9

مباحثُ الألفاظ

1

 

 

 

 

 

 

المقدّمة

 

○ التعريف بعلم الاُصول.

○ الوضع.

○ الدلالة على المعنى المجازيّ.

○ الإطلاق الإيجاديّ.

○ الخلط الواقع في تبعيّة الدلالة للإرادة.

○ كيفيّة وضع المركّبات.

○ علامات الحقيقة والمجاز.

○ الحقيقة الشرعيّة.

○ الصحيح والأعمّ.

○ الاشتراك.

○ المشتقّ.

 

11

المقدّمة

1

 

 

 

 

 

 

 

التعريف بعلم الاُصول

 

 

 

○ تعريف علم الاُصول.

○ موضوع علم الاُصول.

○ تقسيم الأبحاث الاُصوليّة.

 

13

 

 

 

 

 

 

الأمر الأوّل: التعريف بعلم الاُصول.

يقع الكلام في التعريف بعلم الاُصول ضمن ثلاث جهات: تعريف علم الاُصول وموضوعه وتقسيم أبحاثه:

 

تعريف علم الاُصول

 

الجهة الاُولى ـ في تعريف علم الاُصول:

إنّ هناك علوماً عديدة نحتاج إليها في مقام استنباط الحكم الشرعيّ كعلم الرجال الذي يتحدّث عن وثاقة الرواة، وعلم اللغة الذي يتحدّث عن معاني كلمات نحتاج إلى فهمها في الاستنباط، والمنطق الذي يبيّن أساليب الاستدلال وما إلى ذلك، فهل إنّ علم الاُصول الذي نحتاج إليه أيضاً في مقام الاستنباط يمتاز بمايز فنّيّ عن سائر العلوم المحتاج إليها، أو أنّه ليس إلاّ مجرّد تجميع لمباحث شتّى كنّا نحتاج إليها في الاستنباط ولم تكن مدرجة في العلوم الاُخرى، فاضطررنا إلى إيجاد علم آخر نسمّيه بعلم الاُصول يشتمل على ما لم يشتمل عليه سائر العلوم ممّا تمسّ به الحاجة للاستنباط؟

14

التعريف الرئيسيّ لعلم الاُصول:

التعريف الرئيسيّ الذي عرّف به علم الاُصول هو ما نُقِل في الكفاية من أنّه علم بقواعد ممهّدة لاستنباط الحكم الشرعيّ.

وقد اُخِذ على هذا التعريف ثلاث مؤاخذات:

المؤاخذة الاُولى: أنّ سائر العلوم الاُخرى التي نحتاج إليها في الاستنباط أيضاً تعطينا قواعد دخيلة في الاستنباط كقواعد الأقيسة في المنطق، أو وثاقة أشخاص في الرجال يؤخذ بما ينقلون وما إلى ذلك، فكلّ هذه الاُمور معرفة بأشياء وقواعد تقع في طريق الاستنباط.

وعلى هذا الأساس أضاف المحقّق النائينيّ(قدس سره) إلى التعريف قيد: كون تلك القواعد واقعة كبرى لقياس الاستنباط(1) لا صغرى له؛ لكي يخرج به سائر العلوم الدخيلة في الاستنباط.

ويحتمل كون مراد الأصحاب من التعريف المذكور ـ وهو العلم بقواعد ممهّدة للاستنباط ـ هو نفس ما قاله المحقّق النائينيّ(قدس سره) أي: يقصد القواعد الكبرويّة للاستنباط.

إلاّ أنّ هذا القيد لا يُصلح التعريف؛ إذ يخرج به كثير من المباحث التي تدرج عادة في علم الاُصول:

منها: مباحث صغريات الظهور كظهور الأمر في الوجوب، والنهي في الحرمة، والشرط في المفهوم، والمطلق في الإطلاق، وما إلى ذلك؛ فإنّها جميعاً تنقّح


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1 المشتمل على تعاليق السيّد الخوئيّ، ص 3، وفوائد الاُصول، ص 18، طبعة جماعة المدرّسين.

15

صغرى لكبرى حجّيّة الظهور، فتتمّ على أساس هذه الصغرى وتلك الكبرى عمليّة الاستنباط.

ومنها: مبحث جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه، فإنّنا إن انتهينا فيه إلى عدم الجواز، فهذا معناه: أنّ الأمر والنهي المتصادقين على مورد واحد متعارضان كصلّ ولا تغصب مثلاً، فيكون ذلك صغرى لبعض كبريات باب التعارض كالكبرى القائلة بتقديم المطلق الشمولي على البدلي عند التعارض مثلاً، وبذلك يتمّ الاستنباط. وإن انتهينا فيه إلى الجواز كان هذا معناه: أنّ إطلاق الأمر وإطلاق النهي لمادّة الاجتماع محفوظان، وهذا ينقّح صغرى لكبرى حجّيّة الإطلاق.

ومنها: مبحث: أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضدّه، أو لا؟ فإن قلنا بالاقتضاء فبما أنّ النهي عن الضدّ ليس حكماً فقهيّاً؛ لأنّه نهي غيري لا يقبل التنجيز والتعذير فالنتيجة الفقهيّة إنّما هي بطلان الضدّ لو كان عبادة مثلاً، فهذا البحث ينقّح صغرى لكبرى كون النهي في العبادات موجباً للبطلان مثلاً. وإن قلنا بعدم الاقتضاء كان معنى ذلك تتميم إطلاق أمر الضدّ مثلاً، فيكون صغرى لكبرى حجّيّة الإطلاق.

وقد اتّضح بما ذكرناه: أنّ هذه المؤاخذة الاُولى بقيت إلى الآن بلا جواب؛ ولهذا عدل بعض عن هذا التعريف إلى تعاريف اُخرى.

المؤاخذة الثانية: ما جاء في الكفاية ضمناً من أنّ هذا التعريف لا يشمل الاُصول العمليّة؛ لأنّها ليست بصدد إحراز الحكم، وإنّما هي تعيّن الوظيفة بعد فرض الشكّ في الحكم. ولهذا أضاف صاحب الكفاية إلى التعريف جملة ( أو التي ينتهى إليها في مقام العمل ) دفعاً لهذا النقص.

