453

تفصيلات وتطبيقات للشروط العامّة

 

أوّلا: في ما يتعلّق بالشرط الأول:

(101) في ما يتعلق بالشرط الأول ـ وهو طيّ المسافة المحدّدة ـ قد تسأل: هل هناك فرق بين طيّها بصورة اُفقية كراكب السيارة يطوي المسافة برّاً، وبين طيّها بصورة عمودية، كراكب الطائرة إذا اُتيح له أن يرتفع جوّاً بقدر تكتمل به المسافة المحدّدة؟

والجواب: لا فرق بين الحالتين، شريطة أن لا يدخل في حساب المسافة الشرعية ذلك القدر من الارتفاع الذي يعتبر فيه المسافر لا يزال في جوّ بلدته وغير مغادر لها.

(102) وقد تسأل: إذا طويت المسافة اُفقياً ولكن على شكل دائريٍّ فهل يكفي ذلك، أو يتوقّف القصر على أن تكون المسافة في خطٍّ مستقيم بالقدرالمحدّد () كيلومتراً؟

والجواب: يكفي ذلك (1). ومثاله: أن يكون بلد المسافر واقعاً على محيطدائرة، ومحيطها ـ باستثناء ما تشغله بلدته من مسافة ـ يساوي المسافة المحدّدة، فإذا قصد المسافر قطع هذه المسافة بالسير على محيط تلك الدائرة كفى ذلك،


(1) بناءً على ما استظهرناه من شرط العمق بأن لا يقلّ الذهاب عن أربعة فراسخ لو تمّ العمق بين بلده وبين نقطة الانتهاء بمعونة التدوير وكان التدوير طريقاً سالكاً عرفاً بين البلدين وجب التقصير وإلّا فلا.
454

لاحظ الصورة التالية:

(103) وقد تسأل: إذا قطع المسافر المسافة المحدّدة وذلك بأن تحرّك ذاهباً آيباً إلى أن أكمل المسافة، فهل يقصر ؟ ومثال ذلك: أن يطوي خمسة كيلومترات ثم يرجع ويطويها ثانية حتى يصنع ذلك مراراً عديدة.

والجواب: أنّ هذا ليس سفراً شرعياً، ولا قصر فيه.

(104) وقد تسأل: إذا كان الطريق الممتدّ بين بلدتين يشتمل بطبيعته على ذهاب ورجوع تفادياً لمياه أو لصخور في الطريق تضطرّ الإنسان إلى السير في خطوط منكسرة كما في الصورة:

فهل تقدّر المسافة وفقاً لكلّ الخطوط التي سار عليها المسافر فعلا، أو تقدّر بافتراض خطٍّ مستقيم بين البلدتين وتقدير امتداده ؟

والجواب: بل تحسب تلك الخطوط، فالمقياس هو مقدار ما طوى المسافر فعلا من المسافة؛ ما دام طيّه لها جارياً حسب المألوف والمقرر عادةً فيالسفر.

(105) وقد تسأل: إذا كانت هناك قرية في قمّة جبل وقرية اُخرى في سفحه،

455

وكان الطريق من الاُولى إلى الثانية يتطلّب الدوران حول الجبل مراراً عديدةً إلى أن يصل الإنسان إلى القرية الثانية، على الرغم من أنّ المسافة بين القريتين إذا قدّرت بالنظر ومُدّ خطّ مباشر بينهما تكون قصيرةً، فما هو المعيار ؟

والجواب: المعيار هو المسافة التي يطويها الإنسان من خلال دورانه حول الجبل؛ ما دام هذا هو الطريق المألوف للوصول من إحدى القريتين إلى الاُخرى.

(106) وإذا كنت تريد السفر من بلدك إلى بلد آخر والرجوع منه وكانتالمسافة التي تطويها في الذهاب والرجوع () كيلومتراً وجب القصر؛ لأنّ الذهاب والإياب يعتبر سفراً واحداً ما لم يتخلّله في الأثناء أحد قواطع السفرالمتقدّمة في الفقرة (98) إلى (100)، فلو كنت تريد ـ مثلا ـ أن تبقى في البلد الآخر عشرة أيام ثمّ ترجع فلا قصر.

(107) وقد تسأل: إذا كان بين هذين البلدين طريقان: أحدهما أقرب؛ لأنّه يساوي ثلث المسافة المحدّدة، والآخر أبعد لأنّه يساوي ثلثي المسافة المحدّدة فما هو الحكم ؟

والجواب: إن قرّر أن يسلك الأبعد الذي يساوي ثلثي المسافة ذهاباً ورجوعاً، أو سلك الأبعد في إحدى المرّتين(1) ذهاباً ـ مثلا ـ وسلك الأقرب الذي يساوي ثلث المسافة في المرّة الاُخرى رجوعاً ـ مثلا ـ فيقصّر، وإن سلك هذا الأقرب ذهاباً ورجوعاً معاً فلا يقصّر.

وإذا سلك أحد الطريقين ولم يقرّر بعدُ نوعَ الطريق الذي سيختاره في


(1) بشرط حفظ العمق الذي أشرنا إليه في ذهابه بأن لا يقلّ عن أربعة فراسخ.
456

رجوعه فماذا يصنع ؟

والجواب: إذا كان قد سلك الطريق الأبعد فعلا في ذهابه فحكمه القصر ما دام ناوياً الرجوع من أحد الطريقين على أيّ حال. وإذا كان قد سلك الطريق الأقرب في ذهابه وهو متردّد في نوع الطريق الذي سيختاره في الرجوع فلا يقصّر؛ حتّى ولو تجدّد له عند الرجوع العزم على اختياره الطريق الأبعد.

(108) وقد تسأل: إذا كان أحد الطريقين يمثّل نصف المسافة المحدّدة والآخر يمثّل ربعها فما هو الحكم ؟

والجواب: إن سلك المسافر الطريق الأبعد الذي يمثّل النصف ذهاباً ورجوعاً وجب عليه القصر، وإن سلك الطريق الأقرب الذي يمثّل الربع ذهاباً ورجوعاً، أو في إحدى المرّتين على الأقل فلا يقصّر. وكذلك إذا سلك الطريق الأبعد ذهاباً ولم يقرّر عند الذهاب نوع الطريق الذي سيختاره في رجوعه فإنّه لا يقصّر؛ حتّى ولو اختار بعد ذلك الرجوع من نفس الطريق الأبعد.

