501

 

دلالة السنّة على حجّيّة الخبر

الثاني: السنّة. وقد ذكروا أنّه لابدّ في مقام الاستدلال على حجّيّة خبر الواحد بالسنّة من التمسّك بالتواتر لا بخبر الواحد؛ إذ الاستدلال بخبر الواحد على حجّيّة خبر الواحد مصادرة.

وقسّم المحقّق النائينيّ(قدس سره) التواتر بالتقسيم التقليديّ المتعارف: من أنّه إمّا لفظيّ، وإمّا معنويّ، وإمّا إجماليّ. وذكر ـ على ما نقل عنه تلميذه السيّد الاُستاذ ـ بأنّ اللفظيّ ما اتّفقت فيه الأخبار في اللفظ، والمعنويّ ما اتّفقت فيه في المعنى، والإجماليّ ما لم تتّفق فيه الأخبار لا في اللفظ ولا في المعنى.

ولا ندري أنّ مقصوده(قدس سره) ممّا فسّر به التواتر الإجماليّ ما يشمل فرض وجود قدر مشترك بين تلك الأخبار أو لا. ولعلّ ما سيأتي ـ من تعليق تلميذه الناقل عنه هذا الكلام على ما يقوله المحقّق النائينيّ من عدم إفادة التواتر الإجماليّ للقطع ـ يلقي ضوءاً على مقصود المحقّق النائينيّ، ويفيد أنّ فرض وجود قدر مشترك داخل في باب التواتر الإجماليّ(1).

 


(1) لا يخفى أنّ ما نقله السيّد الخوئيّ في أجود التقريرات عن اُستاذه المحقّق النائينيّ(رحمه الله)صريح في إدخال فرض وجود القدر المشترك بين الأخبار في التواتر المعنويّ، وتخصيص التواتر الإجماليّ بما إذا لم يكن قدر مشترك فيما بينها. وأمّا ما ورد في فوائد الاُصول للمحقّق الكاظميّ(رحمه الله) فهو يختلف تماماً عمّا في أجود التقريرات؛ إذ يدلّ على الإيمان بالتواتر الإجماليّ حيث يقول: «لا يتوهّم أنّ الأخبار الدالّة على حجّيّة خبر الواحد من أخبار الآحاد، فلا يصحّ الاستدلال بها على حجّيّته، فإنّها لو لم تكن أغلب طوائفها متواترة معنىً فلا إشكال في أنّ مجموعها متواتر إجمالاً؛ للعلم بصدور

502

وعلى أيّة حال، فالمحقّق النائينيّ(قدس سره) ذكر: أنّ التواتر اللفظيّ والتواتر المعنويّ يفيدان العلم، والتواتر الإجماليّ لا يفيد العلم، فإنّ كلّ واحد واحد من تلك الأخبار يحتمل كذبه، فكذلك الجميع.

وذكر السيّد الاُستاذ تعليقاً على ذلك: أنّ التواتر الإجماليّ أيضاً يفيد العلم بصدور بعض تلك الأخبار كاللفظيّ والمعنويّ، والاستدلال على عدم إفادته للعلم بأنّ كلّ واحد منها يحتمل كذبه لو تمّ لجرى في التواتر اللفظيّ والمعنويّ أيضاً؛ إذ يحتمل في كلّ واحد واحد من الأخبار المتواترة لفظاً أو معنىً الكذب. وتظهر ثمرة إفادة التواتر الإجماليّ للعلم فيما إذا كان بين تلك الأخبار قدر مشترك، فإنّه يثبت عندئذ ببركة التواتر الإجماليّ ذاك القدر المشترك.

أقول: إنّ حصول القطع بالتواتر قائم على أساس حساب الاحتمالات، وضعف احتمال كذب الجميع، إمّا بمضعّف كمّيّ، وهو مجرّد ضرب مخارج الاحتمالات للكذب الموجودة بعدد الأخبار، أو مع مضعّف كيفيّ، وهو اشتراك تلك الأخبار في جامع إمّا بلحاظ الإخبار، كاجتماعها في زمان واحد، أو بلحاظ المخبر به، كاجتماعها على الإخبار عن شيء واحد.

وتأثير المضعّف الكمّيّ في حصول العلم إنّما يكون فيما إذا كان احتمال الصدق في كلّ واحد منها أقوى من احتمال الكذب، كي لا يكون احتمال كذب


بعضها عنهم(عليهم السلام)». وهذا ـ كما ترى ـ يدلّ على الإيمان بالتواتر الإجماليّ، وعلى أنّه لا يضرّ وجود القدر المشترك فيما بينها بتسميتها بالمتواتر إجمالاً، فإنّ القدر المشترك في رواياتنا هو حجّيّة خبر الواحد.

503

الجميع مساوياً لاحتمال باقي أطراف العلم الإجماليّ(1)، بل يكون أضعف،فيذوب في النفس بلا مزاحم. والحاصل: أنّ وجود القدر المشترك قد يكون سبباً لحصول العلم لا ثمرة لحصوله بعد الفراغ عن حصوله في مطلق التواتر الإجماليّ.

وإذا لم يكن احتمال الصدق في كلّ واحد من تلك الأخبار أقوى من احتمال الكذب فمع عدم وجود مضعّف كيفيّ لا يحصل العلم، لا لما أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله): من أنّ كلّ واحد من تلك الأخبار محتمل الكذب، بل لما ذكرناه من تساوي أطراف العلم الإجماليّ.

والواقع: أنّه لابدّ من المضعّف الكيفيّ لحصول العلم حتّى فيما إذا كان احتمال الصدق في كلّ واحد من الأخبار أقوى من احتمال الكذب؛ إذ لو فرضت كفاية المضعّف الكمّيّ في عشرة ظنون ـ مثلاً ـ لحصول العلم بصدق واحد منها، قلنا: إنّنا نضمّ إلى تلك الظنون العشرة ألف ظنّ مثلاً، فنحتمل وجود عشرة ظنون كاذبة في مجموعها، وهذا الاحتمال يصبح منبّهاً إلى احتمال كذب العشرة الاُولى التي ضممنا إليها ألف ظنّ.

ولو أخذنا تمام ظنون العالم حصل القطع بصدق جملة منها، لكن هذا ليس مصداقاً لفرض المضعّف الكمّيّ بلا مضعّف كيفيّ، فإنّ كلّ مجموعة من تلك الظنون يوجد لا محالة بينها مضعّف كيفيّ.


(1) لا يخفى أنّ التعبير الدقيق للشرط كما يستفاد من كتاب الاُسس المنطقيّة هو: أن يكون احتمال مخالفة الخبر للواقع أضأل من أطراف العلم الإجماليّ ولو بأن يكون احتمال تجمّع المصالح الشخصيّة ـ مثلاً ـ في هذا الخبر في الجميع مساوياً لباقي أطراف العلم مثلاً، فيكون احتمال مخالفة الخبر للواقع أضأل لا محالة؛ لأنّه على تقدير تجمّع المصالح نحتمل المطابقة صدفة، كما نحتمل المخالفة، بينما باقي أطراف العلم يساوق المطابقة للواقع.