إلاّ أنّ هذه الإضافة لا تفيد شيئاً؛ إذ المقصود إنّما هي معرفة الجامع المنطبق

16

على كلّ الأبحاث الاُصوليّة، أمّا لو فرض العطف بـ (أو) فبالإمكان أن يعطف كلّ مباحث الاُصول بـ (أو)، ويقال: إنّ علم الاُصول هو ما يبحث عن كذا، أو كذا، أو كذا، فلا نحتاج إلى تعريف معيّن.

وهذه المؤاخذة لها جوابان:

الأوّل: ما عن المحقّق النائينيّ(قدس سره) من أنّه لا داعي إلى حمل الحكم في التعريف على الحكم الواقعيّ، بل نحمله على ما يعم الحكم الظاهريّ، والاُصول العمليّة تفيد في مقام استنباط الحكم الظاهريّ.

وهذا الجواب إن تمّ في الاُصول الشرعيّة فهو لا يتمّ في الاُصول العقليّة كقبح العقاب بلا بيان؛ إذ ليست إلاّ تنجيزاً أو تعذيراً عقليّاً، ولا تكون حكماً شرعيّاً واقعيّاً أو ظاهريّاً.

الثاني: أن يقصد باستنباط الحكم الشرعيّ إقامة الحجّة عليه، بمعنى التنجيز والتعذير، لا الاستنباط بمعنى الكشف والإحراز، وإقامة الحجّة بهذا المعنى كما تثبت بإحراز الحكم الواقعيّ أو الظاهريّ تثبت بالاُصول العقليّة أيضاً.

المؤاخذة الثالثة: أنّ هذا التعريف يشمل القواعد الفقهيّة من قبيل قاعدة الفراغ، وأصالة الصحّة، ونفي الضرر والحرج، وقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، ونحو ذلك؛ فإنّها أيضاً تفيد أحكاماً شرعيّة.

إلاّ أنّ هذه المؤاخذة أيضاً قابلة للدفع؛ وذلك لأنّ القواعد الفقهيّة: إمّا أن يكون مفادها إثبات الموضوع كما في قاعدة الفراغ والتجاوز، حيث يقول: ( بلى قد ركعت ) مثلاً، أو أصالة الصحّة الحاكمة باجتماع شرائط الصحّة، وإمّا أن يكون مفادها إثبات الحكم الكلّيّ الإلهيّ كقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، أو قاعدة نفي الضرر والحرج.

17

أمّا ما يكون مفاده إثبات الموضوع، فإخراجه عن التعريف واضح، وذلك بأن يقصد من استنباط الحكم استنباط الحكم الكلّيّ الإلهيّ، بينما هذه القواعد مضمونها إثبات الموضوع.

وأمّا ما يكون مفاده إثبات الحكم، فأيضاً يكون خارجاً عن التعريف؛ وذلك لأنّ المفروض كون علم الاُصول علماً بقاعدة تستنبط منها أحكام اُخرى من قبيل حجّيّة خبر الواحد التي يستنبط منها وجوب الشيء الفلانيّ، وحرمة الشيء الفلانيّ، وهكذا، وأمّا قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده مثلاً فليست قاعدة تستنبط منها أحكام، وإنّما هي بنفسها حكم واحد وجعل واحد له مصاديق، فالحكم بالضمان في كلّ عقد من العقود الفاسدة التي يكون في صحيحها ضمان هو مصداق من مصاديق هذا الجعل الواحد، وليس حكماً مستقلاًّ استنبط من تلك القاعدة.

وهكذا الكلام في نفي الضرر أو الحرج، فإنّه جعل واحد له مصاديق بعدد مصاديق الأعمال الضرريّة أو الحرجيّة من قبيل الصوم عند المرض، والوضوء عند المرض(1). نعم نستثني من ذلك مورداً واحداً وهو حينما يكون نفي الحرج


(1) لا يخفى: أنّه لو فرض هذا جعلاً واحداً، واُخرج من علم الاُصول بهذه النكتة، فدليل البراءة أيضاً يدلّ على جعل واحد، ويلزم خروج البراءة عن علم الاُصول.

ولو قيل: إنّ دليل البراءة تستنبط منه جعول عديدة؛ لأنّه اقتطاع ظاهريّ من الجعول الإلزاميّة العديدة. وبكلمة اُخرى: إنّ نفي الإلزام يتعدّد بتعدّد الجعول المنفيّة، قلنا: إنّ نفي الضرر والحرج أيضاً اقتطاع واستثناءٌ واقعيّ من أحكام عديدة، فكلّ حكم يصبح ضرريّاً أو حرجيّاً ينفى بذلك، فيتعدّد ذلك بتعدّد المستثنى منه.

وقد ذكر اُستاذنا الشهيد(قدس سره) في أوّل بحث حجّيّة خبر الواحد الذي بحثه في زمان سابق

18

مفاده البراءة كما يقال في دليل الانسداد من أنّ الاحتياط التامّ حرجيّ فيُنفى بنفي الحرج، وهذا معناه ثبوت البراءة ولو في الجملة، فقاعدة نفي الحرج دخلت هنا في علم الاُصول، فإنّ البراءة من علم الاُصول؛ إذ هي تنفي جعولاً عديدة، فقد وقعت في طريق استنباط أحكام عديدة. وهذا لا ضير فيه؛ إذ أيّ فرق في اُصوليّة البراءة بين أن يكون دليلها « رفع ما لا يعلمون » أو يكون دليلها نفي الحرج؟

فقد تحصّل: أنّ المؤاخذة الثانية والثالثة قابلتان للدفع. نعم، بقيت المؤاخذة الاُولى بلا جواب؛ ولهذا عدل بعض إلى تعريفات اُخرى ونذكر في المقام تعريفين:


من الدورة السابقة ( ونحن حذفناه هناك فيما طبعناه من التقرير ) في وجه خروج قاعدة نفي الضرر: أنّها ـ في الحقيقة ـ ليست قاعدة تستنبط منها الأحكام، بل هي تجميع أحكام إلهيّة واقعيّة كثيرة جمعها الدليل في عبارة واحدة.

أقول: لو كان هذا هو الوجه لخروج قاعدة نفي الضرر عن علم الاُصول، للزم أيضاً خروج البراءة الشرعيّة عن علم الاُصول، فهي أيضاً ليست قاعدة تستنبط منها الجعول، وإنّما هي تجميع لعدد من النفي الظاهريّ والاقتطاع الظاهريّ المتعدّد بتعدّد المقتطع منه.

