398

عن رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) وهي الرواية الثالثة من روايات المنع الماضية قد لا تقبل الحمل على التقيّة؛ لأنّ النقل انتهى إلى رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) بناءً على تفسير الترجيح بمخالفة العامّة بمعنى حمل الموافق على التقيّة لا على الكذب، أو على الجامع بين الكذب والتقيّة. إلا أنّ هذه الرواية _ على أيّ حال _ ساقطة سنداً.

وقد اتّضح بكلّ ما ذكرناه: أنّ روايات نفوذ شهادة المملوك تُقدّم على روايات المنع.

دراسة التفاصيل في المسألة

بقيت علينا بعد ذلك دراسة التفاصيل التي ذكرت في المقام، وأوّل تفصيل ندرسُهُ في المقام: هو ما نسب إلى مشهور الإماميّة من التفصيل بين الشهادة على المولى فهي غير نافذة وغير الشهادة على المولى فهي نافذة. وقد يستدلّ على ذلك بعدّة وجوه:

1_ الإجماع: وهو لا يفيد شيئاً، لكونه منقولاً، وقد نُسب الخلافُ إلى جماعة، وهو محتمل المدركيّة على أقلّ تقدير.

2_ القياس بالولد _ على حدّ تعبير السيد الخوئي في مباني المنهاج(1)_: بناءً على عدم نفوذ شهادته على أبيه، وقد أورد عليه السيد الخوئي بأنّه قياس لا نقبل به، مع أنّنا لا نقبل بالمقيس عليه.

أقول: عدم القبول بالمقيس عليه صحيح، أمّا إشكال القياس فلا يرد على مثل تعبير صاحب الجواهر الذي ذكر: أنّ شهادة العبد على مولاه أولى بعدم القبول من شهادة الابن على أبيه بناءً على أنّ المنع فيه للعقوق(2). فهذا _ كما ترى _ استدلال


(1) ج1، ص106

(2) الجواهر، ج41، ص92.

399

في باب المملوك بعين الدليل المستدلّ به في باب الولد، فإشكاله ينحصر بإبطال ذاك الدليل.

3_ ما عن الحلبي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) في رجل مات، وترك جاريةً ومملوكين، فورثهما أخ له، فأعتق العبدين، وولدت الجارية غلاماً، فشهدا بعد العتق أنّ مولاهما كان أشهدهما أنّه كان يقع على الجارية، وأنّ الحمل منه، قال: «تجوز شهادتهما ويردّان عبدين كما كانا»(1).

وينبغي أن يكون وجه الاستدلال: أنّ الحديث ورد في مورد الشهادة على من كان مولاه بظاهر الشرع _ لولا نفوذ الشهادة _ وهو أخو الميّت، وقد دلّ في هذا المورد على أنّ نفوذ الشهادة مشروط بأن تكون بعد العتق، وبه تقيّد إطلاقات نفوذ شهادة العبد؛ فالنتيجة هي التفصيل بين شهادة العبد على مولاه فلا تنفذ وشهادته لا على مولاه فتنفذ.

وأورد عليه في الجواهر: بأنّ قيد العتق مذكور في مفروض السائل، وبأنّ مفهوم الوصف غير حجّة، ولذا جعل الحديث من مؤيّدات رأي المشهور، لا دليلاً عليه.

أقول: إشكال مفهوم الوصف غير وارد، فإنّ ذكر الوصف عند عدم وجود نكتة عقلائيّة أُخرى له يدل على السلب الجزئي، وبما أنّا لا نحتمل الفرق فيما بين موارد الشهادة على المولى، فلا محالة يدل الحديث على عدم نفوذ الشهادة على المولى مطلقاً، إلا أنّ الإشكال الأول وارد، مضافاً إلى ضعف سند الحديث بسند الشيخ إلى أبي عبداللّه البزوفري، فإنّ سنده إليه في المشيخة عبارة عن أحمد بن عبدون والحسين بن عبيداللّه الغضائري، ولا دليل على وثاقتهما، وإن كانا من مشايخ


(1) وسائل الشيعة ، ج18، ص255، الباب23 من الشهادات، ح7.

400

النجاشي حسب ما هو المختار من عدم الدليل على وثاقة كلّ من هو من مشايخ النجاشي.

نعم، ذكر الشيخ في رجاله: «أخبرنا عنه _ يعني عن البزوفري _ جماعة منهم محمد بن محمد بن النعمان والحسين بن عبيداللّه وأحمد بن عبدون»، لكن هذا _ كما ترى _ لا يدل على أنّ كلّ ما أخبره عنه الغضائري وأحمد بن عبدون فقد أخبره عنه المفيد أيضاً كما هو واضح.

4_ أنّه لا يُقبل إقرار العبد على نفسه باعتباره إقراراً على المولى. وأورد عليه السيد الخوئي(1) بأنّه لا ربط لباب الإقرار بباب الشهادة، فعدم نفوذ الإقرار على نفسه باعتبار أنّه إقرار بحقّ غيره، ودليل حجّية الإقرار لا يشمل مثله. وهذا بخلاف دليل حجّية الشهادة.

أقول: إنّ صاحب الجواهر إنّما ذكر هذا الوجه كتأييد أو دليل بدعوى: أنّ الإقرار على المولى شهادة عليه، ولا قائل بالفصل بين شهادةٍ على المولى تكون في نفس الوقت إقراراً على النفس وشهادة على المولى لا تكون كذلك(2).

الجواب: أنّ الفصل بين شهادةٍ على المولى تكون في نفس الوقت إقراراً على النفس وشهادةٍ على المولى لا تكون كذلك لا مبرّر له، ولكن هذا لا يعني عدم نفوذ شهادة العبد على المولى، فالقول بعدم نفوذ شهادة إقراره لكونه إقراراً على المولى يعني أنّه بما هو إقرار وبمجرد تماميّة شرط نفوذ الإقرار _ وهو العقل _ لا ينفذ. أمّا لو نفذ عندما تتمّ فيه شروط نفوذ الشهادة من التعدّد والعدالة، فهذا لا ينافي القول بعدم نفوذ إقرار


(1) راجع مباني تكملة المنهاج، ج1، ص107.

(2) الجواهر، ج41، ص93.

401

العبد لكونه إقراراً على المولى.

5_ الجمع بين روايات المنع وروايات النفوذ يكون بالتفصيل الذي اختاره المشهور.

وهذا كما ترى جمع تبرّعي لا قيمة له.

6_ ما عن كنز العرفان ممّا يستفاد منه وجود حديث بهذا المضمون؛ حيث قال: «بناءً على نقل الجواهر: واختلف في شهادة العبد...» إلى أن قال: «وعن أهل البيت (عليهم السلام) روايات أشهرها وأقواها القبول إلا على سيّده خاصّة»(1).

