1

شروط مرجع التقليد

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد ذكروا أنّه يشترط في المجتهد الذي يرجع إليه المقلِّد لأخذ الأحكام عدّة اُمور، سوف نبحثها فيما يلي:

1 ـ البلوغ:

ولكن لادليل واضح على شرط البلوغ، نعم ورد في رواية أبي خديجة عن أبي عبد الله: «... ولكن اُنظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه... » (1).

ولو فرضت تمامية دلالة ذلك على اشتراط الرجولة بمعنى ما يقابل الصغر في القضاء فالتعدّي إلى باب الإفتاء في غير محلّه؛ وذلك لأنّ القضاء أساساً يكون لولي الأمر من نبي أو وصي نبي؛ لأنّه غصن من أغصان الولاية، فإذا أراد الإمام (عليه السلام) أن يعطي هذا المنصب لغيره واحتاط له بإعطائه لخصوص البالغ، فهذا لا يدلّ على أنّ التقليد الذي يكون مرجعه إلى مبدأ الرجوع إلى أهل الخبرة والذي لا فرق فيه عقلانياً بين الكبير والصغير لو كان من أهل الخبرة أيضاً، يكون كذلك.

نعم، يبقى شيء وهو أنّه قد يتفق أنّ عدم البلوغ يؤدي إلى عدم الاعتماد على إفتائه من باب أنّه لا رادع له من التكليف عن المسامحة أو الكذب في الإفتاء، وهذه مسألة اُخرى غير اشتراط البلوغ بالذات، وقد يتفق العكس ويكون الصغير غير الملوثّ بالذنوب أكثر مورداّ للإطمئنان.

2 ـ العقل:

أ ـ ولا يخفى أنّ عدم حجية استنباط المجنون الذي وقع في حال الجنون بديهي لايحتاج إلى بحث، وليس هذا شرطاً جديداً على أصل شرط الفقاهة.


(1) الوسائل 27: 13 ـ 14، ب. من أبواب صفات القاضي، ح..
2

ب ـ وأمّا عدم حجية استنباطه الذي وقع في حال العقل فغير واضح، والبقاء عليه يشبه البقاء على تقليد الميت، وتقليده ابتداءً يشبه تقليد الميت ابتداءً.

قد يقال: إنّه يبقى الوضوح المتشرّعي لعدم صحة إيكال هذا المسند الخطير وهو مسند الإفتاء أو مسند رجوع المسلمين إليه، إلى شخص مجنون.

المناقشة:

إلا أنّ هذا إن صح في المخالف والفاسق باعتبار الأخذ بفتواه في حال مخالفته أو فسقه، فصحته في المجنون الذي لا معنى للأخذ بفتوى حال جنونه غير واضحة وإنما الذي ينبغي البحث عنه هو الأخذ بفتوى حال عقله.

3 ـ كونه إمامياً:

لا يخفى أنّ الحديث عن شرط كونه إمامياً يكاد أن يكون عادماً للأثر العملي، فإنّ فقدان هذا الشرط يستلزم عادة فقدان الوثوق بأمانته في الإفتاء لٍما تقتضيه أدلّتنا وطرقنا الاستنباطية، أو فقدان الوثوق بعدم التأثير اللاشعوري بمبانيه الاستنباطية وفق مذهبه على استنباطه لنا، وليس حال الإفتاء حال مجرّد نقل خبر عن الصادق (عليه السلام) الذي قد نعتمد فيه على مثل نقل السكوني و أضرابه، ومع فقدان الوثوق بأمانته أو بعدم التأثر اللاشعوري بمبانيه لاشك في بطلان تقليده.

إلا أنّ هذا غير شرطية الإيمان بما للكلمة من معناها حرفياً.

ومع ذلك يمكن الاستدلال على هذا الشرط بأحد وجوه:

الوجه الأول: البداهة المتشرّعية، وإن شئت فسمّها بالإجماع المترسّخ والمتأصّل في ذهن المتشرّعة إلى حدّ لو فرض مدركياً لدلّنا على صحة مدركه وعلى خطأنا في الفهم لو لم نكن نفهم ذاك المعنى من ذلك المدرك.

