صلاة الجمعة في عصر الغيبة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين.
إنّ وجوب صلاة الجمعة عند عدم وجود الحاكم العادل قد يعني: وجوب إقامتها، وقد يعني: وجوب الالتحاق بها لو اُقيمت، وكلّ واحد من المعنيين قد يُستفاد من بعض الروايات.
فقد يدلّ على كلا الوجوبين ما عن عمر بن يزيد بسند تامّ عن أبي عبدالله قال: «إذا كانوا سبعة يوم الجمعة فليصلّوا في جماعة، وليلبس البرد والعمامة ويتوكّأ على قوس أو عصا، وليقعد قعدة بين الخطبتين...»(1).
وما عن زرارة بن أعين بسند تامّ عن الباقر: «إنّما فرض الله عزّ وجلّ على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمساً وثلاثين صلاة منها صلاة واحدة فرضها الله عزّ وجلّ في جماعة، وهي الجمعة، ووضعها عن تسعة: عن الصغير، والكبير، والمجنون، والمسافر، والعبد، والمرأة، والمريض، والأعمى، ومن كان على رأس فرسخين»(2).
وقد يدلّ على الوجوب الثاني ما عن أبي بصير ومحمّد بن مسلم بسند تامّ عن أبي عبدالله: «إنّ الله عزّ وجلّ فرض في كلّ سبعة أيّام خمساً وثلاثين صلاة منها صلاة واجبة على كلّ مسلم أن يشهدها إلّا خمسة: المريض، والمملوك، والمسافر، والمرأة، والصبيّ»(3).
وفي رأيي أنّ عمدة ما يقيّد إطلاق ما يدلّ على الحكم الثاني ويوجب حمل ما يدلّ على الحكم الأوّل على الاستحباب ارتكاز أو احتمال ارتكاز كون الوجوب الأوّل خاصّاً بالحاكم العادل وكون الوجوب الثاني خاصّاً بما إذا تصدّى الحاكم العادل بنفسه أو بتعيين نائب عنه، وأقصد بذلك الارتكاز في زمن صدور النصّ، فإنّ احتمال ذلك يعني احتمال القرينة المتّصلة وهو يبطل الظهور والإطلاق، وإذا كانت القرينة المتّصلة المحتملة عبارة عن الارتكاز لم يمكن دفعها بترك ذكر الراوي لها.
وتؤيّد هذا الاحتمال روايات من قبيل:
1 ـ رواية زرارة بسند تامّ عن الباقر: «صلاة الجمعة فريضة والاجتماع إليها فريضة مع الإمام...»(4)، حيث إنّ المظنون أنّ المقصود بالإمام في هذا الحديث هو الحاكم العدل لاإمام الجماعة؛ إذ لو كان المقصود هو إمام الجماعة لم يكن القيد احترازيّاً؛ إذ من الواضح أنّ الاجتماع إليها لايمكن أن يكون إلّا مع إمام الجماعة، وبناءً على الجزم بظهور الإمام في هذا النصّ في الحاكم العدل يصبح هذا الحديث بنفسه دليلاً على عدم وجوب صلاة الجمعة إلّا مع الحاكم العدل، ويكفينا عن الاستدلال بالارتكاز أو احتمال الارتكاز.
2 ـ ما عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر قال: «تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين (المؤمنين) ولاتجب على أقلّ منهم: الإمام، وقاضيه، والمدّعي حقّاً، والمدّعى عليه، والشاهدان، والذي يضرب الحدود بين يدي الإمام»(1)، وهنا من الواضح أنّ المقصود بالإمام هو الحاكم العدل لاإمام الجماعة، ونحن وإن كنّا لانقول بمفهوم اللقب لكن قد يقال: إنّ ذكر الإمام هنا في مقام التحديد، وأمّا ذكر القاضي والمدّعي إلى آخره، فكأنّ المقصود منه أنّ الحاكم العدل أقلّ ما يتصوّر معه هو أن يكون له قاض، وضارب الحدود، والمتخاصمان، والشاهدان، وهذا عدد كاف لوجوب الجمعة.
إلّا أنّه يكفي في التحفّظ على كون ذكر الإمام هنا في مقام التحديد والتقييد كونه مقيّداً لخصوص الوجوب الأوّل، فالوجوب الأوّل ثابت على الإمام لاعلى كلّ الناس، فهو الذي يجب عليه أن يصلّي بالناس الجمعة أو يهيّئ نائباً عنه في ذلك، وليس هذا الوجوب ثابتاً على الآخرين، إذن فلا شاهد في هذا الحديث على تقييد الوجوب الثاني، فلو وجد من يقيم الجمعة فمقتضى إطلاق دليل الوجوب الثاني وجوب الالتحاق به ولو لم يكن إماماً ولانائباً عنه في ذلك.
3 ـ ما عن زرارة بسند تامّ قال: «حثّنا أبو عبدالله على صلاة الجمعة حتّى ظننت أنّه يريد أن نأتيه، فقلت: نغدو عليك؟ فقال: لا، إنّما عنيت عندكم»(2)، حيث إنّ هذا الحديث ظاهر في تعوّد زرارة على الترك.
وأوضح منه في هذا المعنى ما عن عبدالملك أخي زرارة ـ والسند إلى ما قبل عبدالملك تامّـ عن أبي جعفر قال: «قال: مثلك يهلك ولم يصلّ فريضة فرضها الله. قال: قلت: كيف أصنع؟ قال: صلّوا جماعة يعني صلاة الجمعة»(3)، فهذا واضح في تعوّد عبدالملك على الترك.
