178

عبد اللّه العلوي رفعه قال: «قيل يا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ما جماعة أُمتّك؟ قال:من كان على الحقّ وإن كانوا عشرة»(1).

3 ـ ما عن معاني الأخبار أيضاً عن أبيه عن سعد عن البرقي عن الحجال عن ابن أبي حميد رفعه قال: «جاء رجل إلى أميرالمؤمنين (عليه السلام) فقال: أخبرني عن السنّة والبدعة وعن الجماعة وعن الفرقة. فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام): السّنة ما سنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)والبدعة ما أُحدث من بعده، والجماعة أهل الحقّ وإن كانوا قليلا، والفرقة أهل الباطل وإن كانوا كثيراً»(2).

ومما لا إشكال فيه أن السيرة المستمرّة للمسلمين كانت على البيعة، إما للخليفة الحقّ كأميرالمؤمنين (عليه السلام) والحسن والحسين (عليهم السلام)وإما لخلفاء الجور.

 

التمسك بأدلّة البيعة لمشروعية الانتخاب:

وبهذا العرض ينفتح أمامنا الباب لعدّة بيانات لكيفية استفادة المقصود ـ أعني مشروعية الانتخاب ـ من أدلّة البيعة:

البيان الأول: أن نستفيد من نفس البيعة التي وقعت للمعصومين (عليهم السلام)، وذلك بأن يقال: إنّ المفهوم عرفاً وارتكازاً منها أنّ البيعة كانت التزاماً بالطاعة، وأنهم كانوا يرون هذا الالتزام ملزماً لهم، ودخول المعصومين (عليهم السلام) معهم في هذا العمل إمّا يكون بدعوة من المعصوم إلى ذلك كما هو الحال في بيعة الشجرة وبيعة النساء،


(1) المصدر السابق 2: 265، الباب 33 من أبواب كتاب العلم، الحديث 21، نقلا عن معاني الأخبار.

(2) بحار الأنوار 2: 266، الحديث 23، نقلا عن معاني الأخبار.

179

أو تقريراً له على ما قصدوه كما هو الحال في البيعة لعليّ (عليه السلام) بعد مقتل عثمان، وعلى كلّ تقدير يثبت بذلك كون البيعة ملزمة للطاعة، ومن الواضح أنّه لا تتفق عادة بيعة الكلّ، ولو اتفقت فرضاً فما أسرع ما يأتي جيل لم يبايعوا لكونهم معدومين أو قاصرين وقت البيعة، ولم يكن المرتكز تكرار البيعة بين حين وحين، وهذا يعني نفوذ البيعة على الأُمّة حينما يصدق عرفاً أنّ الأُمّة قد بايعت ـ مثلا ـ رغم تخلّف عدد منهم عن البيعة وهذا يعني حجية الانتخاب ونفوذه على غير المنتخبين الأقلّية وعلى الجيل الجديد حيث كان الانتخاب لزمان واسع يشمل فترة الجيل الجديد.

وما يمكن أن يورد به على هذا البيان أُمور:

الأوّل: أننا نعلم بضرورة من مذهب الشيعة أن المعصوم (عليه السلام) كان واجب الطاعة بالنص، ولم يكن يتوقّف وجوب طاعته على البيعة؛ لأنّ إمامته بالنصب كانت ثابتة من اللّه تعالى، إذن فالبيعة لم تفد إلزاماً للطاعة؛ لأنّ ذلك تحصيل للحاصل، وأكثر ما ورد في آية بيعة النساء من الأحكام التي بايعت النساء الرسول (صلى الله عليه وآله) عليها هي أحكام أوّلية واجبة عليهن من قبل اللّه تعالى، سواء فرضت ولاية للرسول (صلى الله عليه وآله) أو لا، ومع ذلك وقعت البيعة عليها، أفهل يقال: إنّ هذه البيعة أفادت إلزام النساء بتلك الأحكام؟!

والجواب: أنّه لا مانع من افتراض كون البيعة ملزمة للطاعة، فإذا اجتمعت مع ملزم آخر، وهو النصّ أو مع الوجوب الأوّلي الإلهي أوجبت التأكّد، وكان وجوب الطاعة مستنداً بقاءً إلى سببين: النصّ والبيعة، فمن عصى بعد البيعة اشتدّ ما يستحقّه من العذاب، أما إذا انفصلت البيعة عن النصّ كما في من تبايعه الأُمّة لدى

180

غيبة المعصوم بناء على عدم ثبوت الولاية له بالنصّ فالبيعة وحدها ستكفي لإثبات وجوب الطاعة؛ لأنّها في نفسها أحد السببين لذلك.

الثاني: أنّ فعل المعصوم أو تقريره دليل لبيّ لا إطلاق له، والقدر المتيقن مما نستفيده مما وقع من البيعة للمعصوم (عليه السلام) هو أنّ البيعة تفيد إلزام الطاعة، ويجب الوفاء بها حينما تكون بيعة لمن وجبت طاعته مسبقاً بالنصّ، فالمعصوم وإن كان واجب الطاعة في نفسه؛ لأنه كان منصوباً من قبل اللّه للإمامة، ولكن البيعة معه أفادت تأكّد وجوب الطاعة، أمّا أنّ البيعة لغير المنصوب مسبقاً للإمامة تفيد وجوب الطاعة ويجب الوفاء بها فهذا غير مفهوم من هذا الفعل أو التقرير؛ لعدم الإطلاق فيه كما قلنا.

والجواب: أنّ الفعل حينما لا يتركّز له ـ وفق المناسبات العقلائية ـ تفسير في الذهن يكون صدوره من المعصوم أو تقريره إياه دالا على مشروعيته بقدر ما يماثل المورد، ولا يمكن التعدّي منه إلى دائرة أوسع، ولكن حينما يفهم بالارتكاز والمناسبات من ذاك الفعل أمر معيّن فلا محالة يكون المفهوم عرفاً من ذاك الفعل أو التقرير صحّة ذاك الأمر الذي ينتزعه الناس من ذاك الفعل، وهذا الظهور ـ كظهور اللفظ ـ حجّة يؤخذ به، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ المفهوم عرفاً ممّا وقع من البيعة مع المعصوم هو أنّ البيعة كانت معاهدة يجب الوفاء بها، وتوجب الالتزام بإمرة من بايعوه، فإن لم نقبل أنّ إفادة البيعة لذلك ارتكازية ابتداءً فلا أقلّ من قبول أنه بعد أن يرى العرف والعقلاء أنّ البيعة وقعت مع المعصوم وبموافقة المعصوم (عليه السلام) لايرى لذلك تفسير عدا أنّ البيعة نوع عقد يرى المعصوم (عليه السلام)وجوب الوفاء به بذاته، فلو وقعت مع غير المعصوم وجب أيضاً الوفاء بها.