3

الوجه الثاني: ما دلّ على عدم جواز التحاكم إلى الطاغوت معلّلاً بأننا اُمرنا أن نكفر به وهو الآية الشريفة < أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً > (1)، فهذا التعليل يوجب التعدّي إلى التقليد؛ فإنّ المقصود بالكفر به ليس هو الاعتراف بضلاله مثلاً، وإلا فالذين اتهمتهم الآية الشريفة كانوا معترفين بضلالة أولئك، بل المقصود بالكفر به ما يشمل ترك الإقبال إليهم في أخذ الوظيفة منهم، وهذا لايختلف الحال فيه بين التحاكم والتقليد.

واحتمال اختصاص الآية بفرض الحكم بالباطل تمنعه مقبولة عمر بن حنظلة (2) التي طبقت الآية على من يتحاكم إلى الطاغوت وإن أخذ بذلك حقه. وليس المقصود بالطاغوت خصوص من بيده السلطان والحكم أو المنصوب من قبله، بل مطلق الضالّ؛ فإنّ القضاة في شبه الجزيرة في زمن الرسول صلى الله عليه وآله إنّما كانوا عادة قضاة تحكيم من علماء أهل الكتاب، ولم يكن بيدهم سلطان بذاك المعنى المتعارف، ولا كانوا منصوبين من قبل السلطان.

الوجه الثالث: التعدّي من شرط كونه إمامياً في صلاة الجماعة بالأولوية العرفية؛ فإنّ المرجعية في الفتيا تعدّ نوعاً من الإمامة والقيادة، وليست من قبيل المرجعية في مجرّد أخذ الرواية.

الوجه الرابع: أنّ دليل التقليد إن كان لفظياً فالجوّ المتشرّعي الشعبي المأنوس بعدم جواز الترافع إلى غير الإمامي وعدم صحة الصلاة خلفه ونحو ذلك يمنع عن انعقاد الإطلاق له لتقليد غير الإمامي؛ لأنّ الدليل مكتنف بهذا الجو.

وإن كان عبارة عن الارتكاز العقلائي، فمع هذا الجو لايمكن إحراز الإمضاء إمّا لاحتمال أنّهم. اعتبروا نفس ما ورد في مثل الصلاة خلفه أو الترافع عنده كافياً في الردع، أو لأنّ هذا الجو منع عن اهتمام الرواة بإيصال النصوص الرادعة بتخيّل أنّه لاحاجة إلى الاهتمام بذلك في الجو المساعد لنفس مضامين النصوص.

وهذا الوجه فرقه عن الوجوه السابقة: أنّه يكتفي بعدم تمامية الدليل على حجية فتوى المخالف والأصل عندئذٍ يقتضي عدم الحجية، في حين أنّ الوجوه السابقة كانت تعتبر دليلاً على عدم حجية فتواه.


(1) النساء: 60.
(2) النساء: 60.
4

والفرق العملي يظهر فيما لو فرض المخالف أعلم، فعلى الوجوه السابقة لاعبرة بفتواه؛ لأنّه قام الدليل على عدم حجية فتواه، في حين أنّه بناء على مجرّد عدم الدليل تصبح الحجية مردّدة بين فتويين متباينين أمّا فتوى الإمامي غير الأعلم أو فتوى غير الإمامي الأعلم، ولا أصل يعيّن الأول.

ولايقال: إنّ فتوى المخالف مشكوكة الحجية في ذاتها في حين أنّ فتوى الإمامي ثابتة الحجية في ذاتها مشكوكة الابتلاء بالمعارض؛ لأنّ فتوى المخالف إن لم تكن حجة فهي لاتعارضها، وحجية الأمارة تبقى ثابتة إلى أن يثبت المعارض.

فإنّه يقال: إنّ هذه القاعدة إنّما تتمّ في ما إذا كان الشك في وجود المعارض الحجة، لا ما إذا كان الشكّ في حجية المعارض الموجود على ما مضى توضيحه في بعض الأبحاث السابقة.

أمّا لو كانا متساويين فالحجية عندئذٍ تدور بين التعيين والتخيير، وحجية فتوى الإمامي هي المتبقية وفتوى غير الإمامي لم يعلم كفايتها لبراءة الذمّة، ومقتضى الأصل هو عدم حصول البراءة بعد أن كان أصل الاشتغال يقينياً.