والوجه الصحيح في خروج قاعدة نفي الضرر عن علم الاُصول، والذي به تختلف عن البراءة ما ذكره(رحمه الله) أيضاً في أوّل بحث خبر الواحد ( وقد حذفناه هناك ) وأعاده في بحث الاستصحاب من أنّ قاعدة نفي الضرر قد اُخذت فيها مادّة معيّنة من موادّ الفقه، وسيأتي في التعريف المختار: أنّ القواعد الاُصوليّة لا تؤخذ فيها مادّة معيّنة من موادّ الفقه. ولا نفسّر مادّة الفقه بما سيأتي هنا من اُستاذنا الشهيد(قدس سره) في القيد الأوّل من قيود التعريف المختار من تفسيرها بفعل معيّن من أفعال المكلّفين كالصلاة والصوم حتّى يقال: إنّه لم توجد في قاعدة نفي الضرر مادّة معيّنة، بل نفسّرها بالتفسير الذي ذكره اُستاذنا(رحمه الله)في أوّل بحث الاستصحاب من أنّ مقصودنا بموادّ الفقه: كلّ عنوان أوّليّ أو ثانويّ متعلّق لحكم واقعيّ، كالصعيد مثلاً الذي هو عنوان أوّليّ، وكالضرر الذي هو عنوان ثانويّ.

19

أحدهما للسيّد الاُستاذ دامت بركاته والثاني للمحقّق العراقيّ(قدس سره).

 

تعريف السيّد الاُستاذ لعلم الاُصول:

أمّا تعريف السيّد الاُستاذ (دامت بركاته) فهو: أنّ القاعدة الاُصوليّة هي التي يستنبط منها الحكم بمفردها مع إحراز صغراها، أي: من دون ضمّ قاعدة اُصوليّة اُخرى، فحجّيّة خبر الثقة مثلاً تكفي وحدها مع إحراز صغراها ـ وهي ورود خبر ثقة ـ للاستنباط، بلا حاجة إلى ضمّ قاعدة اُصوليّة اُخرى، وظهور الأمر في الوجوب وحده يكفي بعد إحراز صغراها ـ أي: الأمر ـ للاستنباط، بلا ضمّ قاعدة اُخرى اُصوليّة. وهذا بخلاف وثاقة زرارة مثلاً، فإنّها لا تكفي للاستنباط ما لم تضمّ إليها قاعدة حجّيّة خبر الثقة، وبخلاف دلالة لفظ « الصعيد » على التراب مثلاً أو مطلق وجه الأرض، فإنّها لا تكفي في استنباط الحكم ما لم نعرف أنّ الأمر للوجوب، فقيد « عدم الحاجة إلى قاعدة اُصوليّة اُخرى » يرفع المؤاخذة الاُولى عن التعريف(1).

ثُمّ أورد على نفسه اعتراضات نذكر منها اعتراضين:

الأوّل: أنّ الأبحاث الاُصوليّة المنقّحة لصغريات الظهور من قبيل: ظهور الأمر في الوجوب، والنهي في الحرمة بحاجة إلى قاعدة اُخرى اُصوليّة، وهي قاعدة حجّيّة الظهور.

وأجاب على ذلك بأنّ قاعدة حجّيّة الظهور ليست اُصوليّة؛ لأنّ حجّيّة الظهور


(1) راجع المحاضرات للفيّاض، ج 43 من موسوعة الإمام الخوئيّ(رحمه الله)، ص 4 و 9 ـ 10، وراجع الدراسات، ج 1، ص 24 بحسب طبعة مؤسّسة دائرة معارف الفقه الإسلاميّ.

20

أمر بديهيّ واضح لدى أيّ إنسان عرفيٍّ، ولا تحتاج إلى أيّ بحث اُصوليّ في ذلك(1).

الثاني: أنّ مبحث اقتضاء الأمر للنهي عن ضدّه ثمرتة الفقهيّة عبارة عن بطلان الضدّ إذا كان عبادة لو قلنا بالاقتضاء، وهذا موقوف على قاعدة اُصوليّة اُخرى وهي: أنّ النهي في العبادات يوجب البطلان.


(1) لم أجد هذا الإشكال والجواب على شكل إشكال وجواب لا في المحاضرات ولا في الدراسات.

نعم، صرّح في المحاضرات (ج 43 من موسوعة الإمام الخوئيّ، ص 2) بأنّ حجّيّة الظهور خارجة عن المسائل الاُصولية؛ إذ لا خلاف في حجّيّتها بين اثنين من العقلاء، ولم يقع البحث عنها في أيّ علم وإن وقع الكلام في موارد ثلاثة، هي:

الأوّل: في أنّ حجّيّة الظهور هل هي مشروطة بعدم الظنّ بالخلاف، أم الظنّ بالوفاق، أم لا هذا ولا ذلك؟

الثاني: في ظواهر الكتاب وأنّها هل تكون حجّة أم لا؟

الثالث: في أنّ حجّيّة الظواهر هل تختصّ بمن قصد إفهامه، أم تعمّ غيره أيضاً؟

وقريب من ذلك ما ورد في الدراسات (الصفحة الماضية والطبعة الماضية).

فلعلّ هذين المقطعين إشارة إلى ما نقله اُستاذنا الشهيد عن اُستاذه السيّد الخوئيّ(رحمهما الله).

وأخيراً رأيت تعبيراً صريحاً في كون ذكر السيّد الخوئيّ(رحمه الله) لخروج بحث حجّيّة الظواهر عن علم الاُصول لدفع الإشكال عن اُصوليّة الأبحاث الاُصوليّة المنقّحة لصغريات الظهور من قبيل ظهور الأمر في الوجوب، وذلك فيما طبع أخيراً من كتاب الهداية في الاُصول لمقرّر أقدم من السيّد عليّ صاحب الدراسات(رحمه الله)، وهو المرحوم الشيخ حسن الصافيّ الإصبهانيّ، ج 1، ص 21 ـ 22. فهو صريح في كون ذلك دفعاً لذاك الإشكال، موضّحاً: أنّ عدم النزاع من قبل أحد في حجّيّة الظواهر وعدم الشكّ من قبل أحد في ذلك يدفع الإشكال برغم الخلاف في حجّيّة عدد من الظهورات؛ وذلك لأنّ كون قضيّة ما كافيةً لاستنباط الحكم الكلّيّ الإلهيّ في الجملة كاف في اُصوليّتها، فنحن نفرض الكلام في أمر ونهي داخلين في القدر المتيقّن من حجّيّة الظهور، أي: في المقدار الذي لم يشكّ أحد في حجّيّته.