وهذا لو سلّم كونه رواية وليس استنباطاً له من الروايات، فهو مرسل لا قيمة له.

7_ ما مضى من حديث درع طلحة، وهو الحديث الرابع من أحاديث نفوذ شهادة العبد، فقد يقال: إنّ هذا الحديث صريح في نفوذ شهادة العبد على غير مولاه؛ لأنّ آخذ الدرع لم يكن هو مولىً لقنبر، ومقتضى الجمع بينه وبين روايات عدم النفوذ هو تخصيص عدم النفوذ بفرض الشهادة على المولى حملاً للمطلق على المقيّد. وبالإمكان جعل هذا الوجه توجيهاً للوجه الخامس، وإخراجاً له عن كونه جمعاً تبرّعيّاً.

ويرد عليه: أوّلاً _ أنّ حديث درع طلحة من الروايات الدالّة على نفوذ شهادة العبد على الإطلاق حيث جاء فيه: «وما بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلاً».

نعم، مورده هو الشهادة على غير المولى، والمورد لا يخصِّص الوارد، ومجرّد كونه قدراً متيقّناً لا يخرج الجمع عن كونه جمعاً تبرّعيّاً.

وثانياً _ أنّ تقييد روايات عدم النفوذ بالشهادة على المولى تقييد بفرد نادر، وهو غير عرفي.


(1) نفس المصدر، ص92.

402

والتفصيل الثاني _ هو عكس تفصيل المشهور، وهو القول بنفوذ شهادة العبد على مولاه وعدم نفوذها في غير ذلك، وهو الذي قال عنه صاحب الجواهر: «إنّه لم نعرف قائله».

وما يمكن جعله دليلاً على هذا الوجه دعوى الجمع بين الروايات المتعارضة بهذا التفصيل.

ويرد عليه: أوّلاً _ أنّه جمع تبرّعي لا مبرّر له.

وثانياً _ أنّ تخصيص روايات نفوذ الشهادة _ على فرض كونها شهادة على مولاه _ تخصيص بالفرد النادر.

وثالثاً _ أنّ رواية درع طلحة لا تقبل هذا الحمل. فإنّ الإمام (عليه السلام) طبّق قاعدة نفوذ شهادة العبد على شهادته على غير مولاه.

والتفصيل الثالث _ هو القول بنفوذ الشهادة على الكافر والعبد دون المسلم الحرّ، ويحتمل أن لا يكون هذا تفصيلاً في مقابل القول بعدم النفوذ مطلقاً، بأن يُقال: إنّ القول بعدم النفوذ مطلقاً لا يقصد أكثر من ذلك، سنخ أنّ القول بشرط الإسلام في الشاهد لا يعني عدم نفوذ شهادة الكافر بشأن من هو من أهل مذهبه.

وعلى أيّ حال فالدليل على هذا التفصيل وجهان:

الأول _ روايات عدم نفوذ شهادة العبد بدعوى أنّه لا يفهم منها أكثر من عدم النفوذ على الحرّ المسلم، كما لا يفهم من دليل شرط الإسلام أكثر من عدم نفوذ شهادة الكافر على المسلم أو على غير من هو من أهل مذهبه، وعندئذٍ تقدّم هذه الروايات على روايات نفوذ شهادة العبد بالأخصّيّة.

والجواب: أنّ تخصيص روايات النفوذ بفرض الشهادة على الكافر أو العبد غير عرفي، وبالتالي يكون التعارض بحكم التعارض التبايني، فلا مجال إلا لما مضى من

403

الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامّة.

والثاني _ الأخبار الخاصّة في المقام وهي ثلاثة:

1_ ما مضى من رواية محمد بن مسلم(1) من قوله: «لا تجوز شهادة العبد المسلم على الحرّ المسلم». بناءً على كونها غير روايته التي عبّر فيها بـ «تجوز» لا أنّها من اختلاف النسخ.

وردّ الاستدلال بذلك بعدم حجّية مفهوم الوصف غير صحيح؛ لأنّ الوصف يدل على السلب الجزئي، ولا نحتمل الفرق بين موارد الشهادة على الكافر أو موارد الشهادة على العبد.

2_ ما مضى أيضاً من رواية محمد بن مسلم(2): «تجوز شهادة المملوك من أهل القبلة على أهل الكتاب، وقال: العبد المملوك لا تجوز شهادته». وهذه الرواية لو كانت وحدها فهي أخصّ من المدّعى؛ إذ لم تدل على جواز شهادة العبد على العبد.

3_ ما مضى أيضاً من المرسل(3) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) «أنّه كان يقبل شهادة بعضهم على بعض، ولا يقبل شهادتهم على الأحرار» وقد يتعدّى من شهادة بعضهم على بعض إلى شهادتهم على الكفار بالأولويّة.

والجواب على الاستدلال بهذه الروايات _ مع غضّ النظر عمّا قد يُقال في الرواية الأُولى من حملها على اختلاف النسخ، وفي الثانية من كونها أخصّ من المدّعى، وفي الثالثة من سقوطها سنداً _ أنّ هذه الروايات معارضة لروايات نفوذ شهادة العبد، ولا يمكن تقديمها عليها بالأخصّية؛ لعدم عرفيّة حمل تلك الروايات على


(1) وهي الرواية الرابعة من روايات عدم نفوذ شهادة العبد، فراجع.

(2) وهي الرواية الخامسة من روايات عدم نفوذ شهادة العبد، فراجع.

(3) وهي الرواية السادسة من روايات عدم نفوذ شهادة العبد، فراجع.

404

خصوص الشهادة بشأن الكافر أو العبد، والتعارض بحكم التعارض التبايني، على أنّ رواية درع طلحة لا يمكن حملها على هذا المحمل، وكذلك رواية محمد بن مسلم غير المشتملة على كلمة «لا»؛ بناءً على كونها رواية مستقلة، لا من باب اختلاف النسخ. إذاً لا مجال إلا لإسقاط روايات عدم نفوذ الشهادة بشأن الحرّ المسلم بمخالفتها لإطلاق الكتاب وموافقتها للعامّة.

والتفصيل الرابع _ هو القول بنفوذ شهادة العبد إلا لمولاه وعلى مولاه. والدليل على ذلك: إمّا هو الجمع بين الروايات المتعارضة نفياً وإثباتاً، وهذا جمع تبرّعي لا قيمة له. أو الجمع بين دليل التفصيل الثاني ودليل التفصيل الخامس، وقد مضى ما في الدليل على التفصيل الثاني، وسيأتي البحث عن التفصيل الخامس إن شاء اللّه.