4 ـ العدالة:

ويأتي فيها الوجوه الماضية وهي: الارتكاز المتشرّعي والأولوية وقصور أدلّة التقليد عن شمول غير العادل باستثناء الوجه الثاني وهو ما دلّ على حرمة التحاكم الى الطاغوت. هذا، وسيأتي البحث عن حقيقة العدالة، فانتظر.

5 ـ الرجولة:

ويأتي فيها ما يشبه بعض الوجوه السابقة حيث يقال: إنّ شرط الرجولة في إمامة الجماعة للرجال وفي الشهادة وفي القضاء لو تمّت دلالة رواية أبي خديجة: « اُنظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا... » (1) يخلق جواً متشرّعياً يمنع عن انعقاد الإطلاق للدليل أو الجزم بعدم الردع عن ارتكاز الرجوع إلى أهل الخبرة ولو كان امرأة أو إنّ العرف يتعدّى من تلك الموارد إلى باب الإفتاء أو إنّ هناك وضوحاً متشرّعياً في عدم صحة إعطاء المراكز الخطيرة ومنها مركز الإفتاء للنساء.


(1) وسائل الشيعة 27: 13، ب. من صفات القاضي، ح..
5

وممّا يؤيّد ذلك ما نراه في نظام النبوة والإمامة أنّه لم يتفق في العالم أجمع ولامرّة واحدة أن تكون النبوة أو الإمامة للنساء رغم أنّه قد يصل بعضهنّ إلى مستوى أئمتنا أو فوق مستوى بعضهم كفاطمة الزهراء عليها السلام، ولا اُريد أن أجعل عدم إمامة فاطمة الزهراء عليها السلام رغم بلوغها مستوى الإمامة أو كونها أشرف من بعض الأئمة شاهداً على الموضوع حتى يقال: لعلّها إنّما لم تصبح إماماً لأنّها كانت في زمن علي (عليه السلام) والذي كان أفضل منها ولم تعش لما بعد علي (عليه السلام)، وإنّما أقصد أنّه رغم أنّ النساء بالإمكان أن يصلن إلى مستوى الإمامة كما وصلت الزهراء عليها السلام التي نزل عليها جبرئيل والتي ورد عن الامام الحسين (عليه السلام) أنّه قال بشأنها: « اُمي خير منّي »، لا نرى في نظام النبوة والإمامة أن يعطى عهد من هذا القبيل إلى امرأة، وكأنّ هذا كان لحكمة عدم فتح الباب لمطالبة النساء بالمراكز الخطيرة كالقضاء والإفتاء.

6 ـ الحرية على قول:

لكن لا دليل واضح على شرط الحرية.

7 ـ كونه مجتهداً مطلقاً: فلا يجوز تقليد المتجزئ. وقد مضى البحث عن ذلك مفصّلاً (1)، فلا نعيد.

8 ـ الحياة: فلا يجوز تقليد الميت ابتداءً، نعم يجوز البقاء كما مرّ. وقد مضى البحث عن ذلك مفصّلاً (2)، فلا نعيد.

9 ـ أن يكون أعلم: فلا يجوز على الأحوط تقليد المفضول مع التمكّن من الأفضل. وقد مضى البحث عن ذلك مفصّلاً (3)، فلا نعيد.

10 ـ أن لا يكون متولداً من الزنا:


(1) اُنظر: العدد. 49 )، بحث في التقليد.
(2) اُنظر: العدد. 50 )، حقيقة التقليد وحالاته.
(3) اُنظر: العدد. 51 )، الأعلمية وأثرها في التقليد.
6

ويمكن الاستدلال على ذلك بما يشبه بعض الوجوه السابقة، فالذوق المتشرّعي المتأصّل الذي يرى أنّ مقام الفتوى مقام منيع لايمكن إناطته بولد الزنا الذي له منقصة اجتماعية لدى المتشرّعة رغم أنّ تقييمه عند الله يدور مدار عمله من ناحية، والروايات المانعة عن الائتمام بصلاته (1)، من ناحية اُخرى والتي قد يتعدّى العرف من موردها إلى التقليد الذي هو ائتمام آكد من الائتمام في الصلاة، ومنع الجوّ المتشرّعي عن انعقاد الإطلاق في دليل التقييد أو الكشف عن الإمضاء وعدم ردع الارتكاز من ناحية ثالثة، وجوه تمنع عن تقليد ولد الزنا.