إلّا أنّه من المحتمل كون الترك في ذاك الزمان كان لعدم إقامة الجمعة ممّن يصحّ الاقتداء به، فهذه الروايتان إنّما تشهدان على تقييد الوجوب الأوّل فحسب.
4 ـ ما عن هشام بسند تامّ عن أبي عبدالله قال: «إنّي لاُحبّ للرجل أن لايخرج من الدنيا حتّى يمتّع ولو مرّة، وأن يصلّي الجمعة في جماعة»(4)، لظهور كلمة «اُحبّ» والإقران بين الجمعة والمتعة في الاستحباب.
إلّا أنّ هذا أيضاً لاينفي وجوب الالتحاق على تقدير إقامتها من قِبَل من يصحّ الاقتداء به، فهذا لايشهد لأكثر من تقييد الوجوب الأوّل.
وعلى أيّ حال، فثبوت ارتكاز أنّ إقامة صلاة الجمعة هي شأن الحاكم غير بعيد في ذاك الزمان الذي كان المتعارف عند الناس هو ذلك وإن كانوا قد أخطؤوا في تشخيص الحاكم الصحيح الذي من حقّه شرعاً أن يحكم، والقدر المتيقّن من هذا الارتكاز هو ارتكاز كون وجوب الإقامة خاصّاً بالحاكم، لكن من المحتمل على أيّ حال توسعة الارتكاز لوجوب الالتحاق بأن يفترض أيضاً ارتكاز اختصاص وجوب الالتحاق بما لو أقامها الحاكم بنفسه أو بتعيين نائب لذلك عنه، واحتمال ذلك كاف في تقييد كلا الوجوبين.
أمّا التفصيل بين الوجوبين بأن نعترف بأنّ وجوب الإقامة خاصّ بالحاكم العدل ونقول في نفس الوقت بأنّه لو أقامها غير الحاكم ممّن يصحّ الاقتداء به وجب الحضور، فيمكن تخريجه بأحد وجوه:
1 ـ أن يُدّعى أنّ المقيّد للإطلاقات هو الإجماع دون الارتكاز، وأنّ القدر الثابت من الإجماع إنّما هو الإجماع على تقيّد الوجوب الأوّل.
ولكن قد عرفت أنّ الارتكاز مقيّد في المقام.
2 ـ أن يُجعل المقيّد هو الارتكاز ويقتصر في الارتكاز على ما كان ثابتاً عملاً وقتئذ من كون إقامة الجمعة شأن الحكّام، أمّا أنّه لو أقامها غير الحاكم أو نائبه فهل على الناس الحضور عند الاطّلاع أو لا؟ فهذا ما لم يتّفق عملاً وقتئذ، فيدّعى الجزم بعدم ارتكاز لعدم الوجوب وقتئذ للحضور، فنتمسّك بالإطلاقات الناظرة إلى خصوص الوجوب الثاني.
ولكن لاجزم لنا بعدم التوسعة في الارتكاز، على أنّه لايبعد مقيّديّة رواية زرارة الماضية(1)، وهي تقيّد كلا الوجوبين.
3 ـ أن يجعل المقيّد هو الأخبار الماضية التي ذكرناها كتأييد لوجود ارتكاز من هذا القبيل مع إنكار مقيّديّة الخبر الأوّل منها بدعوى عدم ظهور لكلمة الإمام فيه في الحاكم، فمن المحتمل كون المقصود به إمام الجماعة، وقد عرفت أنّ باقي الأخبار لو قيّدت فإنّما تقيّد الوجوب الأوّل، وحينئذ لو كان كلا الوجوبين ثابتين بإطلاق واحد لاَنخرم إطلاق الوجوب الثاني أيضاً بوحدة السياق، لكن عرفت أنّ بعض الإطلاقات خاصّ بالوجوب الثاني فيبقى على حاله.
4 ـ أن يقال: إنّ المقيّد هو احتمال الارتكاز الثابت في كلّ الروايات المطلقة ولكن الآية الشريفة سليمة عن هذا الاحتمال؛ إذ لم يكن ارتكاز في أوّل تشريع صلاة الجمعة، والآية لاتدلّ إلّا على الوجوب الثاني، وهو السعي إذا نودي للصلاة في يوم الجمعة.
إلّا أنّنا لو آمنّا بمقيّديّة الرواية الاُولى من الروايات التي جعلناها مؤيّدة لفرضيّة الارتكاز ـوهي رواية زرارة الماضية(2)ـ فهي تقيّد الآية أيضاً.
على أنّه لايبعد انصراف الآية إلى نداء الحاكم باعتبار أنّ النداء والإعلان هو عادة شأن الحاكم، أمّا غيره فقد يخبر بعض أصدقائه عن إقامته لصلاة الجمعة، لكن هذا لايسمّى نداءً.
وقد اتّضحت بكلّ ما ذكرناه قوّة تقييد كلا الوجوبين.
ثُمّ الظاهر أنّ الارتكاز موضوعه مطلق الحاكم العدل لاخصوص الإمام المعصوم، وكذلك الظاهر أنّ المفهوم من كلمة الإمام في هذه الروايات حينما لايكون مستعملاً في إمام الجماعة هو الحاكم الذي يحكم فعلاً عن حقّ، لاخصوص الإمام المعصوم الذي استقرّ أخيراً اصطلاح الشيعة على استعمال كلمة الإمام فيه.
والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
كاظم الحسينيّ الحائريّ