والتفصيل الخامس _ هو نفوذ شهادة العبد إلا لمولاه. ومن المحتمل أن لا يكون هذا تفصيلاً في مقابل القول بنفوذ شهادة العبد مطلقاً، وذلك بأن يقصد بالاستثناء عدم نفوذ شهادته لمولاه لفقدان شرط آخر، وهو عدم التهمة، فلا منافاة بين القول بنفوذ شهادة العبد مطلقاً وعدم نفوذ شهادته لمولاه، كما لا منافاة بين القول بنفوذ شهادة العبد مطلقاً وعدم نفوذ شهادته إذا كان فاسقاً مثلاً.

وعلى أيّ حال فيمكن الاستدلال على هذا التفصيل بوجهين:

الأول _ الروايات الخاصّة، وهي كما يلي:

1_ ما عن ابن أبي يعفور عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن الرجل المملوك تجوز شهادته لغير مواليه؟ قال: تجوز في الدين والشيء اليسير»(1). فتخصيص الحكم بالدين والشيء اليسير قد يحمل على التقيّة مثلاً، ولكن محل الشاهد في المقام هو


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص255، الباب 23 من الشهادات، ح8.

405

تخصيص السؤال بما إذا كانت الشهادة لغير مواليه، فكأنّه كان من المسلّم أنّ الشهادة لمواليه غير نافذة، ولا يحتمل العكس بأن يفرض أنّ من المسلّم أنّ شهادته لمواليه نافذة وأنّ الشكّ وقع في الشهادة لغير مواليه؛ إذ لو كان حكم الشهادة للمولى مسلّماً _ دون الشهادة لغير المولى _ فإنّما هو الحكم بعدم النفوذ للتهمة _ مثلاً _ لا الحكم بالنفوذ.

وأمّا الإيراد على الاستدلال بالحديث بعدم حجّية مفهوم الوصف فغير وارد؛ لما حقّقناه في الأصول من أنّ الوصف إذا لم تكن نكتة عقلائية أُخرى لِذكره يدل على السلب الجزئي. وحينما لا نحتمل الفرق بين موارد انتفائه يتمّ لا محالة السلب الكلّي.

كما أنّ الإيراد عليه بما ذكره السيد الخوئي (رحمه الله) في مباني التكملة(1)_ من أنّ السؤال إنّما هو عن الشهادة لغير الموالي، ولا مفهوم له _ قابل للنقاش، سواء كان هذا الكلام ناظراً ضمناً إلى نفي مفهوم الوصف الذي عرفت جوابه، أو ناظراً فقط إلى أنّ القيد إنّما جاء في لسان السائل، لا في لسان الإمام، وذلك لأنّ كلام السائل لم يكن ناظراً إلى قضيّة شخصيّة كي يُقال: إنّها قضيّة في واقعة، بل هو ناظر إلى القضيّة الكلّية الفرضيّة، أي: السؤال عن شهادة المملوك لغير مواليه بنحو القضيّة الحقيقيّة. ومن الواضح أنّ قيد كون الشهادة لغير مواليه في القضيّة الحقيقيّة يوحي إلى أنّه كان من المسلّم عند السائل عدم نفوذ شهادته لمواليه، والإمام (عليه السلام) لم يردع عن ذلك، وهو دليل الإمضاء.

2_ الحديث الثاني من أحاديث المنع الماضية، وهو ما عن سماعة _ بسند تام _ قال: «سألته عمّا يردّ من الشهود قال: المريب، والخصم، والشريك، ودافع مغرم،


(1) ج 1 ، ص105.

406

والأجير، والعبد، والتابع، والمتّهم كلّ هؤلاء تردّ شهادتهم»؛ بناءً على حمله _ بقرينة السياق _ على فرض التهمة، وهو فرض شهادته لمولاه.

3_ ما مضى في الحديث الثامن من أحاديث المنع من قوله (عليه السلام): «وإن أُعتق لموضع الشهادة لم تجز شهادته»؛ بناءً على أنّ الرواية ناظرة إلى الشهادة للمولى، فإنّ العتق لموضع الشهادة إنّما يكون عادةً في حالة من هذا القبيل.

فإذا قيّد إطلاق روايات نفوذ شهادة العبد _ لو تمّ لها إطلاق لشهادة العبد لمولاه _ ببعض هذه الروايات، ثبت التفصيل بين شهادة العبد لمولاه وشهادته لغير مولاه بالنفوذ في الثانية دون الأُولى.

والثاني _ مطلق الروايات الدالّة على مانعيّة التهمة؛ حيث إنّ التّهمة في شهادة العبد لمولاه ليست بأقلّ من التّهمة في مثل التابع والقانع والأجير من العناوين الواردة في تلك الروايات، وقد استفدنا نحن _ فيما مضى _ من تلك الروايات قاعدةً عامّةً، وهي منع نفوذ الشهادة في موارد التّهمة التي تكون من مستوى هذه العناوين، فإذا ضمّ ذلك إلى روايات نفوذ شهادة العبد الدالّة على أنّ مجرّد العبوديّة لا يمنع عن نفوذ الشهادة، ثبت التفصيل بين شهادة العبد لمولاه فلا تنفذ، وشهادته لغير مولاه فتنفذ.

وقد يُقال: إنّ حديث درع طلحة(1)_ وهو الحديث الرابع من أحاديث نفوذ شهادة العبد _ يدل بالنصوصيّة على نفوذ شهادته لمولاه، وذلك لأنّ مورده هو شهادة قنبر لصالح كلام مولاه، وهو أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي ادّعى على عبداللّه بن قفل التميمي أنّه أخذ درع طلحة غلولاً.

ولكنّ هذا الحديث إنّما دلّ على نفوذ شهادة العبد لمولاه حينما لا يكون المولى


(1) وسائل الشيعة، ج18، الباب 14 من كيفية الحكم، ح6.

407

مدّعياً لشيء يرجع إليه ربحه، وإن شئت فقل: إنّ عدم نفوذ شهادة العبد لإثبات دعوى علي (عليه السلام) لا يضرّ بصحّة حكم القاضي على عبداللّه بن قفل لصالح طلحة؛ إذ غاية ما يفترض في المقام أنّ دعوى علي (عليه السلام) ساقطة؛ لأنّ أحد شاهديه مملوك، فكأنّه لم يكن علي (عليه السلام) بوصفه ولي الغائب أو بوصفه وليّاً على المسلمين مدّعياً من قبل المولّى عليه وهو طلحة، ولكن قد قامت بيّنة على أنّ هذه درع طلحة وليس أحد فردي البيّنة عبداً لطلحة، فلابدّ من تنفيذ القاضي لهذه البيّنة حتى بغضّ النظر عن دعوى علي (عليه السلام).