(109) وقد تسأل: إنّ المسافر تارةً يطوي المسافة من أجل أن يصل إلى بلد آخر مثلا، وقد يطوي المسافة أحياناً لا يريد بذلك إلّا طيّ المسافة فقط، كمنيريد أن يجرّب السيارة، أو يجرّب نفسه في سياقتها فيسافر بها ( 51 43 ) كيلومتراً من أجل ذلك، فهل هما سواء في الحكم ؟

والجواب: نعم، هما سواء، ويجب القصر في كلتا الحالتين.

(110) تثبت المسافة بالحسّ والتجربة، وبالبيّنة العارفة العادلة، أي شهادة عدلين، وبخبر الثقة العارف (1)، وإذا لم يتوفّر شيء من هذا لإثبات طيّ المسافة المحدّدة بقي المسافر على التمام، وأدّى الصلاة أربع ركعات، وكذلك إذا تضاربت



(1) فيه إشكال لمناقشتنا في حجيّة خبر الواحد في الموضوعات.

457

الشهادات المتكافئة، كما إذا شهدت بينة بالمسافة وبينة اُخرى بنفيها.

(111) ولا يجب على المسافر الفحص والبحث عن المسافة(1) التي طواها في سفره فعلا، ووضع مقاييس لضبط عدد الكيلو مترات في سفرته لكي يعرف أنّه طوى ثلاثةً وأربعين كيلومتراً وخمس الكيلومتر، بل كلّما اتّفق له إن تأكّد من طيّ تلك المسافة المحدّدة بالطرق السابقة (من تجربة أو بينة أو شهادة الثقة (2)) أخذ بذلك وقصّر. وإذا لم تتوفّر له هذه الطرق وظلّ شاكّاً فعليه التمام.

(112) وإذا علم وهو في وسط الطريق بأنّ مجموع السفرة يساوي المسافة المحدّدة قصّر في صلاته، حتّى لو لم يكن قد بقي من تلك المسافة التي يريد طيّها سوى اليسير منها؛ لأنّ المعيار في ابتداء المسافة من حين ابتداء السفر، لا من حين علمه بالمسافة.

(113) وإذا سافر وتأكّد بأحد الطرق السابقة أنّه طوى في سفره المسافة المحدّدة فقصّر، ثمّ انكشف العكس فصلاته باطلة، وعليه أن يعيدها تامّة.

(114) وإذا سافر وتأكّد من عدم طيّ المسافة المحدّدة بالكامل فأتمّ صلاته، أو شكّ في ذلك فأتمّ صلاته ـ تطبيقاً لما تقدم في الفقرة (111) ـ ثمّ انكشف العكس، وعلم أنّه كان قد طوى المسافة المحدّدة فعليه إعادة الصلاة قصراً ما دام الوقت باقياً.

 


(1) إلّا إذا كان الفحص في غاية السهولة بحيث يصدق عرفاً على ترك الفحص ما يشبه إغماض العين عن أمر واضح حتى لا يطّلع عليه، وذلك كما لو كان انكشاف الحال متوقفاً على مجرّد سؤال سهل المؤونة، أو على النظر إلى عدّاد السيارة بعد تجاوز المسافة.
(2) مضى الإشكال في ذلك.
458

ثانياً: في ما يتعلّق بالشرط الثاني:

(115) وفي ما يتعلّق بالشرط الثاني ـ وهو أن تكون المسافة مقصودة ـ قد تسأل: إذا سافر قاصداً إلى بلد ولكنّه لا يدري أقريب هو أم بعيد؟ وفي الطريق أو في مقصده علم بأنّ المسافة تستوجب القصر فماذا يصنع؟

والجواب: أنّه يقصّر؛ لأنّ من قصد بلداً قصد السبيل إليه، والمهمّ هو قصد سفر يحقّق المسافة، سواء كان المسافر عالماً بأنّ سفره يحقّق ذلك، أوْ لا.

(116) وإذا قصد ما دون المسافة ولمّا بلغ مقصده تجدّد له رأي فسافر إلى بلد آخر فماذا يصنع؟

والجواب: أنّ هذا يعتبر ابتداء المسافة من أوّل السير الجديد، أي من حين تجدَّد له رأي في السفر إلى البلد الآخر، ويلغي من الحساب ما طواه قبل ذلك، فإذا كان المجموع من هذا السير الجديد ومن طريق العودة بمقدار المسافة قصّر(1) ما لم يحصل في أثناء ذلك أحد قواطع السفر.

ومثال ذلك: إنسان قصد السير إلى بلد يبعد عن مقرّه ووطنه ثلث المسافة الشرعية، وعند وصوله إلى هذا البلد عزم على السفر إلى بلد آخر يبعد عن البلد الأول أيضاً ثلث المسافة، فسافر إلى البلد الثاني قاصداً العودة إلى مقرّه من نفس الطريق، وعليه يكون المجموع من الذهاب إلى البلد الثاني والإياب إلى الوطن تمام المسافة المعتبرة الثلث للذهاب والثلثان للإياب، وعندئذ يقصّر (2).

ومثال آخر بشكل أكثر تحديداً: كوفي يقصد السفر إلى النجف، وفي النجف يتجدّد له رأي في السفر إلى (أبو صخير)، ثمّ الرجوع منها إلى الكوفة مارّاً


(1) بشرط أن لا يقلَّ ذهابه من أوّل السير الجديد عن أربعة فراسخ.
(2) قد عرفت الإشكال فيه؛ لأنّ الذهاب الأخير لم يكن يمتلك العمق المطلوب.
459

بالنجف، فالمسافة هنا تعتبر من النجف إلى (أبو صخير) إلى النجف إلى الكوفة (1)، وأمّا ما طواه أوّلا من مسافة من الكوفة إلى النجف فيلغى؛ لأنّه لم يكن قاصداً بذلك المسافة المحدّدة بالكامل.

(117) وطالب الضالّة والكلأ والهائِم على وجهه لا يدري أين يتّجه؟ كلّ هؤلاء وما أشبه، يُتمّون الصلاة وإن طَووا المسافة المحدّدة؛ لأنّهم لا يقصدون ذلك (2).

(118) وقد يكون المسافر قاصداً للمسافة المحدّدة في سفره، ولكنّه يشكّ في تمكّنه من مواصلة السفر، أو يحتمل أن تطرأ في الطريق بعض الأسباب التي تصرفه عن الاستمرار في السفر، ففي مثل ذلك لا يعتبر القصد متوفّراً، ولا يصحّ القصر ما لم يكن الاحتمال ضئيلا وممّا لا يعتنى به عادةً من الناحية العملية.

(119) وكلّ من علّق سفره على شرط مجهول الحصول فهو غير قاصد للسفر، وحكمه حكم الحاضر.