21

وأجاب على ذلك: بأنّنا وإن كنّا لو قلنا بالاقتضاء احتجنا في إثبات بطلان العبادة إلى قاعدة اُخرى اُصوليّة، لكنّنا لو قلنا بعدم الاقتضاء ثبتت صحّة العبادة بلا حاجة إلى ضمّ قاعدة اُخرى اُصوليّة، ويكفي في اُصوليّة المسألة اُصوليّتها بلحاظ أحد طرفيها(1).

أقول: يوجد لدينا حول ما ذكره السيّد الاُستاذ (دامت بركاته) في المقام ثلاث ملاحظات:

الاُولى: أنّ افتراض عدم حاجة القاعدة الاُصوليّة في مقام استنباط الحكم منها إلى قاعدة اُخرى اُصوليّة: إن قصد به عدم الحاجة إلى ذلك مطلقاً، فهذا غير صحيح، فإنّ ظهور الأمر في الوجوب قد لا يستنبط منه الحكم إلاّ بضمّ قاعدة حجّيّة خبر الثقة مثلاً، وذلك كما لو ورد الأمر في خبر غير قطعيّ. وقاعدة حجّيّة خبر الثقة قد لا يستنبط منها الحكم إلاّ بضمّ قاعدة ظهور الأمر في الوجوب، كما إذا كانت دلالة ذلك الخبر على الحكم على أساس الأمر الدالّ على الوجوب. وإن قصد به عدم الحاجة إلى ذلك ولو في بعض الموارد، فهذا وإن كان ينطبق على مثل ظهور الأمر في الوجوب وحجّيّة خبر الثقة، وذلك كما في أمر قطعيّ من سائر الجهات غير أصل إرادة الوجوب منه، وكما في خبر ثقة قطعيّ من سائر الجهات عدا الصدور، لكنّه ينطبق أيضاً على مثل تشخيص ظهور كلمة « الصعيد » الواردة في كلام قطعيّ سنداً ودلالةً على الحكم من كلّ النواحي ما عدا تعيين المراد من كلمة « الصعيد ».

الثانية: أنّ إخراج حجّيّة الظهور من علم الاُصول لا يكفي لدفع النقوض على


(1) راجع المحاضرات، ج 43 من موسوعة الإمام الخوئيّ، ص 12.

22

ذاك التعريف، بل يحتاج إلى إخراج بعض المباحث الاُخرى، فمثلاً يوجد في علم الاُصول مباحث عن أقوى الظهورين المتعارضين، كالبحث عن أقوى الظهورين في العموم الوضعي والإطلاق الحكميّ، أو في العموم الشموليّ والبدليّ، أو في المنطوق والمفهوم، في حين أنّ الاستنباط من هذه الأبحاث موقوف على ضمّ قاعدة اُصوليّة اُخرى، وهي قاعدة حجّيّة الجمع العرفيّ؛ إذ لولاها لما أفادتنا أقوائيّة أحد الظهورين، فلم ينطبق تعريف علم الاُصول على هذه المباحث إلاّ أن يلتزم أيضاً بخروج قاعدة حجّيّة الجمع العرفيّ.

الثالثة: أنّنا لو قلنا بعدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه، فهذا لا يكفي في استنباط صحّة الضدّ العبادة؛ إذ العبادة يجب أن تكون قربيّة، والأمر بالشيء لا يجتمع معه الأمر بضدّه في عرضه، فلا بدّ: إمّا من إثبات الأمر الترتّبيّ، أو إثبات: أنّ الملاك يبقى بعد سقوط الأمر حتّى يكتفى بقصد الملاك، وكلاهما قاعدة اُصوليّة.

وعلى أيّ حال، فقد تحصّل: أنّ التعريف الذي جاء به السيّد الاُستاذ (دامت بركاته) تكون المؤاخذة الاُولى مسجّلة عليه؛ إذ عدم الحاجة إلى ضمّ قاعدة اُصوليّة اُخرى في بعض الأحيان قد يوجد في مثل قاعدة ظهور « الصعيد » في وجه الأرض ونحو ذلك.

وأمّا المؤاخذة الثانية فقد دفعها السيّد الاُستاذ ( دامت بركاته ) بمثل ما ذكرناه من أنّنا نقصد بالاستنباط مطلق تحصيل المنجِّز والمعذِّر تجاه الحكم(1).

ولكن هذا الجواب لا ينسجم مع مبانيه، فإنّه إذا جعل الاستنباط بمعنى مطلق


(1) راجع المحاضرات، ج 43 من موسوعة الإمام الخوئيّ، ص 6.

23

إثبات التنجيز أو التعذير تجاه الحكم، لم يصحّ ما يقوله من خروج مبحث حجّيّة القطع عن علم الاُصول؛ لأنّ ذلك لا يقع في طريق استنباط الحكم؛ إذ فرض القطع هو فرض الاتّصال بالحكم مباشرة والوصول إليه، فإنّ هذا يرد عليه حينئذ: أنّ مبحث حجّيّة القطع متكفّل لبيان تنجيز الحكم وتعذيره بالقطع، وقد فرض: أنّ الاستنباط قصد به إقامة الحجّة بالمعنى الأعمّ، أي: إقامة التنجيز والتعذير. إذن فيدخل مبحث حجّيّة القطع في علم الاُصول.

على أنّه بعد دخول حجّيّة القطع في علم الاُصول لا يبقى مجال لدخول سائر القواعد الاُصوليّة، كالبراءة، والاستصحاب، وأيّ قاعدة اُخرى في علم الاُصول حسب مبانيه دامت بركاته؛ لأنّها جميعاً بحاجة إلى حجّيّة القطع وقد فرض: أنّ القاعدة الاُصوليّة يجب أن لا تحتاج في مقام الاستنباط منها إلى قاعدة اُصوليّة اُخرى، إذن فكلّ قواعد الاُصول أو جلّها خرجت عن علم الاُصول.

إلاّ أن يلتزم بخروج حجّيّة القطع عن علم الاُصول، لا بملاك عدم وقوعها في طريق الاستنباط، بل بنفس الملاك الذي أخرج به حجّيّة الظواهر عن علم الاُصول، وهو كونها أمراً واضحاً لم يقع في أصلها خلاف، وإن وقع الخلاف في بعض تفاصيلها، كما وقع ذلك في حجّيّة الظهور أيضاً.

