401

الواحد خصوصاً بقرينة روايات كثيرة واردة عن أصحاب الأئمّة(عليهم السلام)وعلاقات بعضهم مع البعض، واعتماد بعضهم على روايات البعض وأخذها منه، كما سنشير إليه ـ إن شاء الله ـ عند الاستدلال على حجّيّة خبر الواحد، فإنّ تلك الاُمور إن لم تكف دليلاً على انعقاد الإجماع على الحجّيّة تكفي لتحصيل الوثوق والاطمئنان بعدم انعقاد الإجماع على عدم الحجّيّة، وأنّ ديدن كثير من الأصحاب كان على العمل بخبر الواحد غير المورث للقطع.

 

4 ـ دعوى التمسّك بالعقل:

وأمّا العقل: فقد مضى تقريره في بحث الجمع بين الحكم الظاهريّ والواقعيّ وبيان وجه القول باستحالة التعبّد بالظنّ مع جوابه.

هذا تمام الكلام في أدلّة عدم حجّيّة خبر الواحد.

 


لاُستاذنا(رحمه الله)هنا فيما حضرته من البحث، واُخرى يقصد به القطع بحجّيّة خبر الثقة؛ لما سيأتي ـ إن شاء الله ـ عند البحث عن دليل الحجّيّة: من قطعيّة حجّيّة خبر الثقة، فهذا أيضاً يسقط نقل السيّد المرتضى(رحمه الله) عن الاعتبار. وهذا هو المنهج الذي سلكه اُستاذنا(قدس سره)في المقام لإثبات القطع بعدم مطابقة خبر السيّد المرتضى للواقع في القسم الذي لم أحضره من الدورة الأخيرة على ما نقل عنه.

403

 

 

 

 

 

 

 

أدلّة حجّيّة الخبر

وأمّا الدليل على حجّيّة خبر الواحد فقد استدلّ عليها أيضاً بالأدلّة الأربعة:

 

دلالة الكتاب على حجّيّة الخبر

الأوّل: الكتاب الكريم. وقد استدلّ بعدّة آيات:

 

1 ـ آية النبأ:

الآية الاُولى: آية النبأ، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين﴾(1)، حيث يقال: إنّ الآية الشريفة قد دلّت بالمفهوم على نفي وجوب التبيّن عن خبر العادل، وهذا يعني حجّيّة خبر العادل.

أمّا كيف يدلّ نفي وجوب التبيّن على حجّيّة خبر العادل، فالبيان الابتدائيّ لذلك هو ما يقال: من أنّه إذا لم يجب التبيّن عند مجيء العادل بالنبأ، فإمّا أن لا


(1) سورة الحجرات، الآية: 6.

404

يجب التبيّن عنه ولا يعمل به أيضاً، أو أنّه يعمل به بلا تبيّن. والأوّل يستلزم كون العادل أسوء حالاً من الفاسق، وهو باطل بالضرورة، فيتعيّن الثاني.

وذكر الشيخ الأعظم(قدس سره): أنّ تخيّل الحاجة إلى لزوم الأسوئيّة مبنيّ على تخيّل أنّ وجوب التبيّن هنا وجوب نفسيّ، فيقال: إنّ غاية ما يقتضيه المفهوم هو انتفاء هذا الوجوب النفسيّ، وأمّا حجّيّة النبأ فلا تفهم بذلك إلّا بعد إضافة أنّه لولا حجّيّته لزم كون العادل أسوء حالاً من الفاسق. ولكن حمل وجوب التبيّن على الوجوب النفسيّ غير صحيح، ولو صحّ لما صحّ القول بأنّ عدم حجّيّة خبر العادل مع عدم وجوب التبيّن يستلزم كون العادل أسوء حالاً من الفاسق؛ إذ لعلّه أوجب الله تعالى التجسّس عن خبر الفاسق لفضحه وكشف كذبه عن صدقه، ولم يوجب التجسّس عن خبر العادل، فهذا نحو مجاملة واحترام له ولطف به. هذا بناءً على الوجوب النفسيّ، أمّا إذا حملنا الوجوب على الوجوب الشرطيّ ـ كما هو الصحيح ـ فهذا يعني أنّ العمل بخبر الفاسق مشروط بالتبيّن، ويدلّ بالمفهوم على أنّ العمل بخبر العادل غير مشروط بالتبيّن، وهذا يعني حجّيّة خبر العادل بلا حاجة إلى ضمّ لزوم أسوئيّة حال العادل لولا الحجّيّة.

ومقصود الشيخ(رحمه الله) من كون التبيّن شرطاً للعمل بخبر الفاسق ـ على ما يتراءى من عبارته ـ كونه شرطاً للعمل بخبر الفاسق بلحاظ عالم المولويّة.

فمن الواضح أنّ التبيّن ليس شرطاً في وجود العمل بخبر الفاسق تكويناً، وإنّما هو شرط لوجوده بحسب لحاظ المولى، فكأنّ المولى قسّم العمل بخبر الفاسق إلى قسمين: العمل بلا تبيّن، والعمل بتبيّن، وقد حرّم القسم الأوّل مولويّاً، فبنظره التحريميّ كأنّه أعدمه في الخارج، فبعد إعدام القسم الأوّل إعداماً تشريعيّاً انحصر العمل بخبر الفاسق بالقسم الثاني وهو مشروط بالتبيّن لا محالة، ويدلّ هذا بالمفهوم على أنّ العمل بخبر العادل غير مشروط بالتبيّن. وهذا يكون بأحد

405

نحوين: الأوّل: أن يجوز العمل به حتّى قبل التبيّن، والثاني: أن لا يجوز العمل به حتّى بعد التبيّن ومعرفة الصدق. والثاني غير محتمل لا من ناحية لزوم الأسوئيّة، بل من ناحية عدم معقوليّة حرمة العمل مع التبيّن وحصول العلم بالمطلب، فيتعيّن الشقّ الأوّل، وهو مساوق للحجّيّة بلا حاجة إلى فرض مقدّمة الأسوئيّة. هذا حاصل ما أفاده الشيخ الأعظم(قدس سره)، أو حاصل ما يمكن أن يكون مراداً له في المقام.

 

حقيقة الأمر بالتبيّن:

وتحقيق الحال في الحاجة إلى ضمّ مقدّمة الأسوئيّة وعدمها يبتني على تحقيق ما هو حقيقة الأمر بالتبيّن الوارد في الآية الكريمة، فهذا الأمر فيه احتمالات عديدة في بادئ النظر:

الاحتمال الأوّل: أن يكون أمراً نفسيّاً بوجوب التبيّن، بأن يكون إخبار الفاسق مقدّمة وجوبيّة لثبوت واجب نفسيّ على المكلّف، وهو التجسّس عن خبره، وبناءً على هذا تتصوّر الحاجة إلى مقدّمة الأسوئيّة. ولكن لا تتمّ المقدّمة؛ إذ لا تلزم من عدم حجّيّة خبر العادل أسوئيّة حال العادل من الفاسق كما مضى عند بيان كلام الشيخ الأعظم(رحمه الله).

إلّا أنّ هذا الاحتمال في نفسه غير صحيح كما ذكره الشيخ الأعظم(قدس سره)؛ إذ:

أوّلاً: لم يحتمل حتّى الآن أحد من الفقهاء أو المسلمين وجوب التجسّس نفسيّاً عن كلّ ما أخبر به الفاسق، فهذا ما دلّ الارتكاز والضرورة على عدم احتماله فقهيّاً، وهذا قرينة على عدم إرادة ذلك من الآية الكريمة.