181

الثالث: أننا نقبل أنّ التفسير العرفي الوحيد للبيعة لم يكن عدا كونها معاهدة يجب الوفاء بها، لكن هذا التفسير العقلائي لذلك حاله حال أدلّة الوجوب بالعقد والعهد لا يشمل عدا المتعلّق المشروع في نفسه ولا يشمل عدا طرفي العقد، وأمّا الأقلّية الذين لم يبايعوا فهم غير مشمولين لحكم البيعة، ولم يعرف في التأريخ أنّ بيعة المعصومين (عليهم السلام) كانت بهدف كونها سبباً للولاية حتى على الذين لم يبايعوا، فيا ترى هل بيعة الاثني عشر نفراً للنبيّ (صلى الله عليه وآله) في بيعة العقبة الأُولى أو بيعة الثلاثة وسبعين نفراً معه (صلى الله عليه وآله) في بيعة العقبة الثانية كانت تعني قصد خلق الولاية على الآخرين، أو كانت تعني مجرّد تعاهد لهؤلاء مع النبي (صلى الله عليه وآله) على ما تعاهدوا عليه من مفاد بيعة النساء في الأُولى، ومن الطاعة والدفاع عن النبي (صلى الله عليه وآله) في الثانية؟! وكذلك بيعة الرضوان وقعت بعد أن خشي النبي (صلى الله عليه وآله) أن يتركه المسلمون الذين كانوا معه في الحديبية باعتبار أنهم كانوا يخشون من مواجهة مشركي مكّة، ولم يكونوا متأهّبين للحرب ومسلّحين بما يناسب الحرب؛ لأنّهم كانوا قد خرجوا بأمر النبي (صلى الله عليه وآله) قاصدين الحج لا الحرب، فتحسّباً لاحتمالات وقوع ما يخشى وقوعه بينهم وبين مشركي مكّة أخذ الرسول (صلى الله عليه وآله) منهم جميعاً البيعة على الطاعة والدفاع، ولم تكن لذلك علاقة بفكرة نشر الولاية على سائر المسلمين الذين لم يبايعوا، وكذلك بيعته (صلى الله عليه وآله) بعد فتح مكّة مع الرجال ثمّ مع النساء لا يوجد أيّ شاهد تأريخي على أنها كانت بمعنى البيعة على ولاية تشمل غير المبايعين، كما ليس هناك شاهد على ذلك فيما وقع من البيعة لعليّ (عليه السلام) بعد مقتل عثمان عدا ما ورد من احتجاج عليّ (عليه السلام) بتلك البيعة على مثل معاوية الذي لم يبايع، وهذا ما سنشير إليه إن شاء اللّه في البيان الثالث، وبيعة الغدير التي وقعت بعد فرض النبيّ (صلى الله عليه وآله)

182

الولاية بقوله: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه» لا يفهم منها عرفاً أيضاً أكثر من تعهّد المتبايعين بالوفاء بما حصلت عليهم من ولايته (عليه السلام).

البيان الثاني: أننا لا نتمسّك بخصوص ما وقع من البيعة للمعصوم كي يورد عليه مثلا احتمال كون أثر البيعة منحصراً في تأكيد ولاية مسبقة ثابتة بالنصّ، بل نتمسّك بسيرة المسلمين على البيعة حتى لخلفاء الجور الذين لم يكن يعتقد أحد من المسلمين بولايتهم المسبقة على البيعة بنصّ إلهي، فلا شكّ أنّ هذه البيعة كانت بعقلية خلق الولاية وإضفاء الشرعية على خلافتهم، بل وكذلك بيعتهم لعليّ (عليه السلام) بعد عثمان فإنّها لم تكن بروح ثبوت ولايته مسبقاً بالنصّ، وإلاّ لاعترفوا بكونه الخليفة الأوّل، في حين أنّهم لم يعترفوا إلاّ بكونه الخليفة الرابع.

وهذه السيرة كانت بمرأى ومسمع من المعصومين (عليهم السلام)، وصحيح أنه قد وصلتنا روايات كثيرة دالّة على الردع عن بيعتهم لخلفاء الجور بلسان اشتراط العصمة في الإمامة أو اشتراط النصّ(1) من قبيل ما عن سليمان بن مهران عن أبي عبداللّه (عليه السلام)قال: «عشر خصال من صفات الإمام: العصمة والنصوص، وأن يكون أعلم الناس، وأتقاهم للّه، وأعلمهم بكتاب اللّه، وأن يكون صاحب الوصية الظاهرة، ويكون له المعجز والدليل، وتنام عينه ولا ينام قلبه، ولا يكون له فيء، ويرى من خلفه كما يرى من بين يديه»(2)، وما عن سليم بن قيس قال: سمعت أميرالمؤمنين (عليه السلام)


(1) راجع بحار الأنوار 23: 66 ـ 75، باب أن الإمامة لا تكون إلاّ بالنصّ، و 25: 115 ـ 175، باب جامع في صفات الإمام وشرائط الإمامة، و 25: 191 ـ 211، باب عصمتهم ولزوم عصمة الإمام.

(2) بحار الأنوار 25: 140، باب جامع في صفات الإمام وشرائط الإمامة، الحديث 12.

183

يقول: «إنّما الطاعة للّه عزّ وجل ولرسوله ولولاة الأمر، وإنّما أمر بطاعة أُولي الأمر؛ لأنّهم معصومون مطهّرون لا يأمرون بمعصيته»(1)، وما عن البزنطي عن الإمام الرضا (عليه السلام): «أما علمت أن الإمام الفرض عليه والواجب من اللّه إذا خاف الفوت على نفسه أن يحتجّ في الإمام من بعده بحجّة معروفة مبيّنة...»(2)، وما عن يزيد بن الحسن الكحّال، عن أبيه، عن موسى بن جعفر (عليه السلام)عن أبيه عن جدّه عن علي بن الحسين (عليهم السلام) قال: «الإمام منّا لا يكون إلاّ معصوماً، وليست العصمة في ظاهر الخلقة فيعرف بها، فلذلك لا يكون إلاّ منصوصاً»(3).