وأمّا المؤاخذة الثالثة ـ وهي شمول التعريف للقواعد الفقهيّة ـ فقد أجاب عليها بأنّنا نقصد بالاستنباط: الاستنباط التوسيطيّ، لا الاستنباط التطبيقيّ.

وتوضيح ذلك: أنّ الاستنباط قد يكون تطبيقيّاً بمعنى كون النتيجة قطعة من المقدّمة، ومصداقاً لها، وتطبيقاً لها، وهذا شأن الاستنباط من القواعد الفقهيّة، فاستنباط الضمان في البيع الفاسد من « قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده » عبارة عن تطبيق تلك القاعدة العامّة في إحدى مواردها، وتكون النتيجة ـ وهي

24

الضمان في البيع الفاسد ـ حصّة من الضمان في كلّ عقد فاسد يضمن بصحيحه، وقد يكون توسيطيّاً بمعنى: أنّ النتيجة ليست تطبيقاً للمقدّمة وحصّة منها، وإنّما تستنتج من المقدّمة على أساس وجود الملازمة بينها وبين المقدّمة من قبيل دلالة الأمر على الوجوب التي يستنتج منها وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلاً، فالنتيجة هنا ليست حصّة من المقدّمة؛ فإنّ النتيجة حكم شرعيّ، والمقدّمة أمر لُغويّ مثلاً، وهما أمران متباينان، لكن يوجد بينهما تلازم بعد فرض حجّيّة الظهور، فبهذا تثبت النتيجة، والمسائل الاُصوليّة دائماً تقع في طريق الاستنباط بمعنى الاستنباط التوسيطيّ، بخلاف القواعد الفقهيّة، فإذا قصدنا من الاستنباط الاستنباط التوسيطيّ ارتفعت المؤاخذة.

أقول: إنّ الاستنباط التوسيطيّ أيضاً نقسّمه إلى قسمين:

أحدهما: أن تكون الملازمة بين المقدّمة وبين حكم كلّيّ إلهيّ، فنستنتج الحكم الكلّيّ الإلهيّ من المقدّمة من قبيل الملازمة بين دلالة الأمر على الوجوب ووجوب الدعاء عند رؤية الهلال.

والثاني: أن لا تفرض ملازمة بين المقدّمة والحكم الكلّيّ، بل يفرض: أنّ المقدّمة منقِّحة لموضوع ذلك الحكم، فيستنبط الحكم الجزئيّ في المقام عن طريق إحراز فعليّة موضوعه من قبيل: أنّ قاعدة صحّة المعاطاة تنقّح موضوع نفوذ التصرّفات فيما انتقل إليه بالمعاطاة مثلاً، فإنّ موضوع نفوذها هو الملك، وقد ثبت بقاعدة صحّة المعاطاة.

فإن كان مقصوده (دامت بركاته) من الاستنباط في تعريف علم الاُصول الاستنباط التوسيطيّ من القسم الأوّل، فقط لزم خروج بعض المسائل الاُصوليّة من قبيل اقتضاء الأمر للنهي عن ضدّه وعدمه، حيث إنّ الثمرة الفقهيّة لهذه المسألة

25

عند السيّد الاُستاذ (دامت بركاته) عبارة عن بطلان الصلاة وصحّتها، بينما هذا إنّما يكون على أساس تنقيح المقدّمة لموضوع الحكم، حيث إنّ الحرمة في العبادات موضوع للبطلان، وعدم الحرمة شرط في الصحّة، وهذه القاعدة تنقّح الحرمة أو عدم الحرمة، فيتعيّن البطلان أو الصحّة.

وإن كان مقصوده الاستنباط التوسيطيّ ولو من القسم الثاني، دخلت كلّ القواعد الفقهيّة في علم الاُصول؛ إذ هي تنقّح موضوعات أحكام اُخرى، فمثلاً قاعدة صحّة المعاطاة وإن كان استنباط صحّة البيع المعاطاتيّ منها استنباطاً تطبيقيّاً، لكن يستنبط منها أيضاً نفوذ تصرّفات المشتري وجوازها في المبيع مثلاً على أساس: أنّ موضوع هذه الأحكام هو ملكيّته للمبيع، وقاعدة صحّة المعاطاة تنقّح هذا الموضوع، فهذا استنباط توسيطيّ من القسم الثاني، وكذلك يستنبط منها وجوب دفع القيمة إلى البايع؛ لأنّ موضوعه تحقّق البيع الصحيح، وهذا ما تنقّحه قاعدة صحّة المعاطاة، وكذلك قاعدة « ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده » وإن كان استنباط الضمان في البيع الفاسد منها استنباطاً تطبيقيّاً، لكن استنباط وجوب أداء القيمة عند تلف المبيع منها الذي معناه وجوب أداء الدين استنباط توسيطيّ على أساس تنقيح الموضوع؛ حيث إنّ وجوب أداء الدين حكم تكليفيّ موضوعه الدين والضمان، وقد ثبت هذا الدين والضمان بهذه القاعدة. وهكذا الكلام في سائر القواعد الفقهيّة.

وهذا الإشكال إنّما أوردناه بناءً على ما أفاده السيّد الاُستاذ في المقام من أنّ ثمرة قاعدة « اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه وعدمه » بطلان الضدّ العبادة وعدمه.

والواقع: أنّه كان المفروض أنّ القاعدة الاُصوليّة هي التي يستنبط منها الحكم

26

الكلّيّ الإلهيّ، لا التي يستنبط منها موضوع الحكم، ولا ينتقض ذلك بالقواعد الفقهيّة التي تستنبط منها أحكام جزئيّة استنباطاً تطبيقيّاً من القسم الثاني.

وأمّا كون ثمرة ( اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه وعدمه ) بطلان الضدّ العبادة وعدمه، فنحن لا نقول به.

وتوضيح ذلك:

أوّلاً: أنّ بالإمكان أن يقال: إنّ ثمرة هذا البحث هي معرفة: أنّ أضداد الواجبات هل هي حرام أو لا؟ وهي جعول كلّيّة إلهيّة مشكوكة تستنبط من قاعدة الملازمة بين وجوب الشيء وحرمة ضدّه.

والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ إنّما عدل عن هذه الثمرة إلى مسألة بطلان الضدّ العبادة على أساس نكتة: أنّ حرمة الضدّ غيريّة لا يترتّب عليها أيّ تنجيز أو تعذير، أو ثواب أو عقاب، فليست هي ثمرة فقهيّة. ولكن هذه النكتة لو التفتنا إليها عرفنا أنّ هذا النهي لا يبطل أيضاً الضدّ إذا كان عبادة؛ إذ هو نهي غيري صرف، وليس له أيّ تنجيز أو تعذير، أو تبعيد أو تقريب، ولهذا ذهب السيّد الاُستاذ (دامت بركاته) إلى عدم بطلان الضدّ العبادة(1)، وحينئذ لو لم نجد لهذا البحث ثمرة اُخرى فقهيّة، نلتزم بعدم كونه بحثاً اُصوليّاً، ولا ضير في ذلك بعد فرض عدم ترتّب ثمرة


(1) ذهب السيّد الخوئيّ(رحمه الله) ـ على ما في المحاضرات، ج 44 من موسوعة الإمام الخوئيّ ص 383 ـ 384 ـ إلى صحّة الضدّ العباديّ الواجب، سواء كان تقدّم الأمر بضدّه عليه لأجل أنّ العبادة كانت موسّعة وضدّها مضيّقاً أو لأجل أهمّيّة ضدّها. أمّا في الفرض الأوّل فيكفي في صحّة العبادة تعلّق الأمر بالطبيعة الجامعة بين الفرد المزاحم والأفراد المتأخّرة، ولا تنافي بين الأمرين. وأمّا في الفرض الثاني فالقول بالترتّب يثبّت الأمر ويحلّ الإشكال.

27

فقهيّة عليه(1)، وأمّا لو لم نلتفت إلى هذه النكتة إذن نجعل الثمرة الفقهيّة لهذا البحث نفس حرمة الضدّ وعدمها، ولا إشكال أيضاً.

وثانياً: أنّنا نقول: إنّ ثمرة هذا البحث هي: أنّه لو كان الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضدّه، إذن لا يكون الضدّ واجباً بنحو الأمر الترتّبي؛ لأنّ الوجوب لا يجتمع مع الحرمة ولو كانت غيريّة، ولو لم يكن الأمر به مستلزماً للنهي عن ضدّه صحّ تعلّق الأمر الترتّبي بالضدّ المهمّ، أي: الأمر به على تقدير مخالفة الأهمّ، وهذا استنباط لحكم كلّيّ إلهيّ، وهو وجوب الضدّ ترتّباً أو عدمه.

 

تعريف المحقّق العراقيّ لعلم الاُصول:

وأمّا تعريف المحقّق العراقيّ(قدس سره) ( وهو(قدس سره) ركّز على دفع المؤاخذة الاُولى ) فقد ذكر(رحمه الله): أنّ القاعدة الاُصوليّة تكون قاعدة دخيلة في الاستنباط بنحو تكون نفس القاعدة حينما يستنبط منها حكم فقهيّ متعرّضةً للحكم أو لكيفيّة تعلّقه بموضوعه وناظرة إلى ذلك، فمثلاً قاعدة دلالة الأمر على الوجوب مفادها ابتداءً هو إثبات الوجوب، في حين أنّ وثاقة الراوي أو ظهور كلمة « الصعيد » لا يتعرّضان ابتداءً للحكم وإن كنّا نستفيد منهما في مقام استنباط الحكم، ولذا لو غضضنا النظر عن عالم الأحكام لا يبقى معنىً لقولنا: ( الأمر يدلّ على الوجوب )؛ إذ الوجوب هو حكم من


(1) ولنا أن نقول: إنّه يكفي في اُصوليّة القاعدة استنباط الحكم الكلّيّ الإلهيّ منها ولو من دون تنجيز أو تعذير، وقاعدة ( الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه، أو لا يقتضي ) قاعدة يستنبط منها حرمة الضدّ أو عدم حرمته، وهي حكم كلّيّ إلهيّ. أو يقال: يكفي في اُصوليّتها انتاجها على بعض المبانيّ، وهذه القاعدة تنتج على مبنى تخيّل أنّ النهي الغيريّ ينجّز ويعذّر.

28

الأحكام، ولكن يبقى معنىً لقولنا: ( الصعيد بمعنى وجه الأرض ) أو ( زرارة ثقة )(1).

ثُمّ إنّه قد يقال: إنّ هذا التعريف لا يشمل مثل بحث المفاهيم، أو المطلق والمقيّد، أو العموم والخصوص، لكنّه هو(قدس سره) تعرّض في المقالات لدفع هذا التوهّم ببيان: أنّ هذه الأبحاث تتعرّض لكيفيّة تعلّق الحكم بالموضوع(2)، وفرّق بين هذه الأبحاث وبحث المشتقّ، حيث إنّ بحث المشتقّ لا يندرج تحت التعريف، ولذا لا يكون من الأبحاث الاُصوليّة(3)، وحيث إنّ عبارته في المقالات مغلقة فكأنّ بعضهم لم يلتفت إلى المقصود، ولهذا أشكل عليه بأنّنا لم نفهم الفرق بين هذه الأبحاث وبحث المشتقّ الذي هو خارج عن علم الاُصول، فإنّ بحث المشتقّ أيضاً يتكلّم عن حدود الموضوع هل هو خصوص المتلبس فعلاً بالمبدأ أو أعمّ من ذلك مثلاً؟

وتوضيح مقصوده(قدس سره) هو: أنّ القاعدة الاُصوليّة حينما يكون لها تأثير في الحكم تكون متعرّضة بالمباشرة للحكم أو لخصوصيّة في الحكم، ومبحث دلالة الشرط على المفهوم مثلاً يكون له تأثير في الحكم حينما يكون الجزاء حكماً من الأحكام، وتكون القاعدة حينئذ متعرّضة لخصوصيّة في الحكم؛ إذ تتعرّض لكون الجزاء ـ وهو الحكم حسب الفرض ـ مقيّداً بحدود دائرة الشرط، وأنّه ينتفي بانتفاء الشرط، وهذا بخلاف البحث عن معنىً أفراديّ ككلمة « الصعيد »، فإنّه لا يتكلّم عن خصوصيّة في الحكم، وإنّما يتكلّم عن المعنى الإفراديّ للصعيد الذي لا يكون حكماً في وقت من الأوقات وإن كان البحث عنه دخيلاً في استنباط الحكم أحياناً، وأيضاً بحث الإطلاق حينما يؤثّر في الحكم، أي: حينما يُجرى


(1) المقالات، ج 1، ص 54، بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ.

