاسة إلّا في بعض الحالات، كما سيأتي، لاحظ الفقرة (8) و (9) من هذا الباب.

وأمّا الماء المضاف فيتأثّر ويتنجّس بمجرّد ملاقاة النجاسة، وأيّ شيء ينجّس الأجسام الصلبة فإنّه ينجّسه، سواء كان الماء المضاف قليلا أو كثيراً(1).

ورابعاً: أنّ الماء المطلق إذا تنجّس وأوصلناه بماء غزير أو أصابه ماء المطر يطهر على ما يأتي. وأمّا الماء المضاف فلا يطهر بذلك إذا تنجّس، وإنّما يطهر إذا حوّلناه إلى ماء مطلق، فنطهّره بما يطهّر به الماء المطلق.

(3) المائعات التي لا تحمل اسم الماء بحال ـ كالنفط والحليب ـ تتّفق مع الماء المضاف فيما تقدّم من أحكام، فلا يصحّ التطهير بها من الخبث أو الحدث، وتتنجّس بمجرّد الملاقاة(2)، وإذا تنجّست لا تطهر بحال.

(4) إذا ملأت إبريقاً بماء الورد وأخذت تصبّه على أرض نجسة تنجّس من ماء الورد ما أصاب الأرض، ولا يتنجّس كل ما في الإبريق. وكذلك في كلّ حالة يتحرّك فيها المائع باندفاع فيلاقي نجساً، فإنّ الذي يتنجّس هو الملاقي المباشر،


(1) لا دليل على تنجّس المضاف الكثير بملاقاة المتنجّس.
(2) مضى الاستشكال في تنجّس الكثير منها.
164

وأمّا القدر الذي بعدُ لم يندفع ولمّا يصل إلى النجاسة فلا ينجس.

وهذا الحكم ثابت أيضاً في الماء المطلق إذا كان يتنجّس بالملاقاة فإنّه في حالة تحركه واندفاعه والتقائه وهو مندفع مع النجس يتنجّس منه الملاقي المباشر، لا مبدأه الذي بعد لمّا يصل إلى النجاسة. لاحظ الفقرة (9) من هذا الباب.

(5) الماء المطلق له خصائصه وطعمه ولونه الخاصّ، فقد يتغيّر طعمه أو لونه، كالماء الذي تُلقي فيه شيئاً قليلا من الملح أو من الصبغ الأحمر، ويسمّى حينئذ بالماء المتغيّر، ولكنّه لا يخرج عن كونه ماءً مطلقاً، وله أحكام الماء المطلق، ولكن إذا تفاقم هذا التغيّر وازداد وتراكمت على الماء صفات اُخرى غريبة عنه فقد يتحوّل إلى ماء مضاف، وبذلك يفقد أحكام الماء المطلق، وتثبت له أحكام الماء المضاف.

(6) وقد يتغيّر الماء المطلق على هذا الأساس، ولكن لا تدري ما هو حجم هذا التغيير ومقداره ؟ وهل أنّه كان بدرجة كبيرة يؤدّي إلى تحوّل الماء المطلق إلى مضاف، أو لا ؟ والحكم في مثل ذلك أن يبنى على أنّه لا يزال ماءً مطلقاً حتّى يحصل اليقين بالعكس.

وقد يتغيّر الماء المطلق بدرجة شديدة يتحوّل بموجبها إلى مضاف، ثمّ يتناقص هذا التغيير، كما إذا سحبنا قسماً من المادة الصبغية التي كانت في الماء، أو ألقينا عليه ماءً مطلقاً فتناقص التغيّر واقترب من لونه وطعمه الطبيعي، وفي هذه الحالة قد نشكّ في أنّ الباقي من التغيّر في هذا الماء هل هو كثير على وجه لا يزال الماء معه مضافاً، أو ضئيل على وجه عاد الماء ماءً مطلقاً ؟ والحكم في ذلك أن نبني على أنّه لا يزال مضافاً حتّى يحصل اليقين بالعكس.