وما عن سعد بن عبداللّه القميّ قال: «سألت القائم (عليه السلام) في حجر أبيه، فقلت: أخبرني يا مولاي عن العلّة التي تمنع القوم من اختيار إمام لأنفسهم. قال: مصلح أو مفسد؟ قلت: مصلح. قال: هل يجوز أن تقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد؟ قلت: بلى. قال: فهي العلّة أيّدتها لك ببرهان يقبل ذلك عقلك؟ قلت: نعم. قال: أخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم اللّه وأنزل عليهم الكتب وأ يّدهم بالوحي والعصمة؛ إذ هم أعلام الأُمم وأهدى أن لو ثبت ( فأهدى إلى ثبت خ ل ) الاختيار، ومنهم موسى وعيسى (عليهما السلام)هل يجوز مع وفور عقلهما وكمال علمهما إذا همّا بالاختيار أن تقع خيرتهما على المنافق وهما يظنّان أنه مؤمن؟ قلت: لا. قال: فهذا موسى كليم اللّه مع وفور عقلهوكمال علمه ونزول الوحي عليه اختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات


(1) المصدر السابق 25: 200، باب عصمتهم ولزوم عصمة الإمام، الحديث 11.

(2) المصدر السابق 23: 67، باب أن الإمامة لا تكون إلاّ بالنص، الحديث الأول.

(3) بحار الأنوار 25: 194، باب عصمتهم ولزوم عصمة الإمام، الحديث 5.

184

ربّه سبعين رجلا ممن لم يشكّ في إيمانهم وإخلاصهم، فوقعت خيرته على المنافقين، قال اللّه عزّ وجل: ﴿ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا... ﴾(1)، فلمّا وجدنا اختيار من قد اصطفاه اللّه للنبوة واقعاً على الأفسد دون الأصلح، وهو يظن أنه الأصلح دون الأفسد علمنا أن لااختيار لمن لايعلم ما تخفي الصدور وما تكنّ الضمائر وتنصرف عنه السرائر، وأن لا خطر لاختيار المهاجرين والأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء على ذوي الفساد لمّا أرادوا أهل الصلاح»(2)وما إلى ذلك من الروايات بهذه المضامين الرادعة عن بيعتهم لخلفاء الجور.

إلاّ أنّ هذا الردع يوجد فيه احتمالان:

الاحتمال الأوّل: أن يكون ردعاً عن تحقّق الولاية بالبيعة بمعنى حقّ الإمارة، لا بمعنى خصوص إمامة الإمام الذي هو السبب المتصل بين الأرض والسماء، فصحيح أنّ وصف العصمة أو ورود النصّ الخاصّ إنما هو من مزايا الإمام الذي هو السبب المتصّل بين الأرض والسماء، ولكن معنى هذه الروايات أنّ الولاية منحصرة بإمام من هذا القبيل، فغيره لا يستطيع أن يكسب الولاية بمجرّد بيعة الناس إيّاه ولو في خصوص فرض غياب المعصوم، وبعنوان النيابة والبدليّة عن المعصوم، لا بعنوان جعله مقابلا للمعصوم.

وهذا الاحتمال باطل بالضرورة؛ لأنّ لازمه هو أنه إذا غاب الإمام المعصوم ودار أمر إدارة الأُمور وتولّي أُمور المسلمين بين أن يكون بيد المؤمنين أو بيد المنافقين أو الفاسقين أو الكافرين وجب على المؤمنين أن يتخلّوا عن ذلك؛


(1) سورة الأعراف: الآية 155.

(2) بحار الأنوار 23: 68 ـ 69، باب أنّ الإمامة لا تكون إلاّ بالنص، الحديث 3.

185

لأنّ الولاية مشروطة بالعصمة والنصّ غير الموجودين، فلتقع الأُمور بيد الكفرة أو الفسقة أو المنافقين، وهذا ضروري البطلان فإنّنا لا نتكلّم في فرض حاجة استلام المؤمنين للسلطة إلى خوض المعركة الدامية في إسقاط النظام الجائر كي تأتي شبهات من لا يجوّز ذلك، بل لنفترض ـ لحصر الحديث في النقطة المطلوب تمحيصها ـ أننا لسنا بحاجة إلى خوض معركة من هذا القبيل، ولو من باب أن هذه المعركة خاضها من كان قبلنا، وكان يعتقد بجوازها، كما هو الحال في زماننا هذا في إيران حيث إنّ الإمام الخميني ـ تغمّده اللّه برحمته ـ خاض معركة إسقاط نظام الشاه الجائر، ونجح فيها، فسواء فرض أنّ عمله كان صحيحاً أو فرض أنه كان مخطئاً في فتواه بجواز خوض معركة من هذا القبيل هل يحتمل فقهياً أنه ـ بعد أن خاضها هذا الذي كان يرى جواز ذلك بل وجوبه وأراح البلاد من ذاك الطاغية ـ يحرم على المؤمنين التصدّي لأُمور السلطة والولاية، فليتنحّوا عن الحكم كي يأتي نظام الشاه أو نظام أتعس من نظام الشاه؟!

فنحن هنا حينما نبحث مسألة الانتخاب لا نحتاج إلى البحث عن أصل مسألة استلام الولاية؛ لأنّ هذا بحث بحثناه بلحاظ خصوص استلام الفقيه للولاية في المسألة الأُولى، فيكفينا أن نبحث هنا بعد الفراغ عن صحة استلام الولاية في الجملة لغير المعصوم ـ عن أنّ هذا هل يرتبط بالانتخاب أو لا؟ وهذه الروايات لو حملت على هذا المعنى الباطل كان مفادها إبطال أصل ولاية غير المعصوم، وقد فرغنا عن صحتها في الجملة.

الاحتمال الثاني: أن يفترض أنّ هذه الروايات تنظر إلى إمامة الإمام بالمعنى الذي يكون سبباً متّصلا بين الأرض والسماء، وتحصر ذلك بفرض العصمة

186

والنص، وتكون في نفس الوقت ردعاً عن بيعة غير المعصوم بمعنى أنه مع وجود الإمام الذي هو سبب متّصل بين الأرض والسماء لا مورد للبيعة لغيره، أو يفترض أنها تنظر مباشرة إلى شرط الولاية بمعنى الإمارة وتحصرها في الإمام المعصوم عند وجوده.