وثانياً: أنّ حمل الأمر هنا على الوجوب النفسيّ خلاف ما يظهر من كلمة التبيّن، فإنّ مادّة التبيّن كعنوان التعلّم توجب ظهور الحكم المتعلّق به في الطريقيّة.

وثالثاً: أنّ التعليل الموجود في الآية هو خوف إصابة القوم بجهالة، وخوف

406

الندامة لا يناسب الوجوب النفسيّ للتبيّن، وإنّما يناسب الوجوب الطريقيّ له.

الاحتمال الثاني: ما اختاره المحقّق العراقيّ(رحمه الله) بناءً على حمل التبيّن على معنى تحصيل العلم لا تحصيل ما يعمّ الظنّ مثلاً، وهو: أن يكون المقصود بالأمر بالتبيّن الإرشاد إلى حكم العقل بوجوب التبيّن وتحصيل العلم بالواقع، فإنّ العقل يستقلّ بلزوم تحصيل العلم بالواقع عند عدم قيام حجّة تقوم مقام العلم، وذكر(قدس سره): أنّه على هذا نحتاج إلى مقدّمة الأسوئيّة؛ لأنّ الآية أرشدت إلى وجوب تحصيل العلم إذا كان المخبر فاسقاً، ودلّت بالمفهوم على عدم وجوب تحصيل العلم إذا كان المخبر عادلاً، وعدم وجوب تحصيل العلم كما يمكن أن يكون بنكتة حجّيّة خبر العادل القائمة مقام العلم، كذلك يمكن أن يكون بنكتة العلم بكذبه فيردّ خبره بلا تبيّن، وبما أنّ الثاني يستلزم أسوئيّة حال العادل من الفاسق إذن تعيّن الأمر في حجّيّة خبر العادل.

أقول: إنّ أصل الاحتمال الذي استظهره في غير محلّه. وعلى فرض صحّته لا نحتاج إلى مقدّمة الأسوئيّة:

أمّا عدم صحّة ما استظهره من الاحتمال فلأنّه يرد عليه:

أوّلاً: أنّ العقل لا يستقلّ بوجوب تحصيل العلم بالواقع، وإنّما يستقلّ بوجوب تحصيل العلم بالامتثال ولو عن طريق الاحتياط، إلّا على مبنى مَن يقول بأنّ الامتثال التفصيليّ مقدّم على الامتثال الإجماليّ، لكن مَن يقول بذلك إنّما يقول به في خصوص باب العبادات، مضافاً إلى أنّ هذا المبنى باطل في نفسه(1).

 


(1) إنّما يرد هذا الإشكال على المحقّق العراقيّ(رحمه الله) لو أراد القول بأنّ الأمر بالتبيّن إرشاد إلى وجوب تحصيل العلم بالواقع بالخصوص. أمّا إذا كان المقصود كونه إرشاداً إلى

407

وثانياً: أنّه لا معنى لتعليق هذا الحكم الإرشاديّ على مجيء الفاسق بالخبر، فإنّ حكم العقل بوجوب تحصيل العلم لو قلنا به فهو ثابت حتّى مع عدم الخبر، ولا


تحصيل العلم بالواقع ولو من باب كونه أحد فردي ما يحقّق العلم بالامتثال ـ وهما تحصيل العلم بالواقع، والاحتياط ـ فلا يرد عليه هذا الإشكال. والإرشاد إلى خصوص وجوب تحصيل العلم بالواقع ليس دخيلاً في روح دليله الذي استدلّ به على مدّعاه، فإنّ دليله ـ كما يظهر من مراجعة كلامه في المقالات، ج 2، ص 30 ـ هو: أنّه بعد حمل التبيّن على معنى تحصيل العلم لا يمكن أن يكون الأمر بالتبيّن أمراً شرطيّاً؛ إذ لا معنى لكون حجّيّة خبر الفاسق مشروطة بالعلم بصدقه، كي يكون المفهوم عدم اشتراط حجّيّة خبر العادل بالتبيّن، وبالتالي نستغني عن مقدّمة الأسوئيّة؛ وذلك لأنّه مع وجود العلم يكون تمام الحجّة هو العلم لا خبر الفاسق. إذن فالأمر بالتبيّن ليس شرطيّاً، كما أنّه ليس نفسيّاً بلا إشكال، فانحصر في أن يكون إرشاديّاً يرشد إلى طلب العلم بالواقع، وهذا الإرشاد كما يمكن أن ينتفي لدى عدالة المخبر بحجّيّة خبره كذلك يمكن أن ينتفي بالعلم بكذبه، والثاني يوجب الأسوئيّة، فيتعين الأوّل. فتمام روح الدليل هو إبطال كون الأمر بالتبيّن أمراً شرطيّاً للحجّيّة الموجب للاستغناء عن مقدّمة الأسوئيّة، ولا يختلف بحاله أن يفرض إرشاداً إلى وجوب تحصيل العلم بالواقع، أو يفرض إرشاداً إلى أحد الفردين وهو تحصيل العلم بالواقع لا إلى وجوبه معيّناً. فإشكال اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) وإن كان قد يرد على حاقّ المدلول اللفظيّ للعبارة لكن روح الدليل تبقى سالمة عن هذا الإشكال.

نعم، يرد عليه: أنّ هذا البيان غير كاف لإثبات عدم كون الأمر بالتبيّن أمراً شرطيّاً، فصحيح أنّ الحجّيّة الشرعيّة لا يمكن أن تشترط بالعلم ولكن جامع كون تطبيق العمل على الخبر مؤمّناً للإنسان يمكن أن يشترط بالعلم، فبالإمكان حمل الأمر بالتبيّن على الأمر الشرطيّ بهذا المعنى، ويكون مفهومه أنّ مؤمّنيّة العمل بخبر العادل غير مشروطة بالعلم، وهذا يعني حجّيّة خبر العادل بلا حاجة إلى مقدّمة الأسوئيّة.

408

فرق بين إخبار الفاسق بوجوب صلاة الجمعة ـ مثلاً ـ وعدمه، فإنّه على أيّ حال يجب تحصيل العلم بما هو الفريضة في يوم الجمعة، فيكون هذا التعليق مجرّد ربط إثباتيّ بين الشرط والجزاء.

إلّا أن يراد بهذا الإرشاد إلى حكم العقل الكناية عن ملزومه وهو عدم حجّيّة خبر الفاسق(1)، حيث إنّ العقل يحكم بوجوب تحصيل العلم حيث لا حجّة، فكأنّه يرشد إلى حكم العقل لأجل أن يلفت النظر إلى الملزوم وهو عدم حجّيّة خبر الفاسق، وعندئذ فلا نحتاج إلى مثل هذا التعسّف، بل يتعيّن ما سوف نذكره إن شاء الله: من الاحتمال من كون الأمر بالتبيّن ابتداءً كناية عن سلب الحجّيّة بلا حاجة إلى توسيط هذا الإرشاد إلى حكم العقل في المقام(2).

وأمّا عدم الحاجة إلى مقدّمة الأسوئيّة لو تمّ هذا الوجه، فلأنّه لو كان الأمر


(1) وعندئذ تثبت حجّيّة خبر العادل بلا حاجة إلى مقدّمة الأسوئيّة.