504

نعم، لو فرض فرضاً خلاف الواقع: أنّ ظنون العالم ليس فيها مضعّف كيفيّ، قلنا في هذا الفرض: إنّه لو أخذنا تمام الظنون كفى المضعّف الكمّيّ لحصول القطع بعدم كذب الجميع؛ لعدم تطرّق ذاك الإشكال في عنوان تمام الظنون؛ إذ كلّ ظنّ يفترض في المقام يدخل في هذا العنوان، وليس خارجاً حتّى يأتي حساب الضمّ.

وعلى أيّة حال، فقد اُفيد في المقام: أنّ السنّة المتواترة إنّما يمكن الاستدلال بها على أضيق المداليل، وهو حجّيّة خبر الثقة العدل الإماميّ، وقد دلّ خبر صحيح داخل في هذا القدر المتيقّن على حجّيّة مطلق خبر الثقة، فنأخذ بذلك.

أقول: لم يعيّن من قبلهم هذا الخبر الداخل في القدر المتيقّن(1)، ويحتمل أنّ هذه الفكرة كانت أوّلاً على أساس الفرضيّة، ثمّ اطمأنّ المفترض بأنّه توجد لا محالة في هذه الأخبار الكثيرة ما ينطبق على هذه الفرضيّة، ثمّ تبعه الآخرون، فإنّهم لو كانوا حقّقوا، أو دقّقوا النظر حقّاً في أخبار الباب، كتدقيقهم في آية النبأ والنفر لعرفوا أنّه لا تواتر أصلاً في المقام، فإنّ ما يدلّ منها على حجّيّة خبر الواحد معدود جدّاً، ويوجد في كتاب جامع الأحاديث للسيّد البروجرديّ(رحمه الله) ما يكون حوالي (170) حديثاً ممّا يستدلّ به على حجّيّة خبر الواحد، بينما الواقع: أنّ حوالي مئة وخمسين منها غير دالّ على المقصود أبداً.

 

الأخبار غير التامّة دلالة:

ويمكن تقسيم تلك الأخبار غير التامّة دلالة على طوائف:

الطائفة الاُولى: ما يكون ظاهراً في الشهادة على صحّة بعض الأحاديث بمعنى


(1) جاء في مصباح الاُصول احتمال أن يكون مراد صاحب الكفاية بالخبر الصحيح الدالّ على حجّيّة خبر الثقة قوله(عليه السلام): «نعم» بعد ما قال السائل: (أفيونس بن عبد الرحمن ثقة نأخذ معالم ديننا عنه؟).

505

مطابقتها للواقع لا الحجّيّة التعبّديّة، أو يحتمل فيه ذلك إلى حدّ يوجب الإجمال، وذلك من قبيل:

1 ـ ما ورد عن إسحاق بن يعقوب: قال: «سألت محمّد بن عثمان العمريّ ـ رضوان الله عليه ـ أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ، فوردالتوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان عجّل الله فرجه» إلى أن قال: «وأمّا محمّد بن عثمان العمريّ ـ رضي الله عنه وعن أبيه من قبل ـ فإنّه ثقتي، وكتابه كتابي»(1). وقوله: «كتابه كتابي» إن لم يكن ظاهراً في الشهادة بصحّة كتاب محمّد بن عثمان الذي هو وكيله الخاصّ فلا أقلّ من احتمال ذلك فيه، وعدم ظهوره في الحجّيّة التعبّديّة. وأمّا قوله: «فإنّه ثقتي»، فهو داخل في طائفة اُخرى سيأتي الكلام عنها إن شاء الله.

2 ـ ما عن داود بن القاسم: أنّ أبا جعفر الجعفريّ قال: «أدخلت كتاب يوم وليلة الذي ألّفه يونس بن عبد الرحمن على أبي الحسن العسكريّ(عليه السلام)فنظر فيه، وتصفّحه كلّه، ثمّ قال: هذا ديني ودين آبائي، وهو الحقّ كلّه»(2). فهذا شهادة من قبل المعصوم بصحّة هذا الكتاب لا بيان لجعل الحجّيّة.

3 ـ ما عن محمّد بن إبراهيم الورّاق عن بورق البوسنجانيّ ـ وقد وصفه بالصدق، والصلاح، والورع، والخير ـ قال: «خرجت إلى سرّ من رأى ومعي كتاب يوم وليلة، فدخلت على أبي محمّد(عليه السلام) وأريته ذلك الكتاب، وقلت له: إن رأيت أن تنظر فيه، وتصفّحه ورقة ورقة، فقال: هذا صحيح ينبغي أن تعمل به»(3).


(1) الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 9، ص 101.

(2) الوسائل، ج 18، ب 8 من صفات القاضي، ح 75، ص 71.

(3) المصدر السابق، ح 76.

506

4 ـ ما عن الملقّب بقوراء: أنّ الفضل بن شاذان كان وجّهه إلى العراق إلى حيث به أبو محمّد الحسن بن عليّ(عليه السلام)، فذكر: أنّه دخل على أبي محمّد(عليه السلام)، فلمّا أراد أن يخرج سقط منه كتاب في حضنه ملفوف في رداء له، فتناوله أبو محمّد(عليه السلام)ونظر فيه، وكان الكتاب من تصنيف الفضل، فترحّم عليه، وذكر أنّه قال: «أغبط أهل خراسان لمكان الفضل بن شاذان، وكونه بين أظهرهم»(1).

5 ـ ما عن أبان ابن أبي عيّاش قال: «هذه نسخة كتاب سليم بن قيس العامريّ ثُمّ الهلاليّ دفعه إلى أبان ابن أبي عيّاش وقرأه، وزعم أبان أنّه قرأه على عليّ بن الحسين(عليه السلام)، فقال: صدق سليم، هذا حديث نعرفه»(2).

6 ـ ما عن سعد بن عبد الله الأشعريّ قال: «عرض أحمد بن عبد الله بن خانية كتابه على مولانا أبي محمّد الحسن بن عليّ بن محمّد صاحب العسكر(عليه السلام) فقرأه وقال: صحيح فاعملوا به»(3).

7 ـ ما عن محمّد بن الحسن ابن أبي خالد شينولة قال: «قلت لأبي جعفر الثاني(عليه السلام): جعلت فداك، إنّ مشايخنا رووا عن أبي جعفر، وأبي عبدالله(عليهما السلام)، وكانت التقيّة شديدة فكتموا كتبهم، فلم ترو عنهم، فلمّا ماتوا صارت تلك الكتب إلينا، فقال: حدّثوا بها فإنّها حقّ»(4).


(1) الوسائل، ج 18، ب 8 من صفات القاضي، ح 77، ص 72.

(2) المصدر السابق، ح 78، ص 72.

(3) مستدرك الوسائل نقلاً عن فلاح السائل، ج 3، ب 8 من صفات القاضي، ح 32، ص 183.

(4) الوسائل، ج 18، ب 8 من صفات القاضي، ح 27، ص 58.

507

الطائفة الثانية: ما اُخذ فيها عنوان الورود عنهم، من قبيل ما ورد عن الحسن بن الجهم قال: «قلت للعبد الصالح(عليه السلام): هل يسعنا فيما ورد علينا منكم إلّا التسليم لكم، فقال: لا والله لا يسعكم إلّا التسليم لنا ...»(1)، ونحوه غيره من الأخبار، فإنّ الحديث المشكوك صدقه يكون وروده منهم مشكوكاً، ففرق بين عنوان الورود منهم، وعنوان الورود عنهم، فالثاني لا يبعد صدقه بمجرّد النقل عنهم ولو لم يعلم كونه منهم حقيقة، بخلاف الأوّل، ولو وجد حديث بهذا المضمون اختلف النسّاخ في نقل متنه، هل هو بكلمة (من) أو بكلمة (عن)، كفى ذلك في الإجمال، وعدم صحّة الاستدلال به.

