477

 

2 ـ آية النفر:

الآية الثانية: آية النفر، وهي قوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون﴾(1). ووجه الاستدلال بها هو أن يقال: إنّه إن كان الحذر عند إنذار المنذر واجباً حتّى مع عدم حصول العلم من خبره، فخبره حجّة، والمقدّم يثبت بالآية الشريفة، فيثبت التالي وهو حجّيّة خبر الواحد. فهذا الاستدلال له ركنان:

الأوّل: دعوى الملازمة بين وجوب الحذر والحجّيّة. والدليل على ذلك هو: أنّه لو لم يكن خبر المنذر حجّة لما ترتّب عليه تنجّز الواقع، ولو لم يترتّب عليه تنجّز الواقع لما ترتّب عليه احتمال العقاب، ولو لم يترتّب عليه احتمال العقاب لما ترتّب عليه وجوب الحذر؛ إذ لا معنى للحذر عن العقاب مع عدم احتمال العقاب.

والثاني: دعوى دلالة الآية الشريفة على وجوب الحذر حتّى مع عدم العلم. وللاستدلال بالآية الشريفة على وجوب الحذر تقريبات ثلاثة:

الأوّل: أنّ الآية الشريفة دلّت على مطلوبيّة الحذر، ومطلوبيّة الحذر تلازم وجوبه؛ إذ لولا احتمال العقاب وترقّبه لا معنى للحذر ولمطلوبيّته واستحبابه، ومع احتمال العقاب وترقّبه يجب الحذر.

أمّا مطلوبيّة الحذر فتثبت بكلمة (لعلّ) الدالّة بحسب وضعها على إنشاء الترجّي. ومقتضى الظهور التصديقيّ وأصالة التطابق بين عالم الثبوت والإثبات أن يكون إنشاء الترجّي ناشئاً من داعي الترجّي، ولكن داعي الترجّي بالنسبة إليه تعالى مستحيل، فيحمل على داعي المطلوبيّة الذي هو أقرب الدواعي إلى داعي الترجّي.


(1) سورة التوبة، الآية: 122.

478

الثاني: أنّ الآية الشريفة دلّت على وجوب الإنذار، ومقتضى إطلاقها وجوبه حتّى عند عدم كونه موجباً لحصول العلم، ولولا وجوب الحذر لَلَغى وجوب الإنذار، فقد دلّت الآية بدلالة الاقتضاء على وجوب الحذر حتّى مع عدم حصول العلم، صوناً لكلام الحكيم عن اللغويّة.

الثالث: أنّ الآية الشريفة دلّت على وجوب الإنذار، وعلى كون غاية ذلك الحذر. ومن المعلوم أنّ اهتمام الموجب بنفس الغاية ليس بأقلّ من اهتمامه بمقدّماتها. فإن فرض أنّ تلك الغاية لم تكن من الأفعال الاختياريّة كما في قولنا: (اشرب الدواء لعلّك تُشفى)، فالكلام وإن دلّ على شدّة اهتمامه بالغاية لكن لا معنى لوجوبها؛ لأنّ المفروض عدم كونها فعلاً اختياريّاً. وأمّا إن كانت فعلاً اختياريّاً كما نحن فيه، فإيجاب مقدّمتها لأجلها يدلّ على وجوبها؛ لما قلنا: من أنّ الاهتمام بها لا يقلّ عن الاهتمام بمقدّمتها. ومقتضى إطلاق الكلام كون وجوب الإنذار ثابتاً حتّى عند فرض عدم كونه موجباً للعلم، فيثبت وجوب الغاية حتّى عند هذا الفرض.

أقول: إنّ الأصحاب(قدس سرهم) سواء القائلين بتماميّة الاستدلال بهذه الآية، والقائلين بعدم تماميّة الاستدلال بها ركّزوا كلامهم على مدى دلالة الآية على وجوب الحذر وعدمها. وأمّا الملازمة بين وجوب الحذر والحجّيّة فأخذوها أمراً متسالماً عليه من الطرفين.

والتحقيق: أنّ هذا الأمر المتسالم عليه غير صحيح، إذ لم يرتّب وجوب الحذر على إخبار المخبر، وإنّما رتّب وجوب الحذر على إنذار المنذر، ولا معنى للإنذار إلّا لدى تنجّز الحكم سابقاً وقبل الإنذار حتّى يتمّ استحقاق العقاب في الرتبة السابقة على الإنذار، كي يعقل الإنذار بالعقاب. وفي زمن نزول الآية كان الناس في مختلف البلاد جاهلين بالأحكام، والأحكام منجّزة عليهم في المرتبة السابقة على الإنذار بالعلم الإجماليّ، أو بكون الشبهة قبل الفحص، وكان مقتضى القاعدة إيجاب الفحص على الجميع، ولكن كان ذلك موجباً لاختلال النظام فسقط عنهم الفحص بهذا النحو، واُمروا

479

بأن ينفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدين، ولينذروا الباقين بعد الرجوع حتّى يحذروا عن العقاب في دائرة الاُمور المنذر بها. فغاية ما تدلّ عليها الآية الكريمة هي رفع تنجيز الحكم عليهم في غير دائرة الاُمور المنذر بها، لا أنّ التنجيز في دائرة الاُمور المنذر بها يكون في طول الإنذار، فالعلم الإجماليّ أو كون الشبهة قبل الفحص كان يقتضي التنجيز في دائرة أوسع، ولم يكن يعقل الاحتياط بالنسبة لاُولئك الأشخاص الذين هم في تلك المرتبة من الجهل، فأثر تنجيز الأحكام عليهم إنّما هو وجوب الفحص لا الاحتياط، وقد رفع عنهم الفحص بأزيد من مقدار نفر طائفة من كلّ فرقة، فقد قال الله تعالى: ﴿مَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَآفَّة﴾، وهذا يعني تقليص التنجيز وحصره في دائرة ما يأتي به المنذرون، لا إضفاء التنجيز على إنذار المنذرين؛ لما عرفت: من أنّ الإنذار إنّما هو في طول التنجيز، وليس العكس.

وبعد تسليم الملازمة بين وجوب الحذر والحجّيّة ننتقل إلى البحث عن مدى دلالة الآية الشريفة على وجوب الحذر بأحد الوجوه الثلاثة المتقدّمة:

أمّا الوجه الأوّل ـ وهو التمسّك بمطلوبيّة الحذر المستلزمة للوجوب، والمدلول عليها بكلمة (لعلّ) الدالّة على الترجّي المحمولة دلالتها التصديقيّة على داعي المطلوبيّة ـ: فقد أورد عليه المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره)بأنّ كلمة لعلّ ليست موضوعة للترجّي بمعنى ترقّب المحبوب، بل هي موضوعة لمطلق الترقّب بقطع النظر عن كون المترقّب محبوباً أو لا. وقال بأنّ الاستعمالات الصحيحة في لغة العرب قد تكفّلت موارد يكون متعلّق (لعلّ) مبغوضاً غير محبوب، كما في قوله: «لَعَلَّكَ عَنْ بَابِكَ طَرَدْتَنِي»، ونحو ذلك من فقرات دعاء أبي حمزة وغيرها. ونقل(قدس سره)أيضاً مدّعاه عن بعض أرباب اللغة.

هذا ما ذكره(رحمه الله) في مقام الإيراد على الوجه الأوّل، لكنّه ذكر بعد ذلك في مقام تصحيح الاستدلال بكلمة (لعلّ): أنّها وإن لم تكن موضوعة لترقّب المحبوب،

480

لكنّها تدلّ لا محالة على الترقّب، ومن المعلوم أنّه لا معنى لترقّب الحذر إلّا لدى احتمال العقاب، ولا منشأ لاحتمال العقاب لولا وجوب الحذر.