(2) يمكن الجواب على هذا الإشكال لو سلّمنا الفرضيّة التي تفهم من كلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله): من دوران حال الأمر بالتبيّن بين اُمور ثلاثة، فإمّا هو أمر نفسيّ، أو هو أمر شرطيّ، أو أمر إرشاديّ. فإذا كان الأوّلان مقطوعي العدم؛ لعدم احتمال وجوب التبيّن نفسيّاً؛ ولعدم معقوليّة اشتراط الحجّيّة بالعلم؛ لأنّه إذا جاء العلم كان هو الحجّة لا خبر الفاسق، تعيّن الثالث لا محالة، وهو حمله على الإرشاد، وكون التعليق مجرّد ربط إثباتيّ لا يضرّ بذلك، فإنّ التعليق وإن كان بطبعه له ظهور في الربط الثبوتيّ لكن إذا انحصر الأمر بكون المقصود هو الأمر الإرشاديّ الذي لا يحتمل تعليقه ثبوتاً على إخبار الفاسق رفع اليد لا محالة عن الظهور الأوّليّ للتعليق، وحمل على مجرّد ربط إثباتيّ، فالمهمّ إنّما هو إبطال الحصر بين الاُمور الثلاثة وإبراز احتمال آخر، ككون العبارة كناية عن سلب الحجّيّة، أو بيان أنّ حمل الأمر على كونه شرطيّاً ممكن، وذلك بأن يكون العلم شرطاً لجامع كون تطبيق العمل على مضمون الخبر مؤمّناً لا شرطاً للحجّيّة بالمعنى المصطلح.

409

بالتبيّن إرشاداً إلى حكم العقل بلزوم تحصيل العلم قلنا: إنّ هذا الحكم ليس حكماً مولويّاً جعل للتحريك كي يقال: إنّ عدم لزوم تحصيل العلم عند إخبار العادل الثابت بالمفهوم تارةً يكون لأجل الحجّيّة، واُخرى لأجل العلم بالكذب؛ إذ مع العلم بالكذب يكون تحصيل العلم بالواقع تحصيلاً للحاصل، فنبطل الثاني بلزوم الأسوئيّة لتثبت الحجّيّة، وإنّما هو بمعنى اللابدّيّة العقليّة، أي: أنّ العقل أدرك أنّه لابدّ من العلم. ومن الواضح أنّ اللابدّيّة العقليّة لشيء لا تنتفي بثبوت ذلك الشيء، ولابدّيّة العلم إنّما تنتفي بقيام الحجّة؛ إذ مع الحجّيّة لا حاجة إلى العلم، فمفهوم الآية مساوق للحجّيّة بلا حاجة إلى مقدّمة الأسوئيّة(1).

 


(1) هذا الإشكال أيضاً لا يمسّ روح برهان المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، وإنّما يمسّ تعبيره القائل بأنّ (عدم وجوب التبيّن عن خبر العادل قد يكون للعلم بكذبه) بناءً على أن يكون مقصوده بذلك العلم الوجدانيّ، ومن المحتمل أن يكون مقصوده العلم التعبّديّ؛ إذ من الواضح أنّه لا علم وجدانيّ بكذب خبر العادل، ومورد العلم بالكذب خارج عن محلّ البحث، ونفي علمنا بكذب خبر العادل ليس بنكتة عدم الأسوئيّة، بل أمر وجدانيّ بنفسه، فلعلّ مقصوده العلم التعبّديّ، أي: كون خبر العادل حجّة في إثبات نقيضه، فكأنّه يقول: إنّ عدم وجوب التبيّن عن خبر العادل يكون لأحد أمرين: إمّا لحجّيّة خبر العادل في إثبات مفاده، فالحجّة تغني عن لابدّيّة العلم، وإمّا لحجّيّة خبر العادل في إثبات نقيض مفاده، فالحجّة أيضاً تغني عن لابدّيّة العلم. والثاني يستلزم أسوئيّة حال العادل من الفاسق، فيتعيّن الأوّل. فإن كان هذا هو مقصود المحقّق العراقيّ، أو غيّرنا ما فرضه: من العلم بكذب خبر العادل إلى فرض حجّيّة خبر العادل في إثبات نقيض مفاده، لم يرد عليه الإشكال الذي أفاده اُستاذنا الشهيد. نعم، يرد عليه على كلّ حال: أنّ العلم بكذب خبر العادل سواء كان بمعنى العلم الوجدانيّ أو العلم التعبّديّ مقطوع العدم في نفسه بلا حاجة إلى مقدّمة الأسوئيّة، أمّا العلم الوجدانيّ بالكذب فواضح، فإنّ محلّ بحثنا إنّما هو فرض

410

الاحتمال الثالث: ما اختاره المحقّق العراقيّ(رحمه الله) بناءً على كون المراد بالتبيّن ما يعمّ الظنّ. وقد أفاد(قدس سره): أنّه بناءً على هذا لا يمكن أن يكون الأمر بالتبيّن إرشاداً إلى حكم العقل؛ لأنّ العقل لا يكتفي بالظنّ، بل يكون الأمر بالتبيّن أمراً مقدّميّاً وغيريّاً ناشئاً من أمر نفسيّ طريقيّ متعلّق بالعمل بخبر الفاسق. وعلى هذا فنحن بحاجة أيضاً إلى برهان الأسوئيّة؛ لأنّ المفهوم إنّما دلّ على أنّه إن كان الجائي بالنبأ عادلاً لم يجب التبيّن بالوجوب الغيريّ المقدّميّ، وذلك إمّا لعدم وجوب ذي المقدّمة أصلاً، أي: عدم وجوب العمل بخبر العادل حتّى بعد التبيّن، وإمّا لعدم المقدّميّة، أي: أنّه يجب العمل به بلا تبيّن، وبما أنّ الأوّل مستلزم للأسوئيّة يتعيّن الثاني.

أقول: ما فرّعه على كلامه من الاحتياج إلى برهان الأسوئيّة تفريع صحيح، لكن أصل كلامه غير صحيح؛ لأنّنا نقول: هل الأمر النفسيّ الذي فرضه متعلّقاً بالعمل بخبر الفاسق متعلّق بالعمل به مطلقاً؟ أو متعلّق بالعمل به على تقدير حصول الوثوق والظنّ، فلا يجب العمل بمطلق خبر الفاسق، بل يجب العمل بخصوص خبره الموثوق به المظنون صدقه؟(1). فإن فرض الأوّل، لم يكن التبيّن مقدّمة


عدم العلم، وأمّا العلم التعبّديّ بالكذب، فلأنّنا نعلم أنّه لم يجعل خبر أيّ شخص في الشريعة سواء كان عادلاً متنسّكاً، أو فاسقاً متهتّكاً، أو شيطاناً مريداً أمارة على خلاف مفاده، ولا يرتبط علمنا هذا بمسألة لزوم الأسوئيّة، فأمر خبر العادل بذاته دائر بين أن يكون حجّة في إثبات مفاده وأن لا يكون حجّة، وعلى الثاني يجب التبيّن، فمفهوم الآية الدالّ على عدم وجوب التبيّن يدلّ لا محالة على الحجّيّة بلا حاجة إلى مقدّمة الأسوئيّة.

(1) وإذا أردنا تكميل الشقوق الثلاثة التي يمكن فرضها في المقام، فهنا احتمالان

411

لذلك؛ إذ من الواضح إمكان العمل بخبر الفاسق بلا تبيّن، فلا معنى لكون التبيّن واجباً بالوجوب الغيريّ. وإن فرض الثاني فالتبيّن يكون واقعاً في طريق تحصيل مقدّمة الوجوب لا مقدّمة الواجب، ومن المعلوم أنّ إيجاب مقدّمة الوجوب لا يكون تحت الوجوب الغيريّ(1).