11 ـ أن لايكون مقبلاً على الدنيا وطالباً لها، مكبّاً عليها، مجدّاً في تحصيلها:

واستدلّ له بقوله (عليه السلام): «... من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه » (2).

المناقشة:

إن كان المقصود اشتراط شيء آخر فوق العدالة فلا دليل عليه، وحتى مرسلة الاحتجاج (3) أو رواية تفسير العسكري المتقدّمة، ولو كانت تامة سنداً لم تكن فيها دلالة على إرادة شيء زائد على العدالة.

حقيقة العدالة:

العدالة: عبارة عن ملكة إتيان الواجبات وترك المحرّمات.

لا يخفى أنّ العدالة شرط في أبواب عديدة من الفقه عندنا كالشهادات والقضاء والتقليد وإمامة الجماعة، وفي كلّ باب من هذا القبيل يكون فيه مورد للبحث عن حقيقة العدالة.


(1) اُنظر: وسائل الشيعة 8: 321، ب 14، من صلاة الجماعة.
(2) وسائل الشيعة 27: 131، ب 10 من صفات القاضي، ح 20.
(3) المصدر السابق.
7

فكلّ مورد ورد في دليله شرط العدالة بعنوانها يكون البحث عن معنى العدالة فيه بحثاً مفيداً وفي محلّه. وكلّ مورد ورد في دليله شرط عنوان الوثوق بدينه فأيضاً لايبعد أن يقال: أنّ الوثوق بالدين ومعرفة العدالة يعطيان معنى واحد، فالبحثان يتشابهان أو يتحدان.

وكلّ مورد لم يرد في دليله اللفظي عنوان من هذا القبيل كما في مسألة التقليد، فإن كان مدرك اشتراط العدالة فيه هو التعدّي العرفي من موارد اشتراط العدالة بالنص فالبحث في معنى العدالة نفسه يتكرّر في المقام.

وإن كان مدرك اشتراط العدالة بعض الأدلّة اللبّية الماضية وما شابهها من الذوق المتشرّعي أو أنّ جواً تشريعياً لهذا أبطل إطلاق الأدلّة أو نحو ذلك، فإن اُدعي القطع بأنّ العدالة في جميع الموارد المشترط فيها شيء من هذا القبيل تكون بمعنى واحد، فأيضاً يتكرّر البحث نفسه في معنى العدالة.

وإن لم يُدّع قطع من هذا القبيل فإن كان الدليل اللبّي قد أبطل إطلاق دليل ذاك الحكم الذي لم يؤخذ فيه لفظاً قيد العدالة إذن ففي الدرجات التي يشك في دخلها في موضوع الحكم من درجات الورع والتقوى لابدّ من الرجوع إلى الأصل العملي.

وفي مسألة التقليد يكون مقتضى الأصل العملي لدى الشك عدم الحجية عند التساوي في العلم مع غيره الواجد للشرط المشكوك، والأخذ بأحوط القولين في كلّ مسألة لدى فرض كونه أعلم من غيره الواجد للشرط المشكوك.

وإن لم يكن ذاك الدليل اللبّي قد أبطل إطلاق الدليل إذن يقتصر في مقام شرطية العدالة بأقلّ المستوى المحتمل.

وعلى أيّة حال فالكلام في معنى العدالة يدور حول ثلاث نقاط:

8

1 ًـ هل يكفي ترك المعصية من دون ملكة، أو لابدّ من شرط الملكة ؟

2 ًـ هل إنّ ارتكاب الصغائر يضرّ بالعدالة، أو لا؟

3 ًـ هل يعتبر في العدالة ترك ما ينافي المروءة، أو هو شرط آخر غير العدالة ؟

أمّا البحث الأول: وهو شرط الملكة فلا ينبغي الإشكال في أنّ العدالة لغةً وعرفاً بمعنى الاستقامة وأنّ المقصود في المقام هو العدالة في الدين أي الاستقامة في الدين.