ومثاله: أن يخرج من بيته ويسافر إلى ما دون المسافة المعتبرة باحثاً عن رفيق له في سفره، فإن وجده مضى في السير حتّى نهايته، وإلّا عاد إلى ما بدأ.

(120) ولا فرق أبداً في قصد المسافة بين أن يكون قصداً مستقلا أو تابعاً


(1) بشرط اشتمال سفره من النجف إلى النقطة التي يقصدها من أبو صخير على العمق المطلوب وهو أربعة فراسخ.
(2) طالب الضالّة إذا تمادى به طلبه إلى المسافة الشرعيّة فالأحوط أن يجمع بين القصر والتمام.
وأمّا طالب الكلأ فإن كان بمعنى أنّه يتنقّل من كلأ إلى كلأ ولم يعرف كم سيتجدّد عزمه في الانتقال إلى كلأ جديد فما في المتن من عدم التقصير صحيح.
460

لقصد شخص آخر، كالزوجة مع زوجها. وأيضاً لا فرق بين أن يكون التابع مختاراً ـ كالرفيق الذي أوكل أمر السفر إلى رفيقه ـ وبين أن يكون غير مختار، كالجنديّ والأسير.

(121) وإذا جهل التابع قصد المتبوع يبقى على التمام وإن طال الأمد، إلّا أن يعلم في الأثناء بطريق أو بآخر فيعمل بموجب علمه (1)، وفي سائر الأحوال لا يجب على التابع أن يبحث ويفحص عن قصد المتبوع ويتعرّف عليه بالسؤال منه أو من غيره (2).

(122) وقد تسأل: إذا كان من قصد التابع مفارقة المتبوع في أوّل فرصة ممكنة فهل يقصّر، أو يتمّ؟

والجواب: التبعية من حيث هي لا وزن ولا أثر لها إطلاقاً، والمعوَّل على قصد السفر وقطع المسافة بأيّ نحو كان، وليس من شكٍّ في أنّ العزم على مفارقة المتبوع متى سنحت الفرصة يتنافى مع قصد السفر، وعليه يجب التمام، اللهمّ إلّا أن تكون اُمنية التابع صعبةَ المنال، وعندئذ يكون قصد المسافة مفروضاً بحكم الواقع، ويجب القصر حتماً.

(123) وإذا قصد بلداً معيّناً بينه وبين مقرّه ووطنه المسافة، وفي الطريق عدل عنه إلى بلد آخر يماثله في البعد والمسافة، إذا كان ذلك فلا يضرّ هذا العدول من بلد إلى بلد بأصل القصد، وعليه يبقى على القصر، ومثله تماماً إذا قصد بلداً من


(1) وعندئذ يعيد ما صلاّه تماماً بالقصر إن كان في داخل الوقت، ولا يقضي إن كان في خارج الوقت.
(2) مضى استثناء ما إذا كان فحصه خالياً عن المؤونة، وكان عدم فحصه معدّاً عرفاً من قبيل إغماض العين.
461

اثنين لا يعيّنه ما دام بين الوطن وكلّ منهما مسافة القصر؛ لأنّ المعوّل على نوع القصد بصرف النظر عن التمييز والتعيين.

(124) وإذا قصد المسافة وبعد أن طوى شيئاً حارَ في أمره وتردّد في رأيه هل يمضي على قصده أو يعود إلى مقرّه؟ وبعد هذا الشكّ والتردّد عاد إلى قصده الأول وعزم على الاستمرار فهل يقصّر أو يتمّ؟

الجواب: إن كان لم يقطع شيئاً من الطريق عند الحيرة والتردّد يبقى على القصر؛ حتّى ولو لم يكن الباقي مسافةً شرعية. وإن كان قطع شيئاً من الطريق عند الحيرة والتردّد فينظر: هل الذي يقطعه من الطريق بعد العودة إلى الجزم يبلغ المسافة ولو بضمّ الإياب والرجوع (1)؟ فإن بلغها قصّر، وأمّا إذا لم يبلغ المسافة فإنّه يتمّ، والأجدر به استحباباً أن يجمع بين القصر والتمام.

وكلّ ما ذكرناه ينطبق أيضاً على المسافر إذا طوى شيئاً من المسافة ثمّ توقّف وجزم بالعدول عن سفره برهةً وعاد بعد ذلك إلى قصده الأول.

ثالثاً: في ما يتعلّق بالشرط الثالث:

(125) وفي ما يتعلّق بالشرط الثالث ـ وهو أن يعتبر طيّ المسافة سفراً عرفاً ـ قد تسأل: إذا كانت البلدة كبيرةً جدّاً على نحو يساوي السير من نقطة منها إلى اُخرى المسافة المحدّدة ولو بضمّ الرجوع إلى الذهاب فهل يكفي ذلك في القصر؟

والجواب: أنّ هذا لا يكفي؛ لأنّ الإنسان ما دام يتحرّك في بلدته ـ مهما كانت كبيرة ـ فلا يعتبر ذلك سفراً منه عرفاً؛ لأنّ السفر يتوقّف على الابتعاد عن


(1) بشرط أن لا يكون الذهاب بعد العود إلى قصد السفر أقلّ من أربعة فراسخ.
462

البلدة والمقرّ.

(126) وقد توجد بلدان صغيرة على الطريق؛ والفاصل بين البلدة الاُولى والأخيرة بقدر المسافة المحدّدة شرعاً، فإذا سافر ابن البلدة الاُولى من بلدته إلى البلدة الأخيرة منها قصَّر.

وقد تسأل حينئذ: إنّ هذه البلدان إذا اتّصل بعضها بالبعض الآخر نتيجة التوسّع في العمران فماذا يصنع؟

والجواب: أنّه يقصّر أيضاً، إلّا إذا مرّ زمن على هذا الاتّصال والتفاعل بين تلك البلدان الصغيرة حتّى أصبحت بلداً واحداً فى نظر العرف، وسيأتي لذلك توضيح في الفقرة (175) وما بعدها.

رابعاً: في ما يتعلّق بالشرط الرابع:

(127) وفي ما يتعلّق بالشرط الرابع ـ وهو أن لا يقع أحد قواطع السفر أثناء طيّ المسافة المحدّدة شرعاً ـ قد تقول: قد يكون المسافر عازماً على المرور في أثناء المسافة المحدّدة على بلدته ووطنه، ولكنّه لم يمرّ فعلا؛ لعائق منعه عن ذلك وطوى المسافة المحدّدة بكاملها، فهل يقصّر؟

والجواب: أنّ هذا لا يقصِّر؛ لأنّه كان عازماً على المرور بوطنه في أثناء المسافة، ولمّا كان المرور بالوطن قاطعاً للسفر فهو إذن لم يكن قاصداً من أوّل الأمر للسفر بقدر المسافة، وبذلك يفقد الشرط الثاني من الشروط الأربعة.