 


آخران ذكرهما اُستاذنا الشهيد فيما لم أحضره في دورته الأخيرة ـ على ما نقل عنه ـ وأبطلهما:

أحدهما: كون تحصيل الظنّ بالصدق قيداً للواجب لا للوجوب، أي: يجب العمل بخبر الفاسق بعد تحصل الظنّ بصدقه، أي: أنّه لابدّ أن نحصّل الظنّ بصدقه أوّلاً ثُمّ نعمل به. وهذا واضح البطلان؛ إذ ليس المطلوب تحصيل الظنّ بصدق الفاسق، وإنّما المطلوب هو الإبعاد عن الإصابة بجهالة.

وثانيهما: أن يكون قيد الواجب أو الوجوب هو الظنّ بالكذب لا الظنّ بالصدق. وهذا أيضاً واضح البطلان، فالظنّ بالكذب لا يمكن أن يكون دخيلاً وقيداً للعمل بالخبر.

(1) هذا الإشكال تارةً نقيسه إلى الاحتمال الثالث في الأمر بالتبيّن وهو كونه أمراً مقدّميّاً وغيريّاً في مقابل الاحتمالات الاُخرى بما فيها الاحتمال الخامس وهو كونه أمراً شرطيّاً من دون إرجاع الأمر الشرطيّ إلى الأمر المقدّميّ، واُخرى نقيسه إلى كلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، فإن قسناه إلى الاحتمال الثالث في الأمر بالتبيّن وهو كونه أمراً مقدّميّاً، فلا إشكال في وروده عليه بتمام معنى الكلمة، وإن قسناه إلى كلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، فهو وارد على نقطة من كلامه، ولكن لا نعلم أنّه هل كان يعتقد كون هذه النقطة جوهريّة في الاستدلال في المقام، أو لا؟ وتوضيح ذلك: أنّ مراد المحقّق العراقيّ(رحمه الله) كما يبدو من مقالاته يتألّف من ثلاث نقاط:

الاُولى: أنّ الأمر بالتبيّن لئن لم يمكن حمله على الأمر الشرطيّ بناءً على كون

412


المقصود بالتبيّن تحصيل العلم، فبالإمكان حمله على الأمر الشرطيّ بناءً على كون المقصود بالتبيّن ما يشمل تحصيل الظنّ أو الوثوق؛ وذلك لأنّ حجّيّة خبر الفاسق وإن لم يمكن اشتراطها بالعلم؛ إذ مع العلم لا يبقى مجال لحجّيّة الخبر، ولكن بالإمكان اشتراطها بالظنّ والوثوق، بل حينما يفسّر التبيّن بما يشمل الظنّ والوثوق لا معنى لحمل الأمر بالتبيّن على الإرشاد إلى حكم العقل؛ لأنّ العقل لا يكتفي بالظنّ في غير باب الانسداد، كما أنّ احتمال الوجوب النفسيّ أيضاً غير وارد، فانحصر الأمر في الوجوب الشرطيّ.

الثانية: أنّ معنى الوجوب الشرطيّ للتبيّن هو الوجوب الغيريّ مقدّمة لواجب نفسيّ طريقيّ وهو العمل بخبر الفاسق لا نفس الشرطيّة، فإنّ تفسير الأمر بنفس الشرطيّة بعيد.

الثالثة: أنّ هذا الوجوب الغيريّ المقدّميّ ينتفي بالمفهوم بانتفاء الفسق، لكن هذا لا ينحصر تفسيره بفرض بقاء الواجب النفسيّ على حاله بأن يجب العمل بخبر العادل بلا حاجة إلى التبيّن، بل من المحتمل انتفاء أصل الوجوب النفسيّ بأن لا يجب العمل بخبر العادل حتّى بعد التبيّن، وهذا الاحتمال إنّما ينفى ببرهان الأسوئيّة.

ولا أعرف هل أنّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) يعتقد أنّ النقطة الثانية حلقة من حلقات الوصول إلى النتيجة المطلوبة، وهي الحاجة إلى برهان الأسوئيّة، أو أنّه يراها إلفاتاً إلى نكتة ثابتة في المقام ـ وإن لم تكن هذه النكتة دخيلة في المقصود ـ وهي نكتة أنّ الأمر الشرطيّ ينبغي أن يقصد به الأمر المقدّميّ. أمّا حمله على بيان الشرطيّة مباشرة فخلاف الظاهر.

وعلى أيّ حال، فالصحيح أنّ النقطة الثانية لا دخل لها في الواقع في الوصول إلى النتيجة المطلوبة، فبالإمكان حذفها من المقام، وأن يقال رأساً ـ بعد أن نثبت في النقطة الاُولى كون الأمر بالتبيّن أمراً شرطيّاً ـ: إنّ مفاد الآية بناءً على هذا وإن كان هو مشروطيّة

413

الاحتمال الرابع: أن يكون الأمر بالتبيّن أمراً نفسيّاً طريقيّاً، لا نفسيّاً حقيقيّاً كما فرض في الوجه الأوّل، فهذا الأمر قد جعل بداعي التحفّظ على الواقع بقدر مّا، فالمولى في مورد عدم مجيء الخبر لم يتحفّظ على الواقع الإلزاميّ أصلاً، وشرّع لنا الرجوع إلى أصالة البراءة مثلاً. وفي مورد مجيء الخبر الدالّ على الحكم الإلزاميّ من قِبَل ناقل فاسق لم يتحفّظ على الواقع تحفّظاً كاملاً، ولكن تحفّظ على الواقع بقدر مّا، فلم يجعل الخبر حجّة يجب الالتزام بمفاده كي يتمّم التحفّظ على الواقع بالشكل الكامل، ولكن في نفس الوقت لم يسمح للرجوع بالبراءة بلا تبيّن


حجّيّة خبر الفاسق بحصول الظنّ والوثوق، وهذا يدلّ بمفهومه على عدم مشروطيّة حجّيّة خبر العادل بحصول الظنّ، لكن عدم مشروطيّة حجّيّة خبر العادل بحصول الظنّ كما يتصوّر بثبوت الحجّيّة له مطلقاً، كذلك يتصوّر بنفي الحجّيّة عنه مطلقاً حتّى بعد التبيّن وحصول الظنّ، فلابدّ من أن ننفي الثاني ببرهان الأسوئيّة كي تثبت حجّيّة خبر العادل مطلقاً، ولو فرض أنّ حمل الأمر على الشرطيّة لا بمعنى حمله على الوجوب المقدّميّ خلاف الظاهر، فقد يقال: إنّه لابدّ من ذلك بعد عدم تصوير الوجوب المقدّميّ في المقام، كما هو مقتضى إشكال اُستاذنا الشهيد.

وإشكال اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) إنّما يرد على النقطة الثانية التي يمكن حذفها في المقام. نعم، حذف هذه النقطة الثانية يعني إرجاع هذا الاحتمال إلى الاحتمال الخامس في الأمر بالتبيّن وهو كون المقصود به الأمر الشرطيّ، فلم يعدّ احتمالاً مستقلاًّ في الأمر بالتبيّن وهو الأمر المقدّميّ. أمّا لماذا احتجنا هنا إلى ضمّ برهان الأسوئيّة بينما بناءً على الاحتمال الخامس لا حاجة إلى برهان الأسوئيّة؟ فهذا الاحتياج نشأ في الحقيقة من ضمّ فرضيّة اُخرى إلى أصل احتمال حمل الأمر بالتبيّن على الأمر الشرطيّ، وتلك الفرضيّة هي فرضيّة تفسير التبيّن بالظنّ أو ما يشمل الظنّ. هذا وتفسير التبيّن بالظنّ، أو ما يشمل الظنّ خلاف الظاهر.