ولا ينبغي الإشكال في أنّ الشريعة لم تأتِ بمصطلح جديد في العدالة، فالمرجع هو نفس المعنى اللغوي والعرفي.

كما لا ينبغي الإشكال في أنّ مجرّد ترك المعاصي ومن دون وجود الرادع النفساني الإلهي عنها لا يعتبر استقامة في الدين، كما لو حدث صدفة أو لكونه حديث العهد بالبلوغ أو التوبة أو نحو ذلك.

ولا ينبغي الإشكال كذلك في أنّ ترك المعاصي مع وجود ذلك الرادع الإلهي يعتبر استقامة في الدين، ولا نقصد بذلك الرادع ما يشبه الرادع الموجود لدى المعصوم (عليه السلام)، بل المقصود به ذاك الذي يتميز بخاصتين:

الخاصة الاُولى: أن يكون كافياً في الحالة العادية للنفس لدى المغريات الاعتيادية والشهوات المتعارفة للردع وحجز النفس عن المعصية وإن كان من المحتمل أن يتفق صدفة انزلاق الشخص بسبب تصادف قوة المغريات بشكل غير مألوف أو بسبب تصادف ابتلاء هذا الشخص بانهيار نفسي أوجب انزلاقه.

الخاصة الثانية: أنّه متى ما انزلق هذا الشخص صدفة لأحد السببين يندم ويتوب في أسرع وقت بسبب ذلك الرادع، ولعلّ هذا هو المقصود بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ (1).


(1) الأعراف: 201.
9

والذي قد يقع التأمّل فيه في المقام أنّه لو كان لديه رادع نفساني عن المعاصي ـ بخلاف القسم الأول الذي فرضناه عدم اكتمال هذا الرادع فيه ـ ولكن لم يبلغ ذاك الرادع إلى مستوى ما فرضناه في القسم الثاني وهو أن نثق أنّه لا ينزلق عادة أمام المغريات الاعتيادية، فهو على العموم بانٍ على ترك المعاصي جميعاً لما لديه من الرادع الإلهي ويتعوّذ بالله من الانزلاق في الامتحان، ولكنّه لاضمان عادي لعدم انزلاقه لدى اتفاق الامتحان بذاك المقدار من الضمان الثابت في من يتمتع بما يسمّى عادة بالملكة، فهل هذا الشخص يعتبر مستقيماً أو لا ؟

لا يبعد القول بأنّ العدالة بمعناها العام أو الاستقامة العرفية ليست إلا هذا المقدار، ولكن في بعض الأبواب لايكون هذا المقدار كافياً لحصول الوثوق بعدم انزلاق الشخص في المهمة الموكلة إليه في ذلك الباب، وذلك كما في باب الولاية على المسلمين أو قيادة المسلمين، ولاشك بالارتكاز القطعي العقلائي المتشرّعي كالمتصل في اشتراط الوثوق بأداء المهمة في إناطة تلك المهمة به وثوقاً بالمقدار المعقول، فإذا توقّف ذلك على العدالة بمعنى أرفع من ذلك كالملكة بالمعنى الذي شرحناه أو توقّف على أكثر من ذلك أصبحت تلك المرتبة شرطاً لا محالة.

وأمّا البحث الثاني ـ وهو ارتكاب الصغيرة ـ: فقد يقال: إنّه يضرّ بالعدالة بمعناها اللغوي العرفي؛ لأنّ ارتكابها خلاف الاستقامة في الدين على أيّ حال إلا أنّه بالإمكان أن يستفاد من بعض الأدلّة اللفظية عدم إضراره بالعدالة، وأقصد بذلك عدم إضراره بمعناها العام، وهذا لا ينافي ما أشرنا إليه من بعض المقامات كالولاية على المسلمين أو تولي قيادة اُمور المسلمين التي لا يتحقق الوثوق المشترط بأداء صاحبه الأمانة الملقاة على عاتقه إلا ببعض الدرجات العالية من العدالة وقد يكون ارتكاب الصغيرة مضرّاً بها.