بقي شيء: وهو أنّه لو فرض صدفةً أنّ العبد لم تكن شهادته لمولاه موضعاً للتّهمة، كما لو كان _ مثلاً _ له عداء للمولى، بحيث يُخرج شهادته عن موضع التهمة، أو كان من الزهد والتقوى والموضوعيّة بمستوىً لا يبقى معه موضع للتهمة، فهل تنفذ شهادته على مولاه، أو لا؟

التحقيق: أنّه لو استظهرنا من روايات شرط عدم التهمة أنّ المقياس هي التهمة النوعيّة في مثل الخادم والتابع والقانع مع أهل البيت _ ولو فرض صفة عدم التهمة الفعليّة _ فهنا أيضاً لا إشكال في عدم نفوذ شهادة العبد رغم فرض انتفاء التهمة الفعليّة.

أمّا لو استظهرنا من تلك الروايات أنّ المقياس هي التهمة الفعليّة لا النوعية، فلو فرض خادم أو تابع انتفت التهمة الفعلية بالنسبة إليه _ صدفةً بسبب ما _ نفذت شهادته، فقد يقال بخصوص العبد: إنّ شهادته لمولاه لا تنفذ حتى مع ارتفاع التهمة الفعلية؛ لأنّ الدليل على عدم نفوذ شهادته لم يكن منحصراً في روايات التهمة، بل كانت هناك روايات خاصّة يستدلّ بها على ذلك، وهي الروايات الثلاث التي أشرنا إليها.

ولكنّ الواقع أنّنا لو فرضنا عدم الإطلاق في روايات التهمة لفرض انتفاء التهمة الفعلية،

408

أو أنّ إطلاقها مقيّد بما مضى عن ابن خالد الصيرفي عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام)، فهذه الروايات الثلاث لا تشفع لإطلاق الحكم لهذا الفرض:

أمّا الرواية الأُولى _ وهي رواية ابن أبي يعفور _ فدلالتها كانت بمثل مفهوم الوصف، والوصف كما أشرنا إليه لا يدل على أكثر من السلب الجزئي عند احتمال الفرق بين مورد ومورد، ولا إشكال في احتمال الفرق بين مورد ثبوت التهمة الفعلية ومورد عدم ثبوتها.

وأمّا الرواية الثانية _ وهي رواية سماعة _ فلو حُملت على النظر إلى خصوص فرض شهادة العبد لمولاه، فإنّما حُملت على ذلك لورود ذكر العبد في سياق العناوين الموجبة للاتّهام بدعوى أنّ وحدة السياق توجب حمل المنع عن نفوذ شهادة العبد على نكتة الاتّهام، والمفروض أنّ روايات الاتّهام لا إطلاق لها لفرض زوال الاتّهام الفعلي، إذاً هذه الرواية لا إطلاق لها لهذا الفرض.

وأمّا الرواية الثالثة _ وهي قوله: «وإن أُعتق لموضع الشهادة لم تجز شهادته» _ فبعد فرض حملها على الشهادة لمولاه تنصرف _ لا محالة _ إلى النكتة العقلائيّة الكامنة في هذا المورد، وهي الاتّهام، كصرف الروايات الخاصّة الواردة في العناوين الأُخرى المشتملة على الاتّهام _ كالتابع والأجير والقانع مع أهل البيت _ إلى نكتة الاتّهام، فهذه الرواية حالها حال باقي روايات مانعيّة الاتّهام المفروض عدم الاطلاق لها لحالة انتفاء الاتّهام الفعلي صدفةً.

ثم إنّ السيد الخوئي ذكر: أنّ هناك روايات دلّت على اختصاص قبول شهادة العبد بموارد خاصّة، فهي لو تمّت، كانت شاهد جمع بين الطائفتين الدالّة إحداهما على نفوذ شهادته مطلقاً والأُخرى على عدم نفوذها مطلقاً، ولكنّها غير تامّة، وذكر تحت هذا العنوان ثلاث طوائف:

409

1_ ما دلّ على استثناء الدين والشيء اليسير من عدم نفوذ الشهادة، وهو ما مضى من حديث ابن أبي يعفور(1).

2_ ما دلّ على استثناء الشهادة على القتل، وهو ما ورد عن جميل _ بسند تام _ قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن المكاتب تجوز شهادته؟ فقال: في القتل وحده»(1). واعترف بالنسبة لهذا القسم بأنّه حتى لو تمّ في نفسه لا يصلح شاهد جمع بين الطائفتين المتعارضتين بالتباين؛ لأنّ تخصيص ما دلّ على نفوذ الشهادة بخصوص الشهادة على القتل تخصيصٌ بالفرد النادر، وهو غير عرفي.

3_ ما دلّ على استثناء شهادته على أهل الكتاب، أو تخصيص عدم الجواز بالشهادة على الحرّ المسلم؛ فذكر رواية محمد بن مسلم على نسخة (لا تجوز) وروايته الأُخرى «تجوز شهادة المملوك من أهل القبلة على أهل الكتاب. وقال: العبد المملوك لا تجوز شهادته».

وأورد على الطائفة الأُولى والثانية: بأنّه لا قائل بمضمونهما، فلابد من حملهما على التقيّة، وبأنّه تعارضهما رواية درع طلحة التي ليست الشهادة فيها على الدين ولا الشيء اليسير ولا القتل، فلابدّ من حمل‏هاتين الروايتين على التقيّة، وأورد على الطائفة الثالثة بأنّها معارضة برواية درع طلحة التي كانت الشهادة فيها على الحرّ المسلم، وبرواية محمد بن مسلم الأُخرى التي جاء فيها التعبير بكلمة (تجوز). وعلى تقدير تسليم اختلاف نسخ الفقيه في كلمة (تجوز) أو (لا تجوز) تكفي نسخة التهذيب


(1) ونحوه في استثناء اليسير ما ورد _ بسند تام _ عن عبيد بن زرارة رواه في وسائل الشيعة، ج 18، الباب 22 من الشهادات، ح5، قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن شهادة الصبي والمملوك، فقال: على قدرها يوم أُشهد تجوز في الأمر الدون، ولا تجوز في الأمر الكبير».

(2) وسائل الشيعة، ج18، ص256، الباب 23 من الشهادات، ح9.

410

التي جاء فيها التعبير بكلمة تجوز(1).

أقول: مسألة كون كلمة (تجوز) أو (لا تجوز) من اختلاف النسخ في كتاب واحد أو كتابين قد مضى الحديث عنه، فلا نكرّره، أمّا الإيراد بعدم وجود قائل بمضمون الطائفة الأُولى والثانية فتحملان على التقيّة فغير دقيق؛ لأنّ الإجماع على خلاف مضمونهما ليس إجماعاً تعبّديّاً، ولا مبرِّراً للحمل على التقيّة.