(2) نفس المصدر والصفحة.

(3) نفس المصدر، ص 55.

29

الإطلاق في موضوع حكم من الأحكام يكون مفاده هو: أنّ الحكم ثابت على طبيعي الموضوع بلا قيد، وهذه خصوصيّة من خصوصيّات الحكم، وكذلك بحث العموم، حيث إنّ مفاده حينما يتعلّق الحكم بالعامّ هو أنّ الحكم ثابت لتمام أفراد العامّ. وتمام النكتة هو: أنّ هذه الأبحاث لا تتكلّم عن تفسير معنىً أفراديّ ككلمة « الصعيد » وإنّما تتكلّم عن سعة أو ضيق ونحو ذلك في معنىً تركيبيّ قد يكون ذلك المعنى حكماً من الأحكام، وأمّا بحث المشتقّ فهو وإن كان يتكلّم عن حدود الموضوع، لكنّه يتكلّم عن حدوده بما هو معنىً أفراديّ، لا عن حدوده بما هو موضوع حتّى يرجع إلى البحث عن خصوصيّة في الحكم وكيفيّة تعلّقه بموضوعه، ففرق كبير بينه وبين هذه الأبحاث.

نعم، يبقى شيء واحد وهو: أنّ تطبيق التعريف على بحث العموم كما صنعه المحقّق العراقيّ(قدس سره) مبنيّ على كون أداة العموم مفادها شمول الحكم واستيعابه لتمام أفراد الموضوع، فهو مشى هنا على هذا المبنى، في حين أنّ هذا المبنى ليس هو المبنى الصحيح، ولا هو مختاره في محلّه، والصحيح الذي هو مختاره في محلّه هو: أنّ أداة العموم تجمع أفراد مدخوله تحت المدخول، وتعطي معنىً شموليّاً أفراديّاً قبل فرض طروء الحكم على الموضوع، إذن فلا يكون العموم متعرّضاً بالمباشرة لخصوصيّة من خصوصيّات الحكم، كما لا يكون متعرّضاً للحكم(1).

 


(1) المحقّق العراقيّ(رحمه الله) يرى ـ حسب ما هو وارد في المقالات، ج 1، المقالة الثلاثون، ص 429 ـ 430 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ ـ أنّ أداة العموم تفيد استيعاب أفراد المدخول، وأنّ البدليّة والشموليّة تكون نتيجة كون المدخول نكرة أو جنساً، وأنّ الاستغراقيّة والمجموعيّة في الجنس تكون بكيفيّة تعلّق الحكم بالأفراد من

30

وعلى أيّ حال، يرد على تعريف المحقّق العراقيّ(قدس سره):

أوّلاً: أنّه توجد هناك قواعد استدلاليّة للفقه تحمل نفس النكتة التي تعرّض لها المحقّق العراقيّ، وهي كون القاعدة متعرّضة للحكم مباشرة، فلو كانت هذه النكتة هي الميزان الكامل للتمييز بين المسألة الاُصوليّة وغيرها، لزم دخول تلك القواعد في علم الاُصول، إذن فلا بدّ من التفتيش عن نكتة اُخرى لإخراج هذه القواعد عن التعريف، وقد تكون تلك النكتة الاُخرى وحدها وافية بتمييز علم الاُصول عن غيره، مغنية عن النكتة التي ذكرها المحقّق العراقيّ(قدس سره)، كما سوف نبيّن فيما يأتي.

ونحن هنا نذكر مثالين للقواعد الاستدلاليّة للفقه الداخلة في تعريف المحقّق العراقيّ(رحمه الله) للاُصول:

1 ـ قيل: إنّ دليل إمضاء البيع يدلّ على ضمان المثل أو القيمة حينما لا يتمّ ضمان المسمّى لفقدان بعض شروط صحّة البيع، وذلك بدعوى: أنّ ذلك الدليل يدلّ على أصل الضمان وعلى كون الضمان بالمسمّى، فإذا انتفى ضمان المسمّى بدليل، بقي أصل الضمان ثابتاً على حاله(1).

 


كونها بنحو قائم بكلّ واحد من المصاديق مستقلاّ أو قائم بالمجموع. إذن فمن حقّه أن يقول في المقام: إنّه في باب العموم نفهم خصوصيّة الحكم من الوضع التركيبيّ من الكلام، فينطبق التعريف على باب العموم كما هو منطبق على باب الإطلاق.

على أنّه يكفي إدخالا لبحث في علم الاُصول انطباق التعريف عليه بلحاظ بعض المباني، وعلى مبنى كون العموم يدلّ على شمول الحكم لتمام أفراد الموضوع يكون العموم مبيّناً لكيفيّة تعلّق الحكم بالأفراد، وهي الكيفيّة الشموليّة.

(1) كأنّه(رحمه الله) عدل عن النقض بقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» إلى هذا البيان حذراً عن أن يجاب بأنّ هذا ليس استدلالا على فقهيّ، وإنّما هذا هو الحكم الفقهيّ ابتداءً.

31

وهذه القاعدة شبيهة تماماً بما قاله بعضهم في علم الاُصول من أنّه إذا دلّ الأمر على وجوب شيء ثُمّ نسخ الوجوب بقي الجواز، بتقريب: أنّ الأمر يدلّ على الجواز بالمعنى الأعمّ، وعلى كون ذلك الجواز في ضمن الوجوب، فإذا انتفى الوجوب بالنسخ بقي أصل الجواز ثابتاً على حاله. وكما أنّ هذه القاعدة تتعرّض بالمباشرة للحكم وهو الجواز، كذلك تلك القاعدة الفقهيّة تتعرّض بالمباشرة للحكم وهو الضمان.

2 ـ يقال في فقه الطهارة: إنّه حينما يدلّ دليل على مطهّريّة شيء فهو يدلّ بالملازمة على طهارة ذلك الشيء، ولهذا قالوا: إنّ ما دلّ من الكتاب على مطهّريّة الماء يدلّ أيضاً على طهارته، وهذه القاعدة شبيهة تماماً بما يقال في علم الاُصول من أنّ الأمر بالشيء يدلّ بالملازمة على وجوب مقدّمته، أو النهي عن ضدّه، وكما أنّ هذه القاعدة الاُصوليّة تدلّ بالمباشرة على الحكم ـ أي: ناظرة إلى الحكم ـ وهو وجوب المقدّمة أو حرمة الضدّ ـ بناءً على أنّ وجوب المقدّمة أو حرمة الضدّ يعتبر حكماً فقهيّاً ـ كذلك تلك القاعدة الفقهيّة تدلّ بالمباشرة على الحكم، وهو الطهارة.