165

الماء المطلق كثير وقليل:

(7) ينقسم الماء المطلق إلى قسمين:

أ ـ يسمّى بالماء الكثير، ونطلق هذا الاسم:

أوّلا: على كلّ ماء له رصيد يمدّه بالماء، ويسمّى هذا الرصيد بالمادة؛ لما فيه من إمداد بالماء، كماء البئر النابع، وماء العيون النابعة، سواء كان الماء النابع منها جارياً أو واقفاً. وكذلك الماء الجاري في الجداول والأنهار، سواء كان مستمدّاً من عيون في جوف الأرض أو في باطن الجبال، أو من ذوبان الثلج المتراكم على رؤوس الجبال، فإنّ كلّ ماء من هذا القبيل يعتبر ماءً كثيراً، سواء كان الظاهر منه للعيان كثيراً حقّاً كما في الأنهار، أو قليلا كما في بعض العيون النابعة الواقفة؛ لأنّ الكثرة هنا على أساس المادة، أي الرصيد الذي يستمدّ منه الماء.

ثانياً: على ماء المطر حين نزوله من السماء، على أن يبلغ من الكثرة حدّاً يمكن أن يجري على الأرض الصلبة ولو قليلا، فإنّه يعتبر كثيراً حينئذ، ويبقى كثيراً أيضاً بعد تجمّعه على سطح الأرض، حتّى ولو كان المتجمّع كميّةً ضئيلةً ما دام المطر يتقاطر عليه باستمرار.

ثالثاً: على الماء الراكد الذي ليس له مادة في الأرض ولا في السماء إذا بلغ كرّاً أو أكثر، وسيأتي تحديد الكر في الفقرة (10) من هذا الباب.

ب ـ يسمّى بالماء القليل وهو غير الماء الكثير، ويعني الماء الذي لا مادة له، ولا يبلغ مقدار الكرّ، وليس مطراً.

166

حكم القليل والكثير

 

(8) والقليل والكثير طاهران مطهّران من الحدَث والخبَث(1)، غير أنّهما يختلفان في تأثّرهما بالنجاسة، فالماء الكثير ـ لكثرته وحصانته ـ لا يتأثر ولا يتنجّس بمجرّد ملاقاته للنجاسة، فلو أصابه بول أو دم يبقى طاهراً، ومن أجل ذلك يسمّى الماء الكثير بالماء المعتصم؛ لأنّ كثرته تحفظه من النجاسة.

وأمّا الماء القليل فيتأثّر وينجّس بمجرّد أن يلاقي العين النجسة، كالبول والدم والكلب. أمّا إذا لاقاه الشيء المتنجِّس دون العين النجسة (وهو الشيء الذي تنجّس بملاقاة العين النجسة كالملعقة التي يلطعها الكلب) فينظر هل هو سائل مائع كالماء والحليب، أو جامد كالملعقة والصابون؟ فإن كان مائعاً يتنجّس الماء القليل بمجرّد الملاقاة، وإن كان جامداً فلا يتنجّس إذا لم يكن في الشيء المتنجّس الذي لاقى الماء أجزاء من العين النجسة، وإلّا تنجّس الماء القليل بالملاقاة لعين النجاسة، فالملعقة إذا أصابها الدم ومسحت عنها الدم وغمستها في ماء قليل فلا تنجّسه(2)، (والسائل والمائع بمعنى واحد).

 


(1) مع فوارق أحياناً في كيفية التطهير بين القليل والكثير، كما سيأتي في باب أنواع المطهّرات إن شاء الله تعالى.(منه (رحمه الله)).
(2) بل يتنجّس الماء القليل بملاقاة المتنجّس الجامد الأوّل أيضاً، إلّا أنّ هذا الماء لا ينجّس شيئاً، وأقصد بالمتنجّس الأوّل: ما تنجّس بملاقاة عين النجس، أو بملاقاة المائع المتنجّس بعين النجس، والأثر الشرعي لتنجّس الماء القليل يظهر في حرمة شربه من ناحية، وفي عدم إمكانيّة التطهير به من الحدث والخبث من ناحية اُخرى.
167

(9) إذا أصابت عين النجاسة جانباً من الماء القليل تنجَّس الماء كلّه، ولم تقتصر النجاسة على ذلك الجانب.

ولكن إذا كان النجس في مكان أسفل وورد عليه ماء قليل من أعلى ـ كما إذا صبّ من إبريق ـ فتسري النجاسة إلى محلّ الملاقاة من الماء فقط. أمّا الماء الأعلى فيبقى على طهارته.