414

كي يكون تركاً للتحفّظ على الواقع بشكل مطلق، بل أوجب التبيّن بمعنى حرمة مخالفة الخبر قبل التبيّن، فإذا تبيّن ولم يثبت له الصدق ولا الكذب جاز له عندئذ الرجوع إلى البراءة، فهذا مستوى وسط بين الحجّيّة بتمام المعنى وبين رفض الخبر بتمام المعنى. وعليه فنحن بحاجة في مقام إثبات حجّيّة خبر العادل إلى برهان الأسوئيّة بأن نقول: إذا لم يجب التبيّن في خبر العادل وجوباً طريقيّاً، فهذا إمّا أن يكون بمعنى حجّيّة خبر العادل بتمام معنى الكلمة، أو يكون بمعنى رفض خبر العادل بلا تبيّن، أي: أنّه يجوز الرجوع في مورده إلى البراءة قبل التبيّن، والثاني يستلزم أسوئيّة حال العادل من الفاسق، فيتعيّن الأوّل.

إلّا أنّ هذا الاحتمال في نفسه خلاف الظاهر؛ لأنّه لا يناسب التعليل الوارد في الآية الكريمة، فإنّ الأمر بالتبيّن قد علّل في الآية بالخوف من إصابة القوم بالجهالة، أي: بالخوف من نتائج العمل بخبر الفاسق، ولم يعلّل بالخوف من نتائج ترك العمل به مع أنّ هذا الوجوب الطريقيّ ملاكه بحسب الحقيقة هو مجموع الخوفين.

الاحتمال الخامس: ما مضى عن الشيخ الأعظم(رحمه الله) من أنّ الأمر بالتبيّن إرشاد إلى كون التبيّن شرطاً في العمل بخبر الفاسق، أي: شرطاً لوجوده بحسب لحاظ المولى لا بحسب عالم التكوين، وذلك بتحريمه للعمل به بلا تبيّن، ومقتضى المفهوم عندئذ هو أنّ خبر العادل لا يشترط في العمل به التبيّن؛ وذلك إمّا لحجّيته، أو لعدم جواز العمل به حتّى بعد التبيّن. والثاني باطل، لا لمقدّمة الأسوئيّة، بل لاستحالة تحريم العمل به بعد التبيّن ووضوح صدقه، فيتعيّن الأوّل. ومن هنا مضى أنّ هذا الوجه لا يحتاج إلى مقدّمة الأسوئيّة، ولعلّ هذا الوجه مرجعه بحسب الدقّة، أو بحسب التحليل العرفيّ إلى الوجه السادس.

الاحتمال السادس ـ وهو المختار الذي نستظهره من الآية الكريمة ـ هو: أن يكون

415

الأمر بالتبيّن في المقام إرشاداً بنفسه إلى سلب الحجّيّة عن خبر الفاسق، وهذا هو المتفاهم عرفاً من مثل هذا الكلام. فلو أنّ شخصاً جاء إلى شخص آخر وقال له: (حدّثني فلان بكذا) فأجابه المخاطب بقوله: (تبيّن وتأمّل في صدق إخبار فلان) فالذي يفهمه السامع من هذا الكلام أنّ هذا المخبر لا يجوز التعويل عليه في إخباره، فيكون هذا بنفسه إرشاداً إلى عدم الحجّيّة، وذلك الوجوب الشرطيّ الذي مضى في الوجه الخامس بحسب الحقيقة هو مصداق لعدم الحجّيّة، والمتحصّل منه، والفرق بينهما كالفرق بين العنوان والمعنون والمفهوم والواقع.

وإذا كان الكلام إرشاداً إلى سلب الحجّيّة، فالمفهوم يكون بنفسه دالّاً على الحجّيّة بلا حاجة إلى توسّط مقدّمة اُخرى في المقام.

وهذا الوجه مناسب لظهور الآية، وظهور التبيّن في الطريقيّة، وظهور التعليل، فإنّ سلب الحجّيّة إنّما هو بلحاظ الخوف من نتائج العمل بخبر الفاسق وإصابة القوم بجهالة.

هذا تمام الكلام في محتملات الأمر بالتبيّن. وقد عرفت أنّ المختار هو الوجه الأخير، وأنّه بناءً عليه لا حاجة إلى برهان الأسوئيّة.

ثُمّ الكلام في الاستدلال بمفهوم آية النبأ على حجّيّة خبر الواحد يقع في مقامين:

الأوّل: في ثبوت المقتضي في الآية الكريمة للدلالة على حجّيّة خبر الواحد وعدمه.

والثاني: فيما يتصوّر مانعاً عن تأثير المقتضي بعد فرض تماميّته، إمّا بمعنى المنع عن فعليّة الظهور بعد تمام مقتضيه، أو بمعنى المنع عن حجّيّة الظهور بعد فرض فعليّته:

416

 

دلالة الآية على المفهوم:

أمّا المقام الأوّل: فتارةً يتمسّك بمفهوم الوصف في الآية الشريفة، واُخرى يتمسّك بمفهوم الشرط:

أمّا التمسّك بمفهوم الوصف في الآية الشريفة لإثبات حجّيّة خبر الواحد، فتارةً يكون بدعوى دلالة الوصف بشكل عامّ على المفهوم وهو انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف، فبما أنّ الآية الشريفة وصفت النبأ بكون مَن جاء به فاسقاً، فقد دلّت ـ بناءً على الإيمان بكبرى مفهوم الوصف ـ على عدم وجوب التبيّن إن لم يكن الجائي به فاسقاً، وهو يساوق الحجّيّة كما مضى.

وقد أجابوا على ذلك بمنع المبنى، وهو الإيمان بكبرى مفهوم الوصف، حيث ثبت في محلّه عدم دلالة الوصف على انتفاء سنخ الحكم بانتفائه، خصوصاً في الوصف غير المعتمد على الموصوف كما في الآية الشريفة، فإنّه كاللقب.

واُخرى يكون بدعوى دلالة الوصف على المفهوم في خصوص مورد الآية الشريفة، وإن لم نؤمن بكبرى مفهوم الوصف بشكل عامّ.

وخير تقريب لذلك هو أن يقال: إنّ تعليق الحكم بوصف مع ثبوته في حال آخر، كما لو قيل: (أكرم الرجل العالم) بينما يجب أيضاً إكرام الرجل العادل ولو لم يكن عالماً، يكون بأحد نحوين:

أحدهما: أن يفرض أنّ الحكم في كلا الفرضين جعل بجعل واحد، وإن كان المقدار المبرز بالبيان المشتمل على ذلك الوصف إنّما هو ثبوت ذاك الحكم عند وجود هذا الوصف.

وثانيهما: أن يفرض أنّ الحكم جعل في الفرضين بجعلين، والبيان المشتمل على قيد الوصف بيان لأحد الجعلين.