أقول: إنّ استدلاله بكلمة (لعلّ) على الحجّيّة بعد تفسيرها بمعنى الترقّب غير صحيح، لا لأنّ الترقّب بشأن الله مستحيل، كي يجاب عليه بحمل كلمة (لعلّ) على الترقّب بلحاظ نظر المخاطبين، أو الترقّب الشأنيّ وكون الشيء في معرض الوقوع، بل لأنّ ترقّب الحذر في كلّ مورد لا يتوقّف على الحجّيّة، بل يكفي فيه احتمال حصول العلم فيه، فكأنّه قال: لعلّهم يعلمون فيحذرون.

نعم، بالإمكان تصحيح الاستدلال بالآية المباركة بوجه آخر غير ما ذكره، وهو: أنّ كلمة لعلّ وإن لم تدلّ لغة على محبوبيّة متعلّقها لكن متعلّقها في خصوص مورد الآية محبوب، والمستفاد من مجموع الكلام هو ترقّب المحبوب لا ترقّب المبغوض مثلاً، وذلك بقرينة السياق، أعني: جعل ذلك غاية للشيء المطلوب، وهو الإنذار، ولا أقصد بذلك أنّ غاية الواجب واجبة، كي يرجع إلى الوجه الثالث الذي سوف يأتي ـ إن شاء الله ـ النقاش فيه، وإنّما المقصود أنّ جعله غاية للمطلوب قرينة على أنّه ترقّب للأمر المحبوب، وعندئذ: إمّا أن نحمل ذلك على مجرّد داعي المحبوبيّة والمطلوبيّة؛ لاستحالة الترقّب والترجّي بشأن الله تعالى، أو نبقيه على ظهوره في ترقّب المحبوب وترجّيه: إمّا لمنع استحالة ذلك بشأنه تعالى(1)، أو


(1) لعلّه ينظر(رحمه الله) إلى إمكانيّة الترقّب، أو الترجّي، أو الاحتمال بالمعنى الرياضي للاحتمال، وإن كان لا يمكن ذلك بمعناه النفسيّ. فعند ما يتحدّث المولى عن عنوان كلّيّ ثمانون بالمئة من أفراده يتّصف بصفة كذا مثلاً، أو عشرون بالمئة منها لا يتّصف بتلك الصفة، فمن الصحيح أن يقول: يترقّب بشأن الفرد من هذا العنوان بقدر ثمانين بالمئة أن يكون متّصفاً بصفة كذا. والمدلول اللغويّ لكلمة (لعلّ) لا يأبى عن الانطباق على ذلك.

481

لحمله بعد الاستحالة على الترقّب الشأنيّ للمحبوب، أو لأنّ كلمة (لعلّ) لا تدلّ لغة على أكثر من الترقّب الشأنيّ، وليست فيها دلالة على الترقّب الفعليّ كما هو ظاهر. والحمل على معنى ترقّب المحبوب وترجّيه أقرب من الحمل على مجرّد المحبوبيّة، وعلى كلا التقديرين، أي: سواء حملت الآية على مجرّد محبوبيّة الحذر، أو حملت على معنى ترقّب المحبوب، تتمّ دلالة الآية على وجوب الحذر مطلقاً: أمّا على الأوّل فواضح؛ إذ محبوبيّة الحذر تلازم وجوبه كما مضى، وإطلاق ذلك يستلزم وجوبه حتّى مع عدم حصول العلم كما مرّ، وأمّا على الثاني فقد يستشكل في بادئ النظر في دلالتها على وجوب الحذر مطلقاً بنحو الإشكال الذي أوردناه على تصحيح المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره)للاستدلال بالآية، وذلك بأن يقال: إنّه يكفي في ترقّب الحذر المحبوب ومعرضيّته للوقوع ترقّب حصول العلم ومعرضيّته للوقوع وترتّب الحذر عليه.

والجواب على ذلك: هو أنّ ظاهر الآية هو المحبوبيّة والمطلوبيّة الفعليّة للحذر في كلّ مورد، وهذه لا تتمّ إلّا بعدم دخل العلم في لزوم الحذر، فإنّ دخل العلم في لزوم الحذر يكون بأحد وجوه:

الأوّل: أن يكون العلم مقدّمة لحصول المحبوبيّة للحذر. وهذا خلاف ظهور الآية في المحبوبيّة الفعليّة.

والثاني: أن يكون العلم مقدّمة وجوديّة للحذر المحبوب بالفعل، وهو في نفس الوقت يكون مقدّمة وجوبيّة للحذر، أي: أنّ طلب الحذر لا يكون فعليّاً قبل تحقّق العلم، وبالتالي لا يترشّح الوجوب على تحصيل العلم رغم المحبوبيّة الفعليّة للحذر المترتّب على العلم، وذلك بدعوى وجود مانع عن طلب الحذر قبل حصول العلم، فالحذر رغم محبوبيّته لا يقع متعلّقاً للطلب إلّا بعد حصول العلم. وهذا الوجه أيضاً خلاف الظاهر، فإنّ ظاهر إبراز المحبوبيّة كونه بداعي الطلب.

482

والثالث: أن يكون العلم مقدّمة وجوديّة للحذر الذي هو محبوب ومطلوب بالفعل، وعليه يجب تحصيل العلم بقدر الإمكان. وهذا أيضاً خلاف الظاهر؛ لأنّه مهما تعلّق متعلّق التكليف بمادّة فظاهره كونها مقدّمة الوجوب، لا مقدّمة الوجود. فلو قيل مثلاً: (صلّ في المسجد) فهم منه وجوب الصلاة في المسجد المفروض وجوده، لا بناء المسجد لو لم يكن موجوداً والصلاة فيه.

وأمّا الوجه الثاني ـ وهو بيان أنّه لولا وجوب الحذر لَلَغى وجوب الإنذار، ووجوب الإنذار مطلق يشمل فرض عدم حصول العلم ـ: فيرد عليه: أنّه من المحتمل كون وجوب الحذر مختصّاً بفرض حصول العلم مع كون وجوب الإنذار مطلقاً لا لدعوى مطلوبيّة الإنذار في نفسه، كي يجاب على ذلك بأنّ الظاهر من إيجاب الإنذار هو كونه بداعي التحفّظ على الأحكام، لا بداعي مطلوبيّته نفسيّاً؛ بل لأنّ من الممكن أن يوجب المولى الإنذار على الإطلاق حتّى لا يفوت المطلوب في مورد كان يترتّب عليه العلم، وكان العبد يتخيّل أنّه لا يترتّب عليه العلم، وهذا احتياط من قبل المولى في توسعة دائرة الأمر، كي لا يفوت عليه المطلوب في موارد خطأ العبد واشتباهه في التمييز. وهو غير الأمر بالاحتياط الذي قد يوجّه إلى العبد للعمل به في ظرف الشكّ، فالأمر بالاحتياط لا يحفظ غرض المولى عند خطأ العبد وجزمه بالخلاف، بخلاف احتياط المولى بتوسعة دائرة الحكم الواقعيّ. فمثلاً قد يأمر المولى عبده بإنقاذ ابن المولى، وقد يأمره بالاحتياط بإنقاذ من شكّ في كونه ابناً للمولى وعدمه، ولكن لو اعتقد العبد خطأ بأنّ الغريق ليس ابن المولى، فهنا قد يفوت الغرض على المولى، فقد يسدّ المولى هذا الباب بأمر العبد لإنقاذ كلّ غريق رآه رغم أنّ المطلوب الأصليّ هو إنقاذ ابنه، فهنا قد وسّع المولى دائرة حكمه الواقعيّ لا لأجل جهله بموطن الغرض، بل لأجل جهل العبد الذي لم يمكن إعلامه بالحال، فكان لابدّ في علاج الموقف من توسعة

483

دائرة الحكم. فلنتصوّر فيما نحن فيه ما يكون من هذا القبيل، فالعبد قد يعتقد أنّ إنذاره سوف لا يوجب العلم، بينما هو في الواقع قد يوجب العلم لمن أنذره مباشرة، أو لإنسان آخر يعيش في هذا العرض العريض المكانيّ أو الزمانيّ الذي سيصله هذا الإنذار، وسيحصل له العلم بسبب هذا الإنذار، ولو بمعونة ضمّه إلى إنذار منذرين آخرين، فالمولى قد أوجب الإنذار على الإطلاق رغم أنّ الحذر لم يكن واجباً إلّا عند حصول العلم، وذلك بغرض الحفاظ على الملاك في مورد يوجب الإنذار العلم، ولكنّ العبد يتخيّل عدم تأثير إنذاره في حصول العلم لأحد.