نعم، قد تُشكِّل _ ولو بإضافة الروايات غير المشتملة على هذا الاستثناء _ قرينة عقلائيّة عند متعارف الناس على عدم مطابقة الاستثناء للواقع، فلو وصل ذلك إلى مستوى الاطمئنان أو قلنا بأن القرينة العقلائيّة على الخلاف يسقط الخبر عن الحجية، أوجب ذلك في المقام سقوط حديث الاستثناء عن الحجّية.

وأمّا الطائفة الثالثة فلا تصلح للجمع بين المطلقين المتعارضين حتى لو تمّت في نفسها؛ لأنّ حمل روايات نفوذ الشهادة على خصوص الشهادة على الكفّار أو العبيد ليس عرفيّاً، فتعارض هذه الطائفة وتلك الروايات يكون كالتعارض التبايني، وتحمل على التقيّة.

وقد تحصّل من كلّ ما ذكرناه: أنّ الصحيح نفوذ شهادة العبد إلا لمولاه.

طهارة المولد

الشرط السابع _ طهارة المولد أو عدم كونه ولد الزنا. وتدل على ذلك عدّة روايات من قبيل:

1_¬ ما عن أبي بصير _ بسند تام _ قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن ولد الزنا أتجوز


(1) راجع مباني تكملة المنهاج، ج1، ص105 _ 106 .

411

شهادته؟ فقال: لا. فقلت: إنّ الحكم بن عتيبة يزعم أنّها تجوز، فقال: اللّهم لا تغفر ذنبه»(1). وللحديث بعض التكملات التي لم تثبت بسند تام(2).

2_¬ ما عن محمد بن مسلم _ بسند تام _ قال: «قال أبو عبداللّه (عليه السلام): لا تجوز شهادة ولد الزنا»(3).

3_¬ ما عن زرارة _ بسند تام _ قال: «سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لو أنّ أربعة شهدوا عندي بالزنا على رجل وفيهم ولد زنا، لحددتهم جميعاً؛ لأنّه لا تجوز شهادته، ولا يؤمّ الناس»(4).

4_¬ ما عن الحلبي _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن شهادة ولد الزنا، فقال: لا، ولا عبد»(5). كون ذيله محمولاً على التقيّة لا يضرّ بصدره.

5_ مرسلة العياشي عن عبيداللّه الحلبي عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «ينبغي لولد الزنا أن لا تجوز له شهادته، ولا يؤمّ بالناس، لم يحمله نوح في السفينة وقد حمل فيها الكلب والخنزير»(6).

6_ مرسلة العياشي عن إبراهيم عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إنّ نوحاً حمل الكلب في السفينة، ولم يحمل ولد الزنا»(7). ذكر صاحب الوسائل هذا الحديث في أحاديث


(1) راجع وسائل الشيعة، ج18، ص276، الباب 31 من الشهادات، ح1 و2، وذيل حديث3.

(2) نفس المصدر.

(3) نفس المصدر، ص276، الباب 31 من الشهادات، ح3.

(4) نفس المصدر، ح4.

(5) نفس المصدر، ص277، ح6.

(6) نفس المصدر، ح9.

(7) نفس المصدر، ح10.

412

الباب. ولعلّه بنكتة أنّ فرضه أتعس من الكلب يدل على عدم قبول شهادته.

والحديثان الأخيران _ إضافةً إلى سقوطهما سنداً _ مشتملان على مضمون يبدو لأوّل وهلة أنّه خلاف ما هو مسلّم من الكتاب والسنّة والعقل وإجماع العدلية من أنّه لا تزر وازرةٌ وزر أُخرى، إلا أن يُحملا على إرادة قضية خارجيّة غالبيّة، وهي انحراف ولد الزنا عن طريق الحقّ عادةً، وعليه يفقد الحديث الأخير دلالته على عدم نفوذ شهادة ولد الزنا لو كان عدلاً.

وفي مقابل هذه الروايات روايتان:

الأُولى _ تدل على نفوذ شهادة ولد الزنا، وهي ما عن عبداللّه بن جعفر في قرب الإسناد عن عبداللّه بن الحسن عن علي بن جعفر عن أخيه قال: «سألته عن ولد الزنا هل تجوز شهادته؟ قال: نعم، يجوز شهادته، ولا يؤمّ»(1)، ولا يمكن الجمع بين هذه الرواية وما مضى، بحمل ما مضى على الكراهة سنخ حمل كلّ نهي على الكراهة حينما يعارض ورود الترخيص؛ لأنّ الحكم في المقام كان وضعيّاً ولم يكن تكليفيّاً.

ويمكن الإيراد على التمسّك بهذه الرواية من عدّة وجوه:

1_ ضعف سندها بعبداللّه بن الحسن الذي لم تثبت وثاقته.

2_ كونها محمولةً على التقيّة كما في الوسائل، وجاء في مباني تكملة المنهاج:(2)_ على تقدير تسليم صحّة السند _ أنّه لابدّ من حملها على التقيّة.

أقول: إنّ الترجيح بموافقة الكتاب يكون قبل الترجيح بمخالفة العامّة، فلو تمّ سند هذا الحديث، وانحصر الأمر بالترجيح، تعيّن ترجيح هذا الحديث الموافق لإطلاقات


(1) وسائل الشيعة، ج18، الباب 31 من الشهادات، ص277، ح7.

(2) ج 1، ص110.

413

الكتاب على أحاديث المنع عن نفوذ شهادته.

3_ دعوى أنّ قيام ما يشبه الإجماع لدى الإماميّة على عدم نفوذ شهادة ولد الزنا منضمّاً إلى الروايات العديدة الصحيحة الدالّة على ذلك يشكّل قرينةً عرفيّةً عقلائيّةً على خطأ هذا الحديث، فلو بنينا في علم الأصول على كون ذلك مسقطاً للسند عن الحجّية سقط الحديث هنا عن الحجّية، وإلا لم يسقط بذلك عن الحجّية إلا إذا فرضنا القرينة بالغة مستوى حصول الاطمئنان.

4_ إنّ نفس الحديث رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه، إلا أنّه قال: «لا يجوز شهادته، ولا يؤمّ»(1). فبناءً على دعوى الاطمئنان بوحدة الحديث يدخل ذلك في باب اختلاف النسخ، ونسخة كتاب علي بن جعفر أولى بالصحّة. وعلى أيّ حال فمع فرض اختلاف النسخ يسقط الحديث عن الحجّية.

والثانية _ ما ورد _ بسند تام _ إلى أبان عن عيسى بن عبداللّه قال: «سألت أبا عبداللّه (عليه السلام) عن شهادة ولد الزنا، فقال: لا تجوز إلا في الشيء اليسير إذا رأيت منه صلاحاً»(2). وعن الشيخ وابن حمزة الإفتاء بذلك.