ولو انعكس الأمر وكانت النجاسة في أعلى والماء القليل في أسفل، وذلك بأن كان الماء القليل يفور صاعداً كالعمود بسبب أو بآخر، ويلاقي النجاسة في العلوّ؛ لو كان ذلك سرت النجاسة للطرف الأعلى من الماء القليل الملاقي، ولا تسري إلى العمود وما دونه، ومثله لو كانت النجاسة في محاذاة الماء القليل وفي خطٍّ مقابل ومواجه له، ثمّ دفع الماء إلى النجاسةِ فينجس منه ما لاقاه فقط، ويبقى ما عداه على طهارته.

وبكلمة موجزة: أنّ الماء إذا كان في حالة تحرّك سريع في أيّ اتّجاه من الاتّجاهات ولاقى النجس في اتّجاهه تنجّس موضع الملاقاة من الماء، ولم يتنجّس ما خلفه من ماء.

(10) أشرنا في الفقرة (7) إلى أنّ أحد أقسام الماء الكثير: الكرّ من الماء، وهو: كلّ ماء بلغ وزنه ثلاثمائة وستّةً وسبعين كيلو غراماً تقريباً.

وإذا كان الماء من الماء الصافي الذي يستعمل في أنابيب الإسالة(1) فحجم الكرّ منه يساوي ثلاثمائة وسبعةً وخمسين ألفاً ومائتي سنتمتر مكعّب، ولمّا كان طول الشبر لا يقلّ عادةً عن واحد وعشرين سنتمتراً أمكن القول بأنّ الماء الصافي



(1) الماء المقطَّر كثافته وثقله (1) غرام لكلّ سنتمتر مكعّب، بينما الماء الصافي كثافته (05/1) غرامات لكلّ سنتمتر مكعّب؛ لاحتوائه على الأملاح.(منه (رحمه الله)).

168

إذا كان يساوي تسعةً وثلاثين شبراً مكعّباً فهو يحتوي على كرٍّ مع زيادة شيء قليل(1)، ومن الناحية العملية نصل إلى هذه النتيجة، وهي: أنّ الحوض المربّع الممتلئ ماءً إذا قاسه أيّ إنسان اعتياديٍّ بأشباره فكان كلّ من طوله وعرضه وعمقه يساوي ثلاثة أشبار ونصف شبر، أو كان بُعدان من هذه الأبعاد الثلاثة يساوي ثلاثة ونصفاً والبعد الثالث ثلاثة أشبار وثلث الشبر، فهو كرّ مع زيادة، فيكون معتصماً.

(11) الماء الكرّ إذا كان راكداً ساكناً فلا فرق فيه بين أن يكون بكامله في مكان واحد أو أكثر، ولا بين أن يكون جزء منه في أعلى وآخر في أسفل، أو أن يكونا متساويين ماداما متّصلين بسبب من الأسباب، ففي كلّ هذه الحالات يعتبر كثيراً ومعتصماً، ولا يتنجّس بمجرّد الملاقاة.

(12) الماء قد يكون جارياً ومتحرّكاً، ومثاله: الماء الذي يجري من خزّانات الحمّامات بواسطة الأنابيب إلى حياض صغيرة تحت الأنابيب، وهذا له حالتان:

الاُولى: أن يكون الماء الموجود في الخزّان بقدر الكرّ أو أزيد.

الثانية: أن يكون الماء الموجود في الخزّان دون الكرّ، ولكن إذا ضُمّ إليه المقدار الذي جرى منه في الأنابيب وما انحدر منها إلى الحوض الصغير الموضوع تحت الاُنبوب كان الكلّ بقدر الكرّ.

ففي الحالة الاُولى يعتبر ما في الخزّان معتصماً، وكذلك ما في الحوض الصغير ما دام الاُنبوب مفتوحاً عليه ويصبّ فيه، فلو وقع دم في ماء الخزّان أو ماء



(1) المتيقّن من روايات الكرّ ما يحتوي على اثنين وأربعين شبراً وسبعة أثمان شبر، والأقوى كفاية سبعة وعشرين شبراً بحسب الشبر المتعارف.

169

الحوض لا ينجس.

وفي الحالة الثانية يعتبر ما في الحوض الصغير معتصماً لا ينجس بمجرّد ملاقاة النجس، ما دام متّصلا بمخزنه عن طريق تدفّق الماء من الاُنبوب إليه. وأمّا ما في الخزّان فليس معتصماً؛ فإذا لاقته عين النجاسة يتنجّس.