والحاصل: أنّ ظاهر هذا الحديث أنّه لا يجوز إعمال الرأي والاستحسان في قبالهم(عليهم السلام)، كما كان ذلك دأب علماء الضلال وقتئذ، بل يجب التسليم لهم فيما يصدر منهم، فلا يدلّ على التعبّد بعدم الكذب عند احتمال الكذب.

نعم، مقتضى العادة أنّ ما ينقل عنهم ويقطع بعدم كذب النقل يكون احتمال وقوع الخطأ فيه موجوداً غالباً، ويصدق عرفاً على مثل ذلك عنوان الورود منهم، فيدلّ هذا الحديث بالملازمة العرفيّة على التعبّد بإلغاء احتمال الخطأ(2).

الطائفة الثالثة: ما حثّ على تحمّل الحديث، من قبيل:

1 ـ ما ورد عن جابر عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «سارعوا في طلب العلم. فوالذي نفسي بيده لحديث واحد في حلال وحرام تأخذه عن صادق خير من الدنيا وما


(1) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 31، ص 85، وذيل الحديث يبيّن الترجيح بمخالفة العامّة، وهو خارج عن هذه الطائفة، وداخل في الطائفة الخامسة عشرة.

(2) لعلّ المقصود بالملازمة العرفيّة في المقام: أنّ التلازم العرفيّ بين النقل عنهم واحتمال الخطأ أوجب إطلاق عنوان الورود منهم في المقام لذلك.

508

حملت من ذهب وفضّة، وذلك أنّ الله يقول: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾»(1).

2 ـ ما عن أنس قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): من حفظ من اُمّتي أربعين حديثاً في أمر دينه يريد به وجه الله عزّ وجلّ والدار الآخرة بعثه الله يوم القيامة فقيهاً عالماً»(2). وما بمضمون هذا الحديث الثاني لا يبعد كونه مستفيضاً أو أكثر من ذلك، ولهذا كان العلماء السابقون يتبرّكون بكتابة أربعين حديثاً بخطّهم لأجل أن يكونوا مشمولين لهذه الأحاديث بناءً على الفهم العرفيّ من هذه العبارة.

وعلى أيّة حال، فهذه الأخبار لا تدلّ على المقصود، فإنّ حمل الأحاديث موجب للتثقّف بالتثقيف الإسلاميّ، والتنوّر في آرائه ومخطّطاته العامّة والخاصّة، والعثور على ذوق الإسلام ومعارفه، ولا شكّ أنّ هذا مطلوب لدى الشارع، ومن أهمّ المستحبّات، بل من أهمّ الواجبات الكفائيّة التي بها تحفظ الشريعة، وأفكار الإسلام، وأحكامه، ويقدّم عند التزاحم على أكثر الواجبات الاُخرى، وهذا غير مرتبط بحجّيّة خبر الواحد.

وأمّا قوله في الحديث الأوّل: «تأخذه من صادق» فإن جمدنا على حاقّ العبارة فمعناه تأخذه من شخص صادق لا يكذب بحسب الخارج لا من شخص يحتمل كذبه. ولكن من المحتمل قويّاً أن يكون المقصود من الصادق هنا


(1) الوسائل، ج 18، الباب 8 من صفات القاضي، الحديث 68، ص 70، ونحوه الحديث 69 و70 من نفس الباب ونفس الصفحة وفيهما: «من صادق».

(2) الوسائل، ج 18، الباب 8 من صفات القاضي، الحديث 59، ص 67، وفيه «من حفظ عنّي من اُمّتي» بينما كلمة «عنّي» ساقطة في جامع أحاديث الشيعة. ونحوه الحديث 58 و60 و61 و62 و64 و71 و72، ص 65 إلى ص 68، وص 70، إلّا أنّ في بعضها: «على اُمّتي».

509

الإمام(عليه السلام)الذي هو الصادق المطلق بقرينة استشهاده بالآية: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ...﴾ .

الطائفة الرابعة: ما دلّ على التحويل على أشخاص معيّنين، من قبيل:

1 ـ ما عن أبي حمّاد الرازيّ يقول: «دخلت على عليّ بن محمّد(عليه السلام) بسرّ من رأى، فسألته عن أشياء من الحلال والحرام، فأجابني فيها، فلمّا ودّعته قال: يا حمّاد، إذا أشكل عليك شيء من أمر دينك بناحيتك فسل عنه عبد العظيم بن عبدالله الحسنيّ وأقرئه منّي السلام»(1).

2 ـ ما رواه الصدوق(رحمه الله) من كلام الصادق(عليه السلام)لأبان بن عثمان أنّ أبان بن تغلب قد روى عنّي رواية كثيرة، فما رواه لك عنّي فاروه عنّي(2).

3 ـ ما عن المفضّل بن عمران أنّ أبا عبد الله(عليه السلام) قال للفيض بن المختار في حديث: «فإذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس، وأومأ إلى رجل من أصحابه، فسألت أصحابنا عنه، فقالوا: زرارة بن أعين»(3).

4 ـ وما عن عليّ بن محمّد القتيبيّ عن الفضل بن شاذان، عن عبد العزيز بن المهتدي، وكان خير قمّيّ رأيته، وكان وكيل الرضا(عليه السلام)وخاصّته. قال: «سألت الرضا(عليه السلام) فقلت: إنّي لا ألقاك في كلّ وقت فعمّن آخذ معالم ديني؟ فقال: خذ عن يونس بن عبد الرحمن»(4).

وهذه الطائفة أيضاً لا تدلّ على التعبّد بإلغاء احتمال الكذب في خبر الثقة؛ إذ


(1) مستدرك الوسائل، ج 3، ب 8 من صفات القاضي، ح 32، ص 189.

(2) الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 8، ص 101.

(3) المصدر السابق، ح 19، ص 104.

(4) المصدر السابق، ح 34، ص 107.

510

من المحتمل أنّه(عليه السلام) إنّما أحال على أشخاص معيّنين باعتبار علمه(عليه السلام)بأنّهم لا يكذبون، ولا تزيد هذه الأخبار على بيان القضيّة الشخصيّة، وهذا لا يعني اعتماد الإمام (عليه السلام) في علمه بانتفاء الكذب على علم الغيب كي يقال: إنّ هذا خلاف الظاهر؛ إذ تكفي في حصول العلم بذلك المعاشرة التامّة للشخص باعتباره من خواصّه وصفوته مثلاً.

نعم، هؤلاء الأشخاص من المحتمل عادةً صدور الخطأ منهم، ولا يمكن عادةً أن يعلم الإمام(عليه السلام) بعدم صدور الخطأ منهم إلّا بعلم الغيب، وليس المبنى في مثل المقام على إعمال العلم بالغيب، فتدلّ هذه الأخبار على إلغاء احتمال الخطأ والاشتباه تعبّداً.