وهذا الاحتمال هو المتعيّن بعد إبطال الاحتمال الأوّل. إذن فهذه الروايات ليست ردعاً عن كبرى فكرة تحقّق الولاية بالبيعة ابتداءً، وإنما تكون ردعاً عن الصغرى المتمثّلة في البيعة لغير المعصوم في مقابل المعصوم وبالرغم من وجود المعصوم. وعليه فأصل كبرى البيعة التي كانت مركوزة في أذهان المسلمين ولو لغير المعصوم لم يردع عنها مطلقاً وإن وقع الردع عن المصداق. إذن فباستطاعتنا أن نستفيد من ذات الارتكاز غير المردوع عنه صحة البيعة والانتخاب بعد ضرورة أصل التصدّي للولاية والسلطة ولو بالحسبة.

وليس هذا تمسكاً بالارتكاز العقلائي الثابت في باب العقود الذي يرد عليه: أنه لا يثبت الولاية على الأقلية غير الراضية بحكم الأكثرية، بل تمسك بسيرة المسلمين على البيعة وارتكاز إفادتها للولاية في أذهانهم كمسلمين.

إلاّ أنه يرد على هذا الوجه أنه لم يثبت لنا أنّ بيعة المسلمين لخلفاء الجور كانت بروح خلق الولاية على غير المبايعين، فلعلهم كانوا يفترضون أنّ إمرة بعض المسلمين على المجتمع لابدّ منها ولو حسبة، وأنّ الأمير لا يستطيع أن يفعل شيئاً لولا امتلاكه لأنصار ومدافعين عنه ومطيعين له، فكان المبايعون يبايعونه على نصرته وإطاعته والدفاع عنه، سنخ ما مضى من مبايعتهم لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، وكان ذلك تعهّداً لا يرتبط إلاّ بمن دخل في هذا التعّهد دون من لم يدخل فيه من أقليّة أو

187

أكثرية، أو لعلّ الخليفة الجائر كان يريد فرض زعامته بالقهر والغلبة ولم يكن ليتمّ له ذلك لو لم يحرز أنصاراً وأعواناً لنفسه، وأخذ البيعة كان عبارة عن أخذ التعهّد من المبايع على النصرة والعون.

ويشهد لذلك في خصوص بيعة الناس لعمر أنها وقعت بعد تعيينه بالنصّ من قبل الخليفة الأوّل، فمن البعيد افتراض أنها كانت بروح تعيينه الآن خليفة وإضفاء الولاية له على غير المبايعين أيضاً، وكذلك بيعة عثمان إنّما وقعت بعد فرض تعيينه بالشورى السداسية، فكأنّها كانت تعهّداً بالوفاء بالولاية لمن فرغوا عن ولايته لا تعهّداً بولاية تسحب على غير المبايعين أيضاً.

البيان الثالث: أن يتمسك بما مضى من احتجاجات أميرالمؤمنين (عليه السلام) على إمامته ـ سلام اللّه عليه ـ ببيعة الناس، فهذا الاحتجاج وإن كان جدلياً بلحاظ أنه (عليه السلام) كانت ولايته ثابتة بالنصّ وبلا حاجة إلى البيعة، لكن تلك الاحتجاجات تدلّ على أيّ حال على كبرى أنّ البيعة أيضاً سبب لخلق الولاية بغضّ النظر عن النصّ، وحملها على الاحتجاج الجدليّ البحت حتى بلحاظ هذه الكبرى بحاجة إلى دليل مفقود، فالقدر المتيقن من سقوط أصالة الجدّ في المقام إنما هو سقوطها بلحاظ ظهور سكوته (عليه السلام) في احتجاجاته عن ثبوت النصّ بشأنه في حصر ولايته بسبب البيعة، دون ظهور كلامه (عليه السلام) في كبرى أنّ البيعة بغضّ النظر عن النصّتورث الولاية.

ولو كان هناك إجمال في هذه الروايات في تشخيص ما هو المقدار اللازممن البيعة الذي يوجب النفوذ على الآخرين الذين لم يبايعوا فلا إشكال فيأنّ بيعة الأكثريّة قدر متيقّن من ذلك، ولعلّ ما في بعض النصوص من فرض

188

كون البيعة للمهاجرين والأنصار يكون بنكتة أنّهم كانوا من أهل الحلّ والعقد فكانت الأكثريّة ترضى برضاهم.

فإن لم نشكّك في أسانيد تلك الاحتجاجات وافترضنا قطعيّة صدق بعضها فدلالتها على المقصود تامّة، ولكن أ نّى لنا بقطعيّة السند؟!

البيان الرابع: الاستفادة من روايات حرمة نكث الصفقة وفراق الجماعة، والظاهر أنّ المقصود بنكث الصفقة ليس مثل نكث صفقة البيع مثلا، وإنما المقصود هو نكث بيعة الإمام، وذلك بقرينة جعله في سياق فراق الجماعة، ويؤيّد ذلك ما ورد في بعض النقول من التعبير بنكث صفقة الإمام. إذن فهذه الروايات تدلّ على حرمة نكث البيعة على الولاية، وهذا ظاهره عرفاً أنّ البيعة تخلق الولاية مستقلةً عن النصّ وغير مقيّده بولاية مسبقة، فلو فرض أنّه يرد على الاستدلال بالسيرة على بيعة المعصوم وبآيات البيعة: أنّه لا إطلاق له للبيعة لمن لم تثبت له الولاية مسبقاً، لا يرد هذا الإشكال على هذا الوجه. نعم حرمة نكث البيعة لا تشمل الأقليّة الذين لم يبايعوا، إذ لا معنى لنكث البيعة بالنسبة لهم، ولكن يشملهم عنوان فراق الجماعة، فتثبت لذلك حرمة مخالفتهم لمن بايعته الأُمّة، وهذا أيضاً لا يرد عليه إشكال احتمال الاختصاص بالبيعة لمن ثبتت له الولاية مسبقاً؛ لأنّ ظاهر هذا النصّ أيضاً أنّ اجتماع الأُمة على من بويع بذاته يورث الولاية بقطع النظر عن ولاية مسبقة.

وهذه الروايات وإن كانت ضعيفة السند ولكن قد يدعى أنّ النهي عن فراق الجماعة كان مشتهراً إلى حدّ أنك عرفت ورود روايات في السؤال عن معنى الجماعة، وجواب الرسول (صلى الله عليه وآله) أو الإمام (عليه السلام)بأنهم جماعة أهل الحقّ وإن قلّوا مما

189

يشهد لكون حديث النهي عن فراق الجماعة نصّاً معهوداً في الأذهان، فورد السؤال عن معنى الجماعة من دون ذكر لنفس النصّ.