وأمّا الوجه الثالث ـ وهو: أنّ الحذر غاية للإنذار الواجب، وغاية الواجب واجبة ـ: فيرد عليه: أنّ الصغرى وإن كانت مقبولة، وهي: أنّ الحذر جعل غاية للإنذار، لكن الكبرى غير مقبولة، وهي دعوى أنّ غاية الواجب إذا كانت اختياريّة فلابدّ أن تكون واجبة؛ وذلك لأنّ العقل وإن كان يحكم بأنّ غاية الواجب محبوبة للمولى بدرجة لا تقلّ عن محبوبيّة ذي الغاية؛ لأنّ محبوبيّة ذي الغاية إنّماجاءت من محبوبيّة الغاية، لكن هذه المحبوبيّة للغاية إنّما هي ملاك اقتضائيّ لوجوبها، وقد يمنع عن تأثيره في فعليّة الوجوب مانع، وهو التزاحم بين هذا الملاك وملاك آخر، فمن المحتمل ـ مثلاً ـ أنّ ملاك إيجاب الحذر كان مزاحماً بمفسدة الكلفة والمؤونة الثابتة في لزوم الحذر عند عدم العلم، وكان الملاك الثاني مقدّماً في نظر المولى على الملاك الأوّل فلم يوجب الحذر، ولكن ذلك لا ينافي إيجاب الإنذار.

توضيح ذلك: أنّ للحذر أبواباً متعدّدة من أبواب العدم، منها: باب عدمه الناشئ من عدم إيجاب الحذر عند الإنذار مع عدم حصول العلم، ولولا المزاحمة مع ملاك الكلفة والمؤونة لكان المولى يسدّ جميع أبواب العدم التي تكون من قبله، لكن هذه المزاحمة أوجبت رفع يده عن سدّ باب العدم، إلّا أنّ الضرورة تتقدّر

484

بقدرها، أي: أنّ المزاحمة إنّما تؤثّر في دائرة التزاحم لا في نطاق أوسع، وملاك الكلفة والمؤونة إنّما يزاحم سدّ باب عدم الحذر الناشئ من عدم إيجاب الحذر، فيرفع المولى يده عن سدّه، ولا يزاحم سدّ باب العدم الناشئ من عدم إيجاب الإنذار؛ إذ المكلف مع فرض سماع الإنذار وعدم وجوب الحذر عليه ما لم يحصل له العلم يكون بعد في سعة، فلا وجه لرفع اليد عن سدّ هذا الباب من العدم، وفائدته تظهر فيما لو اتّفق صدفة انسداد الباب الآخر بحصول العلم، وقد جعل الحكم بوجوب الإنذار شاملاً لفرض عدم حصول العلم من الإنذار حفاظاً على غرضه في صورة اشتباه المكلّف بالبيان الماضي في جوابنا على الوجه الثاني.

وخلاصة الكلام في المقام: أنّ روح وجود ذي الغاية دون الغاية عبارة عن أنّ الغاية لها اقتضاء الوجوب، وأنّ هذا الاقتضاء أثّر في سدّ باب عدمها الناشئ من عدم وجوب ذيها، ولكنّه لم يؤثّر في سدّ باب العدم الناشئ من عدم وجوبها لمزاحمة هذا السدّ بملاك آخر، وهذا أمر محتمل فيبطل به الاستدلال.

ولا يخفى أنّ هذا الوجه الثالث لو تمّ، فإنّما يتمّ بناءً على كون المراد بالحذر الحذر من المخالفة؛ إذ لو كان المراد به الحذر من العقاب لدلّ على ثبوت العقاب في المرتبة السابقة على الإنذار. إذن فلا يدلّ ذلك على منجّزيّة الإنذار؛ لأنّها ثابتة قبله، والوجه الأوّل يكون بعكس هذا الوجه، أي: إنّما يتمّ لو كان المراد بالحذر الحذر من العقاب، كي يصحّ ما يقال: من أنّ مطلوبيّة الحذر تساوق وجوبه، وأنّه لا معنى لاستحباب الحذر، أمّا لو كان المراد به الحذر من مخالفة الواقع وتفويت غرض المولى، فمن المعقول فرض كونه استحبابيّاً.

وتفصيل الكلام في محتملات الحذر في الآية، ومدى تأثيرها على الاستدلال بالآية على حجّيّة الخبر ما يلي:

إنّ التحذّر المذكور في الآية الشريفة تارةً: يفرض ظهوره في التحذّر عن

485

العقاب، واُخرى: يفرض ظهوره في التحذّر عن مخالفة الواقع وتفويت غرض المولى، وثالثة: يفرض إجماله وملائمته لكلا الأمرين:

أمّا على الفرض الأوّل ـ أعني: كون المقصود هو التحذّر عن العقاب ـ: فيتمّ الاستدلال بالآية على الحجّيّة بناءً على الوجهين الأوّلين من الوجوه الثلاثة المتقدّمة لكيفيّة الاستدلال بالآية على حجّيّة الخبر:

فعلى الوجه الأوّل ـ وهو كون مطلوبيّة الحذر المستفادة من قوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون﴾ ملازمة لوجوبه ـ نقول: إنّه يوجد في بادئ النظر في قوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون﴾ احتمالات خمسة:

الأوّل: أن يكون هذا حكماً مولويّاً بالتحذّر عن العقاب يُنشئ به الحجّيّة. وهذا غير معقول؛ إذ العقاب يكون في طول الحجّيّة لا العكس، ولازم هذا الوجه هو العكس؛ إذ لولا ثبوت العقاب في المرتبة السابقة لا يعقل الأمر بالتحذّر عنه.

الثاني: أن يكون حكماً مولويّاً متعلّقه خصوص التحذّر الذي يكون عقيباً للعلم بنحو يكون نفس تحصيل العلم مطلوباً؛ لكونه مقدّمة وجوديّة للمطلوب. وهذا خلاف الظاهر؛ لأنّ متعلّق الطلب إذا تعلّق بمادّة فظاهر الكلام كون تلك المادّة مقدّمة وجوبيّة لا داخلة في دائرة الطلب، فلو قال مثلاً: (صلّ في المسجد) لم يكن بناء المسجد داخلاً في دائرة الطلب.

الثالث: أن يكون إرشاداً للتخلّص من استحقاق العقاب الثابت بملاك حصول العلم من قول المنذر. وهذا أيضاً خلاف الظاهر؛ إذ يوجب التقييد بفرض حصول العلم مع أنّ الكلام مطلق.