(128) وقد تسأل: وماذا عمّن يسافر وهو يشكّ في أنّه هل سيمرّ بوطنه وبلدته في أثناء طيّ المسافة، أوْ لا؟

والجواب: أنّ هذا لا يقصّر أيضاً؛ لنفس السبب.

463

(129) وقد تسأل: وإذا سافر الإنسان وهو يشكّ في أنّه هل سيقيم في بلد على الطريق قبل إكمال المسافة، أو هل سيمكث فيه شهراً ولو بدون إقامة، ثمّ انصرف عن ذلك في أثناء السير وواصل سفره إلى أن أكمل المسافة، فماذا يصنع بعد أن أكمل المسافة؟

والجواب: الحكم أنّه يقصِّر، وكذلك أيضاً لو كان عازماً عند ابتداء السفر على أن يقيم عشرة أيام في نصف الطريق، ثمّ انصرف عن ذلك وأكمل المسافة المحدّدة.

(130) وكذلك الأمر أيضاً لو وصل إلى موضع في أثناء سفره وأعجبه وحدّث نفسه في الإقامة هناك عشرة أيام، ثمّ انصرف وواصل سفره، فإنّ حكمه القصر.

متى يبدأ القصر؟ ومتى ينتهي؟

عرفنا أنّ السفر إذا توفّرت فيه الشروط الأربعة المتقدّمة أوجب القصر، والسؤال هنا: أنّه متى يبدأ المسافر بالتقصير؟ ومتى ينتهي وجوب القصر بالنسبة إليه؟ ولنبدأ أوّلا بالجواب على السؤال الثاني:

أوّلا: متى ينتهي القصر؟

ينتهي القصر بأحد الأسباب التالية:

[ أ ] الوصول إلى الوطن:

(131) إذا وصل المسافر إلى وطنه وبلدته انتهى سفره، سواء كان السفر قد

464

ابتدأ من تلك البلدة أيضاً ثمّ عاد إليها، أو ابتدأ من موضع آخر وانتهى في سفره إلى بلدته، أو كانت له بلدتان كلّ منهما وطن له وبينهما المسافة المحدّدة فسافر من إحداهما إلى الاُخرى. وقد تقدّم في الفقرة (87) وما بعدها معنى الوطن شرعاً بأوجهه وأقسامه الأربعة.

وينتهي السفر بدخول الوطن فعلا، لا برؤية عماراته ومنائره ونخيله (1)، فما لم يدخل إليه يبقى حكم القصر ثابتاً.

(132) ولا فرق في الدخول إلى الوطن بين الدخول بقصد الاستقرار والمكث وغيره، فلو دخل المسافر وطنه وهو في السيارة قاصداً اجتيازه منه لمواصلة سفره انتهى بذلك حكم القصر بالنسبة إليه، ولا يعود إلّا بخروجه من وطنه إذا تحقّق منه سفر شرعي جديد.

وإذا كان المسافر راكباً في طائرة ومرّ ببلده انقطع بذلك سفره أيضاً؛ ما لم تكن الطائرة مرتفعةً في طبقات الجوّ إلى مستوىً لا يعتبر فضاءً لذلك البلد عرفاً.

(133) كما لا فرق بين أن يكون الدخول في الزمان الذي اعتاد فيه أن يكونمتواجداً في وطنه ذاك أو في غيره، فالتلميذ الجامعي الذي اتّخذ بغداد وطناً له لأجل الدراسة لو رجع إلى بلده الأصلي في العطلة الصيفية، ثمّ سافر إليها خلال الصيف انتهى بوصوله إليها سفره.

[ ب ] الإقامة عشرة أيام:

(134) إذا طوى المسافر المسافة المحدّدة، ثمّ قرّر أن يمكث في بلد أو قرية أو موضع معيّن عشرة أيام سمّي مقيماً، وسمّي هذا القرار إقامة، والإقامة تُنهي


(1) بل بالوصول إلى حدّ الترخّص.
465

حكم السفر، فالمسافر المقيم يتمّ ولا يقصّر، إلّا إذا بدأ سفراً جديداً.

(135) ونقصد بالقرار: أن يكون واثقاً من مكثه عشرة أيام في ذلك البلد، سواء نشأت هذه الثقة من محض إرادته واختياره للبقاء هذه المدة، أو لشعوره بالاضطرار إلى البقاء، أو وجود ظروف لا تسمح له بمغادرة المكان؛ كالسجين مثلا، فمهما توفّرت الثقة على مستوى اليقين أو مستوى الاطمئنان ـ راجع في معنى الاطمئنان الفقرة (21) من فصل التكليف وشروطه ـ فقد حصل المطلوب.

وعلى هذا الأساس فإذا كان راغباً في المكث عشرة أيام ولكنّه كان يشكّ في قدرته على البقاء، أو يتوقّع بعض الطوارئ التي تصرفه عن الاستمرار في المكث فلا يعتبر مقيماً، إذ لا ثقة له بأنّه سيبقى.

(136) ونقصد بعشرة أيام: عشرة نهارات، وتدخل ضمنها تسع ليال، وهي الليالي الواقعة بين النهار الأول والنهار الأخير، وابتداء النهار طلوع الفجر. فمن عزم على الإقامة في بلد من طلوع الفجر من اليوم الأول من الشهر إلى الغروب من اليوم العاشر كان ذلك إقامة. وكذلك إذا بدأت المدّة بنصف النهار إلى نصف النهار من اليوم الحادي عشر، كما إذا قصد الإقامة من ظهر اليوم الأول إلى ظهر اليوم الحادي عشر، وعلى هذا المنوال يجري حساب المدة إذا دخل في أثناء النهار قبل انتصافه أو بعد الانتصاف.

ولا يشترط قصد العشرة بالتعيين والخصوص، بل يكفي أن يقصد البقاء فترةً زمنيةً تساوي عشرة أيام؛ ولو لم يعلم هذا القاصد نفسه بأنّها تساوي ذلك، كما إذا قصد البقاء إلى آخر الشهر الشمسي وكان الباقي من الشهر عشرة أيام أو يزيد.

وأمّا إذا دخل إلى بلد وعزم الإقامة عشر ليال من بداية الليلة الاُولى من

466

الشهر ـ مثلا ـ إلى نهاية الليلة العاشرة لم يكفِ ذلك؛ لأنّ هذه الفترة التي عزم على البقاء فيها لاتشتمل على عشرة نهارات.