واحتمال الافتراء في هذا النصّ وتشهيره من قبل وعّاظ السلاطين لصالح الطاغوت موجود، بأن يكون ذلك منسوجاً ضدّ الشيعة الذين كانوا في الأقليّة، فكانوا يعدّون مفارقين لجماعة المسلمين أو خالعين لجماعة المسلمين، ولكن هذا الاحتمال لا يرد في الروايات التي فسّرت الجماعة بمعنى جماعة أهل الحقّ وإن قلّوا، وهي وإن كانت أخبار آحاد وغير تامّة السند لكنها على أية حال تصلح لتأييد المقصود.

وتقريب الاستشهاد بهذه الروايات هو أنّ المحتملات في المقصود من كلمة جماعة المسلمين ثلاثة:

الأوّل: أن يكون المقصود غالبية المسلمين والذين كانوا وقتئذ همجاً رعاعاً تبعوا خليفة الجور، وعلى هذا الاحتمال تكون هذه الروايات مجعولة من قبل وعّاظ السلاطين، ولكن هذا الاحتمال كما قلنا لا يتطرّق في الروايات التي فسّرت جماعة المسلمين بجماعة أهل الحقّ وإن قلّوا أو وإن كانوا عشرة.

والثاني: أن يكون المقصود بالجماعة جماعة أهل الحقّ كما فسّرت بذلك في بعض تلك الروايات على ما عرفت، وتكون النكتة في تحريم مفارقة الجماعة هي أنّهم افترضوا مسبقاً أهل الحقّ، فمخالفتهم تعني مخالفة الحقّ، وليست النكتة في ذلك كامنة في عنوان الجماعة بما هي جماعة، وبناء على هذا التفسير تكون هذه الروايات أجنبية عن ما نحن فيه، إلاّ أنّ هذا الاحتمال خلاف الظاهر؛ لأنّ الظاهر من تحريم مفارقة الجماعة كون نكتة التحريم كامنة في عنوان الجماعة بما هي جماعة.

190

والثالث: أن يكون المقصود من الجماعة جماعة أهل الحقّ كما هو الحال في الاحتمال الثاني، ولكن نكتة التحريم تكمن في عنوان الجماعة بما هي جماعة، ولا يكون المقصود من أهل الحقّ خصوص الذين بايعوا من ثبتت له الولاية مسبقاً وقبل البيعة، بل المقصود بذلك الذين بايعوا من يكون أهلا للبيعة وواجداً لشرائط إلباسه ثوب الولاية؛ إذ لا إشكال في أنه لا يتمّ منح الولاية بالبيعة لكل أحد ولو كان فاسقاً فاجراً. إذن فمعنى الرواية: أن بيعة أكثرية من لا يبايع إلاّ المتواجد لشروط أهلية الولاية تنفذ على الآخرين وإن كانوا بالقياس إلى الذين يبايعون الطاغوت قلّة، فإذا بطل الاحتمال الأوّل والثاني تعيّن هذا الاحتمال وبه تثبت شرعية الانتخاب.

إلاّ أنّ ضعف هذا الوجه كما أشرنا إليه عبارة عن ضعف الأسانيد.

وقد اتّضح بهذا العرض أنّ جميع هذه الوجوه العشرة للانتخاب غير تامّ.

 

الترجيح بالانتخاب بعد فرض صلاحيّة الولاية:

 

وهناك وجه آخر غير هذه الوجوه العشرة ذكره في «الدراسات» لا لإثبات شرعية الانتخاب في تحقيق الولاية ابتداءً، بل لإثبات أنه بعد فرض الفراغ عن صلاحية فئة من الناس واجدة لمواصفات معيّنة لاستلام الولاية ـ وليفترض أنهم هم الفقهاء الواجدون للشرائط ـ لابدّ عقلا من تدخّل الانتخاب في تعيين الوليّ، وأنا أصوغ الوجه العقلي الذي ذكره(1) بهذه الصياغة:


(1) راجع دراسات في ولاية الفقيه 1: 409 ـ 415.

191

إنّنا إمّا أن نفترض تعدّد الأولياء الثابتة لهم الولاية الفعلية لإدارة البلادبتعدّد الفقهاء مثلا أو نفترض وحدة الوليّ بترجيح أحدهم على الآخرين،وعلى الثاني إمّا أن يفترض الترجيح بصفة واقعية بحتة في الولي كالأعلميةأو الأكفئيّة أو يفترض الترجيح باختيار الناس وانتخابهم، ولو بأن يكون انتخابه على أساس ما قد تعتقده الأكثرية من صفة واقعية في من انتخبوه كما لو اعتقدوا أنه أعلم أو أكفأ:

أمّا افتراض ثبوت الولاية الفعلية لكلّ الفقهاء الواجدين للشرائط مثلا فغير محتمل؛ لأنّ ذلك يؤدّي لدى إعمال فردين منهم الولاية إلى التضارب وإلى فساد وضع المجتمع لا إلى صلاحه.

وأمّا افتراض الترجيح بصفة واقعية بحتة في الوليّ كالأعلمية أو الأكفئية من دون دخل لاختيار الأكثرية وانتخابهم إيّاه في ذلك فهذا أيضاً غير محتمل؛ إذ أوّلا قد يتّفق تساوي فقيهين مثلا في تلك الصفة الواقعية، فنقع مرّة أُخرى في الفساد الذي أشرنا إليه في الافتراض الأول. وثانياً أنّ الترجيح بأمر واقعي بحت إنّما يمكن في العمل الفردي كما في باب التقليد الشخصي، فبالإمكان افتراض أنّ التقليد يكون لدى تعدّد الفقهاء للأعلم، فكلّ فرد يقلّد من يعتقد أنه أعلم، فالمرجّح الواقعي هو الأعلمية، واعتقاد الفرد المقلّد للأعلمية طريق إلى ذاك الواقع، وكذلك في موارد إعمال الولاية بشكل فردي وجزئي قبل بلوغ الأُمّة مستوى استلام زمام الحكم، فلو فرض أنّه لدى تعارض حكمين ولائيين يتبع كلّ فرد من يعتقد أكفئيته بأن كان المرجح الواقعي هو الأكفئية، وكان تشخيص الفرد للأكفئيّة طريقاً إلى الواقع لم يكن بذلك بأس.