وقد حمل صاحب الوسائل الحديث على التقيّة، بينما مقتضى الفنّ _ لو تم الحديث _ تقديمه على روايات المنع بالأخصّية.

وجاء في مباني تكملة المنهاج(3) الإيراد على الاستدلال بالحديث بأنّ الشيء اليسير والكثير ليس لهما واقع محفوظ، بل هما أمران إضافيّان، ويختلفان باختلاف الزمان والمكان.


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص277، الباب 31 من الشهادات، ح8.

(2) نفس المصدر، ح 5.

(3) ج 1 ، ص110 .

414

أقول: إنّهما عنوانان عرفيّان، وهناك ما يتيقّن بأنّه عند العرف يعتبر يسيراً أو كثيراً حسب اكتراث العقلاء به وعدمه، ولا يضرّ اختلاف تطبيق الحكم باختلاف الزمان والمكان، وهناك بعض المصاديق المشكوك كونه من اليسير أو الكثير، وهذا لا يضرّ بحجّية الحديث في غير المصاديق المشكوكة، فشأن عنوان اليسير والكثير هو شأن سائر المفاهيم العرفيّة التي توجد لها مصاديق مشكوكة.

وعن بعض الأصحاب الاستشكال في سند الحديث من حيث تردّد عبداللّه بن عيسى بين الأشعري الثقة والهاشمي الذي لم تثبت وثاقته.

وأجاب عليه السيد الخوئي(1) بأنّ رواية أبان عنه قرينة على كون المقصود هو الأشعري.

أقول: إنّ الشهرة القائمة على خلاف التفصيل الوارد في هذا الحديث منضمة إلى الإطلاقات الصحيحة سنداً قد تشكّل قرينةً عرفيّةً عقلائيّةً على خطأ هذا الحديث ممّا يسقطه عن الحجّية على بعض المباني. أما إذا لم نبن على ذلك فهذا لا يضرّ بحجّية السند إلا إذا بلغت القرينة مستوىً يورث الاطمئنان بالبطلان.

حالة الشك في طهارة المولد

بقي الكلام فيما لو شككنا في طهارة مولد الشاهد، وقد يستدل على قبول شهادته بوجوه:

1_ التمسّك بالعمومات والإطلاقات كما في الجواهر(2).

وفيه: أنّه تمسّكٌ بالعامّ في الشبهة المصداقية، ولعلّه سدّاً لهذا النقص ذكر في


(1) في مباني تكملة المنهاج، ج1، ص110.

(2) ج41 ، ص121.

415

الجواهر في آخر كلامه: أنّ النهي الوارد على طريق المانعيّة ظاهر في اختصاصه بالمعلوم دون المشكوك(1).

ويرد عليه: أنّه لا فرق بين ورود النهي على طريق مانعيّة خبث المولد أو على طريق شرطيّة طهارة المولد في أنّ ظاهر الكلام كون موضوع الحكم هو العنوان المفروض في الكلام بوجوده الواقعي، لا بقيد العلم، وأمّا إن كان المقصود التمسّك بقاعدة المقتضي والمانع، فقد حقّق في الأصول في محله بطلان هذه القاعدة.

2_ دعوى الإجماع، ولو ثبت لم يثبت كونه تعبديّاً، ولا يفيد العلم.

3_ قيام سيرة المتشرّعة على عدم الفحص عن حال الشاهد من حيث المولد، والفحص عن ذلك أمر يجلب النظر، ولو كان فيما سبق لَنُقل وبان، ولعلّ المقصود من الأصل في قوله في الجواهر: «هذا إن لم نقل بظهور أصل شرعي في الحكم بطهارة مولد كلّ من لم يعلم أنّه ابن زنا»(2) هو الأصل المستفاد من سيرة من هذا القبيل.

إلا أنّ من المحتمل كون السيرة معتمدةً على قاعدة الفراش التي هي محرزة في الموارد الاعتياديّة، وثبوت السيرة في خصوص ما إذا وقع الشكّ في الفراش غير معلوم.

4_ ما ذكره السيد الخوئي(3) من أنّ المخصِّص عنوان وجودي، فيثبت عدمه عند الشك بالأصل.

وهذا مبتنٍ على مبنَيْينِ أصوليَّيْنِ، أحدهما جريان الاستصحاب في العدم الأزلي، والثاني استظهار كون الموضوع هو العنوان الوجودي من ذكره في لسان الدليل حتى مع عدم تصوّر مورد افتراق بينه وبين عدم ضدّه المحتمل شرطيّته، أمّا لو قيل: إنّ


(1) ج41، ص121.

(2) الجواهر، ج41، ص121.

(3) في مباني تكملة المنهاج، ج1، ص111.

416

العرف يتقبّل التعبير عن شرطيّة طهارة المولد بلسان مانعيّة خبث المولد وبالعكس، ولا يمكن استظهار كون المستثنى عنواناً وجودياً، لم يتمّ هذا البيان.

وعلى أيّ حال، فلو ناقشنا في أحد المبنيَيْن الأصوليَّيْن، لم يبق دليل على نفوذ شهادته، ووصلت النوبة إلى يمين المنكر، لا للقاعدة المنقَّحة في علم الأصول من أنّ الشكّ في الحجّية يساوق القطع بعدم الحجّية، فإنّ تلك القاعدة إنّما تنظر إلى آثار القطع الطريقي من التنجيز والتعذير، لا الآثار الموضوعيّة من قبيل وصول النوبة إلى اليمين وعدمه، بل لأنّنا نستظهر من دليل كون اليمين على من أنكر والبيّنة على المدّعي أنّه متى ما عجزنا عن الوصول إلى الحجّة ثبت اليمين، فوصول النوبة إلى اليمين أثر موضوعي موضوعه عبارة عن عدم تماميّة الحجّة على خلافه، وبالفعل لم تتمّ الحجّة على خلافه؛ إذ لم تثبت حجّية هذه البيّنة سنْخَ ما لو شككنا في عدالتها ولم يمكن إثبات عدالتها بأمارة أو أصل.

عدم التبرّع بالشهادة

الشرط الثامن _ أن لا يكون متبرّعاً بالشهادة في حقوق الناس بأن يشهد قبل طلب الشهادة منه على ما نسب إلى المشهور، بل ادّعي عليه الإجماع. هذا في حال الشهادة.

المتبرّع بحمل الشهادة

وأمّا في حال التحمّل، فلا إشكال في أنّه لا يشترط أن يكون التحمّل بطلب منه من قبل المشهود له أو من قبلهما، فلو شهد واقعةً من دون طلب منه، نفذت بعد ذلك شهادته. نعم، نسب إلى بعض العامّة عدم نفوذ الشهادة إذا خبَّأ عن المشهود

417

عليه، فنطق المشهود عليه مسترسلاً، ونسب ذلك إلى ابن الجنيد أيضاً.