10

أمّا ما يمكن أن يستفاد منه عدم اضرار ارتكاب الصغيرة بالعدالة فهو ما رواه الصدوق بسنده إلى عبد الله بن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) بم تُعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تُقبل شهادته لهم وعليهم؟ فقال: « أن تعرفوه بالستر والعفاف وكفّ البطن والفرج واليد واللسان، ويُعرف باجتناب الكبائر التي وعد الله عليها النار من شرب الخمر والزنا والربا وعقوق الوالدين والفرار من الزحف، والدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه » (1).

وقد تقول: إنّ قوله: « يعرف باجتناب الكبائر » ليس المقصود به التعريف المنطقي للعدالة حتى يدلّ على أنّ اجتناب الصغائر ليس داخلاً في معنى العدالة، وإنّما المقصود به إعطاء العلامة، فليكن اجتناب الكبائر علامة شرعية للعدالة التي يكون من جزئها أو من شرطها اجتناب الصغائر.

والجواب: أنّه حتى لو كان الأمر كذلك فقوله (عليه السلام): « يعرف باجتناب الكبائر » مطلقاً يشمل فرض ما إذا عرفنا اجتنابه للكبائر وعرفنا صدفة ابتلاءه بارتكاب الصغيرة، وهذا الإطلاق يقتضي الحكم بعدالته رغم ارتكابه للصغيرة، وهذا معناه عدم شرطية ترك الصغيرة في العدالة.

وقد تقول: إنّ قوله (عليه السلام): « والدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه »، يدلّ بإطلاقه على شرط ترك الصغيرة؛ لأنّ الصغيرة عيب على كلّ حال، فلو عرفنا ارتكابه لها لم يكن ساتراً لجميع عيوبه.

والجواب:

أولاً: إنّ هذا لو دلّ على شيء فإنّما يدلّ على شرط ستر الصغائر، لا على شرط ترك الصغائر.


(1) الوسائل 27: 391، ب 41 من الشهادات، ح.. العام: 34032.
11

وثانياً: لعلّ ستر جميع العيوب ومنها الصغائر أمارة على ترك الكبائر، فمن ارتكب الصغائر من دون ستر لم نأمن ارتكابه للكبائر مستوراً، وقد يستشهد أيضاً بالآيات الشريفة الواردة في من يجتنب الكبائر، ولهذا الاستشهاد وجهان:

الوجه الأول: دعوى الدلالة الالتزامية العرفية على عدم قدح الصغيرة في العدالة، فإذا كانت الصغيرة مغفورة لدى ترك الكبائر وكان لتارك الكبائر ورغم ابتلائه بارتكاب الصغيرة ما عند الله الذي هو خير وأبقى وكان هذا الشخص مصداقاً لقوله تعالى: < وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى > (1)، فالمفهوم عرفاً من ذلك أنّه يكتفى من هذا الشخص في أحكام الاستقامة بهذا القدر من الاستقامة وإن كانت الملازمة العقلية غير موجودة.

الوجه الثاني: أنّه في جوّ تشريعي مفعم بمفاهيم تلك الآيات لايفهم لأدلّة شرط العدالة إطلاق يشمل ترك الصغيرة.

وعلى أيّ حال فقد ورد في النص الصحيح ما يدلّ على أنّ الإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة أو بحكم الكبيرة، فعن محمد بن أبي عمير بسند تامّ عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) في حديث... قال النبي صلى الله عليه وآله: « لا كبير مع الاستغفار، ولا صغير مع الإصرار » (2)، ولعلّ الإصرار أمر نفسي بمعنى العزم على التكرار، أو عدم حديث النفس بالتوبة، أو عدم المبالاة بالتكرار ونحو ذلك، لا التكرار الخارجي.

وأمّا البحث الثالث: وهو البحث في وجود شرط زائد على العدالة وهو ترك مخالفة المروءة، أو كون ذلك شرطاً في العدالة، فالتحقيق أنّه لو كان ترك المروءة موجباً لهتك النفس وإذلالها فقد أصبح حراماً ودخل تركها في ترك الحرام، وإلا فلا دليل على اشتراط عدم تركها خاصة إذا قلنا بعدم مضرّية ارتكاب الصغيرة، فهل ياترى أنّ ارتكاب الصغيرة رغم أنّها ذنب لا يضرّ بالعدالة أو بما يشترط فيه العدالة، ولكن ارتكاب مباح ما يضرّ بذلك تحت عنوان أنّه خلاف المروءة؟.