الرابع: أن يكون إرشاداً إلى التخلّص من استحقاق العقاب الثابت بملاك حجّيّة قول المنذر. وهذا أيضاً لا ينسجم مع إطلاق الآية بعد فرض حملها على القضيّة الحقيقيّة؛ إذ مجرّد حجّيّة قول المنذر لا تكفي ملاكاً لاستحقاق العقاب، بل هو

486

مشروط بحصول العلم بالحجّيّة، بينما الآية مطلقة من هذه الناحية. نعم، يمكن إصلاح هذا الوجه بنحو لا يتعارض مع إطلاق الآية بفرض القضيّة خارجيّة، وأنّ المولى كان يعلم بتحقّق هذا الشرط وهو العلم بالحجّيّة ولو ارتكازاً، ولذا جعل موضوع الحكم بنحو القضيّة الخارجيّة ذات الإنذار؛ للفراغ عن تحقّق القيد الآخر بأن يفترض أنّهم كانوا مبلّغين بالحجّيّة قبل هذا، والحجّيّة بالنسبة لنا تثبت عندئذ بالقطع بعدم الفرق بيننا وبينهم.

وهذا الإصلاح الذي أجريناه على الاحتمال الرابع لا يمكن إجراؤه على الاحتمال الثالث بالحمل على القضيّة الخارجيّة؛ إذ ليس القيد في الاحتمال الثالث ـ وهو حصول العلم لهم من إنذار المنذر ـ ثابتاً بالنسبة لجميعهم في كلّ إنذار، ولو فرض تنزّلاً ثبوته لهم مطلقاً فالمولى ـ بقطع النظر عن علم الغيب ـ ليس مطّلعاً على ذلك.

الخامس: أن يكون بياناً للحجّيّة بنحو الكناية، فإنّه قد يعبّر عن حجّيّة قول شخص بلسان: (احذر عن العقاب في مخالفته)، وهذا في الحقيقة ليس تحذيراً عن العقاب، وإنّما هو تعبير عن الحجّيّة بهذا اللسان العرفيّ، ويترتّب عليه استحقاق العقاب بالمخالفة. وبناءً على هذا الاحتمال، وكذا الاحتمال الرابع بعد حمل الآية على القضيّة الخارجيّة يتمّ الاستدلال بالآية على حجّيّة الخبر بعد فرض غضّ النظر عن إشكالنا الماضي: من دلالة مادّة الإنذار على ثبوت التنجيز سابقاً.

وعلى الوجه الثاني ـ وهو صون إطلاق كلام الحكيم عن اللغويّة ـ يتمّ أيضاً الاستدلال بالآية بغضّ النظر عن إشكالنا الماضي على هذا الوجه.

وعلى الوجه الثالث ـ وهو أنّ الحذر غاية للواجب، وغاية الواجب واجبة ـ يكون تفسير الحذر بالحذر عن العقاب مبطلاً للاستدلال بالآية على حجّيّة إنذار المنذر؛ لأنّ المفروض أنّ الحذر عن العقاب جعل غاية للإنذار، وهو يدلّ على

487

ثبوت ملاك الحذر، وهو ترقّب العقاب في الرتبة السابقة على الإنذار، فإنّ جعل شيء غاية لشيء كقوله مثلاً: (توضّأ حتّى تصلّي) فيه دلالة على ثبوت ملاكه قبل ذي الغاية وبغضّ النظر عنه، وهذا يعني تماميّة الحجّة قبل الإنذار.

وأمّا على الفرض الثاني ـ أعني: كون المقصود التحذّر عن مخالفة الواقع وتفويت غرض المولى ـ فنقول: إنّ طلب التحذّر إمّا يكون في الحقيقة ذكراً لنفس الأحكام الواقعيّة، فكأنّه قال: (صلِّ، وزكِّ، وصم...)، أو هو بيان لوجوب التحذّر في مرحلة الامتثال، والمتعيّن هو الثاني؛ إذ معنى وجوب الحذر هو ثبوت حكم في المرتبة السابقة حتّى يتحذّر من مخالفته، وإلّا لم يكن موضوع للتحذّر. وهذا يناسب الاستدلال بالآية الكريمة بالوجه الثاني، والثالث، دون الوجه الأوّل؛ لأنّ الوجه الأوّل يعتمد على الملازمة بين مطلوبيّة الحذر ووجوبه، وعدم تعقّل الاستحباب، بينما من المعقول أن يفرض استحباب التحذّر عن مخالفة الواقع لدى الشكّ.

والمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه على الفرض الأوّل لا يتمّ الوجه الثالث، وعلى الفرض الثاني لا يتمّ الوجه الأوّل، وعلى كلا الفرضين يتمّ الوجه الثاني بغضّ النظر عن إشكالنا الماضي عليه.

وأمّا على الفرض الثالث ـ وهو فرض الإجمال والتردّد بين الفرضين الأوّلين ـ فلا يتمّ من الوجوه إلّا الوجه الذي يتمّ على كلا الفرضين، وهو الوجه الثاني؛ إذ بطلان أيّ وجه على أحد الفرضين يكفي لبطلانه على هذا الفرض المردّد بينهما؛ لأنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات.

نعم، لا بأس بناءً على هذا الفرض بأن نقول بتماميّة أحد الوجهين الأوّل والثالث على الإجمال بحيث لولا الوجه الثاني لأمكننا الاكتفاء بذلك.

وأخيراً يجب أن نذكر: أنّه لو حملنا التحذّر على التحذّر عن العقاب فقد عرفت

488

أنّه يفسد بذلك الوجه الثالث، وهو التمسّك بكون التحذّر غاية للإنذار الواجب. ونقول هنا: إنّه يفسد بذلك جميع الوجوه، فإنّ عدم تمسّكنا في باقي الوجوه بكون التحذّر غاية للإنذار لا يعني سقوطه عن الغائيّة، وإذا كان غاية للإنذار كما هو المستفاد من الآية الكريمة فقد ثبت تماميّة ملاكه قبل الإنذار، فلا تصل النوبة إلى إثبات حجّيّة الإنذار بأيّ وجه من الوجوه(1). وهذا نظير إشكالنا الذي أوردناه بلحاظ مادّة الإنذار. وكذلك الحال لو قلنا بإجمال التحذّر وتردّده بين التحذّر عن العقاب، أو مخالفة الواقع.

بقي الكلام فيما أفاده الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في مقام الإشكال على الاستدلال بهذه الآية على حجّيّة الخبر، وعمدة الإشكالات المذكورة في كلماتهم ترجع إلى وجوه ثلاثة غير ما مضى منّا:

الوجه الأوّل: أنّ الآية الشريفة إنّما تدلّ على وجوب الحذر بنحو القضيّة المهملة، وليس لها إطلاق يشمل فرض عدم العلم؛ وذلك لأنّها إنّما وردت في مقام بيان وجوب النفر والتفقّه والإنذار، وليست في مقام البيان من ناحية وجوب الحذر حتّى يتمّ الإطلاق بالنسبة له.

وهذا الوجه لا يرجع إلى محصّل، فإنّه إن جعل إشكالاً على الوجه الأوّل من


(1) ويمكن أن يجعل هذا بضميمة ما سبق: من توقّف الوجه الأوّل على تفسير الحذر بالحذر عن العقاب، برهاناً على بطلان الاستدلال بالآية على حجّيّة الخبر بالوجه الأوّل، بأن يقال: إمّا أن يفرض أنّ المقصود بالحذر في الآية هو الحذر من العقاب، أو يفرض أنّ المقصود به الحذر من المخالفة، فعلى الأوّل تدلّ الآية على ثبوت ترقّب العقاب قبل الإنذار؛ لأنّ جعل شيء غاية لشيء ظاهر في ثبوت ملاكه في الرتبة السابقة على ذي الغاية، وهذا يعني عدم دلالة الآية على حجّيّة خبر المنذر، وعلى الثاني لا تكون مطلوبيّة الحذر مساوقة لوجوبه؛ لإمكان كونه مستحبّاً.