192

أمّا في الولاية التي لابدّ من تطبيقها على المجتمع كمجتمع كما في إدارة دفّتي السلطة الإسلامية فالترجيح بصفة واقعية بحتة غير ممكن؛ لأنّ الناس يختلفون في تشخيص من هو الأكفأ أو الأعلم، فنتورّط مرة أُخرى في الفساد الذي ينشأ من تعدّد الأولياء.

إذن فلابدّ أن يكون لانتخاب الأكثرية دخل واقعي في الولاية ولا يصحّ افتراض أنّ ما هو الدخيل واقعاً في الولاية إنّما هو الأكفئية مثلا، ويكونتشخيص الأكثرية طريقاً ظاهرياً إلى ذلك، وذلك لأنّ الطريق الظاهري يسقطعن الحجّية لدى العلم بالخلاف، فلو كانت الأقليّة معتقدة خطأ الأكثرية في انتخابها سقط هذا الطريق الظاهري بالنسبة لهم عن الحجية، فلابدّ أن يكون للأكثرية أمير وللأقلية أمير آخر، ونتورّط مرّة أُخرى في الفساد الذي ينشأمن تعدّد الأولياء.

وتوجد في هذا البيان ثغرتان لابدّ من ملئهما كي يتمّ عندئذ هذا البيان:

الثغرة الأُولى: أنّه لِمَ لا نقول لدى التعارض بالتساقط وانتفاء الولاية؟! وكأنّ صاحب «الدراسات» كان قد افترض مسبقاً فساد ذلك ولو لوضوح فساد بقاء المجتمع بلا وليّ يدير الأُمور.

إلاّ أنّ تخريج ذلك يكون بحاجة إلى شيء من التدقيق والتعميق، وحاصله: أنّ الأساس الذي اعتمدناه لإثبات أصل الولاية إما أن يكون هو الأساس الأوّل من الأُسس الثلاثة الماضية في بحث المسألة الأُولى وهو الحسبة، أو الثاني وهو الأدّلة اللفظية على وجوب إقامة الحكم الإسلامي، أو الثالث وهو الدليل اللفظي على ولاية الفقيه.

193

أمّا على الأساس الأوّل فلا يرد إشكال التعارض والتساقط؛ لأنّ مفاده ليس هو فعلية الولاية لكل فقيه مثلا حتى نبتلي بالتعارض والتساقط، وإنّما مفاده هو وجوب التصدّي كفاية لإدارة الأُمور بلا إطلاق في المقام من حيث الشروط، وليكن القدر المتيقّن من ذلك من يقع عليه الانتخاب.

وأمّا على الأساس الثاني فأيضاً لا يرد هذا الإشكال، فإنّ دليل وجوب إقامة الحكم لا يدلّ أيضاً على الولاية الفعلية لكل فقيه مثلا وإنما مفاده الوجوب الكفائي لإدارة الحكم بلا إطلاق في المقام من حيث الشروط، وليكن القدر المتيقّن من ذلك من يقع عليه الانتخاب.

وأمّا على الأساس الثالث فقد يورد عليه هذا الإشكال، فيقال: إنّ الدليل اللفظي لمبدأ ولاية الفقيه يبتلي لدى تعارض حكمين من قبل فقيهين بالتعارض الداخلي والتساقط، كما هو الحال في دليل حجية خبر الواحد مثلا لدى تعارض خبرين، أو دليل التقليد لدى تعارض فتويين من فقيهين متساويين.

والجواب: أنّ هناك فرقاً بين ما نحن فيه وبين تلك الموارد، وهو ارتكازية أنّ تعارض الوليّين ليس المفروض به أن يوجب بقاء المجتمع بلا وليّ، فهذا الارتكاز يعطي لدليل الولاية إطلاقاً إجمالياً في فهم العرف لفرض التعارض، أي أنّ ذاك الدليل تنقلب دلالته في فرض التعارض من الدلالة على الولاية التعيينية لكلّ فقيه مثلا إلى الدلالة على أنّ دائرة الولاية إجمالا هي الفقهاء، ولابدّ عندئذ من التمسك بالقدر المتيقّن، ولا شكّ أنّ المنتخب هو القدر المتيقن بعد ما لم يكن بالإمكان كون الأعلم الواقعي أو الأكفأ الواقعي هو القدر المتيقن؛ لما عرفت من أنّ إسناد الولاية على المجتمع إلى خصوص الأعلم أو الأكفأ غير معقول.

194

الثغرة الثانية: أنّنا لئن اضطررنا إلى مرجّح إثباتي لحلّ مشكلة تعدّدالقادة على أساس أنّ المرجّح الثبوتي كالأكفئية يقع الخلاف فيه بين الناس، وبذلك تعجز القيادة عن فعلها القيادي، فلابدّ من مرجّح إثباتي لا يختلففي تشخيصه الناس، فما الذي أثبت لنا أنّ ذاك المرجّح هو اختيار الناس،ولم لا يكون ذاك المرجح عبارة عن القرعة مثلا أو عبارة عن اختيار الفقهاء بالانتخاب في ما بينهم لأحدهم دون اختيار الأُمّة وانتخابها، أو عبارة عنأكثرية رأي الفقهاء في كلّ مسألة بأن يتحوّل الأمر إلى شورى القيادة فيمابينهم؟

وقد يجاب على هذا الإشكال: بدعوى القطع بأنّه لو كان مرجح إثباتي في المقام فالمتيقّن منه هو انتخاب الأُمّة لا غير، وهذه الدعوى لا يمكن إثباتها أو نفيها بالبرهان إلاّ أن تكون بروحها راجعة إلى الجواب الثاني.

وأُخرى يجاب عليه: ببيان أنّ دليل ولاية الفقيه المطلق وهو التوقيع الماضي مثلا كان المترقّب فيه بطبيعة إطلاق متعلّق المتعلّق وهو الفقيه أن يكون إطلاقه شمولياً، فكان المفروض أن يشمل كلا المتشاحّين في الولاية ويوجب ذلك التساقط، ولكن بعد فرض القرينة العقلائية الارتكازية المانعة عن حمل الدليل على فرض الشمول المؤدّي إلى التعارض والتساقط كما نقول بذلك في دليل التقليد أيضاً ينصرف الدليل ـ سواء دليل الولاية أو دليل التقليد ـ من الإطلاق الشمولي الموجب للتساقط إلى الإطلاق البدلي الموجب للتخيير، ولا موجب في بداية الأمر لترجيح ثبوتي ولا إثباتي لأحد الأفراد على الآخر، أي أنّ المطلق بعد وجود مانع عن حمله على الشمول والاستغراق ينصرف إلى البدلية والتخيير،