الطائفة الخامسة: ما اُمر فيها بنقل بعض الأحاديث، من قبيل:

1 ـ ما عن أبان بن تغلب عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «يا أبان، إذا قدمت الكوفة فارو هذا الحديث: مَن شهد أن لا إله إلّا الله مخلصاً وجبت له الجنّة...»(1).

2 ـ ما عن جميل عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: «سمعته يقول: إنّ ممّا خصّ الله به المؤمن أن يعرّفه برّ إخوانه به وإن قلّ، وليس البرّ بالكثرة» إلى أن قال: «ثمّ قال: يا جميل، ارو هذا الحديث لإخوانك، فإنّه ترغيب في البرّ»(2).

3 ـ ما عن أبي العبّاس البقباق قال: دخلت على أبي عبدالله(عليه السلام)قال: فقال لي: «ارو عنّي أنّ من طلّق امرأته ثلاثاً في مجلس واحد فقد بانت منه»(3).

4 ـ ما رواه سليم بن قيس الهلاليّ في كتابه عن الحسين بن عليّ(عليه السلام)إلى أن


(1) الكافي، ج 2، الباب 44 من كتاب الدعاء، الحديث الوحيد في الباب، ص 520.

(2) الوسائل، ج 18، ب 8 من صفات القاضي، ح 40، ص 62.

(3) الوسائل، ج 15، ب 30 من مقدّمات الطلاق، ح 8، ص 321.

511

قال: «أنشدكم بالله إلّا حدّثتم به من تثقون به»(1).

5 ـ ما عن المفضّل بن عمر قال: «قال لي أبو عبدالله(عليه السلام): اكتب وبثّ علمك في إخوانك، فإن متّ فأورث كتبك بنيك، فإنّه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلّا بكتبهم».

وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة كالتقريب الماضي في الآيات بأن يقال: لولا الحجّيّة للغى إطلاق الأمر بالنقل لفرض عدم حصول العلم منه.

وقد عرفت الجواب عنه بأنّ من المحتمل إيجاب النقل على الإطلاق تحفّظاً على فروض ترتّب العلم عليه التي يتخيّل العبد فيها أنّه لا يترتّب العلم عليه.

الطائفة السادسة: ما دلّ على الثناء على المحدّثين، من قبيل:

1 ـ ما عن عبد الله العلويّ العمريّ عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ(عليهم السلام)قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): اللّهمّ ارحم خلفائي ثلاثاً. قيل: يا رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ومَن خلفاؤك؟ قال: الذين يبلّغون حديثي وسنّتي ثُمّ يعلّمونها اُمّتي»(2)، بناءً على كون المقصود بهم الرواة لا خصوص الأئمّة(عليهم السلام).

2 ـ ما عن معاوية بن عمّار قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): رجل رواية لحديثكم يبثّ ذلك في الناس ويسدّده في قلوبهم وقلوب شيعتكم، ولعلّ عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرواية، أ يّهما أفضل؟ قال: الرواية لحديثنا يشدّ به [ يسدّد في خ ل ]


(1) مستدرك الوسائل، ج 3، ب 8 من صفات القاضي، ح 24، ص 183.

(2) النصّ مأخوذ من جامع أحاديث الشيعة، ج 1، ب 5 من المقدّمات، ح 45، ص 234 نقلاً عن أمالي الصدوق، ص 106. ويقرب من هذا النصّ ما في الوسائل، ج 18، ب 8 من صفات القاضي، ح 50 و53، ص 65 و66. وب 1 من صفات القاضي، ح 1، ص 53.

512

قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد»(1).

3 ـ ما عن ابراهيم بن عبد الحميد وغيره قالوا: قال أبو عبد الله(عليه السلام): «رحم الله زرارة بن أعين، لولا زرارة ونظراؤه لاندرست أحاديث أبي(عليه السلام)»(2).

4 ـ ما عن أبي العبّاس الفضل بن عبد الملك قال: «سمعت أبا عبد الله(عليه السلام)يقول: أحبّ الناس إليّ أحياءً وأمواتاً أربعة: بريد بن معاوية العجليّ، وزرارة، ومحمّد بن مسلم، والأحول، وهم أحبّ الناس إليّ أحياءً وأمواتاً»(3).

ولا إشكال في أنّ بقاء الدين وانحفاظ شريعة سيّد المرسلين(صلى الله عليه وآله) كان بواسطة المحدّثين، ولولاهم لاندرست آثار النبوّة، وكفى ذلك ملاكاً للثناء عليهم، ولا يدلّ ذلك على حجّيّة خبر الواحد.

الطائفة السابعة: ما دلّ على أنّ انتفاع السامع بالرواية قد يكون أكثر من الراوي، من قبيل ما عن عوالي اللآلي عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) قال: «رحم الله امرئً سمع مقالتي فوعاها وأدّاها كما سمعها، فربّ حامل فقه ليس بفقيه». وفي رواية «فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه»(4). ولولا حجّيّة الرواية لما انتفع السامع بها.

ولكنّك ترى أنّ هذا النصّ لا ينظر إلى جهة الصدور، بل ينظر ـ بعد الفراغ عن الصدور ـ إلى الأنفعيّة للسامع في بعض الأحيان من الراوي باعتباره أفهم للحديث ونكاته.

الطائفة الثامنة: ما دلّ على ثبوت من يحمل رسالة الدين من العدول في كلّ


(1) الوسائل، ج 18، ب 8 من صفات القاضي، ح 1، ص 53.

(2) الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 20، ص 104.

(3) المصدر السابق، ح 18.

(4) مستدرك الوسائل، ج 3، ب 8 من صفات القاضي، ح 14، ص 182.

513

قرن أو زمان، من قبيل ما عن إسماعيل بن جابر عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): يحمل هذا الدين في كلّ قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين، وتحريف الغالين، وانتحال الجاهلين كما ينفي الكير خبث الحديد»(1)، بتقريب أنّ حماية الدين بالنسبة للرواة فرع حجّيّة رواياتهم.

لكنّك ترى أنّ هذا الحديث لم ينسب حماية الدين إلى الرواة، وما فيه من نفي تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين ليس من شأن الرواة بما هم رواة ونقلة للألفاظ، وإنّما هو من شأن العارفين بمعارف الإسلام العالمين بكيفيّة حمل رسالة الإسلام وإثباته للناس، ودفع الشبهات عنه وردّ المعاندين والمشكّكين بالعلم والمنطق والبرهان والمحاجّة، وهذا لا علاقة له بالراوي بما هو راو وناقل، وإنّما المقصود منه المجتهدون في الإسلام اجتهاداً كاملاً اُصولاً وفروعاً ومن جميع جهاته.

الطائفة التاسعة: ما دلّ على حفظ الكتب والترغيب في الكتابة، من قبيل:

1 ـ ما عن عبيد بن زرارة قال: «قال أبو عبدالله(عليه السلام): احتفظوا بكتبكم، فإنّكم سوف تحتاجون إليها»(2).

2 ـ ما عن أبي بصير قال: «دخلت على أبي عبدالله(عليه السلام) فقال: ما يمنعكم من الكتاب إنّكم لن تحفظوا حتّى تكتبوا، إنّه خرج من عندي رهط من أهل البصرة سألوني عن أشياء فكتبوها»(3).