417

وبما أنّ الثاني كان محتملاً في موارد ذكر الوصف، فسدّ باب احتمال الأوّل لم يكن كافياً للبرهنة على ثبوت المفهوم للوصف، ولكن في خصوص ما نحن فيه لا يكون الثاني محتملاً؛ إذ ليس من المحتمل أن تكون العدالة كالفسق دخيلة في عدم الحجّيّة. وغاية ما يمكن أن يفترض هي عدم كونها ملاكاً للحجّيّة، أمّا كونها ملاكاً لعدم الحجّيّة فغير محتمل، كما هو واضح. وعندئذ فيكون سدّ باب احتمال الأوّل دليلاً على ثبوت المفهوم للآية الشريفة، ونقول: إنّ احتمال الأوّل منفيّ بظهور الآية المباركة؛ إذ حتّى المنكرون لمفهوم الوصف معترفون بانتفاء شخص الحكم بعدم الوصف، ولهذا قالوا: إنّ الأصل في القيد الاحترازيّة. ولهذا ذكروا: أنّ المطلق يحمل على المقيّد عند إحراز وحدة الجعل، وعلى حدّ تعبيرنا نقول: إنّ احتمال الأوّل منفيّ بأصالة تطابق عالم الإثبات لعالم الثبوت، فلو كان الجعل في عالم الثبوت يعمّ حالةً اُخرى غير حالة ثبوت الوصف، وفي عالم الإثبات ربط الحكم بالوصف لزم التخالف بين عالمي الإثبات والثبوت.

وهناك تقريبات(1) اُخرى لاستفادة المفهوم من ذكر الوصف في خصوص الآية الكريمة:

الأوّل: ما يتراءى من كلام الشيخ الأنصاريّ(رحمه الله) من أنّ خبر الواحد إضافة إلى كونه خبراً واحداً قد يكون خبراً قد أتى به الفاسق، وعندئذ فعنوان كون الجائي به فاسقاً عنوان عرضيّ له، بينما عنوان كونه خبراً واحداً هو عنوانه الذاتيّ، وعلّة


(1) البحث من هنا إلى حين الشروع في الردّ على التقريب الماضي لثبوت المفهوم للوصف في خصوص مورد الآية أخذته من تقرير الأخ السيّد علي أكبر ـ حفظه الله ـ لما لم أحضره من الدورة الأخيرة، ولم آخذه ممّا كتبته أنا حين حضوري للبحث لأنّي وجدته أكمل من ذاك.

418

وجوب التبيّن إن كانت هي فسق المخبر فقط فهذا يعني أنّ خبر الواحد بما هو خبر لا يجب التبيّن عنه، وهو معنى حجّيّة خبر غير الفاسق، وإن كانت هي كونه خبراً واحداً من دون دخل للفسق في ذلك، فهذا خلاف ظاهر الآية التي أخذت وصف الفسق في المقام، وإن كانت هناك علّتان لوجوب التبيّن وهما ذات كون الخبر واحداً مع وصف فسق المخبر، فلا يمكن إناطة الحكم بالوصف العرضيّ مادام الوصف الذاتيّ علّة أسبق منه رتبة، والشيء يسند إلى أسبق العلل.

وهذا البيان ـ كما ترى ـ لا يمكن أن يكتمل ما لم يضمّ إليه بياننا؛ إذ بالإمكان كون العلّة هي الوصف العرضيّ وهو الفسق مع احتمال وجود علّة عرضيّة اُخرى وهي العدالة، وهذا لا يدفعه إلّا ما ذكرناه.

على أنّ قاعدة إسناد المعلول إلى أسبق العلل إنّما هي في السبق الزمنيّ لا السبق الرتبيّ.

الثاني: ما جاء في فوائد الاُصول، حيث لم يذكر المحذور العقليّ من لزوم إناطة الحكم إلى أسبق العلل، ولكنّه ذكر محذوراً عرفيّاً، وهو: أنّ العنوان الذاتيّ إذا كان كافياً في ثبوت الحكم فتعليقه على العنوان العرضيّ يكون مستهجناً عرفاً. فقولنا مثلاً: (الدم الملاقي للنجس نجس) يستهجن عرفاً، لكون الدم بذاته نجساً بلا حاجة إلى ملاقاته لنجس آخر.

وهذا الكلام أيضاً ـ كما ترى ـ لا ينفي وحده احتمال كون العدالة وصفاً عرضيّاً آخر يكون كالفسق في المنع عن الحجّيّة، وإنّما ينفي ذلك ببياننا الماضي.

على أنّه يرد على هذا الوجه: أنّه يكفي لمناسبة ذكر الوصف العرضيّ وهو الفسق في الآية التنبيه على القضيّة الخارجيّة من فسق المخبر.

الثالث: ما يمكن أن يكون تعميقاً لبيان الشيخ الأنصاريّ(رحمه الله)، وهو أن يقال: إنّ خبر الواحد في حدّ ذاته إن كان لا يقتضي الحجّيّة فعدم الحجّيّة هنا يكون من باب

419

عدم المقتضي. ولا يسند إلى الفسق كمانع عن الحجّيّة، فإنّ عدم الشيء إذا كان فاقداً لمقتضيه يسند عدمه إلى عدم المقتضي لا إلى وجود المانع، فبدلاً عن أن نقول بأنّ العنوان الذاتيّ أسبق من العنوان العرضيّ نقول: إنّ منشئيّة عدم المقتضي أسبق من منشئيّة وجود المانع. إذن فإسناد عدم الحجّيّة إلى الفسق في الآية الكريمة يدلّ على وجود مقتضي الحجّيّة وهو الخبر، وأنّ الفسق مانع، فخبر غير الفاسق حجّة؛ لأنّ المقتضي وهو ذات الخبر موجود، والمانع وهو الفسق مفقود.

وهذا أيضاً ـ كما ترى ـ لا يمكن تتميمه بغير ضمّ بياننا المتقدّم؛ إذ بدونه يثار احتمال كون العدالة كالفسق مانعاً عن الحجّيّة.

على أنّه يرد عليه: أنّ مقتضي الحجّيّة في الحقيقة هو كاشفيّة الخبر، واحتمال الخلاف هو المانع، وكلّما اشتدّ احتمال الخلاف وكثرت قرائنه اشتدّت المانعيّة، ولا شكّ أنّ الفسق قرينة للخلاف، فهو يوجب تشديد المانعيّة، فبالإمكان أن يقال: إنّ ذكر الفسق في المقام من باب إسناد عدم الحجّيّة إلى المانع الشديد مع كون المقتضي للحجّيّة موجوداً، وهذا لا يمنع عن فرض عدم الحجّيّة عند عدم الفسق؛ لوجود المانع بمستوى خفيف.

وللمحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) هنا في تعليقه على الكفاية بيان لتقريب المفهوم في المقام، وهو: أنّه إن فرض في المقام أنّ الوصف العرضيّ هو العلّة لوجوب التبيّن، أو أنّ مجموع الوصفين الذاتيّ والعرضيّ هو العلّة لذلك ثبت المطلوب، وهو عدم وجوب التبيّن عند انتفاء الوصف العرضيّ، وإن فرض خصوص الذاتيّ علّة، أو فرض أنّ كلاًّ منهما علّة، فهو خلاف ظاهر الآية. وقال: إنّه لا يعقل أيضاً أن يكون هذا الوصف العرضيّ علّة مع وجود وصف عرضيّ آخر وهو العدالة يكون علّة اُخرى للحكم؛ إذ لو فرض الجامع علّة، لكان خلاف ظاهر الآية التي أناطت الحكم بخصوصيّة الفسق، ولو فرض كلّ منهما علّة بعنوانه لزم صدور الواحد من اثنين.

420

وأنت ترى أنّ هذا تقريب لأصل ثبوت المفهوم للوصف، فهو راجع إلى الاستدلال بالكبرى العامّة لمفهوم الوصف، وقد أبطلنا ذلك في بحث المفاهيم(1).