195

لا إلى الترجيح إلاّ إذا كان المرجّح عبارة عن نفس نكتة الحجّية المفهومة عرفاً، ويكون الفاصل بمقدار كبير كالأعلمية في التقليد والكفاءة في الولاية، فلو كان أحدهم أعلم من الآخرين بمقدار مساو لملاك التقليد أو أكثر منه، أو كان أحدهم أكفأ من الآخرين بمقدار مساو لملاك الولاية أو أكثر منه فلا إشكال عندئذ في الترجيح، وهذا يكون دائماً ترجيحاً بملاك ثبوتي في القضايا الفردية كالتقليد أو الولاية في أُمور جزئية قبل إقامة الحكم الإسلامي مما يمكن التفكيك فيه بين الأشخاص، فكلّ يرجع إلى من يراه أعلم أو أكفأ، وفي غير فرض وجود مرجّح من هذا المستوى يتّم التخيير؛ لأنّ فهم العرف من المطلق الذي كان الأصل فيه الشمولية تحوّل إلى البدلية والتخيير، وهذا التخيير في القضايا الفردية تخيير فردي، فالمقلّد يتخيّر في تقليد أحد المفتين، والمولّى عليه يتخيّر في إتّباع أحد المتشاحّين في الولاية.

أمّا في باب الولاية على المجتمع فالتخيير الفردي غير معقول، وإلاّ لاختار كلّ أحد وليّاً، وهذا هدم للولاية والقيادة كما هو واضح، فهنا يتحوّل مرّة أُخرى فهم العرف للدليل من التخيير الفردي إلى التخيير الجمعي، أي أنّ الأُمّة بمجموعها هي التي ستختار الوليّ بمعنى أنّ لكل فرد منهم دخلا في هذا التخيير وصوتاً ملحوظاً ضمن الأصوات، وهذا يعني الانتخاب والترجيح بالأكثرية، وكذلك الترجيح الثبوتي بالأكفئية الكبيرة يكون أمر تشخيصه بيد الكلّ لا بيد فرد واحد وإلاّ لزم تعدّد الأولياء، وهذا أيضاً يعني الانتخاب لمن هو أكفأ في نظر كلّ فرد فرد، أي أنّ كلّ فرد له حقّ الإدلاء بصوته في تشخيص الأكفأ، وهذا يعني الترجيح بأكثرية الآراء، وهذا ما سمّيناه بالمرجّح الإثباتي.

196

هذا فيما إذا كان لدينا دليل لفظي مطلق على ولاية الفقيه، وكذلك الحال في ما إذا كان دليلنا على ولاية الفقيه عبارة عن دليل لفظي أوجب على المجتمع إقامة الدولة الإسلاميّة زائداً ضرورة الاقتصار على القدر المتيقّن ممّن تجوز للأُمّة تسليطه على أنفسهم وهو الفقيه، فهنا أيضاً نقول: إنّ ذاك الدليل دلّ على أنّه يجب على المجتمع كفاية تحقيق الدولة الإسلامية وتشخيص قيّم عليها وفق المتيقّن من واجد الصفات المحتمل دخلها في الولاية، ويفهم من ذلك عرفاً تخييرهم في تعيين من يريدون أو ترجيحهم بما يعتقدونه من الأكفئيّة، وهذا التخيير أو الترجيح ليس أمراً فردياً كما في باب التقليد أو في باب الولاية الجزئية، بل أمر جمعي ليس له مفهوم معقول عدا الانتخاب والأخذ بأكثرية الأصوات.

وأما إذا كان الدليل على الولاية عبارة عن الحسبة، والتي ليس لها إطلاق أو ظهور لفظي فهنا ينحصر حلّ اللغز بالجواب الأوّل، وهو أنّ الانتخاب والترجيح بالأكثرية بعد فرض التشاحّ هو القدر المتيقّن مما نستطيع أن نقطع معه برضا الشارع.

بقي في المقام شيء، وهو أنّ هذا الوجه لإثبات الانتخاب إنّما يكون مفاده هو الترجيح بالانتخاب لدى التشاحّ في إعمال الولاية، أمّا إذا لم يكن بين الفقهاء تشاحّ من هذا القبيل فلا يبقى مورد لهذا الوجه بالتقريب الذي عرفت فإن وقع التشاحّ فالقدر المتيقّن مما يفصل الكلمة هو انتخاب الأُمّة بلا إشكال.

وإن لم يقع التشاحّ كما لو تصدّى البعض للقيادة دون غيره، أو توافق المتنافسون على أن ينتخبوا هم من بينهم بأكثرية آرائهم فرداً منهم للقيادة فهل يجب هنا أيضاً الانتخاب أو لا داعي للانتخاب ما دام التشاحّ غير موجود؟

197

إن كان دليلنا على ولاية الفقيه عبارة عن نصّ يتمتّع بالإطلاق، وهو الأساس الثالث من الأُسس الثلاثة لولاية الفقيه فلا حاجه إلى الانتخاب في غير فرض التشاحّ، ومن يتصدّى للحكم ويسيطر على الأُمور وهو جامع للشرائط يجب على الأُمّة الانقياد له، ويحرم على الفقهاء الآخرين شقُّ عصا المسلمين.

وإن كان دليلنا على ذلك عبارة عن أحد الأساسين الأوَّلين اللذين يكون تعيين الفقيه للقيادة بناء عليهما من باب القدر المتيقّن، فقد يقال: إنّ القدر المتيقّن إنّما هو الفقيه المنتخب للأُمّة فلابدّ من الانتخاب رغم عدم التشاحّ. نعم لو لم تستعدّ الأُمّة لأيّ سبب من الأسباب للانتخاب وجب على أحد الفقهاء ـ الجامعين لسائر الشروط ـ كفاية القيام بوظائف الولاية وحمل الراية بنفس دليل الحسبة أو الدليل اللفظي الدالّ على وجوب إقامة الحكم الإسلامي كفاية.

وقد يقال: إنّ الانتخاب إنّما يجعل الشخص المنتخب قدراً متيقّناً، لدى التشاحّ أو لدى وقوع الانتخاب بالفعل، أمّا لدى عدم التشاح وعدم وقوع الانتخاب بالفعل فلا نكتة لكون المنتخب قدراً متيقناً، بمعنى أن يكون الانتخاب مقدّمة ضرورية لتحصيل من يقطع بولايته.