489

الوجوه الثلاثة الماضية ورد عليه: أنّ المفروض فيه أنّ قوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون﴾بصدد إبراز مطلوبيّة الحذر، فالآية الشريفة متصدّية لذكر مطلوبيّة الحذر ومحبوبيّته، ومقتضى الأصل العقلائيّ فيمن يذكر شيئاً أنّه في مقام بيان تمام مراده فيه، فيتمّ الإطلاق بالنسبة لجملة ﴿لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون﴾ بلا إشكال.

وإن جعل إشكالاً على الوجهين الأخيرين ورد عليه: أنّنا لا نتمسّك في الوجهين الأخيرين بإطلاق وجوب الحذر ابتداءً، وإنّما نتمسّك بإطلاق قوله: ﴿لِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ﴾ لإثبات وجوب الإنذار حتّى عند عدم إفادته للعلم، ونستنتج من ذلك وجوب الحذر حتّى عند عدم العلم: إمّا صوناً لكلام الحكيم عن اللغويّة، أو لكونه غاية للواجب.

الوجه الثاني: ما ذكره الشيخ الأعظم(قدس سره)، وهو: أنّه لا إشكال في أنّ الإنذار المطلوب واقعاً إنّما هو الإنذار المطابق للواقع دون الإنذار بشيء اشتباهاً أو كذباً، وقد جعل في الآية الشريفة الإنذار المطلوب موضوعاً لوجوب الحذر، فمن شكّ في أنّ الإنذار مطابق للواقع أو لا فقد شكّ في موضوع وجوب الحذر، ولم يصل إليه موضوعه حتّى يلزمه الحذر، فالمقصود بالآية هو الأمر بهداية الناس إلى الحقّ الواقعيّ، لا إنشاء حكم ظاهريّ لهم بقبول كلّ ما يخبرون به، وإن لم يعلم مطابقته للواقع.

وكأنّ مقصوده(قدس سره): أنّ وجوب الحذر في الآية لا يمكن أن يفسّر بنحو يستفاد منه الحكم الظاهريّ الموجب للحجّيّة؛ لأنّ موضوع وجوب الحذر هو الإنذار المطابق للواقع، فيلزم أن يكون موضوع الحكم الظاهريّ هو الإنذار المطابق للواقع، وهذا مستحيل، فيجب أن يكون المقصود من قوله: ﴿لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون﴾الإرشاد إلى حكم العقل بوجوب الحذر عند حصول العلم.

وما أورده المحقّق النائينيّ(رحمه الله) على الشيخ الأعظم(قدس سره) في المقام: من أنّه لو

490

تمّت دلالة الآية على الحجّيّة من سائر الجهات غير جهة مطابقة الخبر للواقع فنفس الحجّيّة تثبت مطابقة الخبر للواقع تعبّداً(1) ليس في محلّه، فإنّ المفروض أنّ ثبوت الحجّيّة متوقّف على شمول إطلاق الآية لفرض عدم العلم بالمطابقة للواقع، فلا يمكن تصحيح هذا الإطلاق على أساس الحجّيّة، فإنّه دور واضح(2).

ولنا مع الشيخ الأعظم(رحمه الله) كلامان:

الأوّل: كلام مبنائيّ، وهو: أنّ استحالة جعل الإنذار المطابق للواقع موضوعاً للحكم الظاهريّ الموجب للحجّيّة إنّما تتمّ بناءً على ما بنى عليه هو ومن تبعه: من كون الحكم الظاهريّ خطاباً مستقلاًّ في قبال الخطاب الواقعيّ، فيقال على هذا المبنى: لو جعل موضوع الحكم الظاهريّ الإنذار المطابق للواقع، فإن علم المكلّف بأنّ هذا الإنذار مطابق للواقع فقد وصل إليه الحكم الواقعيّ، ولا تصل النوبة إلى الحكم الظاهريّ، وإن لم يعلم المكلّف بذلك فكما لم يصله الحكم الواقعيّ كذلك لم يصله الحكم الظاهريّ لشكّه في موضوعه، فيلغو هذا الحكم الظاهريّ غير القابل للوصول.

 


(1) راجع فوائد الاُصول للعلاّمة الكاظميّ، ج 2، ص 67، وأجود التقريرات للسيّد الخوئيّ، ج 2، ص 112.

(2) أمّا ما جاء في أجود التقريرات: من قياس المقام بمثل ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُود﴾ حيث يورد على إثبات صحّة عقد مّا بإطلاقه: أنّ الموضوع لوجوب الوفاء هو العقد الصحيح لا غير، وما لم يحرز ذلك لا يمكن التمسّك به. ويجاب عليه بأنّ الصحّة إنّما تثبت بنفس الحكم بوجوب الوفاء لا في مرتبة سابقة عليه، فهو قياس مع الفارق، فإنّ الصحّة لم تؤخذ في موضوع وجوب الوفاء، بل وجب الوفاء بذات العقد، فكان هذا الوجوب دليلاً على الصحّة. أمّا في المقام فالواجب إنّما هو الإنذار بالحقّ، فيقال إذن: إنّ موضوع وجوب الحذر إنّما هو الإنذار بالحقّ.

491

وأمّا بناءً على مبنانا: من أنّ روح الحكم الظاهريّ ـ بأيّ لسان بيّن من الألسنة: من جعل الحجّيّة، أو العلم، أو الحكم التكليفيّ بالأخذ، أو غير ذلك ـ إنّما هو في الإلزاميّات عبارة عن إبراز شدّة اهتمام المولى بغرضه الواقعيّ، وعدم رضاه بفواته في ظرف الشكّ، وفي الترخيصيّات عبارة عن إبراز رضاه بفواته في ظرف الشكّ، وعدم تلك الشدّة من الاهتمام، فلا بأس بجعل موضوع الحكم الظاهريّ الإنذار المطابق للواقع بأن يقول: (إنّي أهتمّ بالواقع عند الإنذار المطابق له بحيث لا أرضى بفواته في ظرف الشكّ في المطابقة إن كان في الواقع مطابقاً)، وعندئذ يكون مجرّد احتمال المطابقة للواقع موجباً لتنجّز الواقع على العبد على التفصيل الذي مضى في محلّه.

والحاصل: أنّه مهما فرض المحمول في الحكم الظاهريّ هو الاهتمام بالواقع فلا محالة يجب أن يكون موضوعه فرض المطابقة للواقع. نعم، مهما فرض المحمول فيه نفس هذه القضيّة الشرطيّة ـ أي: أنّه (لو كان الواقع ثابتاً لا أرضى بفواته) ـ فموضوعه يجب أن يكون أعمّ من المطابق وغيره، ولهذا دائماً يكون موضوع عنوان الحجّيّة أعمّ؛ لأنّه منتزع من هذه القضيّة الشرطيّة.

والثاني: كلام بنائيّ، وهو: أنّه بعد فرض البناء على كون المقصود بالإنذار في الآية هو خصوص الإنذار المطابق للواقع، وتسليم استحالة كون الإنذار المطابق للواقع موضوعاً للحكم الظاهريّ نقول: لو تمّت ـ بغضّ النظر عن إشكال الشيخ(رحمه الله) ـ دلالة الآية على ثبوت الحجّيّة في مورد الإنذار المطابق للواقع عند الشكّ لا ينبغي أن يجعل عدم معقوليّة حجّيّة خصوص ذلك إشكالاً على دليل الحجّيّة، بل ينبغي أن يضمّ عدم معقوليّة اختصاص الحجّيّة بذلك إلى دليل الحجّيّة في هذا المورد، ويستفاد من ذلك أنّ موضوع الحجّيّة هو مطلق الإنذار لا خصوص الإنذار المطابق للواقع.

492

الوجه الثالث: ما أفاده الشيخ الأعظم(قدس سره) من اختصاص مفاد الآية الشريفة بقول الفقيه، وهذا له تقريبان:

التقريب الأوّل: هو التمسّك بقوله: ﴿ليَتَفَقَّهُوا﴾ بأن يقال: إنّ معنى التفقّه هو الاجتهاد، فالآية إنّما تدلّ على حجّيّة رواية الفقيه دون غيره.