(137) ونقصد بالمكث في الأيام العشرة: أن يكون مبيته ومأواه ومحطّ رحله ذلك البلد، وأن لا يمارس خلال هذه المدّة سفراً شرعياً، فكلّ من عزم على أن يمكث في بلد بهذا المعنى من المكث عشرة أيام فقد أقام فيه. وهذا لايعني عدم خروجه من البلد إلى ضواحيه أو بلد آخر قريب منه ليس بينهما المسافة المحدّدة للسفر الشرعي، كالكوفة بالنسبة إلى النجف، فيمكن لمن يقصد الإقامة في النجف أن ينوي في نفس الوقت أن يذهب في كلّ يوم إلى الكوفة الساعة والساعتين أو أكثر ـ دون المبيت فيها ـ بقصد العبادة، أو النزهة، أو لأيّة حاجة اُخرى، ما دام مبيته ومأواه ومحطّ رحله النجف، على نحو لو سأله سائل: أين نزلت في سفرك هذا ؟ لقال: نزلت في الفندق الفلاني في النجف.

(138) ونقصد بالبلدة أو القرية أو الموضع: المكان المعيّن من بلدة أو قرية أو بادية، فلا يكفي أن يعزم على الإقامة في بلدين أو قريتين هنا خمسة أيام وهناك خمسة أيام، بل لابدّ لكي ينقطع حكم السفر بالإقامة أن يعزم على الإقامة في مكان واحد طيلة عشرة أيام بالمعنى الذي تقدّم. فكلّما قرّر المسافر إقامة عشرة أيام فصاعداً وعزم على ذلك على النحو الذي أوضحناه انقطع بذلك حكمالقصر عنه، ووجب عليه أن يتمّ في صلاته.

(139) وأمّا إذا أقام في مكان واحد معيّن عشرةَ أيام ولكن بلا قصد الإقامة والعزم عليها فلا ينقطع السفر. ومن هذا القبيل من علّق إقامته على بلوغ حاجة، فقال في نفسه: إذا لم يشتدّ البرد فأبقى في هذا البلد، وبقي عشرة أيام نظراً إلى عدم اشتداد البرد فلا أثر لذلك، ومثل هذا يبقى على حكم القصر.

467

(140) ولا يشترط في الإقامة التي تقطع حكم السفر أن يكون الإنسان مكلّفاً بالصلاة، فلو سافرت المرأة الحائض إلى بلد نوت فيه الإقامة أصبحت مقيمةً، ووجب عليها أن تُتِمّ في صلاتها إذا طهرت. وكذلك غير البالغ إذا سافر ونوى الإقامة ثمّ أكمل خمس عشرة سنةً وبلغ في أثناء الأيام العشرة فإنّه يجب عليه حينئذ التمام.

(141) وإذا أقام المسافر في بلد وصلّى تماماً طوال أيامه العشرة؛ وبعدها مكث أمداً في محلّ إقامته فهل يحتاج البقاء على التمام إلى قصد الإقامة مرّةً اُخرى ؟

الجواب: يبقى على التمام إلى أن يسافر في أيّ وقت شاء، ولا داعي إطلاقاً إلى نية الإقامة وقصدها من جديد.

(142) وإذا ورد المسافر إلى بلد فلم يعزم على الإقامة فيه وصلّى قصراً كان له بعد ذلك في أيّ وقت أن يعزم على الإقامة إذا شاء، على أن يحتسب المدّة من حين العزم، فإذا عزم في اليوم الخامس من تواجده في ذلك البلد على البقاء فيه إلى اليوم الخامس عشر اعتبر مقيماً، ووجب عليه أن يتمّ صلاته من ذلك التاريخ.

ولو اتّخذ هذا القرار بالإقامة وهو يصلّي الظهر أو العصر أو العشاء وجب عليه أن يصلّيها تامّة.

(143) إذا نوى الإقامة عشراً وقرّر ذلك، وقبل أن يصلّي العشاء أو الظهر أوالعصر تامّةً عدل عن نية الإقامة فعليه أن يقصّر ولا يتمّ، ويعود إليه حكم المسافر. وإذا عدل عن الإقامة بعد أن صلّى إحدى الرباعيات الثلاث تامّةً كاملةً يبقى على التمام، ولا يسوغ له أن يقصّر.

(144) وقد تسأل: إذا نوى المسافر الإقامة، ثمّ ذهل عن سفره وإقامته

468

وصلّى العشاء أو إحدى الظهرين تماماً؛ لا من أجل أنّه مقيم، بل لمجرّد الغفلة والنسيان وكأنّه يتخيّل نفسه في بلده، فهل يكفي ذلك في البقاء على التمام ؟

والجواب: كلاّ، لا تكفي هذه الصلاة في البقاء على التمام ما دامت لم تستند إلى قصد الإقامة، بل وقعت ذهولا عنها، ومثلها في عدم الاكتفاء صلاة تامّةً يصلّيها المسافر المقيم بعد وقتها وفاءً وبدلا عن صلاة تامّة فاتته في وقتها لسبب أو لآخر، حتّى ولو كانت قد فاتته في خلال إقامته.

(145) إذا نوى الإقامة وصلّى تماماً ثمّ عدل عن نية الإقامة، ولكن انكشف له أنّ الصلاة التي صلاّها تماماً كانت باطلة، وجب عليه مع هذا الفرض أن يرجع إلى القصر، لأنّ الشيء إذا بطل، بطل أثره وكان وجوده وعدمه بمنزلة سواء.

(146) وإذا عزم المسافر على إقامة عشرة أيام وبدأ صلاة الظهر على هذا الأساس وفي أثنائها عدل عن نية الإقامة فماذا يصنع ؟

الجواب: هذا له ثلاث حالات:

الاُولى: أن يكون قد عدل في أثناء الصلاة وهو لا يزال في الركعتين الاُولَيين، فينتقل عند العدول إلى نية القصر ويأتي بالصلاة قصراً.

الثانية: أن يكون قد عدل بعد أن تجاوز الركعة الثانية ودخل في الثالثة قبل أن يركع، فينتقل إلى نية القصر ويلغي الركعة الثالثة، ويعود إلى الجلوس فيسلِّم ويختم صلاته.

الثالثة: أن يكون قد عدل بعد أن ركع في الثالثة، وفي هذه الحالة تبطل صلاته من الأساس؛ كأنّها لم تكن، وأعاد الصلاة قصراً.