(1) النجم: 31.
(2) الوسائل 15: 336، ب 47 من جهاد النفس، ح 11. التسلسل 20675.
12

وقد يخطر بالبال الاستدلال على اشتراط عدم مخالفة المروءة بما ورد عن سماعة بسند تامّ عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: « من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدّثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم كان ممّن حرمت غيبته وكملت مروءته، وظهر عدله ووجبت اُخوّته » (1).

ووجه الاستدلال بذلك: أنّ خُلف الوعد ليس حراماً، ولكنّه خلاف المروءة، ومع ذلك جعل في هذا الحديث شرطاً في العدالة.

وأقلّ ما يرد على ذلك: أنّنا بعد أن أنكرنا مفهوم الشرط في علم الاُصول يكفي فائدة لذكر هذا القيد دخله في ثبوت مجموع الجزاءات التي منها كمال المروءة ولو لم يكن دخيلاً في خصوص ظهور العدل.

ويمكن أيضاً الاستدلال على شرط عدم مخالفة المروءة بمرسلة أبي عبد الله الأشعري عن بعض أصحابنا رفعه عن هشام بن الحكم: « لا دين لمن لا مروءة له، ولا مروءة لمن لا عقل له » (2).

ولكن بقطع النظر عن سقوط الحديث سنداً من الواضح أنّ المروءة في الحديث قصد بها معنى يمكن نفي الدين بوجه من الوجوه عمّن يفقدها، إذن ليست هذه مروءة بمستوى أرفع من مستوى ترك المعاصي.

ويمكن أيضاً الاستدلال على ذلك بروايات عدم قبول شهادة السائل بكفه (3)، بناءً على أنّ السؤال بالكفّ ليس حراماً، ولكنّه خلاف المروءة.

ولكن الظاهر أنّ هذه ليست ناظرة إلى شرط المروءة كما يوضح ذلك التعليل الوارد في بعض تلك الروايات بأنّه لا يؤمن على الشهادة؛ لأنّه إن اُعطي رضي وإن مُنع سخط.


(1) الوسائل 12: 279، ب 15، من أحكام العشره، ح..
(2) اُصول الكافي 1: 19، كتاب العقل والجهل، ح 12.
(3) الوسائل 27: 382، ب 35، من الشهادات، ح..
13

فإن شئت فقل: إنّ هذا يعني عدم قبول الشهادة بنكتة ارتفاع الثقة بشهادته؛ لأنّه بحكم طبيعة السائل بالكفّ يحتمل بشأنه الشهادة بالرشوة.

وإن شئت فقل: إنّ ظاهر حال هذا الشخص لا يدلّ على عدالته؛ لأنّ شهادته بالرشوة أمر غير مستبعد بشأنه، وهي من المحرّمات.

ويمكن أيضاً الاستدلال على ذلك بما مضى من رواية عبد الله بن يعفور « والدلالة على ذلك كله: أن يكون ساتراً لجميع عيوبه »، حيث يقال: إنّ مخالفة المروءة أيضاً عيب، فهو داخل تحت إطلاق الحديث فيجب سترها، ومن المعلوم أن قوام مخالفة المروءة إنّما هو بالإظهار، أمّا من فعل شيئاً مباحاً تحت الستر فليس ذلك منه خلاف المروءة. إذن فمفاد إطلاق الحديث مضرّية مخالفة المروءة.

والجواب: أنّ الظاهر من كلمة العيوب في المقام الواردة في نص شرعي، ما يكون عيباً في منطق الشرع، وهو الذنوب فمخالفة المروءة إن كانت واصلة إلى حدّ الحرام لم تكن مانعاً مستقلاً عن العدالة أو عن صحة ما يشترط فيه العدالة، وإن لم تكن واصلة إلى هذا الحدّ فهي ليست عيباً شرعياً؛ لأنّ المفروض حلّيتها شرعاً.