 

التمسّك بما ورد في ( الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله) ):

 

هذا، وهناك وجه آخر يمكن أن يذكر لإثبات الانتخاب، وهو أيضاً لو تمّ لم يكن له الإطلاق كأكثر الوجوه السابقة، ولابدّ فيه من الاقتصار على القدر المتيقّن وهو الفقيه، وذاك الوجه هو الاستدلال بما مضى من رواية العيص التامّة سنداً،

198

والتي ورد فيها قوله: «ولا تقولوا خرج زيد، فإنّ زيداً كان عالماً وكان صدوقاً، ولم يدعكم إلى نفسه وإنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه...»(1)، وذلك بناء على تفسير قوله: «الرضا من آل محمد» بمعنى المرتضى من قبل الناس من آل محمد، وهذا يعني الانتخاب.

إلاّ أنّ هذا التفسير بعيد؛ وذلك لما ورد في ذيل هذا الحديث من قوله: «فالخارجُ منّا اليوم إلى أيّ شيء يدعوكم؟ إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)؟ فنحن نشهدكم أ نّا لسنا نرضى به، وهو يعصينا اليوم، وليس معه أحد، وهو إذا كانت الرايات والألوية أجدر أن لا يسمع منّا...»، فمن الواضح من هذا الذيل أنّ الإمام (عليه السلام) طبّق عنوان «الرّضا من آل محمّد» على نفسه، في حين أنه لم يكن قد وقع وقتئذ انتخاب عليه من قبل الأُمّة، وإنما كانت إمامته بالتعيين من قبل اللّه تعالى. إذن فالظاهر أنّ المقصود بالرّضا من آل محمد المرتضى للّه أو للشريعة الإسلامية من آل محمد.

أمّا ما هو المقياس في ارتضاء اللّه أو الشريعة الإسلامية لشخص للولاية، هل هو التعيين أو الانتخاب أو غير ذلك؟ فهذا أمر مسكوت عنه.

ولا يعارض هذا التفسير ما ورد في بعض الأحاديث من أنّ زيداً لم يكن يؤمن بإمامة الإمام (عليه السلام)(2)، فإنّ هذا لو تم لا ينافي الدعوة للرضا من آل محمد، فلنفترض أنه لم يكن يعرف زيد من هو الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله) ولكن كان يدعو على سبيل الإجمال إلى الرّضا من آل محمد إلى أن يعرف بعد الانتصار بالبراهين والحجج من هو الرّضا من آل محمّد.


(1) وسائل الشيعة 11: 36، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث الأول.

(2) راجع معجم رجال الحديث 7: 349 ـ 354، برقم ( 4870 )، ترجمة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، بحسب الطبعة الثالثة.

199

نعم تلك الروايات تعارض قوله (عليه السلام) في رواية العيص: «فإنّ زيداً كان عالماً»، فإنّ الظاهر أنّ المقصود بذلك كونه عارفاً بالإمام الحقّ.

وفي ختام البحث عن مسألة الانتخاب نشير إلى أمرين قد اتضح الحال فيهما في الحقيقة من الأبحاث التي عرفتها:

 

انتخاب غير الفقيه:

 

الأمر الأوّل: هل يحقّ للأُمّة أن تنتخب غير الفقيه وليّاً لها شريطة أن يرجعهذا الولي في فهم الأحكام الفقهية الدخيلة في عمله ومواقفه إلى فقيه بالتقليدأو لا؟ وقد اتّضح مما عرفته من الأبحاث أنّه لا يحقّ لها ذلك، وذلك لا لأجل دليل خاصّ على شرط الفقاهة في الوليّ كما مضى عن كتاب «دراسات فيولاية الفقيه» فإنّك قد عرفت النقاش في ذلك لدى البحث عن المسألة الأُولى،بل لأجل أنه لا إطلاق في دليل الانتخاب يثبت به جواز انتخاب غير الفقيه للولاية، فلابدّ من الاقتصار في مقابل أصالة عدم الولاية على القدر المتيقّنوهو الفقيه، وقد مضى النقاش في كلّ دليل من أدلّة الانتخاب الذي يمكندعوى الإطلاق فيه بما فيها الدليل الذي نقلناه عن أُستاذنا الشهيد (قدس سره) من التمسّك بآية الشورى(1) منضمّة إلى قوله تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْأَوْلِيَاءُ بَعْض ﴾(2).


(1) سورة الشورى: الآية 38.

(2) سورة التوبة: الآية 71.

200

الفقيه غير المنتخب:

 

الأمر الثاني: الفقيه الذي لم ينتخب هل تكون له الولاية في غير دائرة أوامر الوليّ المنتخب، وفي غير فرض تحقّق التعارض مع غيره والتساقط أو لا؟ هذا مبتن على الإيمان بالأساس الثالث من الأُسس الثلاثة التي شرحناها لمبدأ ولاية الفقيه وعدمه، وهو أساس الدليل اللفظي على ولاية الفقيه، فإن لم نؤمن به لم تثبت للفقيه الولاية إلاّ عند عدم وجود فقيه منتخب كما هو الحال في ما قبل بلوغ الأُمّة مستوى انتخاب الحاكم لها، فعندئذ تثبت الولاية للفقيه بقدر الأُمور الحسبية لا أكثر من ذلك وإن آمناً به كما اخترناه في ما مضى. إذن تثبت للفقيه غير المنتخب الولاية شرط عدم التدخّل في دائرة أوامر الوليّ المنتخب، أي أن ولاية الأمر العامّة تختص بالفقيه المنتخب، ولكن لا ينافي ذلك تدخلّ فقيه آخر في دائرة جزئية لم يتصدّ لها الوليّ العامّ.

وعليه فبقدر ما يختار في ما مضى من تماميّة الدليل الخاصّ على ولاية الفقيه تثبت الولاية للفقيه غير المنتخب فيما لا يزاحم أوامر الفقيه المنتخب.

وأمّا ما ستأتي إن شاء اللّه في البحث القادم من روايات عدم تعدّد الإمامفي عصر واحد فلو تعدّينا من مورد تلك الروايات وهو الإمام المعصوم إلى الفقيه فهي إنّما تدلّ على عدم جواز تعدّد الوليّ العامّ على مجتمع واحد، وهذا لا ينافي جواز إعمال أحدهم الولاية في غير دائرة أوامر الفقيه المنتخب، ولا يعارض إمامة ذاك الفقيه.

201

 

 

 

المسألة الثالثة:

 

 

شورى القيادة

 

 

· إبطال فكرة الشورى بالنصوص.

· إبطال فكرة الشورى بقصور الدليل.