 


(1) إبطال احتمال كون العدالة قائمة مقام الفسق بالبيان الذي ذكره هو استدلال ببيانه لأصل كبرى مفهوم الوصف، ومعه لا تبقى حاجة إلى التعرّض لوجود وصفين هنا، وصف ذاتيّ ووصف عرضيّ، ولا يكون هذا الكلام توجيهاً للاستفادة من نكتة الفرق بين الوصفين، بينما ذكر المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) هذا الكلام كتوجيه لذلك.

والذي أظنّه على ضوء مراجعتي لعبارة المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) في المقام ـ في نهاية الدراية، ج 2، ص 74 ـ هو: أنّه أراد التمسّك في المقام بكبرى مفهوم الوصف، ببيان: أنّه لو حلّ وصف آخر محلّ الوصف المذكور في الكلام وكان الجامع هو العلّة، كان هذا خلاف ظاهر دخل الوصف بعنوانه. ولو حلّ وصف آخر محلّه بأن كان كلّ منهما بعنوانه علّة، كان هذا خلاف قاعدة أنّ الواحد لا يصدر من اثنين، ولكنّه(رحمه الله) فرض أنّ هذا البيان العامّ لإثبات كبرى مفهوم الوصف لا يكفي لإثبات المفهوم في خصوص الآية المباركة إلّا بإضافة نكتة اُخرى إليه؛ وذلك لأنّ الآية المباركة مشتملة على ذكر وصفين، وهما وصف الخبريّة ووصف الفسق، وعندئذ يأتي احتمال أن تكون العلّة هي الجامع بين الوصفين، فيقال: إنّ كون العلّة هي الجامع ليس خلاف ظاهر الكلام؛ لأنّ الكلام لم يشتمل على أحد الوصفين بالخصوص كي يقال: إنّ هذا ظاهر في دخله بعنوانه، بل اشتمل على ذكر كلا الوصفين، وهذا يناسب فرض كون علّة الحكم هي الجامع بينهما، كما يناسب فرض علّيّة المجموع، أو خصوص الفسق، فلابدّ من جواب على احتمال علّيّة الجامع بين هذين الوصفين، كي يتمّ الاستدلال بالمفهوم في المقام.

والجواب على ذلك ـ بحسب ما يفهم من عبارة المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) في المقام ـ هو: أنّه إذا كانت العلّة عبارة عن الجامع بين وصفين أحدهما ذاتيّ موجود في كلّ موارد الحكم وهو خبريّة الخبر، والثاني عرضيّ موجود في بعض موارد الحكم وهو فسق

421


المخبر، فالمفروض هو أن يعلّل الحكم بالذاتيّ الموجود في كلّ موارد الحكم، لا العرضيّ المفقود في بعض الموارد.

ثُمّ قال(رحمه الله): لا يقال: إذا كان كلّ منهما علّة فعند اجتماعهما يكونان معاً علّة واحدة، فالحكم الواحد حيث كان منبعثاً عنهما رتّبه عليهما.

وأجاب على ذلك بما محصّله: أنّ ما رتّب على الوصف لو كان هو شخص الحكم تمّ هذا الإشكال، لكن المفروض على القول بمفهوم الوصف هو أنّ الذي رتّب على الوصف هو كلّيّ الحكم، وعندئذ فلو كان الوصف الذاتيّ الموجود في تمام موارد الحكم كافياً في تحقيق الحكم كان المفروض تعليل الحكم بذاك الوصف الذاتيّ، لا بالوصف العرضيّ الذي قد يفقد في بعض الموارد.

أقول: إنّ هذا الكلام الأخير لا يرجع إلى محصّل إلّا بأن يراد من ترتيب كلّيّ الحكم على الوصف تعليق كلّيّ الحكم عليه لا مجرّد استلزام الوصف للحكم، وهذا لو تمّ كان بنفسه ملاكاً كاملاً لاقتناص المفهوم بلا حاجة إلى قانون أنّ الواحد لا يصدر من اثنين. أمّا الاستدلال على مفهوم الوصف بقانون أنّ الواحد لا يصدر من اثنين فليس بحاجة إلى افتراض التعليق، ولا إلى افتراض كون المعلّق سنخ الحكم وكلّيه، فقوله: «إنّ المفروض على القول بالمفهوم كون المرتّب على الوصف كلّيّ الحكم» في غير محلّه.

وعلى أيّ حال، فسواء أثبتنا مفهوم الوصف بفرض تعليق سنخ الحكم، أو أثبتناه بقانون أنّ الواحد لا يصدر من اثنين، فلا حاجة لنا إلى التعرّض لوجود وصف ذاتيّ في المقام ثابت في كلّ الموارد ووصف عرضيّ غير ثابت في كلّ الموارد، أمّا بناءً على تعليق سنخ الحكم فلأنّ الآية على أيّ حال دلّت على تعليق كلّيّ وجوب التبيّن على الفسق، وهذا كاف في ثبوت المفهوم، وأمّا بناءً على قانون أنّ الواحد لا يصدر من اثنين، فلأنّ أخذ

422

بقي(1) الكلام في الوجه الذي نحن ذكرناه لإثبات المفهوم في المقام: من أنّ العدالة لا يحتمل أن تكون دخيلة في عدم الحجّيّة كالفسق، فإذا تمّ انتفاء شخص الحكم بانتفاء الفسق ثبت انتفاء وجوب التبيّن عند العدالة لا محالة؛ لعدم احتمال شخص آخر للحكم متقوّم بالعدالة.

والتحقيق: أنّ هذا الوجه أيضاً غير تامّ؛ إذ يرد عليه اُمور: أهمّها: أنّ الثابت في المقام ليس هو جعل عدم الحجّيّة، حتّى تكون موضوعيّة خبر الواحد الفاسق وخبر الواحد العادل لذلك مساوقة لكون الفسق والعدالة ملاكين لعدم الحجّيّة، فيقال: إنّ ذلك غير محتمل في جانب العدالة. وإنّما الآية الشريفة تبيّن عدم جعل الحجّيّة وجعل خبر الواحد الفاسق موضوعاً لذلك، ومعنى موضوعيّته لذلك أنّ شيئاً مّن الأجزاء التحليليّة لهذا العنوان ـ ومنها الفسق ـ ليس فيه ملاك لجعل الحجّيّة، فخبر الواحد الفاسق ليس حجّة، ومن المحتمل كون خبر الواحد العادل أيضاً موضوعاً لذلك، ولا يلزم من ذلك عدا عدم كون العدالة ملاكاً للحجّيّة لا كونها ملاكاً لعدم الحجّيّة(2).

 


الفسق في الآية لا محالة ظاهر في دخله بعنوانه في الحكم، ومجرّد ذكر كلا الوصفين لا يبرّر احتمال كون الدخيل هو الجامع بينهما، بل تبقى كفاية الجامع، وعدم دخل الوصف بعنوانه خلاف ظاهر أخذ العنوان، فإذا ثبت أنّ الفسق بعنوانه دخيل في الحكم ثبت المفهوم؛ لأنّ ترتّب الحكم على عنوان آخر أيضاً منفصلاً عنه يستلزم صدور الواحد من اثنين.

(1) من هنا عدنا إلى الدورة التي حضرناها من البحث.

(2) أمّا لزوم لغويّة ذكر الفسق فيكفي في دفعه ترتّب فائدة مّا عليه، كالتنبيه على فسق مَن نزلت الآية بشأنه، أو كون الفسق مقوّياً لانتفاء ملاك الحجّيّة.