(1) الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 43، ص 109.

(2) الوسائل، ج 18، ب 8 من صفات القاضي، ح 17، ص 56.

(3) مستدرك الوسائل، ج 3، ب 8 من صفات القاضي، ح 28، ص 183. ونظيره ما في الوسائل، ج 18، ب 8 من صفات القاضي، ح 16، ص 56.

514

وتقريب الاستدلال بذلك: أنّه لولا الحجّيّة لكان الحثّ على الكتابة وحفظ الكتاب لغواً.

وجوابه يظهر ممّا سبق، وأنت ترى أنّ ما في هذه الأحاديث هو الأمر بالكتب وحفظ الكتاب لأجل حفظ الحديث وعدم ضياعه من يده، أي: من يد نفس الراوي، ولأجل أنّه سوف يقع الاحتياج إليه ولو بالنسبة لنفس الراوي؛ لأنّ الذاكرة لها حدّ محدود، وهذا غير مربوط بحجّيّة الأخبار لغير الراوي.

الطائفة العاشرة: ما دلّ على الأمر بضبط الحديث وعدم التحريف فيه، من قبيل ما عن أبي بصير عن أحدهما(عليهما السلام) في قول الله: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه﴾ قال: «هم المسلّمون لآل محمّد(صلى الله عليه وآله)إذا سمعوا الحديث أدّوه كما سمعوه لا يزيدون ولا ينقصون»(1).

وأنت ترى أنّ الأمر بالضبط وعدم التغيير عند النقل غير مربوط بحجّيّة ذلك النقل، فإنّه على أيّ حال لا يجوز تحريف الناقل ومسامحته.

الطائفة الحادية عشرة: ما دلّ على جواز النقل بالمعنى، من قبيل ما عن محمّد بن مسلم قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): أسمع الحديث منك فأزيد وأنقص. قال: إن كنت تريد معانيه فلا بأس»(2).

ولكنّك ترى أنّ هذا يعيّن وظيفة الناقل جوازاً لا وظيفة السامع وجوباً.


(1) مستدرك الوسائل، ج 3، ب 8 من صفات القاضي، ح 46، ص 185. ونحوه ورد عن أبي بصير عن الصادق(عليه السلام)في الوسائل، ج 18، ب 8 من صفات القاضي، ح 8،ص 54، وح 23، ص 57.

(2) الوسائل، ج 18، الباب 8 من صفات القاضي، الحديث 9، ص 54. ونحوه الحديث 10 من نفس الباب.

515

الطائفة الثانية عشرة: ما أوجب السماع عن الصادق، من قبيل ما عن المفضّل بن عمر قال: «قال أبو عبدالله(عليه السلام): من دان الله بغير سماع عن صادق ألزمه الله التيه [ البته خ ل ] إلى الفناء [ العناء خ ل ] ...»(1).

فقد يتوهّم الاستدلال بذلك باعتبار أنّ السماع من الصادق إذا كان واجباً فمعنى هذا الأخذ به والتصديق بروايته. إلّا أنّه من المطمئنّ به أنّ المراد هنا بالصادق هو الإمام(عليه السلام) الذي هو الصادق بقول مطلق، فلا علاقة له بما نحن فيه(2).

الطائفة الثالثة عشرة: ما دلّ على حجّيّة نقل ثقة الإمام، من قبيل ما عن أحمد بن إبراهيم المراغيّ قال: «ورد على القاسم بن العلاء، وذكر توقيعاً يقول فيه: فإنّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا قد عرفوا بأنّنا نفاوضهم بسرّنا ونحملهم إيّاه إليهم ...»(3).


(1) الوسائل، ج 18، الباب 10 من صفات القاضي، الحديث 12، ص 92. وشبهه الحديث 37 من الباب 7 من تلك الأبواب، ص 51.

(2) وبخصوص هذا الحديث الذي ورد فيه كلمة «عن صادق» قد يقول قائل: إنّ السماع عن صادق يعطي معنى السماع غير المباشر ـ أي: السماع بالنقل ـ فقد دلّ الحديث على حجّيّة ذاك النقل. نعم، هذا التقريب لا يرد في الحديث 37 من الباب 7 من أبواب صفات القاضي من الوسائل؛ لأنّه ورد فيه: «من صادق». إلّا أنّ هذا أيضاً جوابه واضح، فإنّ الحديث إنّما منع عن أن يدين الله أحد بغير سماع عن صادق، وليس هذا جملة شرطيّة واجدة لشرائط المفهوم، كي تدلّ على قضيّة كلّيّة، وهي أنّه لا بأس بمن يدين الله بسماع عن صادق سواء كان سماعه يوجب العلم أو لا. ونفس الجواب أيضاً يأتي لو فرض أنّ المقصود بالصادق هو الثقة.

(3) الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 40، ص 108 و109.

516

وقد اشتهر هذا اللسان بهذه الصيغة الخاصّة، أي: (لا ينبغي التشكيك فيما يروي عنّا ثقاتنا) في تعبير الأصحاب في مقام الاستشهاد على حجّيّة خبر الثقة بالأخبار، ولم يرد إلّا في هذا الحديث. وهذا اللسان أجنبيّ عمّا نحن فيه؛ لأنّ المتكلّم لو قال: فلان ثقتي، فهذا لا يعني أنّه ثقة في قوله ـ أي: أنّه واجد لملكة الصدق ـ بل يعني: أنّه معتمدي ومحلّ وثوقي في اُموري وأسراري وتشاوري ونحو ذلك. فقوله(عليه السلام)«ثقاتنا» ليس معناه من نعتقد بكونه واجداً لملكة الصدق، وإنّما هو تعبير من سنخ تعبير الإمام الحسين(عليه السلام)بشأن ابن عمّه ونائبه مسلم بن عقيل(عليه السلام) حيث قال: «إنّي باعث إليكم ثقتي من أهل بيتي»، ومعناه أنّه معتمدي في اُموري واُفاوض معه أسراري. كما جاء في ذيل هذا الحديث الذي استدلّ به على حجّيّة خبر الواحد: «قد عرفوا بأنّنا نفاوضهم سرّنا ونحمله إيّاه إليهم»، والثقة بهذا المعنى لا إشكال في حجّيّة خبره.

الطائفة الرابعة عشرة: ما دلّ على المنع من إعمال الرأي في رفض الرواية، من قبيل ما عن أبي عبيدة الحذّاء قال: «سمعت أبا جعفر(عليه السلام)يقول: والله إنّ أحبّ أصحابي إليّ أورعهم وأفقههم وأكتمهم لحديثنا. وإنّ أسوأهم عندي حالاً، وأمقتهم الذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا ويروي عنّا فلم يقبله، اشمأزّ منه وجحده، وكفّر من دان به، وهو لا يدري لعلّ الحديث من عندنا خرج وإلينا اُسند، فيكون بذلك خارجاً من ولايتنا»(1).

وتقريب الاستدلال بذلك: أنّه لولا حجّيّة الخبر لما ردع عن رفضه.

ولكنّك ترى أنّ مفاد هذا الحديث هو الردع عن رفض الحديث بقول مطلق بمجرّد عدم موافقته للذوق والاستحسان. ولا شكّ في أنّه لا يجوز رفضه بذلك


(1) الوسائل، ج 18، ب 8 من صفات القاضي، ح 39، ص 61 و62.