ويمكن الجواب على ذلك بما في الكفاية من عدم القول بالفصل، والقطع بعدم الفرق بين الفقيه وغيره بحجّيّة رواية الفقيه دون غيره. ومنظور الشيخ الأعظم(رحمه الله)ليس هو هذا التقريب، بل هو التقريب الثاني.

التقريب الثاني: هو التمسّك بقوله: ﴿لِيُنذِرُوا﴾ بتقريب أنّ مجرّد الرواية ليست إنذاراً للسامع، فإنّ السامع قد لا يسلّم ظهورها في الحكم الفلانيّ، أو عدم ابتلائها بالمعارض، أو المخصّص، ونحو ذلك. وإنّما المستفاد من الإنذار هو أن يعمل المتكلّم نظره في المقام، ويعيّن الحكم بالاجتهاد بمرتبة من مراتبه البسيطة، أو المعقّدة، ويسجّله على السامع.

وهذا أحسن ما أفاده في المقام، ولا يرد عليه ما ورد على التقريب الأوّل؛ إذ ليس هو تفصيلاً بين رواية ورواية، بل تفصيل بين الفتوى والرواية، ولا نقطع بعدم الفرق بينهما.

 

3 ـ آية الكتمان:

الآية الثالثة: آية الكتمان، وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُون﴾(1).


(1) سورة البقرة، الآية: 159.

493

وتقريب الاستدلال بهذه الآية هو كالوجه الثاني من وجوه تقريب الاستدلالبآية النفر، بأن يقال: إنّ آية الكتمان دلّت بإطلاقها على حرمة الكتمان، أي: وجوب الإظهار حتّى مع فرض عدم إيجابه للعلم، وهذا يدلّ بدلالة الاقتضاء على وجوب القبول عند الإظهار وحجّيّة كلامه، وإلّا للغى الإطلاق في كلام الحكيم.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ الكتمان ليس بمعنى عدم الإظهار، بل اُخذ في معناه التعمّد في الإخفاء، وعدم الإظهار، فلا يستفاد من الآية الشريفة وجوب الإظهار بما هو إظهار، كي تستنتج منها حجّيّة الإظهار ولو لم يفد العلم. ولعلّها بصدد بيان الحرمة النفسيّة لإخفاء الأحكام من الناس، وتبعيدهم عن الدين وشرائعه.

وثانياً: أنّه لا يبعد أن يكون المقصود ـ بقرينة قوله: ﴿مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾ ـ تحريم الكتمان بملاك تكذيب ما بيّنه الله تعالى، وذلك بأن يكون المقصود ـ بناءً على أنّ المراد بالكتاب هو القرآن ـ: أنّنا أنزلنا في القرآن أنّ هذه الرسالة مذكورة في التوراة والإنجيل، ويكون كتمان علماء اليهود والنصارى المدّعين للاطّلاع على التوراة والإنجيل الواقعيّين لذلك وإنكارهم للعلم به تكذيباً لكلامنا ورسالتنا، وذلك حرام عليهم بما هو تكذيب للرسالة الإلهيّة وكلام الله تعالى، بالإضافة إلى أنّ هذا التكذيب يوجب الوهن والضعف في دعوة الرسول(صلى الله عليه وآله)بالنسبة لبعض ضعفاء النفوس، ولا أقلّ من كون قوله: ﴿مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾محتمل القرينيّة على المعنى الذي ذكرناه، فيوجب الإجمال.

وثالثاً: أنّ الظاهر من عنوان البيّنات والهدى هو ما يكون في ذاته بوضوحه وجلائه مقتضياً للعلم والهداية إلى دين الحقّ، وهو التبشير بهذه الرسالة بتلك العلامات الخاصّة المتواجدة في الكتب السابقة، والكتمان أثره إيجاد المانع عن تأثير هذا المقتضي الواضح بالنسبة لبعض ضعفاء النفوس، وتحريم الكتمان المانع عن تأثير المقتضي للعلم لا يدلّ على حجّيّة الإظهار كما لا يخفى.

494

ورابعاً: أنّ المذكور في الآية الشريفة هو البيّنات والهدى لا الأحكام، والظاهر من البيّنات والهدى الأدلّة الواضحة، فلا يبعد أن يكون اللام في ذلك إشارة إلى أدلّة واضحة معيّنة معهودة، وهي التبشيرات الثابتة في الكتب السابقة، وهي من أدلّة النبوّة التي هي من اُصول الدين، فليس في الآية إطلاق يشمل الأحكام، كي يثبت بذلك حجّيّة الخبر بلحاظها، ومن المعلوم عدم حجّيّة خبر الواحد في اُصول الدين، ولو فرض احتمال حجّيّته في اُصول الدين في الجملة لا تحتمل حجّيّته في مثل المورد، فإنّ مَن لا يعترف بنبوّة الرسول لا يعقل اعترافه بحجّيّة خبر الواحد ببيان الرسول المثبت لنبوّته؛ للزوم الدور. هذا، مضافاً إلى أنّ نبوّته(صلى الله عليه وآله) كانت منجّزة عليهم، أي: أنّ المقتضي لحصول العلم كان تامّاً وإنّما المانع عنه كان هو ابتلاؤهم بشبهات التقليد واتّباع الآباء ونحو ذلك، فكان عدم حصول العلم باختيارهم، ومع تنجيز النبوّة سابقاً لا مورد لمنجّزيّة السؤال والجواب، ومن المعلوم أنّ إظهار التبشيرات به في الكتب السابقة يؤكّد هذا المقتضي ويشدّد تنجّز النبوّة، أي: يوجب كون الحجّيّة عليهم أتمّ وألزم، وهذا يكفي في عدم لغويّة وجوب الإظهار.

وهذا الوجه الرابع يحتاج فهمه من الآية إلى مزيد ذوق، وقد يحصل القطع به لمن له هذا المزيد من الذوق.

وخامساً: أنّ تقريب الاستدلال بهذه الآية كان كالوجه الثاني من الوجوه الثلاثة للاستدلال بآية النفر، فيرد عليه ما أوردناه على ذاك الوجه: من احتمال تعميم الحكم بالإظهار لفرض عدم إيجابه للعلم تحفّظاً على الإظهار الموجب للعلم، حيث إنّ المكلّف قد يخطأ في تشخيصه لذلك، وليست هناك علامة يجعلها المولى للعبد مانعة عن الخطأ والاشتباه.

ثُمّ إنّ الشيخ الأعظم(قدس سره) أورد على الاستدلال بآية الكتمان بمثل ما مرّ منه في آية النفر: من أنّ الواجب إنّما هو إظهار الحقّ، وهو الموضوع لوجوب القبول، ومع

495

الشكّ في كونه إظهاراً للحقّ ومطابقاً للواقع لم يحرز موضوع القبول. والجواب على ذلك ما مضى منّا في آية النفر: من أنّ وجوب قبول الخبر المطابق للواقع عند الشكّ في مطابقته يكشف عن حجّيّة مطلق الخبر؛ لعدم معقوليّته بدونها.

 

4 ـ آية السؤال:

الآية الرابعة: آية السؤال، وهي قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون﴾(1).

وتقريب الاستدلال: أنّ الآية دلّت على وجوب السؤال مطلقاً، أي: وإن لم يستلزم الجواب العلم، وذلك دليل على وجوب القبول مطلقاً، وإلّا للغى إطلاق وجوب السؤال.

واُورد عليه بأنّ المقصود من أهل الذكر أهل العلم، وهذا يعني رجوع العامي للعالم، أي: يدلّ على حجّيّة فتوى المجتهد للعامي دون خبر الراوي.