(13) كلّ ماء قليل اتّصل بماء كثير فهو معتصم، وتجري عليه نفس الأحكام التي تجري على الماء الكثير. فلو كانت هناك ساقية فيها ماء قليل وتقاطر عليها ماء المطر، أو اتّصلت بجدول من الماء له مادة أو فتحت عليها اُنبوباً يصبّ عليها من خزّان كبير أصبح ماء الساقية معتصماً ما دام الاتّصال ثابتاً.

ومن الجدير الإشارة هنا إلى أنّ ما يوضع في فوهة اتّصال خزّان الماء بالمادة التي يستمدّ منها الخزّان ـ ويسمّى بالطوّافة ـ يقطع اتّصال ماء الخزّان بالمادة في حالة امتلائه، فإذا لم يكن الخزّان بقدر الكرّ اعتبر الماء قليلا، ولكن بمجرّد أن يبدأ الخزّان بدفع الماء وتنخفض الطوّافة يعود الاتّصال، ويصبح ماءً كثيراً معتصماً.

وقد يوضع في فوهة الاُنبوب حاجز فيه ثقوب صغيرة متقاربة ينفذ الماء من خلالها بقوة ويسمّى بالدوش(1)، وهذا الماء المنحدر من هذه الثقوب إذا كان ينزل على شكل قطرات متلاحقة مع فواصل بينها ولو صغيرة فهو ماء قليل، وإذا كان تتابع القطرات سريعاً على نحو يشكّل خطّاً متّصلا في نظر العرف فهو ماء كثير؛ لأنّه متّصل بمادته.

(14) لو رأينا ماءً في حوض صغير ـ مثلا ـ وشككنا هل هو بوزن الكرّ



(1) كلمة فارسية اُخذت من الفرنسية، وقد غلب على استعمالها هكذا في الحمّام. انظر معاجم اللغة الفارسية. (لجنة التحقيق).

170

حتّى لا ينجس بالملاقاة، أو دون ذلك ؟ فحكمه حكم الماء القليل يتنجّس بمجرّد الملاقاة لعين النجاسة.

(15) لو رأينا ماءً قليلا دون الكرّ وهو يجري على الأرض، وشككنا هل هو متّصل بماء كثير أو بمادة نابعة حتّى لا ينجس بالملاقاة باعتباره كثيراً، أو غير متّصل كي يتنجّس بها ؟ فحكمه حكم القليل، إلّا إذا كان الشاكّ على علم سابق بأنّ هذا القليل الجاري كان متّصلا من قبل بالكثير أو بالمادة فيحكم عندئذ بطهارته إن لاقته النجاسة ولم يتغيّر.

(16) حوض ماء فيه مايزيد على كرٍّ، واُخذ منه مقدار يسير للاستعمال، وشككنا هل بقي في الحوض كرّ من الماء، أو بعض من ذلك ؟ فحكمه حكم الكثير، فلا يتنجّس بمجرّد الملاقاة لعين النجاسة.

(17) تقدّم في الفقرة (7): أنّ أحد أقسام الماء الكثير: ماء المطر البالغ حدّاً من الكثرة يمكنه أن يجري على الأرض الصلبة، وهذا يعني أنّه لا يتنجّس بملاقاة النجاسة، فلو أنّ قطرةً من ماء المطر وقعت مباشرةً على عين نجسة كالميتة ـ مثلا ـ لم تتنجّس، سواء استقرّت عليها أو انفصلت عنها ما دام المطر يتقاطر.

ولو تجمّعت قطرات المطر في موضع من الأرض فوقع فيها نجس لم تتنجّس ما دام المطر يتقاطر. وكذلك الحكم إذا جرى ماء المطر على السطح ـ مثلا ـ وانحدر منه إلى الأرض في ميزاب ونحوه، فإنّ الماء المنحدر من الميزاب معتصم، ولا يتنجّس لو لاقى في الأرض عيناً نجسةً ما دام تقاطر المطر وإمداده مستمرّاً.

ومثل الماء المنحدر من السطح إلى الأرض تماماً ماء المطر المتساقط على أوراق الشجر والمنحدر منها إلى الأرض.

وأمّا إذا أصاب ماء المطر سقف الغرفة وتسرّبت رطوباته في السقف، ثمّ

171

ترشّح منه إلى أرض الغرفة فلا يعتبر الماء المتساقط على أرض الغرفة كثيراً ومعتصماً حتى ولو كان المطر لا يزال يتقاطر على سقف الغرفة؛ لأنّ الصلة انقطعت بين ماء المطر والماء المتساقط من سقف الغرفة على أرضها.