517

حتّى مع فرض عدم حجّيّة ذاك الحديث، بل لابدّ من التوقّف في صدوره من الإمام وعدمه؛ إذ عدم الحجّيّة لا يعني القطع بعدم الصدور، فلا مبرّر للتكذيب. وهذا غير ما نحن بصدده.

الطائفة الخامسة عشرة: ما دلّ على الترجيح عند التعارض بنحو يناسب القطعيّين، كالترجيح بمخالفة العامّة، من قبيل ما ورد عن الحسين بن السري قال: «قال أبو عبدالله(عليه السلام): إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم»(1).

فإنّ الترجيح بمخالفة العامّة يناسب حتّى القطعيّين، وليس كالترجيح بالأوثقيّة وموافقة القرآن ـ مثلاً ـ الذي لا يناسب القطعيّين. وإذا كان الترجيح مناسباً للقطعيّين فلا يدلّ على حجّيّة غير القطعيّين في الرتبة السابقة على التعارض، فإنّه وإن دلّ الحديث على أنّ المفروض كون كلّ واحد من الحديثين يؤخذ به لولا التعارض، ولذا وصلت النوبة إلى فرض التعارض والترجيح، لكنّه ليس بصدد بيان هذا المطلب كي يتمسّك بإطلاقه، وتثبت بذلك حجّيّة غير القطعيّ، وإنّما هو بصدد بيان المرجّح في أيّ مورد تمّ موضوع الترجيح، وهو تعارض خبرين يؤخذ بكلّ واحد منهما لولا الآخر، ولعلّ موضوعه منحصر في فرض كونهما قطعيّين.

نعم، هنا أيضاً يمكن أن يقال بالدلالة عرفاً على رفض احتمال الخطأ؛ لأنّ المفروض الدلالة على ثبوت ما يقبل بقطع النظر عن التعارض ولو من باب قطعيّة الخبر، والغالب فيما ينقل عنهم ولو قطعاً ثبوت احتمال الخطأ.


(1) الوسائل، ج 18، الباب 9 من صفات القاضي، الحديث 30، ص 85. ونحوه الحديث 31 و34 من نفس الباب.

518

 

إثبات إرادة الحجّيّة بحساب الاحتمال:

ثمّ إنّ هنا كلاماً، وهو: أنّ هذه الطوائف المختلفة البالغة حوالي (150) حديثاً لو فرض إجمال كلّ خبر منها، واحتمال كون المراد منه حجّيّة خبر الواحد لأمكن أن تثبت بذلك بحساب الاحتمالات حجّيّة خبر الواحد بأن يقال: إنّ فرض ثبوتها بنكات متباينة بعيد جدّاً بخلاف فرض وجود نكتة مشتركة، وهي حجّيّة خبر الواحد. ولا أقصد بذلك: أنّ ورود (150) حديثاً في اُمور متباينة بعيد، وإنّما المقصود: أنّ ورود كلّ واحد منها صدفة بلسان يناسب الحجّيّة ولو من باب إجمال الكلام بعيد، إلّا مع فرض النكتة المشتركة، وهي الحجّيّة في الواقع.

وقد يقال: لا يكفي هذا لإثبات حجّيّة خبر الواحد؛ لأنّ العدد المتواتر لو فرضت دلالة كلّ واحد منها صريحاً على الحجّيّة حصل القطع بالحجّيّة للتواتر عليها، لكن المفروض أنّ كلّ فرد من أفراد هذا العدد المتواتر مجمل، وغاية ما يمكن دعوى حصول القطع به لأجل التواتر الإجماليّ هو صدق بعض هذه الأفراد مع القطع بأنّ بعض هذه الأخبار اُريد منه الحجّيّة؛ لاستبعاد عدم كون بعضها ـ على الأقلّ ـ مسوقاً مساق الحجّيّة، وكون إمكان انطباق الجميع على الحجّيّة من باب مجرّد تجمّع الصدف، لكن كون البعض الصادق هو عين البعض الذي اُريد به الحجّيّة غير معلوم.

وقد يقال في مقابل هذا الكلام: إنّ العدد الموجود فيما نحن فيه ليس هو أدنى مراتب التواتر الإجماليّ، أي: أنّ الأخبار الواردة في المقام بما لها من خصوصيّات لو كانت أقلّ من هذا المقدار بكثير لكان يحصل العلم أيضاً بصدق بعضها. فمثلاً: لو كانت هذه الأخبار بمقدار خمسين لكان يحصل القطع بصدق

519

واحد منها، ولو فرضنا أنّ أقلّ التواتر الإجماليّ هو خمسون مثلاً، فهذا لا يعني أنّنا لا نقطع في ضمن المئة والخمسين إلّا بصدق ثلاثة، بل يحصل القطع بصدق مئة وواحد منها مثلاً الذي هو فوق حدّ التواتر؛ وذلك لأنّ فرض كون الخمسين أقلّ حدّ التواتر يعني أنّ أكبر عدد يحتمل اجتماعهم على الكذب هو تسعة وأربعون، إذن فلو أخبر مئة وخمسون بشيء علمنا بصدق مئة وواحد منهم.

وقد يقال في مواجهة هذا البيان: إنّ استبعاد كذب خمسين من أصل خمسين من المخبرين أكبر من استبعاد كذب خمسين من أصل مئة وخمسين من المخبرين؛ لأنّ احتمال كذب خمسين من أصل خمسين من المخبرين لا يمتلك إلّا صورة واحدة من كثير من الصور، بينما احتمال كذب خمسين من أصل مئة وخمسين من المخبرين يمتلك صوراً كثيرة نسبتها إلى مجموعة الصور المحتملة ضمن فرضيّة مئة وخمسين مخبراً أكبر من نسبة صورة كذب خمسين إلى مجموعة الصور المحتملة ضمن فرضيّة خمسين مخبراً. والخلاصة: أنّ نسبة صور كذب مئة وسبعة وأربعين من أصل مئة وخمسين إلى مجموع الصور تساوي نسبة صور كذب تسعة وأربعين من أصل خمسين إلى مجموع الصور. فكما أنّنا لا نقطع في ضمن الخمسين إلّا بصدق واحد منهم كذلك لا نقطع في ضمن المئة وخمسين إلّا بصدق ثلاثة منهم(1).

والتحقيق في المقام: أنّه توجد في مقابل الحساب الذي عرفته نكتة اُخرى لا يصحّ إغفالها، وهي: أنّه كلّما كان التقارب والاشتراك بين تلك الأخبار أزيد كان احتمال تكاثر الكذب بتكاثر الأخبار أضعف، ففيما نحن فيه يحصل القطع بصدق


(1) نعم، بناءً على مذهب القوم من تفسير التواتر باستحالة اجتماع تسعة وأربعين ـ مثلاً ـ على الكذب تكون النتيجة أنّنا نقطع في المئة وخمسين بصدق مئة وواحد منهم.

520

كثرين منهم جدّاً، وهذا هو السرّ في أنّه لو أخبرنا عدد متواتر بخبر معيّن حصل لنا القطع بأنّ كلّهم أو جلّهم صادقون(1).