واُجيب على ذلك: بأنّ عنوان أهل العلم والخبرة يختلف بالنسبة للأشخاص، فالمجتهد يكون من أهل العلم والخبرة بالنسبة للعامي الذي يرجع إليه في الفتاوى التي يجهلها، وراوي كلام الإمام يكون من أهل العلم والخبرة بالنسبة للمجتهدالمحتاج إلى كلام الإمام، والإمام يكون بالنسبة للاُمّة من أهل العلم والذكر،


(1) وردت هذه الآية المباركة في موردين: أحدهما: سورة النحل، قال تعالى ـ في الآية: 43 و44 ـ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إلّاَ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَ لُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون﴾. والثاني: سورة الأنبياء، قال الله تعالى ـ في الآية 7 و8 ـ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إلّاَ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَ لُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِين﴾.

496

والرسول(صلى الله عليه وآله)يكون بالنسبة للأئمّة(عليهم السلام) من أهل العلم والخبرة، فأهل العلم والذكر بالنسبة لكلّ شخص وفي كلّ شيء بحسبه، وقد دلّت الآية على حجّيّة قول أهل الذكر على الإطلاق.

أقول: إنّ الاستدلال بالآية الشريفة على حجّيّة خبر الواحد غير صحيح؛ إذ يرد عليه:

أوّلاً: أنّ مقتضى سياق الآية، وملاحظة مقطعها الواقع فيه هذه الآية هو أنّها في مقام الاحتجاج مع الخصم الجاهل باُصول النبوّة، المنكر لنبوّة الرسول(صلى الله عليه وآله)، المتخيّل أنّ الرسول ينبغي أن يكون من جنس آخر غير الإنسان، فهذا الأمر ليس صادراً من المولى بما هو مولى ومتقمّصاً قميص المولويّة، كي يحمل على الأمر المولويّ، وإنّما هو صادر منه بما هو مباحث ومحاجّ مع الخصم المنكر لرسالة الرسول(صلى الله عليه وآله)، فلا يدلّ على إيجاب السؤال كي يدلّ على إيجاب القبول صوناً للإطلاق عن اللغويّة، والذي يحتجّ مع الخصم قد يستعين بجملة خبريّة، وقد يستعين بجملة إنشائيّة وبالأمر.

وثانياً: أنّ متعلّق السؤال في الآية المحذوف إنّما يمكن أن يقال بكونه عامّاً بدعوى أنّ حذف المتعلّق يفيد العموم ـ مثلاً ـ لولا وجود قرينة تعيّن ذاك المحذوف، وعندئذ بالإمكان أن يقال: إنّ كون مورد الآية من اُصول الدين لا يمنع عن الأخذ بدلالة إطلاقها على حجّيّة خبر الواحد في الأحكام؛ إذ لا يلزم من ذلك إخراج المورد كي لا يصحّ، وإنّما الثابت هو تقييد إطلاق المورد بأن يقيّد السؤال والقبول في المورد بخصوص فرض حصول العلم، وتبقى الآية في باب الأحكام على إطلاقها، فتثبت بذلك حجّيّة خبر الواحد في الأحكام.

ولكن الواقع أنّ هناك قرينة تعيّن المحذوف في المقام، وهي سياق الآية وتفريعها بالفاء على قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم﴾، فهذه قرينة على أنّ السؤال يكون عن هذا المطلب، وهو كون الرسل السابقين من جنس البشر وعدمه، دفعاً لكلام الخصم المنكر لرسالة الرسول(صلى الله عليه وآله) بحجّة كونه بشراً،

497

وبالنسبة لمثل هذا المورد لا مجال لحجّيّة خبر الواحد لنفس النكات الثلاث الماضية في الإشكال الرابع من إشكالات آية الكتمان.

وثالثاً: أنّ الظاهر أنّ المقصود بالذكر هو الرسالة والدين لا العلم، فإنّه كثيراً مّا يطلق في القرآن الكريم على الرسالة باعتبار كونها مذكّرة للإنسان نحو الطبائع الفطريّة الصحيحة التي اُجبل الإنسان عليها ونسيها بسبب البعد عن المنبّهات وعن عالم الإنسانيّة، وعلى الكتاب باعتبار تمثّل الرسالة فيه، وعلى الرسول باعتبار كونه حاملاً للرسالة، ولو تصفّحت في القرآن الكريم لوجدت موارد كثيرة ممّا استعمل فيها كلمة الذكر تناسب هذا المعنى الذي ذكرناه لا معنى العلم، كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون﴾(1). وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الاَْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون﴾(2). ولعلّ المقصود بقوله: ﴿مِن بَعْدِ الذِّكْر﴾ يعني من بعد التوراة باعتبار كون الزبور فرعاً لها. وقال تعالى: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾(3). وقال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾(4).

فإذا فسّرنا الذكر في آية السؤال بمعنى الرسالة كانت هذه قرينة اُخرى غير ما مضى في الإشكال الثاني على كون الآية واردة في أصل من اُصول الرسالة، وأنّه لا إطلاق فيها للأحكام، فإنّ المقصود بالخطاب مَن لا يعرف اُصول الرسالة ودلالته على السؤال عن أهل الذكر، أي: أهل الرسالة والكتاب العارفين باُصول الرسالة.

ولا أقلّ من أنّ ما ذكرناه: من المعنى للذكر، ليس بأبعد من تفسيره بالعلم، فإنّ


(1) سورة الحجر، الآية: 9.

(2) سورة الأنبياء، الآية: 105.

(3) سورة الأنبياء، الآية: 10.

(4) سورة النحل، الآية: 44.

498

تفسيره بالعلم لم يكن على أساس المعنى اللغويّ، وإنّما كان على أساس التوجيه بأنّ الذكر من التذكّر المستلزم للعلم، فاستعمل في العلم.

ورابعاً: أنّ المحتملات في قوله في ذيل الآية: ﴿إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون﴾عديدة:

الأوّل: أن يكون المقصود به مجرّد التعليق من قبيل: إن استطعت فحجّ، وعليه يتمّ الاستدلال بالآية بغضّ النظر عن باقي الإشكالات.

والثاني: أن يكون المقصود به ذكر أمد الحكم، أي: فاسألوا أهل الذكر إلى أن تعلموا، نظير قولك: إن لم تكن مجتهداً فادرس، أي: ادرس إلى أن تصبح مجتهداً. وعليه لا تدلّ الآية على المقصود كما هو واضح.

والثالث: أن يكون المقصود بيان غرض الحكم، وعندئذ تارةً يفسّر ذلك بالمعنى المصدريّ، أي: فاسألوا أهل الذكر لكي تعلموا، فلا تدلّ أيضاً على المقصود، واُخرى يفسّر ذلك بمعنى اسم المصدر، أي: فاسألوا لكي تكونوا عالمين، وعندئذ يمكن دعوى ظهور ذلك في أنّ مجرّد سماع الجواب يجعلكم عالمين ولو تعبّداً. وعليه تدلّ على المقصود.

وتعدّد الاحتمالات بعد أن لم يكن ما يساعد منها على المقصود أظهر من الباقي يكفي في سقوط الاستدلال بها.

وخامساً: ما عرفته في آيتي الكتمان والنفر من أنّ المحتمل الإيجاب مطلقاً حتّى مع عدم حصول العلم تحفّظاً على فروض حصول العلم؛ لأنّه قد يخطأ العبد ويتخيّل أنّ المورد ليس مورد حصول العلم، ولا توجد علامة تُعطى له لدفع هذا الخطأ والاشتباه(1).

 


(1) الآية الخامسة: آية الاُذن، وهي قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْر لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم﴾ سورة التوبة، الآية: 61.