(18) تقدّم في الفقرة (7): أنّ أحد أقسام الماء الكثير: الماء النابع من مادة، ولا فرق في ذلك بين عيون الماء المستمرّة في النبع طيلة السنة والعيون الموسمية التي ينبع منها الماء في موسم معيّن من السنة، فإنّ ماءها يعتبر كثيراً ومعتصماً في ذلك الموسم الذي تنبع فيه.

كيف يتنجّس الماء الكثير؟

(19) مرّ بنا: أنّ الماء الكثير بكلّ أقسامه المتقدّمة في الفقرة (7) لا يتنجّس بمجرّد ملاقاة عين النجس، ولكنّه يتنجّس إذا لاقته عين النجس فغيّرت لونه أو ريحه أو طعمه بالنجاسة، وإذا تغيّر بوصف رابع ـ كثقل الوزن أو خفّته مثلا ـ مع احتفاظه باللون والريح والطعم الطبيعي للماء فلا ينجس.

(20) ولا أثر لتغيّر الماء الكثير بملاقاته للشيء المتنجّس بعين النجس(1). أجَلْ، إذا تغيّر الماء بعين النجاسة الموجودة فعلا في المتنجّس يتنجّس الماء عندئذ بلا ريب. مثلا: ماء متنجّس بالدم وصار لونه أحمر لوجود الدم فيه، ثمّ ألقينا هذا الماء المتنجّس الأحمر في حوض طاهر ـ كرّاً أو أكثر ـ فتغيّر لونه وصار أصفر، فماء الحوض يتنجّس في هذه الحالة.

(21) كما لا أثر أيضاً لتغيّر الماء الكثير بعين النجس بدون ملاقاة، كما إذا انتقلت الرائحة من عين النجس المطروحة قريباً من الماء الكثير إليه بسبب قربها


(1) وهو ما كان طاهراً في الأصل وأصبح متنجّساً بسبب ملاقاة عين النجاسة مثلا.(منه (رحمه الله)).
172

منه فإنّه لا ينجس بذلك.

(22) لا نقصد بالتغيّر الذي ينجّس الماء الكثير أن يكتسب نفس لون النجس أو طعمه أو ريحه بالضبط، بل يكفي أن يحصل تغيّر في لون الماء وطعمه وريحه ولو لم يتطابق مع النجس، ومثاله: أن يصبح الماء الكثير أصفر بسقوط دم أحمر فيه فيكون نجساً.

(23) لنفرض أنّ عين النجاسة لاقت الماء ولم يتغيّر لونه ولا طعمه ولا رائحته؛ إمّا لسبب يعود إلى عين النجاسة أو الماء، وإمّا لأمر خارج عنها وعن الماء أيضاً بحيث لولا هذا الأمر الخارج أو ذاك الوصف لتغيّر اللون أو الطعم أو الرائحة، فهل يحكم بتنجّس الماء في هذا الفرض ؟

والجواب على ذلك يستدعي التفصيل التالي:

أ ـ قد يستند بقاء الماء على حاله وعدم تغيّره إلى أنّ عين النجاسة ليس لها لون أو رائحة ـ مثلا ـ لتعطي للماء شيئاً من لونها أو رائحتها حتّى يتغيّر، فإن كان الأمر كذلك فالماء طاهر ولا يتنجّس.

ب ـ وقد يستند عدم تغيّر الماء إلى أنّ عين النجاسة يتطابق لونها ـ مثلا ـ مع لون الماء الذي كان متصفاً به قبل وقوع النجاسة فيه، ومثاله: أن يكون الماء أحمر اللون بسبب صبغ من الأصباغ، ثمّ تسقط فيه كميّة من الدم فلا يبدو لحمرة الدم أثر لأنّ الماء أحمر، وفي هذا الفرض يتنجّس الماء.

ج ـ وقد يكون لعين النجاسة وصفها الخاصّ بها، وهو وصف يختلف عن صفات الماء، ولكن يستند عدم تغيّر الماء بها إلى أمر خارج عن النجاسة والماء معاً، كبرودة الجَوّ التي تحول دون تأثّر الماء برائحة الجيفة النجسة بحيث لو كان الجوّ معتدلا أو حارّاً لحدث التغيّر، وفي هذا الفرض يبقى الماء على طهارته.