وإن شئت حساب المطلب فيما نحن فيه بنحو ساذج فنقول: إنّ كلّ واحد من هذه الأخبار يحتمل ـ مثلاً ـ بمقدار نصف اليقين صدقه. وعلى تقدير صدقه يحتمل بمقدار نصف اليقين كون المراد به الحجّيّة، فكلّ واحد منها أمارة بمقدار ربع اليقين على الحجّيّة وبتجمّعها يتقوّى الظنّ بالحجّيّة إلى أن يحصل القطع، أو الاطمئنان بالحجّيّة.

وما ذكرناه باب لطيف لإثبات حجّيّة المجملات في بعض الأحيان، واستفادة الحكم منها بالرغم من إجمالها.

إلّا أنّ الصحيح أنّ هذه الكبرى لا تنطبق على ما نحن فيه؛ لأنّ الغالب في روايات الباب التي لا تتمّ دلالتها على الحجّيّة أنّ عدم تماميّة الدلالة ليس من باب الإجمال، بل هي ظاهرة في كون المقصود بها اُموراً اُخرى غير الحجّيّة، كالثناء على المحدّثين، وجواز النقل بالمعنى، وغير ذلك.


(1) لا يخفى أنّ لحصول القطع في التواتر بصدق كلّهم أو جلّهم سبباً آخر غير السبب الذي أشار إليه الاُستاذ الشهيد(رحمه الله)، ولذا ترى أنّ هذا القطع موجود في أقلّ درجات التواتر مع أنّ السبب الذي أشار إليه الاُستاذ الشهيد(رحمه الله) لا يتمّ في أقلّ درجات التواتر، فمثلاً: لو فرضنا أنّ أقلّ درجات التواتر هو خمسون فهذا يعني أنّ احتمال كذب تسعة وأربعين غير مرفوض، ومن الواضح أنّ احتمال كذب تسعة وأربعين من أصل خمسين ليس بأضعف من احتمال كذب تسعة وأربعين من أصل تسعة وأربعين. أمّا السبب في أنّنا نقطع في أقلّ درجات التواتر بصدق الكلّ أو الجلّ فهو أنّه بعد أن ثبت بالتواتر صدق أصل الحادثة كان صدق أصل الحادثة مقوّياً لاحتمالات صدق المخبرين في مقابل احتمالات كذبهم؛ لأنّ توافق الكذب صدفة للواقع بحدّ ذاته بعيد.

521

 

الأخبار التامّة دلالة:

والآن نبدأ ببحث الأخبار الدالّة على المقصود، أعني: حجّيّة خبر الثقة، وهي معدودة جدّاً، وتكون من ناحية الكمّيّة قاصرة عن التواتر. نعم، لو أخبرنا الراوي بلا واسطة عن الإمام(عليه السلام) فلعلّه كان يحصل لنا القطع بأخبار أربعة، أو خمسة مثلاً، لكن هذه الأخبار التي هي حوالي خمسة عشر حديثاً(1) تكون أخباراً مع الواسطة، ولو فرض خمسة عشر حديثاً كلّ منها يكون بأربع وسائط فهي تتنزّل بحسب التدقيق في حساب الاحتمالات إلى حوالي قيمة ثلاثة أخبار بلا واسطة. ولكن النقص الكمّيّ الموجود في أخبار الباب يجبر بالكمال الكيفيّ الثابت فيها، ويحصل للإنسان من مجموعها الجزم، أو الاطمئنان ـ على الأقلّ ـ بحجّيّة خبر الثقة.

فمن الروايات الدالّة على المقصود: ما هو عمدة أحاديث الباب في تحصيل الجزم والاطمئنان، وهو ما رواه الكلينيّ(رحمه الله)في الكافي عن محمّد بن عبدالله، ومحمّد بن يحيى جميعاً، عن عبدالله بن جعفر الحميريّ، قال: «اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو(رحمه الله)عند أحمد بن إسحاق، فغمزني أحمد بن إسحاق أن أسأله عن


(1) مقصوده(رحمه الله)من حوالي خمسة عشر غير الأخبار التي نقلوها مرسلة، من قبيل ما نقله الشيخ(رحمه الله) في العدّة مرسلاً عن الصادق(عليه السلام) أنّه قال: «إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما ورد عنّا فانظروا فيما رووه عن عليّ فاعملوا به» ـ الوسائل، ج 18، الباب 8 من صفات القاضي، ح 47، ص 64 ـ فإنّه لا يبعد ظهوره في الحجّيّة؛ لأنّه عدّى فيه الورود بعن لا بمن. وقد قلت له(رحمه الله) بعد أن أكمل قراءته لروايات الباب الدالّة على المقصود: إنّ الروايات التي اعترفتم بتماميّة دلالتها لا تبلغ حوالي خمسة عشر حديثاً. فقال: أظنّ أنّ واحداً منها أو قال: بعضها روي بطريقين.

522

الخلف، فقلت له: يا أبا عمرو، إنّي اُريد أن أسألك عن شيء وما أنا بشاكّ فيما اُريد أن أسألك عنه، فإنّ اعتقاديّ وديني أنّ الأرض لا تخلو من حجّة إلّا إذا كان قبل يوم القيامة بأربعين يوماً، فإذا كان ذلك رفعت الحجّة، واُغلق باب التوبة، فلم يك ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً، فاُولئك أشرار من خلق الله عزّ وجلّ، وهم الذين تقوم عليهم القيامة. ولكنّي أحببت أن أزداد يقيناً، وإنّ إبراهيم(عليه السلام) سأل ربّه عزّ وجلّ أن يريه كيف يحيي الموتى ﴿قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾. وقد أخبرني أبو عليّ أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن(عليه السلام)قال: سألته وقلت: مَن اُعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال له: العمريّ ثقتي، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع، فإنّه الثقة المأمون. وأخبرني أبو عليّ أنّه سأل أبا محمّد(عليه السلام)عن مثل ذلك، فقال له: العمريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك عنّي فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنّهما الثقتان المأمونان، فهذا قول إمامين قد مضيا فيك.

قال: فخرّ أبو عمرو ساجداً وبكى. ثمّ قال: سل حاجتك. فقلت له: أنت رأيت الخلف من بعد أبي محمّد(عليه السلام)؟ فقال: إي والله، ورقبته مثل ذا ـ وأومأ بيده ـ فقلت له: فبقيت واحدة. فقال لي: هات. قلت: فالاسم؟ قال: محرّم عليكم أن تسألوا عن ذلك، ولا أقول هذا من عندي فليس لي أن اُحلّل ولا اُحرّم، ولكن عنه(عليه السلام)، فإنّ الأمر عند السلطان أنّ أبا محمّد مضى ولم يخلّف ولداً، وقسّم ميراثه، وأخذه مَن لا حقّ له فيه، وهو ذا عياله يجولون ليس أحد يجسر أن يتعرّف إليهم أو ينيلهم شيئاً، وإذا وقع الاسم وقع الطلب، فاتّقوا الله وأمسكوا عن ذلك»(1).


(1) الكافي، ج 1، ب 77 من كتاب الحجّة، ح 1، ص 329 و330. ومحلّ الشاهد موجود في الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 4، ص 100.