(147) إذا عدل عن نية الإقامة عشرة أيام ولكنّه شكّ هل كان قد صلّى تماماً كي يبقى ويستمرّ في صلاته على التمام، أو لم يأتِ بمثل هذه الصلاة ؟ فالأصل

469

عدم الإتيان بها، ومعنى هذا أنّ وظيفته القصر دون التمام.

[ ج ] المكث ثلاثين يوماً:

(148) السبب الثالث لانتهاء حكم السفر المكث ثلاثين يوماً حتّى ولو كان ذلك بدون قصد وقرار، وذلك أنّ المسافر إذا طوى المسافة المحدّدة وجرى عليه حكم القصر، ووصل إلى بلد أو مكان ثمّ حار في أمره وتردّد في عزمه لا يدري هل سيخرج من هذا البلد الذي وصل إليه في سفره بعد عشرة أيام حتّى ينوي الإقامة فيه، أو أنّه سيخرج منه غداً أو بعد غد؟ إن حدث هذا لأيّ مسافر وجب عليه أن يبقى على القصر حتّى يمضي عليه هكذا متردّداً ثلاثون يوماً، فإذا كمل ثلاثون يوماً وهو لا يزال في ذلك البلد وجب عليه أن يقيم صلاته كاملةً؛ ولو كان عازماً على مغادرة البلد بعد ساعة.

(149) ونريد بثلاثين يوماً: ثلاثين نهاراً بما تضمّ من الليالي التسع والعشرين الواقعة بين النهار الأول والنهار الأخير (1)، على النحو الذي مرّ بنا في عشرة نهارات.

(150) ولا يكفي التردّد من أوّل شهر هلاليّ ـ أي من الشهور القمرية ـ إلى آخره إلّا أن يكون هذا الشهر ثلاثين يوماً.

(151) وإذا تردّد ثلاثين يوماً في قرىً متقاربة يقصِّر، ولو كانت الواحدة تبعد عن الاُخرى بقدر أقلّ من المسافة المحدّدة؛ لأنّ المكث طيلة هذه المدة لم يكن في مكان واحد.

 


(1) إن تمّ ثلاثون نهاراً ولم يتمّ بعدُ ثلاثون يوماً وليلة فالأحوط وجوباً الجمع بين القصر والإتمام إلى أن يتمّ ثلاثون يوماً وليلة.
470

ثانياً: متى يبدأ القصر؟

بعد أن عرفنا السفر الشرعي وشروطه، ومتى ينتهي حكم القصر فيه، نريد أن نعرف متى يبدأ حكم القصر على المسافر؟

(152) فهل يبدأ من شروعه في طيّ تلك المسافة المحدّدة ضمن الشروط السابقة، أو بعد إكمال طيّها؟

الجواب: أنّ حكم القصر يبدأ على المسافر من حين خروجه من البلد الذي يريد أن يسافر منه، فإذا سافر الإنسان من وطنه أو من البلد الذي قصد الإقامة فيه عشرة أيام، أو من البلد الذي مكث فيه متردّداً ثلاثين يوماً إذا سافر من أيّ واحد من هذه المواضع بدأ حكم القصر بالنسبة إليه عند الخروج من البلد والابتداء بطي المسافة؛ ولو طوى خطوةً واحدة.

ولكن في الحالة الاُولى فقط (وهي حالة سفر الإنسان من وطنه) يتأخّر حكم التقصير قليلا عن هذا الموعد، فلا يثبت إلّا حين يغيب شخص المسافر ويتوارى عن عيون أهل البيوت الكائنة في منتهى البلد وأطرافه. فإذا وقف شخص في نهاية البلد يودّع صديقه وابتعد المسافر الصديق مسافةً حجبت عنه رؤية ذلك الشخص ثبت عليه القصر، سواء غابت عن عينه عمارات البلد وبناياته أيضاً، أوْ لا. وهذا المقياس ثابت لا يزيد ولا ينقص، ولا يتأثّر بضخامة العمران في البلد، خلافاً لِمَا إذا ربطنا القصر بأن تغيب عمارات البلد وبناياته فإنّ هذا يختلف من بلد إلى آخر تبعاً لنوع العمارة فيه.

(153) وإذا غاب المسافر عن عين صديقه لا لبعد المسافة بينهما، بل لأنّه هبط وادياً أو دخل في نفق ونحو ذلك لم يكفِ هذا في ثبوت القصر، وإنّما يثبت القصر إذا ابتعد أحدهما عن الآخر مسافةً لا تتيح لكلٍّ منهما رؤية الآخر في حالة

471

انبساط الأرض، وعدم وجود حائل، ويسمّى ذلك بحدّ الترخّص، أي الحدّ الذي يُرَخّصُ فيه المسافر في القصر.

(154) وإذا ذهب من بلدته ووطنه مسافراً وشكّ هل بلغ حدّ الترخّص كي يسوغ له التقصير؟ فعليه أن يبقى على التمام حتّى يعلم بوصوله إلى الحدّ المذكور، فإذا أراد أن يصلّي خارج بلده وهو شاكّ على هذا النحو فعليه أن يصلّيها تامّة.

(155) وإذا خرج من بلده ووطنه مسافراً وخُيِّل له بعد بضع خطوات أنّه قد وصل إلى حدّ الترخّص فتوقّف وصلّى قصراً، ثمّ تبيّن العكس فماذا يصنع؟

الجواب: تبطل صلاته، فإن انكشف له الواقع وهو ما زال دون محلّ الترخّص وأحبّ إعادتها في هذا المكان بالذات أعادها تماماً، وإن شاء أخّرها حتّى يجاوز حدّ الترخّص، ويأتي بها قصراً ما دام في الوقت سعة.

العدول عن السفر:

(156) وإذا سافر الإنسان من بلده أو محلّ إقامته أو موضع مكثه المتردّد شهراً وطوى قسطاً من المسافة المحدّدة وقصّر في صلاته ثمّ انصرف عن إكمال سفرته وقفل راجعاً، فماذا يصنع بالصلاة التي صلاّها قصراً؟

والجواب: إذا كان الذهاب إلى النقطة التي عدل فيها عن سفره مع الإياب يحقّق المسافة المحدّدة فصلاته صحيحة، ويستمرّ القصر إلى أن يرجع إلى بلده. وأمّا إذا لم يكن الذهاب والإياب بقدر المسافة ـ كما إذا كان عدوله قبل بلوغ نصف المسافة المحدّدة ـ فعليه أن يأتي بها ثانيةً تامّةً في وقتها إن أمكن، وإلّا ففي خارجه.