وثانياً: أنّه ذهب المشهور ـ في قاعدة «أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه» ـ إلى أنّ الثمرة الفقهيّة لهذا البحث هي صحّة الضدّ العبادة وفسادها، ومبنيّاً على هذا الرأي المشهور نقول: إنّ هذه القاعدة لا تحمل الميزة التي يراها المحقّق العراقيّ(قدس سره) ميزاناً لكون المسألة اُصوليّة، وهي التعرّض للحكم بالمباشرة، فإنّ هذه القاعدة لا تتعرّض بالمباشرة لفساد العبادة أو صحّتها، وإنّما هذه القاعدة تتعرّض ( بناءً على الاقتضاء ) لإثبات النهي في العبادة، ثُمّ نرجع بعد ذلك إلى قاعدة «أنّ النهي في العبادة يقتضي البطلان»، فهذه القاعدة الثانية هي التي تتعرّض بالمباشرة للحكم، وهو البطلان. كما أنّ القاعدة الاُولى ـ بناءً على عدم الاقتضاء ـ إنّما

32

تتعرّض بالمباشرة لعدم النهي عن الضدّ، ثُمّ نرجع إلى إطلاق حكم الضدّ ونثبت به صحّته، وليست القاعدة الاُولى متعرّضة بالمباشرة لصحّته.

وثالثاً: أنّ القواعد المنطقيّة للاستنتاج تحمل نفس الميزة التي يراها المحقّق العراقيّ(قدس سره) ميزاناً لكون المسألة اُصوليّة، فإنّه حينما تكون النتيجة حكماً شرعيّاً تكون تلك القاعدة متعرّضة بالمباشرة للحكم، وتوضيح ذلك: أنّ الفقيه حينما يقول مثلاً: ( هذا ما دلّ على وجوبه خبر الثقة، وكلّما دلّ على وجوبه خبر الثقة فهو واجب تعبّداً، فهذا واجب تعبّداً )، فالقاعدة المنطقيّة الدخيلة في هذا الاستنتاج هي قاعدة الشكل الأوّل من القياس، وهي: أنّه متى ما كان الأصغر داخلاً في الأوسط، والأوسط داخلاً في الأكبر، فالأصغر داخل في الأكبر، والأكبر ثابت للأصغر، إذن فهذه القاعدة تتعرّض بالمباشرة لثبوت الأكبر للأصغر، فحينما يكون الأكبر حكماً من الأحكام ـ كما في هذا المثال ـ فقد تعرّضت القاعدة بالمباشرة لثبوت الحكم على الأصغر.

فهذه كلّها نقوض على تعريف المحقّق العراقيّ(قدس سره) نحتاج لدفعها إلى إبراز نكتة اُخرى، ومعه قد تغنينا تلك النكتة عن النكتة التي يتبنّاها المحقّق العراقيّ(رحمه الله).

ورابعاً: أنّنا نسأل: ما هو المراد من كون القاعدة الاُصوليّة ناظرة إلى الحكم الشرعيّ؟ هل المراد من ذلك كون القاعدة ناظرة إلى دلالة لفظيّة على الحكم من قبيل قاعدة « أنّ الأمر يدلّ على الوجوب »، أو المراد منه هو مطلق كون المحمول في القاعدة حكماً من الأحكام عند تأثيرها في الاستنباط؟ فإن كان المقصود هو الأوّل، خرج من علم الاُصول ما يكون من قبيل أبحاث الملازمات، كالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته، أو حرمة ضدّه، فإنّها ليست دلالات لفظيّة، وإن كان المقصود هو الثاني دخل في علم الاُصول وثاقة الراوي، فإنّ معنى كون

33

زرارة ثقة مثلاً هو: أنّ نقل زرارة له دلالة ظنّيّة على صحّة ما ينقله، وأنّه يصدق غالباً في نقله، فحينما يكون ما ينقله حكماً من الأحكام فوثاقته تدلّ على أنّه صادق في هذا الحكم بمقدار سبعين بالمائة مثلاً، فهذا من قبيل قولنا: إنّ الأمر ظاهر في الوجوب، أي: يكشف عن الوجوب بمقدار سبعين بالمائة مثلاً، فكما أنّ قاعدة « ظهور الأمر في الوجوب » قاعدة اُصوليّة كذلك قاعدة « أنّ زرارة يصدق غالباً في نقله » تكون قاعدة اُصوليّة. نعم، الصدق الغالبي لزرارة لا يكفي لإثبات الحكم ظاهراً على المكلّف ما لم تضمّ إليه قاعدة حجّيّة خبر الثقة، كما أنّ ظهور الأمر في الوجوب لا يكفي لإثبات الوجوب ظاهراً على المكلّف ما لم تضمّ إليه قاعدة حجّيّة الظهور.

بل بالإمكان أن يدّعى: أنّ علم الاُصول ـ بناءً على هذا التعريف ـ يتّسع بمقدار كلّ ما يوجد في العالَم من قواعد دخيلة في الاستنباط، فمثلاً بالإمكان صياغة قاعدة اُصوليّة توازي قاعدة دلالة الصعيد على التراب أو على وجه الأرض، وذلك بأن يقال: ( متى ما كان الصعيد موضوعاً لحكم ثبت ذلك الحكم على التراب أو على وجه الأرض ) وهذا معناه: أنّ الفرق بين القواعد اللغويّة، أو أيّ قاعدة اُخرى دخيلة في الاستنباط وبين القواعد الاُصوليّة إنّما هو فرق راجع إلى صياغة الكلام من دون وجود فارق جوهريّ، بينما ليس الأمر هكذا.

 

التعريف المختار لعلم الاُصول:

وأمّا التعريف المختار لعلم الاُصول فهو أن يقال: إنّ علم الاُصول هو العلم بالقواعد المشتركة في القياس الاستدلاليّ الفقهيّ. وتوضيح ذلك: أنّ نسبة علم الاُصول إلى علم الفقه كنسبة علم المنطق إلى سائر العلوم، فعلم المنطق يتناول