523

والكلام تارةً يقع في دلالة الحديث، واُخرى في سنده:

أمّا الأوّل: فتدلّ على المطلوب من هذا الحديث فقرتان:

الاُولى: قوله: «العمريّ ثقتي، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع، فإنّه الثقة المأمون»، ولولا قوله: «فإنّه الثقة المأمون» لكان يقال: إنّ هذا الحديث لا يدلّ على أزيد من حجّيّة خبر ثقة الإمام، لكن التعليل بقوله: «فإنّه الثقة المأمون» يوسّع في دائرة الموضوع، ويجعل الموضوع مطلق الثقة.

وما عن علماء العربيّة: من أنّ اللام في مثل هذا المورد للكمال، فمعنى ذلك أنّه الكامل في الوثاقة والأمان ليس حجّة لنا، فإنّه ليس ذلك نقلاً منهم عن العرب، وإنّما هو اجتهاد منهم؛ إذ لا يحتمل أنّ اللام موضوع بوضع خاصّ للكمال، وإنّما المقصود استفادة الكمال بمناسبة المعنى الأصليّ للاّم. ونحن نقول: إنّ الظاهر الأنسب لمعناه الأصليّ إنّما هو الكمال بحسب عالم الإثبات لا الثبوت.

فإنّ اللام هنا يتضمّن معنى العهد وليس لام الجنس صرفاً، وليس هناك معهود معيّن، فينبغي أن يكون لعهد الجنس، ومن هنا يستفيدون منه الكمال الثبوتيّ. لكن الظاهر الأنسب هو الكمال الإثباتيّ، فكأنّ العمريّ من شدّة وضوح كونه فرداً لجنس الثقة يكون معهوداً بنفس معهوديّة الجنس، والمعهوديّة مرتبطة بالظهور والوضوح بحسب عالم الإثبات، لا الكمال بحسب عالم الثبوت.

والحديث مطلق يشمل الرواية والفتوى، وقوله: «فاسمع له وأطع» ليس قرينة على الاختصاص بالفتوى، فإنّه حتّى لو حمل على الفتوى فليس المقصود إيجاب الإطاعة بالمعنى الحقيقيّ للكلمة؛ إذ ذلك لا يكون إلّا في باب الحكم، أمّا الفتوى فهو أيضاً إخبار عن الواقع كالرواية، إلّا أنّه بالحدس والاجتهاد والاستظهار لا الحسّ، فالمقصود بإطاعته في الفتوى ليس في الحقيقة إلّا إطاعته بلحاظ ذلك

524

الواقع، وهو في الحقيقة إطاعة الواقع، ولا فرق في ذلك بين الرواية والفتوى، وليس المقصود إنكار شمول هذا الحديث للحكم، فإنّه بإطلاقه شامل له، وإنّما المقصود أنّه ناظر إلى غير الحكم أيضاً يقيناً، وكيف يمكن حمل مثل قوله: «مَن اُعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول مَن أقبل؟» على خصوص الحكم؟

وكذلك قوله: «ما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول» شاهد لما ذكرناه.

ثمّ الوثاقة والأمانة في كلّ شيء بحسبه، فالوثاقة في الرواية والأمانة فيها هو كونه صادق اللهجة، وفي الفتوى هي كونه عارفاً خبيراً بالأدلّة وكيفيّة الاستنباط والاستظهار وبلحن الكتاب والسنّة، وفي اُصول الدين معرفته بها، وفي الحكم معرفته بمواقع الحكم، وهكذا. وهذا الحديث دلّ على كون العمريّ ثقة ومأموناً بقول مطلق، ويرجع إليه في جميع الاُمور، كالفتوى، والحكم، والرواية، وتفسير القرآن، واُصول الدين. وظاهره لا محالة هو الانحلال، ففي حجّيّة الرواية لا تشترط الوثاقة في كلّ شيء، بل الشرط في كلّ شيء الوثاقة بالقياس إلى ذلك الشيء، فقد دلّ هذا الحديث على حجّيّة خبر مطلق الثقة.

الثانية: قوله: «العمريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنّهما الثقتان المأمونان». وهذه الفقرة أظهر من الفقرة الاُولى في المقصود، ولو فرض إجمال في الفقرة الاُولى ـ ولا إجمال فيها ـ فلا يسري إجمالها إلى هذه الفقرة، فإنّها كلام مستقلّ صدر عن إمام آخر في مجلس آخر، ولا علاقة له بالمجلس الأوّل، واللام في قوله: «فإنّهما الثقتان المأمونان» يدلّ ـ كما عرفت ـ على الكمال الإثباتيّ لا الثبوتيّ، فلا يضرّ بالمقصود، خصوصاً مع مسبوقيّته بقوله: «العمريّ وابنه ثقتان» المفرّع عليه قوله: «فما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان» الظاهر في أنّ ملاك هذا التفريع هو مطلق الوثاقة،

525

وبعد هذا لا يعدّ عرفاً قوله: «فإنّهما الثقتان المأمونان» إلّا تكراراً لقوله: «العمريّ وابنه ثقتان» لا تقييداً لإطلاقه(1)، ولا يحمل السؤال والجواب على السؤال والجواب عن النائب، فكأنّه يقول: مَن هو نائبك؟ فإنّ العمريّ وإن كان نائباً للإمام(عليه السلام)آنذاك، ولكن ابنه لم يكن وقتئذ نائباً له(عليه السلام)، وإنّما صار بعد ذلك نائباً للحجّة عجّل الله تعالى فرجه الشريف.

وأمّا الثاني: فسند هذه الرواية إن لم يكن قطعيّاً فلا أقلّ من كونه اطمئنانيّاً. وتوضيح ذلك ما يلي:

إنّ أوّل مَن في سند هذا الحديث هو محمّد بن يعقوب الكلينيّ(رحمه الله)، وهذا الخبر موجود في الكافي الواصل إلينا بالتواتر، فصدوره من الكلينيّ قطعيّ.

واحتمال اختلاف في النسخ يضرّ بالمقصود، ممّا يقطع أو يطمئنّ بعدمه؛ إذ لو كان كذلك لكانت تصل إلينا النسخة المخالفة لتحفّظهم على النسخ المختلفة، ولما تطابقت النسخ الموجودة اليوم من دون أن يشار في بعضها إلى اختلاف النسخ.

هذا مضافاً إلى وجود هذا الحديث بعين تلك النسخة في غير كتاب الكافي، فالشيخ(قدس سره) قد رواه عن الكلينيّ بمتن مطابق مع ما في الكافي. هذا حال صدور هذا الحديث عن الكلينيّ(رحمه الله).

وأمّا الكلينيّ نفسه فمن اطّلع على حال الكلينيّ وما ذكره معاصروه، والمتأخّرون عنه، والشيخ المفيد، والشيخ الطوسيّ، والنجاشيّ، حتّى أنّ الشيخ


(1) بل حتّى لو حمل اللام على معنى الكمال الثبوتيّ لا يوجب تقييد إطلاق الصدر، فالصدر ظاهر في علّيّة طبيعيّ الوثاقة، والذيل تعليل بالوثاقة بالدرجة العالية. وهذا القيد هو من سنخ الوثاقة، وتعليل المعلول بالفرد الكامل من العلّة رغم أنّ العلّة هو الجامع بين الكامل وغيره أمر مألوف ومتعارف، فليس هذا قرينة على تقييد الصدر.