أمّا عندنا فمفاد الروايات هو نفوذ شهادة الشاهد سواء تحمّل بطلب منه أو تحمّل صدفة بعلمهما أو عدم علمهما. نعم، لو تحمّل بلا طلب، لم يجب عليه أداء الشهادة.

فعن العلا عن محمد بن مسلم _ بسند تام _ عن أبي جعفر (عليه السلام) «إذا سمع الرجل الشهادة ولم يشهد عليها، فهو بالخيار إن شاء شهد، وإن شاء سكت»(1).

وعن هشام بن سالم _ بسند تام _ عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا سمع الرجل الشهادة ولم يشهد عليها، فهو بالخيار إن شاء شهد، وإن شاء سكت، وقال: إذا أُشهد لم يكن له إلا أن يشهد»(2).

ولحديث العلا عن محمد بن مسلم في بعض رواياته تتمّة، وهي قوله بعد جملة «وإن شاء سكت»: «إلا إذا علم مَنِ الظالم فيشهد، ولا يحلّ له إلا أن يشهد»(3).

ونحوه ما ورد بسند فيه إسماعيل بن مرار عن يونس عن بعض رجاله عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «إذا سمع الرجل الشهادة ولم يشهد عليها، فهو بالخيار إن شاء شهد، وإن شاء سكت، إلا إذا علم مَنِ الظالم، فيشهد، ولا يحلّ له أن لا يشهد»(4).

ولعلّه إليه تشير مرسلة الصدوق التي تقول: «قال الصادق (عليه السلام): العلم شهادة إذا كان صاحبه مظلوماً»(5).

وعلى أيّ حال فهذا الاستثناء _ وهو استثناء ما إذا علم مَن الظالم _ قد يراد به:


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص231 _ 232، الباب 5 من الشهادات، ح1 و3.

(2) نفس المصدر، ص231، ح2.

(3) نفس المصدر، ص232، ح4.

(4) نفس المصدر، ص233، ح10.

(5) نفس المصدر، ح9.

418

أنّ معرفة الحقّ في الشهادة لا تلازم معرفة الظالم من المظلوم، فقد يعرف الشاهد أنّ زيداً قتل عمراً مثلاً ولا يعرف مع ذلك أنّ عمراً مثلاً مظلوم، فلعلّه قتله بحقّ، فإذا كان الشاهد اطّلع على واقعة صدفةً ومن دون طلب منه لتحمّل الشهادة، لا يجب عليه أداء الشهادة حينما يطلب منه الأداء، إلا إذا عرف الظالم من المظلوم، فيكون هذا تقييداً لإطلاق حديث هشام بن سالم الماضي الخالي عن هذا الاستثناء.

إلا أنّ هذا التفسير للاستثناء الوارد في حديث العلا عن محمد بن مسلم يعارض ما ورد من نفس العلا عن محمد بن مسلم _ بسند تام _ عن أبي جعفر (عليه السلام) في الرجل يشهد حساب الرجلين، ثم يُدعى إلى الشهادة. قال: «إن شاء شهد، وإن شاء لم يشهد»(1). فإنّ المتبادر إلى الذهن من قوله: «يشهد حساب الرجلين» هو شهادة كامل القصّة بحيث يعرف الحقّ من غير الحقّ، وورد مضمونه بتعبير آخر عن العلا عن محمد بن مسلم بسند ضعيف بمحمد بن عبداللّه بن هلال(2).

وعلى أيّ حال فإذا فرض أنّ حديث العلا عن محمد بن مسلم المشتمل على جملة «يشهد حساب الرجلين» غير حديثه المشتمل على جملة «إلا إذا علم مَن الظالم»، وتعارضا وتساقطا، رجعنا إلى إطلاق حديث هشام بن سالم(3)، بل وكذا إطلاق حديث محمد بن مسلم الذي نقلناه أوّلاً لو فرض حديثاً مستقلّاً لمحمد بن مسلم غير متّحد مع ما فيه الاستثناء.

أمّا إذا جمعنا بينهما بما يقرب إلى الذهن من استثناء فرض العلم بالظالم من حمله


(1) نفس المصدر، ص232، ح6.

(2) نفس المصدر، ح5.

(3) هذا بناءً على المسلك المعروف من مرجعيّة المطلق أو العامّ لدى ابتلاء المقيّد أو المخصّص بالمعارض.

419

على أنّ النظر فيه إلى مسألة وجوب نصرة المظلوم، إذا انحصر انتصاره بشهادة هذا الشخص، تعيّن ما أفتى به الصدوق (رحمه الله) من أنّه إذا انحصرت الشهادة به، فعلم أنّ صاحب الحقّ مظلوم ولا يحيى حقّه إلا بشهادته، وجبت عليه إقامتها، ولم يحلّ له كتمانها(1). ويؤيّد هذا التفسير للاستثناء الوارد في حديث العلا عن محمد بن مسلم احتمال كون كلا حديثيه المتعارضين، أو هما مع الحديث الأول حديثاً واحداً جاء الفرق فيما بينها من تقطيع الرواة، والنقل بالمعنى.

هذا وقد ورد حديث محمد بن مسلم في الرجل يشهد حساب الرجلين بسند آخر، وليس فيه ذكر التخيير بين الشهادة وعدم الشهادة، بل قال: «يشهد»(2).

وقد حمل الصدوق (رحمه الله) الحديث الذي حكم بالتخيير بالنسبة لمن حضر صدفةً من دون إشهاد، على ما إذا لم تنحصر الشهادة به، ولم يتوقَّف إنقاذ الحقّ على شهادته(3).

وهذا الحمل وإن كان _ لولا الشاهد _ حملاً تبرّعيّاً؛ إذ إنّ الرواية الأخيرة تعارض ما دلّ على عدم وجوب أداء الشهادة بالتباين، ولا معنى لحملها على فرض معيّن وحمل معارضها على الفرض الآخر، ولكنّ الرواية المفصّلة _ أعنى المشتملة على ما مضى من الاستثناء _ قد تصلح شاهد جمع بين الروايتين المتعارضتين.

وعلى أيّ حال فهذه الرواية _ لو لم يتمّ الجمع بهذا الوجه _ لا تصلح لمعارضة ما دلّ على عدم وجوب أداء الشهادة، فقوله في هذه الرواية: «يشهد» إمّا أن يُحمل على الحكم الوضعي، وهو نفوذ الشهادة، وعندئذٍ لا تعارض بينه وبين ما دلّ على


(1) الفقيه، ج3، ص34، في ذيل الحديث 109.