(24) إذا كان الماء من أحد أقسام الماء الكثير وتغيّر بعضه بالنجاسة

173

فتنجّس فهل يتنجّس الجزء المتغيّر منه فقط، أو يتنجّس كلّه؟

والجواب: أنّ غير ذلك الجزء إن كان لا يزال ماءً كثيراً فهو معتصم ولا يتنجّس.

ويمكن توضيح ذلك ـ على سبيل المثال ـ في حالتين:

الاُولى: لنفرض حوضاً كبيراً وقع دم في جانب منه فاصفرّ الماء في هذا الجانب، فهل يتنجّس الماء في الجانب الآخر قبل أن يتسرّب إليه لون الدم؟

والجواب بالنفي ما دام الجانب الآخر بقدر الكرّ.

الثانية: لنفرض ماءً جارياً دون الكرّ في ساقية وله مادة، وقد أصاب النجس وسط الساقية فتغيّر الماء في ذلك الموضع فهل يتنجّس الماء كلّه؟

والجواب: أنّ الماء الواقع بين ذلك الموضع والمادة التي ينبع منها الماء لا يتنجّس بحال، وأمّا الماء الواقع بعد موضع التغيّر فحكمه يحتاج إلى تفصيل، وهو: أنّ وسط الساقية إذا كان فيه خيط من الماء لا يزال غير متغيّر ويربط الماء الذي بعده بما قبله من ماء الساقية فلا يتنجّس من ماء الساقية سوى ما تغيّر فعلا، وإذا كان قد تغيّر كلّه فيتنجّس ما بعده.

إذا تنجّس الماء فكيف يطهر؟

(25) إذا تنجّس الماء القليل بملاقاة النجاسة فيطهر إذا أوصلناه بماء كثير معتصم. ومثال ذلك: ماء في وعاء يتنجّس، فنفتح عليه اُنبوباً من أنابيب الماء الممتدّة إلى البيوت في هذا العصر، فيطهر ماء الإناء بوصول الماء من الاُنبوب إليه وفي نفس اللحظة بدون حاجة للانتظار إلى أن ينتشر ماء الاُنبوب في كلّ جوانب الإناء.

ومثال آخر: ماء في وعاء يتنجّس، فتضعه تحت السماء فيتقاطر عليه ماء

174

المطر بدرجة ملحوظة ـ لا قطرة وقطرتين فقط ـ فيطهر بذلك، بل إنّ الماء يتحوّل في كلا المثالين إلى ماء معتصم ما دام متّصلا بماء الاُنبوب أو المطر، ويطهر حينئذ الوعاء الذي هو فيه بملاقاة ذلك الماء له.

وإذا تنجّس الماء الكثير بسبب التغيّر بعين النجس فيطهر إذا توافر أمران:

أحدهما: أن يزول التغيّر ويعود الماء إلى حالته الطبيعية، سواء حصل ذلك بمرور الزمن أو بمزجه بماء آخر.

والأمر الثاني: أن يوصل ـ وهو سليم من التغيّر ـ بماء كثير معتصم، ككرٍّ من الماء أو ماء المطر وغيرهما.

ويمكن إنجاز الأمرين معاً بعملية واحدة، بأن نفتح ـ مثلا ـ اُنبوب الماء على الماء المتغيّر، فينتشر ماء الاُنبوب في الماء المتغيّر حتى يزيل تغيّره ويطهّره باستمرار اتّصاله به بعد ذلك.

ونذكر مثالين لتطهير الماء المتغيّر للتوضيح كما يأتي:

الأول: أن يتغيّر حوض من الماء برائحة الجيفة، فيترك مدّةً إلى أن تزول تلك الرائحة الكريهة، ثمّ يفتح عليه اُنبوب الماء فيطهر.

الثاني: أن يتغيّر ماء الحوض بلون الدم ويصفرّ، فيصبّ فيه ماء آخر سليم بوعاء مرّات عديدةً حتّى تضعف الصفرة وتزول، ثمّ يفتح اُنبوب الماء عليه، أو يتساقط عليه ماء المطر فيطهر، ويمكن أيضاً أن يفتح عليه ماء الاُنبوب منذ البداية ـ كما عرفت ـ فيزيل الصفرة ثمّ يطهّره.