423

ويرد أيضاً على هذا الوجه: أنّ هذا البيان لو تمّ فإنّما يثبت حجّيّة خبر الواحد في الجملة لا على الإطلاق؛ وذلك لما يمكن أن يفترض: من حالة اُخرى غير العدالة قد تجتمع مع العدالة، كعدم الظنّ بصحّة الخبر، أو وجود أمارة على خلافه تكون كالفسق ملاكاً لعدم الحجّيّة(1).

وأمّا التمسّك بمفهوم الشرط في الآية الشريفة لإثبات حجّيّة خبر الواحد، فبعد فرض الفراغ عن كبرى دلالة القضيّة الشرطيّة على المفهوم يقع الكلام في المقام في أنّ مقياس اقتناص المفهوم من القضيّة الشرطيّة، هل ينطبق على ما نحن فيه، أو لا؟

وحاصل ما قد يقال في المقام هو: أنّ القضيّة الشرطيّة فيها أركان ثلاثة: الشرط، والموضوع، والجزاء، وهو الحكم، وانتزاع المفهوم عبارة عن عدم ترتّب الحكم على هذا الموضوع عند عدم هذا الشرط، فلابدّ من فرض موضوع محفوظ في كلا جانبي وجود الشرط وعدمه، وليس المراد بالموضوع في المقام ما كان موضوعاً بحسب عالم الجعل والتشريع، أي: تمام ما اُخذ مفروض الوجود في عالم جعله وتشريعه؛ إذ من المعلوم أنّ الشرط داخل في الموضوع بهذا المعنى، بل المقصود من الموضوع في المقام الركن الأساسيّ الذي اُضيف إليه الشرط أوّلاً، واُضيف إليه الحكم في طول إضافة الشرط. وبهذا ظهر أنّ هذا الركن الأساس إن كان ينتفي بانتفاء الشرط كما في مثل: (إن وجد عالم فأكرمه) لم يكن للكلام مفهوم؛ إذ المفهوم ـ كما عرفت ـ عبارة عن انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط،


(1) ويمكن أن يورد أيضاً على هذا الوجه: أنّ ذكر كلمة (الفاسق) وإن كان ظاهراً في دخل الفسق في وجوب التبيّن، لكن يكفي إشباعاً لهذا الظهور افتراض أنّ الفسق دخيل في روح الحكم في المقام، بمعنى تشديده لملاك الحكم، فملاك وجوب التبيّن ثابت في كلّ خبر غير قطعيّ، ولكنّه يشتدّ فيما إذا كان المخبر فاسقاً.

424

والمفروض أنّه لا موضوع عند انتفاء الشرط حتّى ينتفي الحكم عنه، وهذا هو الذي يسمّى بالسالبة بانتفاء الموضوع، فلابدّ أن يكون وجود الموضوع محفوظاً في كلا جانبي وجود الشرط وعدمه حتّى يكون للكلام مفهوم. وعندئذ نأتي إلى محلّ الكلام لنرى أنّ الشرطيّة هل هي من القسم الأوّل، أو من القسم الثاني؟

وأحسن مَن جمع الكلام في المقام هو المحقّق العراقيّ(رحمه الله)، فنقتصر هنا على ذكر كلامه مع التعليق عليه، ثُمّ بيان ما هو مقتضى التحقيق في المقام فنقول:

قد أفاد المحقّق العراقيّ(قدس سره) في المقام: أنّ موضوع وجوب التبيّن ـ وهو النبأ ـ يتصوّر وقوعه موضوعاً على أنحاء ثلاثة:

الأوّل: أن يكون الموضوع هو ذات النبأ، وتمام المعاني الاُخرى الحاصلة من قوله: ﴿إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ﴾ تكون مندرجة في الشرط لا في الموضوع، فكأنّ الآية قالت: (النبأ إن جاء الفاسق به فتبيّنوا)، ومفهومه انتفاء وجوب التبيّن عند انتفاء مجيء الفاسق بالنبأ. ولانتفاء مجيء الفاسق بالنبأ حالتان: حالة انعدام النبأ بقول مطلق، وحالة مجيئه من ناحية العادل، وانتفاء الجزاء في الحالة الاُولى يكون بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، وفي الحالة الثانية يكون بنحو السالبة بانتفاء المحمول، فالمفهوم بحسب الحقيقة يكون منحلاًّ إلى جانبين، جانب منه يكون من السالبة بانتفاء الموضوع، فيخرج عن باب الدلالة اللفظيّة، وجانب منه يكون من باب السالبة بانتفاء المحمول، فيتمّ المفهوم باعتبار هذا الجانب.

الثاني: أن يكون الموضوع نبأ الفاسق لا ذات النبأ على الإطلاق، فكأنّه قال: (نبأ الفاسق إن جاءكم فتبيّنوا). وعليه ينحصر انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط بالسالبة بانتفاء الموضوع؛ إذ لو لم يجئنا نبأ الفاسق لم يكن نبأ الفاسق الذي هو الموضوع موجوداً حتّى يجب التبيّن عنه أو لا يجب.

الثالث: أن يكون الموضوع النبأ المجيء به، ويبقى الفسق في الشرط، فكأنّه

425

قال: (النبأ الذي جيء به إن كان الجائي به فاسقاً فتبيّنوا). وعندئذ يتمحّض المفهوم في السالبة بانتفاء المحمول بعكس الثاني، فإنّ النبأ الذي فرض أنّه جيء به إن لم يكن الجائي به فاسقاً كان ذلك مساوقاً لمجيء العادل به؛ لأنّ كون النبأ مجيئاً به مفروغ عنه.

ثُمّ استظهر هو(قدس سره) من هذه الاحتمالات الثلاثة الاحتمال الأوّل، ولذا قال بتماميّة المفهوم في الآية الشريفة.

وهذا خير ما اُفيد في المقام في حلّ الخصومة بين الشيخ الأعظم وصاحب الكفاية(قدس سرهما)، حيث إنّ الشيخ الأعظم أنكر مفهوم الشرط في المقام باعتبار أنّ القضيّة هنا مسوقة لبيان تحقّق الموضوع، وكأنّه كان نظره إلى الشقّ الثاني، وصاحب الكفاية صار بصدد حلّ المطلب وتصحيح المفهوم بناءً على ثبوت مفهوم الشرط، وكان نظره إلى الشقّ الثالث، والمحقّق العراقيّ(قدس سره) أوضح بهذا التحقيق أنّ أمر الآية ليس منحصراً في الشقّ الثاني المتمحّض في السالبة بانتفاء الموضوع، أو الشقّ الثالث المتمحّض في السالبة بانتفاء المحمول، بل نلتزم بالشقّ الأوّل، ويكون السلب المنتزع من هذا التعليق سلباً مزدوجاً ينحلّ إلى السلب بانتفاء الموضوع والسلب بانتفاء المحمول، فبلحاظ الأوّل يخرج عن باب المفاهيم، وبلحاظ الثاني يدخل في باب المفاهيم. فيتمّ عندئذ الاستدلال بالآية الكريمة.

والتحقيق: أنّ هذا الكلام لا يرجع إلى محصّل بحسب الصناعة؛ إذ هو خلط بين موضوع القضيّة الشرطيّة، وموضوع الحكم وهو الجزاء. توضيح ذلك:

أنّ الذي يجب انحفاظه في كلتا الحالتين، أي: حال وجود الشرط وانتفائه كي لا يكون النفي من باب السالبة بانتفاء الموضوع إنّما هو موضوع الحكم لا موضوع القضيّة. ومقصودنا بموضوع الحكم وهو الجزاء ما تعلّقت به مادّة الجزاء في المرتبة السابقة على التقييد بالشرط. ومقصودنا بموضوع القضيّة الشرطيّة هو