(2) الفقيه، ج3، ص33، ح 108؛ وسائل الشيعة، ج18، الباب 5 من الشهادات، ح7.

(3) الفقيه، ج3، ص34، في ذيل الحديث 109.

420

عدم وجوب أداء الشهادة، أو يحمل على الحكم التكليفي وهو الأمر بأداء الشهادة، وعندئذٍ يحمل على الاستحباب، كما هو الشأن في كلّ أمرٍ عارضَ الترخيص.

كلّ هذا بعد فرض تماميّة سند هذه الرواية، والذي يهوِّن الخطب أنّ سندها ضعيف بأحمد بن يزيد.

وهناك حديث آخر قد يدل على وجوب أداء الشهادة رغم عدم الإشهاد بمعنى طلب التحمّل، وهو ما رواه الصدوق بإسناده إلى علي بن أحمد بن أشيم قال: «سألت أبا الحسن عن رجل طهرت امرأته من حيضها، فقال: (فلانة طالق) وقوم يسمعون كلامه، لم يقل لهم: «اشهدوا» أيقع الطلاق عليها؟ قال نعم، هذه شهادة، أفيتركها معلّقة؟!»(1) بناءً على الملازمة بين كفاية ذلك في الإشهاد على الطلاق ووجوب أداء الشهادة _ عند الطلب _ المستفادة من قوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهٰادَةَ لِلّٰهِ﴾(2).

وتوضيح المقصود: أنّ الإشهاد في الآية الكريمة إمّا أن يقصد به طلب تحمّل الشهادة، أو يقصد به مجرد إيقاع الطلاق أمام الشاهد. وهذه الرواية تدل على أنّ المقصود هو الثاني، والآية قد أمرت مَنْ أشهِدوا بأداء الشهادة، وهذا يعني أنّ من وقع الفعل عنده يجب عليه أداء الشهادة وإن لم يُطلب منه تحمّل الشهادة، وهذا يعارض الروايات الدالّة على أنّ وجوب أداء الشهادة مشروط بالإشهاد بمعنى طلب تحمّل الشهادة دون الحضور صدفةً أو الاطّلاع صدفةً، إلا أنّ هذا الحديث غير تام سنداً؛ لعدم توثيق علي بن أحمد بن أشيم، ولعدم ثبوت تماميّة سند الصدوق (رحمه الله) إلى علي


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص233، الباب 5 من الشهادات، ح8.

(2) الطلاق: 2.

421

ابن أحمد بن أشيم.

ولو ثبت في بحث الطلاق أنّه يكفي فيه حضور العدلين صدفةً لم يؤدِّ ذلك إلى التعدّي إلى سائر موارد القضاء؛ لأنّ احتمال الفرق موجود.

هذا، ولا يبعد أن يُقال: إنّ هذه الرواية _ وحتى بعد ضمّها إلى الآية المباركة _ لا تعارض روايات الباب إطلاقاً، وذلك لأنّ المفهوم عرفاً من كلمة (الإشهاد) في الروايات وفي الآية المباركة ليس هو خصوص أن يقول لهم: (إشهدوا)؛ أي أن يطلب منهم تحمّل الشهادة، بل يكفي في الإشهاد إيقاع الفعل أمامهم وبنيّة اطلاعهم عليه في مقابل الحضور الصدفيّ البحت، والاطّلاع صدفةً من دون إرادة الطرفين؛ وعليه فالإشهاد في مورد رواية علي بن أحمد ابن أشيم حاصل.

وهناك حديث قد يدل بإطلاقه على وجوب أداء الشهادة حتى مع عدم الإشهاد، وهو ما عن عبداللّه بن سنان عن أبي عبداللّه (عليه السلام) قال: «لا ينقضي كلام شاهد الزور من بين يدي الحاكم حتى يتبوّء مقعده من النار، وكذلك من كتم الشهادة»(1). إلا أنّه _ مضافاً إلى ضعف سنده _ يقيّد إطلاقه بما مضى.

المتبرّع بأداء الشهادة

والآن فلْننتقل إلى صلب المطلب، وهو أنّ المتبرّع في حقوق الناس بالشهادة هل تنفذ شهادته أو لا؟

وقد فسّر في الجواهر في أوّل كلامه التبرّع بالشهادة(2) بمعنى الشهادة قبل سؤال الحاكم في مجلس الحكومة.


(1) وسائل الشيعة، ج18، ص237، الباب 9 من الشهادات، ح4.

(2) الجواهر، ج 41، ص 104.

422

وأدلّة القول بعدم نفوذ شهادة المتبرّع بعد فرض تفسيره بهذا التفسير لعلّها تنحصر في ما يلي:

1_ الإجماع: وقد قال عنه صاحب الجواهر: «لعلّه العمدة في الحكم المزبور»(1)، ولكنّه _ مع منقوليّته، وما قيل من وجود بعض المخالفين، واحتمال مدركيّته، واستبعاد إجماع تعبّدي ناشى‏ء من توارث الحكم يداً بيد في مسألة يقلّ الابتلاء بها؛ إذ قلّ ما يفترض التبرّع بالشهادة في الخصومات _ لا تبقى صلاحيّة له بحيث يمكن جعله دليلاً على الفتوى في المقام.

2_ تطرُّق التهمة: وأبطله صاحب الجواهر بما اختاره في باب شرط عدم التهمة من أنّ المقياس هو العناوين الاتّهاميّة الخاصّة الواردة في الروايات، لا عنوان التهمة بمعناه العرفي العام.

والصحيح إبطاله بمنع كون التبرّع موجباً لتطرُّق التهمة على الإطلاق، وكونه أحياناً موجباً لتطرّق التهمة _ لاكتنافه بقرائن أُخرى أو خصوصيّات _ لا يصلح دليلاً للإفتاء بعدم نفوذ شهادة المتبرّع بشكل عام.

3_ النبويّات(2) المنقولة عن غير طرق الإماميّة: كقوله (صلى الله عليه و آله): «ثم يجيء قوم يعطون الشهادة قبل أن يسألوها» وقوله (صلى الله عليه و آله): «ثم يَفْشُو الكذب حتى يَشهدَ الرجلُ قبل أن يُستشهَد» وقوله (صلى الله عليه و آله): «تقوم الساعة على قوم يَشهَدون من غير أن يُستشهَدوا» بعد ضمّه إلى ما ورد في البحار وصحيح مسلم من أنّ القيامة تقوم على شرار الخلق.

وهذه النبويّات _ كما ترى _ ساقطة سنداً ومعارضة بالنبويّ الآتي على أنّه يُحتمل


(1) نفس المصدر.

(2) راجع الجواهر، ج41، ص106.