(157) وإذا طوى نصف المسافة المحدّدة فصلّى قصراً ثمّ بدا له أن يقيم في

472

وسط الطريق فأقام عشرة أيام فماذا يصنع بصلاته؟

والجواب: أنّه يعيدها، كما قلنا في الجواب على السؤال السابق تماماً.

(158) وإذا سافر النجفي من بلده قاصداً الحلّة فوصل إلى الكوفة فصلّى قصراً، ثمّ غيّر من قصده وقرّر أن يكتفي بالرواح إلى الكفل والرجوع منه إلى بلده: فإن كان السفر من النجف إلى الكفل ومن الكفل إلى النجف يبلغ المسافة المحدّدة ـ كما هو كذلك ـ فصلاته صحيحة، وعليه أن يبقى على حكم القصر، وإن لم يبلغ ذلك فعليه إعادة الصلاة؛ وأن يتمّ في صلاته.

(159) وإذا سافر هذا الشخص قاصداً الحلّة فوصل الكوفة وصلّى فيها قصراً، وبعد ذلك بقي في الكوفة متردّداً بانتظار حاجة واستمرّ به المكث ثلاثين يوماً على هذا النحو، ثمّ سافر إلى الحلّة فماذا يصنع بالصلاة التي صـلاّها قصراً خلال هذه المدة؟

والجواب: أنّه يعيدها تامّة.

وبكلمة موجزة: كلّما خرج الإنسان مسافراً قاصداً المسافة المحدّدة فصلّى قصراً، ثمّ حصل منه أحد قواطع السفر قبل إكمال المسافة وجب عليه أن يعيد صلاته تامّة، وإذا لم يحصل أحد قواطع السفر، ولكنّه قبل إكمال المسافة المحدّدة غيّر من مقصده أو قفل راجعاً لوحظ المقدار الذي طواه فعلا والمقدار الذي قرّر أن يطويه بموجب نيّته الجديدة، فإن كان بقدر المسافة المحدّدة صحّت صلاته قصراً، وإلّا أعادها.

مَن يُستثنى من المسافرين:

إلى هنا تكوّنت صورة واضحة عن السفر الشرعي وشروطه، ووجوب القصر بسببه ابتداءً وانتهاءً.

ونريد أن نوضّح الآن أنّ هناك نوعين من المسافرين يُستثنَون شرعاً من

473

ذلك، ولا يسوغ لهم القصر، بل حالهم حال المكلّف الحاضر في وطنه، وهما: المسافر سفر المعصية، ومن كان السفر عمله. هذا على نحو الإيجاز، وفي ما يلي التفصيل:

أوّلا: المسافر سفر المعصية:

سفر المعصية يطلق:

(160) أوّلا: على السفر الذي يستهدف منه المسافر فعل المعصية وارتكاب الحرام، كمن سافر للاتّجار بالخمر، أو لقتل النفس المحترمة، أو للسلب، أو إعانةً للظالم على ظلمه، أو لمنع شخص من القيام بالواجب الشرعي، ونحو ذلك.

وأمّا إذا كان الهدف من السفر والباعث عليه أمراً محلّـلا في ذاته كالنزهة، وصادف فعل الحرام في أثناء السفر ـ كالكذب والغيبة وأكل النجس ـ فلا يسمّى السفر من أجل ذلك سفر المعصية.

(161) ثانياً: على السفر الذي يستهدف منه المسافر الفرار من أداء الواجب الشرعي، كمن يفرّ من أداء الدين مع القدرة عليه بالسفر والابتعاد عن الدائن الذي يطالب بالوفاء فعلا.

(162) وثالثاً: على السفر الذي لا يُراد به التوصّل إلى معصية كما في الأول، ولا الفرار عن واجب كما في الثاني، ولكنّه هو حرام، بمعنى أنّ السفر والتغرّب عن البلد نفسه حرام، كما إذا كان قد أقسم يميناً على أن لا يسافر في يوم ماطِر (1)، أو نهاه عن السفر من تحرم عليه معصيته شرعاً، فيكون السفر في اليوم الماطر حراماً، وبهذا يعتبر نوعاً من سفر المعصية.

 


(1) وكان ترك السفر راجحاً لو اشترطنا الرجحان في متعلّق اليمين.
474

هذه هي الأنواع الثلاثة لسفر المعصية.

(163) والمسافر سفر المعصية لا يسوغ له القصر، بل يتمّ في صلاته، ولا يكون جديراً بهذا التسهيل والتخفيف.

(164) وفي النوع الأوّل من سفر المعصية والنوع الثاني منه إذا حصل للمسافر مقصوده غير المشروع وأراد أن يعود: فإن كان الرجوع بقدر المسافة المحدّدة قصّر في رجوعه، سواء تاب وأناب، أم بقي مصرّاً على جرمه. وإن لم يكن بقدرها فلا.

وأمّا في النوع الثالث: فإن كان الرجوع من السفر محرّماً أيضاً فلا يسوغ له القصر في الرجوع، كما إذا كان قد أقسم على أن لايسافر في يوم ماطر لا من بلده ولا من غيره، وأراد أن يرجع والمطر مستمرّ. وأمّا إذا كانت الحرمة مختصّةً بالذهاب فقط كما في هذا المثال إذا افترضنا إرادته للرجوع بعد انقطاع المطر فحكمه حكم النوع الأوّل والثاني.

(165) ويلحق بسفر المعصية: مَن سافر بقصد الصيد من أجل اللهو(1)، فإنّه يتمّ ولا يقصّر في الذهاب، ويقصّر في الإياب إذا كان طريق الرجوع وحده يشتمل على المسافة المحدّدة.

وخلافاً لذلك مَن يسافر للصيد من أجل قوت أهله وعياله أو للتجارة، فإنّ حاله في الذهاب والإياب حال أيّ مسافر اعتيادي.

(166) ومن سافر لغاية جائزة سائغة ولكنّه ركب في سيّارة مغتصبة، أو مرّ



(1) لا يبعد كون سفر الصيد اللهوي سفر معصية لا ملحقاً به، كما دلّت على ذلك موثّقة عبيدبن زرارة: «سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الرجل يخرج إلى الصيد أيقصّر أو يتمّ؟ قال: يتمّ؛ لأنّه ليس بمسير حقّ». الوسائل، ج 8 بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت(عليهم السلام)، ب 9 من صلاة المسافر، ح 4، ص 480.

475

في أرض محرّمة عليه فحكمه أن يقصّر؛ لأنّه وإن كان آثماً ولكنّ سفره ليس سفراًلمعصية، وتغرّبه وابتعاده عن بلده لم يكن محرّماً، ولا من أجل الحرام، وإنّما استخدمت فيه واسطة محرّمة، أو طريق محرّم.