499


وجه الاستدلال: أنّ الله تعالى مدح نبيّه(صلى الله عليه وآله) بإيمانه للمؤمنين، وهو بمعنى قبوله لنقلهم وتصديقه لهم، ولا مورد للمدح لولا الحجّيّة.

وقد أجاب السيّد الخوئيّ على الاستدلال بهذه الآية ـ بحسب ما جاء في مصباح الاُصول ـ بأنّه لا ملازمة بين تصديق المخبر والعمل بإخباره وترتيب الأثر عليه؛ إذ قد يراد من تصديقه عدم المبادرة إلى تكذيبه، وعدم نسبة الكذب إليه بالمواجهة، وهذا أمر أخلاقيّ دلّ عليه بعض الروايات ...

أقول: قد يعترض على هذا الكلام بأنّ الإيمان ظاهر في التصديق الحقيقيّ لا التصديق الأخلاقيّ، وللتخلّص من ذلك لابدّ من سلوك أحد طريقين: الأوّل: أن يدّعى أنّ التصديق الحقيقيّ غير محتمل في المقام، وإنّما المدّعى للمستدلّ هو التصديق التعبّديّ، ولم يعلم كونه أظهر من التصديق الأخلاقيّ. والثاني: إبراز القرينة من الآية على كون المقصود هو التصديق الأخلاقيّ، وهذا ما فعله الشيخ الأنصاريّ(رحمه الله)، فقد أبرز الشيخ الأنصاريّ(رحمه الله)قرينتين من الآية على ذلك:

إحداهما: قوله: ﴿أُذُنُ خَيْر لَّكُمْ﴾؛ إذ لو كان المقصود بذلك التصديق بمعنى ترتيب الآثار لما كان اُذن خير للجميع؛ إذ لو أخبره أحد بزنا أحد، أو شربه، أو قذفه، أو ارتداده، فقتله النبيّ(صلى الله عليه وآله)، أو جلده لم يكن في سماعه ذلك الخبر خير للمخبَر عنه، بل كان محض الشرّ له خصوصاً مع عدم صدور الفعل منه في الواقع. انتهى ما أوردنا نقله عن الشيخ(رحمه الله).

وقد يقول قائل: إنّ قوله: ﴿أُذُنُ خَيْر لَّكُمْ﴾ إنّما يدلّ على كونه اُذن خير للذينيسمعهم لا على كونه اُذن خير للجميع.

ولكن الواقع أنّ لسان الآية الظاهر في إبراز رحمة النبيّ وعطفه وحنانه لا يناسب فرض تصديق المخبر بالشكل الذي يوجب إنزال الغضب والعذاب على المخبَر عنه،

500

هذا تمام ما ينبغي أن يذكر في المقام: من الآيات التي استدلّ بها على حجّيّة خبر الواحد.

وقد ظهر بهذا العرض أنّه لا يوجد في القرآن الكريم في حدود فهمنا ما يدلّ على حجّيّة خبر الواحد.

 


وإنّما يناسب التصديق بمعناه الأخلاقيّ، ولعلّ هذا هو مقصود الشيخ الأعظم(رحمه الله)، بل إنّ لسان إبراز الرحمة والعطف لا علاقة له بالحجّيّة التعبّديّة.

والثانية: تكرار كلمة يؤمن، والاختلاف في حرف التعدية، حيث عدّاها إلى اسم الجلالة بالباء، وإلى المؤمنين باللام، فالتكرار، وكذا الاختلاف في حرف التعدية قرينة على اختلاف معنى الإيمان في الموردين.

ويرد عليه: أنّ هذا التكرار والاختلاف إنّما هو لأجل أنّ المقصود من الإيمان بالله هو الإيمان بذاته، والمقصود من الإيمان للمؤمنين هو تصديق كلامهم.

وممّا يؤيّد كون المقصود بالإيمان هو التصديق الأخلاقيّ ما قيل عن مورد نزول الآية: من أنّ الله تعالى أخبر نبيّه(صلى الله عليه وآله)بنميمة عبدالله بن نفيل على النبيّ، فعاتبه الرسول(صلى الله عليه وآله)، فحلف أنّه لم يفعل، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): قد قبلت منك. فاتّهم النبيّ(صلى الله عليه وآله)بأنّه اُذن.

وللشيخ الأعظم(رحمه الله) جواب آخر عن الاستدلال بالآية، وهو: أنّ الاُذن يعني سريع التصديق والاعتقاد بالصدق، لا القبول التعبّديّ.

ولعلّ مقصوده(رحمه الله) بهذا: أنّ الله تعالى مدح نبيّه(صلى الله عليه وآله) بتقمّصه ظاهراً قميص مَن هو سريع الاعتقاد، ويكفي في ذلك التصديق الأخلاقيّ، ولا علاقة للحجّيّة التعبّديّة بذلك، فهذا يرجع بروحه إلى قرينة اُخرى على كون المراد بالإيمان التصديق الأخلاقيّ. أمّا لو أردنا أن نأخذ بظاهر كلام الشيخ كي يصلح وجهاً مستقلاًّ للجواب في مقابل الحمل على التصديق الأخلاقيّ فهو واضح البطلان؛ إذ لا يعقل أن يكون النبيّ(صلى الله عليه وآله) سريع التصديق والاعتقاد بما يسمعه، ولا يعقل مدح الله تعالى إيّاه بذلك.

501

 

دلالة السنّة على حجّيّة الخبر

الثاني: السنّة. وقد ذكروا أنّه لابدّ في مقام الاستدلال على حجّيّة خبر الواحد بالسنّة من التمسّك بالتواتر لا بخبر الواحد؛ إذ الاستدلال بخبر الواحد على حجّيّة خبر الواحد مصادرة.

وقسّم المحقّق النائينيّ(قدس سره) التواتر بالتقسيم التقليديّ المتعارف: من أنّه إمّا لفظيّ، وإمّا معنويّ، وإمّا إجماليّ. وذكر ـ على ما نقل عنه تلميذه السيّد الاُستاذ ـ بأنّ اللفظيّ ما اتّفقت فيه الأخبار في اللفظ، والمعنويّ ما اتّفقت فيه في المعنى، والإجماليّ ما لم تتّفق فيه الأخبار لا في اللفظ ولا في المعنى.

ولا ندري أنّ مقصوده(قدس سره) ممّا فسّر به التواتر الإجماليّ ما يشمل فرض وجود قدر مشترك بين تلك الأخبار أو لا. ولعلّ ما سيأتي ـ من تعليق تلميذه الناقل عنه هذا الكلام على ما يقوله المحقّق النائينيّ من عدم إفادة التواتر الإجماليّ للقطع ـ يلقي ضوءاً على مقصود المحقّق النائينيّ، ويفيد أنّ فرض وجود قدر مشترك داخل في باب التواتر الإجماليّ(1).

 


(1) لا يخفى أنّ ما نقله السيّد الخوئيّ في أجود التقريرات عن اُستاذه المحقّق النائينيّ(رحمه الله)صريح في إدخال فرض وجود القدر المشترك بين الأخبار في التواتر المعنويّ، وتخصيص التواتر الإجماليّ بما إذا لم يكن قدر مشترك فيما بينها. وأمّا ما ورد في فوائد الاُصول للمحقّق الكاظميّ(رحمه الله) فهو يختلف تماماً عمّا في أجود التقريرات؛ إذ يدلّ على الإيمان بالتواتر الإجماليّ حيث يقول: «لا يتوهّم أنّ الأخبار الدالّة على حجّيّة خبر الواحد من أخبار الآحاد، فلا يصحّ الاستدلال بها على حجّيّته، فإنّها لو لم تكن أغلب طوائفها متواترة معنىً فلا إشكال في أنّ مجموعها متواتر إجمالاً؛ للعلم بصدور