أمّا إذا اغتصب الشخص سيارةً وفرّ بها هرباً من صاحبها فرار السارق فحكمه التمام؛ لأنّ الباعث على سفره هو إنجاح سرقته وتمكين نفسه من أموال الآخرين.

(167) قد لا يكون السفر في بدايته معصية، ولكنّه يتحوّل إليها في أثناء الطريق، كمن سافر صدفةً للاتّجار في الحبوب، ثمّ رأى الاتّجار بالمسكِرات أنجح في دنياه، فاشترى عاجلها بآجلها، وهذا التحوّل إلى المعصية: تارةً يقع في أثناء المسافة المحدّدة وقبل إكمال طيّها، واُخرى يقع بعد إكمال طيّها، فهذه حالتان:

أمّا في الحالة الاُولى: فهذا التحوّل يهدم السفر الشرعي، وحكمه حينئذ أن يتمّ في صلاته، وإذا كان قد قصّر من صلاته قبل ذلك وجب عليه أن يعيد الصلاة تامّةً في وقتها، وإن كان الوقت قد فات أتى بها تامّةً في خارج الوقت.

وأمّا في الحالة الثانية: فما صلاّه قصراً صحيح؛ لأنّ السفر الشرعي قد حصل منه، ولا حاجة إلى إعادته، وما لم يبدأ بسفر المعصية فعلا يبقى على القصر، فإن بدأ بسفر المعصية فعلا فعليه احتياطاً وجوباً أن يجمع بين القصر والتمام، فيصلّي كـلاًّ من الظهر والعصر والعشاء مرّةً قصراً واُخرى تماماً.

(168) وقد يكون السفر على عكس ما تقدم، فيبدأ سفر معصية، وفي أثناء الطريق يتوب المسافر ويؤوب إلى ربّه ويغيّر من هدفه، كما إذا كان غرضه من السفر أوّلا شراء المسكِرات، ثمّ تاب في الطريق وسافر لشراء الحبوب، فإن كان الباقي بمقدار المسافة المحدّدة ولو بإضافة طريق الرجوع إلى الوطن قصّر عند

476

الابتداء بالسفر المباح فعلا (1)، وأمّا قبل أن يبدأ به فيتمّ إذا أراد أن يصلّي.

(169) ويبدأ حكم القصر بالنسبة إلى من سافر سفر المعصية ثمّ تحوّل سفره إلى سفر مباح بقدر المسافة المحدّدة، يبدأ القصر بالنسبة إليه من حين ابتدائه بالسفر المباح؛ ولو لم يخرج بعدُ من البلد الذي تحوّلت فيه نيّته من الحرام إلى الحلال.

فلو سافر شخص إلى النجف بقصد أن يظلم أحداً، وحين دخلها تاب وكَرَّ راجعاً فيقصّر من حين ابتدائه بالسفر المباح؛ ولو لم يخرج من النجف بعد.

وكذلك الأمر في من حقّق في سفره الغاية المحرّمة وقفل راجعاً قاصداً طيّ المسافة المحدّدة فإنّ حكم القصر يبدأ معه منذ بداية رجوعه، ولا يتوقّف على الخروج من البلد.

ثانياً: من كان السفر عمله:

(170) من كان عمله وشغله السفر لا يسوغ له القصر، ونقصد بالعمل والشغل: الحرفة أو المهنة، أو العمل الذي يحدّد مركزاً لشخص على نحو لو سئل ما هو عمل هذا الشخص؟ لذكر ذلك في الجواب على هذا السؤال.

فمن يشتغل كسائق تعتبر السياقة والسفر حرفةً ومهنةً له. ومن يتبرّع بالعمل كسائق لدى شخص كذلك تعتبر السياقة عمله الذي يحدّد مركزه ومهنته؛


(1) يحتمل إدخال المسافة الاُولى التي طواها قبل بدئه بقصد المعصية في الحساب ووصلُها بالمسافة الثالثة التي بدأ بها بعد التوبة، وذلك بأن لا يكون سفر المعصية قاطعاً للسفر وإن كانت فترة سفر المعصية ساقطةً من الحساب، وعليه ففي مورد يقتضي حساب المسافة الاُولى القصر وترك حسابها التمام لا يترك الاحتياط بالجمع.
477

ولو لم يدرّ عليه ذلك اُجوراً بصورة مباشرة. ومن يملك سيارةً فيسوقها باستمرار ويقطع بها المسافات كلّ يوم بقصد التنزّه وقضاء الوقت، أو يسافر بها لزيارة المشاهد باستمرار لا يعتبر السفر عمله ومهنته، إذ لو سئل ما هو عمل هذا الشخص ؟ لا يقال: إنّ عمله التنزّه أو زيارة المشاهد.

ومن كان عمله السفر ينطبق:

(171) أوّلا: على من كان نفس السفر عمله المباشر، كالسائق عمله سياقة السيارة، والطيّار أو البحّار يقود الطائرة أو السفينة، والمضيّف الذي تستأجره الشركة لمرافقة المسافرين في الطائرة أو غيرها من وسائط النقل.

(172) ثانياً: من كان عمله ومهنته شيئاً آخر غير السفر ولكنّه يسافر ويتغرّب عن بلده من أجل أن يمارس عمله، على نحو لا يُتاح له أن يمارس ذلك العمل وتلك المهنة إلّا إذا باشر السفر بنفسه وتغرّب عن بلده، أو يجد أنّ من الأفضل للعمل والمهنة أن يسافر بنفسه بدلا عن أن يستنيب.

المثال: نجفي وظيفته التدريس في مدرسة في الحلّة، فيسافر إلى هناك في كلّ يوم ويعود إلى بلدته بعد انتهاء عمله، فإنّ هذا عمله ليس هو السفر، بل التدريس، ولكنّه يسافر من أجل أن يمارس التدريس ويزاول مهنته فهي تفرض عليه مباشرةً السفر، ولو استناب شخصاً آخر في السفر إلى الحلّة لكان معناه أنّ الشخص الآخر هو الذي سيدرّس دونه، فكلّ من كان من هذا القبيل فهو ممّن عمله السفر شرعاً، ويجب عليه أن يتمّ صلاته.

ومثال آخر: شخص يتّجر في موسم البطّيخ بالسفر لشرائه من المزارع وجلبه إلى البلد وبيعه.

وينبغي أن يلاحظ هنا أنّ من يسافر من أجل عمله له حالتان: