415

من نوع ثبوت في العهدة وهو ثبوت استعلائي، فنقول: إنّ هذا الميسور لا يسقط من مكانه بسقوط المعسور، وبحسب النظر الدقّي وإن كان الثبوت في العهدة تابعاً لثبوت الحكم، فيسقط الواجب بسقوط الوجوب، لكن في نظر العرف يُرى الحكم حيثيّة تعليليّة لثبوت الشيء في العهدة لا حيثيّة تقييديّة، من قبيل الشيء الذي يكون ثابتاً في الرفّ لأجل اتّكائه على خشبة مثلاً، فإذا اُستبدلت الخشبة بخشبة اُخرى قيل إنّ هذا الشيء لم يسقط من الرفّ؛ لأنّه اسندته خشبة اُخرى، وكذلك في المقام إذا اُستبدل الوجوب بوجوب آخر متعلّق بالميسور، قيل: إنّ الميسور لم يسقط عن العهدة.

هذا. والمحقّق الاصفهاني(قدس سره) ذكر: أنّ عدم السقوط منسوب إلى نفس الميسور لا إلى حكمه كما ذكرنا، إلّا أنـّه (رحمه الله) ذكر أنّ نسبة عدم السقوط عليه تكون باعتبار موضوعيّتة للحكم فمفاد الحديث: أنّ الميسور لا يسقط عن كونه موضوعاً للحكم بسقوط المعسور(1).

أقول: إنّ هذا ممّا لا يساعد عليه البحث العرفي، فإنّ السقوط يحتاج إلى فرض نحو ارتفاع للساقط بحيث يهوي ويسقط، ومجرّد كون الميسور موضوعاً للحكم لا يوجب نحو ارتفاع له ما لم تكن موضوعيّته لهذا الحكم مساوقة لوجوده في العهدة على المكلّف؛ ولذا لو ارتفعت إباحة شرب الماء مثلاً لا يقال: إنّه سقط شرب الماء، ولو ارتفع وجوب الصلاة قيل: إنّه سقطت الصلاة(2).

وأمـّا حديث «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» فلو كنّا نحن وهذه الجملة، لكانت دلالتها على المقصود واضحة، فإنّ ظاهرها أنـّه كلّما وجب شيء ثمّ


(1) نهاية الدراية: ج 2، ص 299.

(2) وكأنّ المتحصّل من هذا البحث: أنّ حديث الميسور عيبه هو ضعف السند، ولو كان تامّاً سنداً لصحّ الاستدلال به على قاعدة الميسور. ولكن لا يبعد القول بأنّ هذا الحديث حتّى لو فرضت تماميّته سنداً فهو غير تامّ دلالة؛ وذلك لأنّ قاعدة الميسور قاعدة مركوزة عقلائيّاً لا في مورد البحث من فرض عدم سقوط الميسور من الأجزاء بالمعسور منها، بل في مورد فرض سقوط الميسور من الأفراد بالمعسور منها، وهذا الارتكاز العقلائي يصرف النصّ إلى مفاده المرتكز، ولا تبقى للحديث دلالة على ما هو خارج من دائرة ذاك الارتكاز، وبهذا تبطل ـ أيضاً ـ دلالة (ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه).

416

تعذّر بعضه فلابدّ من الإتيان بالبعض الآخر، وهذا هو تمام المقصود في المقام.

إلّا أنـّه استشكل في دلالة الحديث من ناحية أنّ هذه الصيغة طبّقت على مورد الكلّي والفرد؛ إذ وردت في قصة: وهي أنّ صحابيّاً سأله (صلى الله عليه وآله)أنـّه هل يجب الحجّ في كلّ عام؟ فلم يجب (صلى الله عليه وآله) إلى المرّة الثالثة، فانضجر (صلى الله عليه وآله)وضاق بهذا الإلحاح، وقال: «لو قلت: نعم، لوجب الحجّ في كلّ عام، ولو وجب، لما استطعتم ولو تركتم لكفرتم» ثمّ قال بعد ذلك: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم».

وكلمة ( مِن ) وإن كانت ظاهرة في التبعيض إلّا أنـّه لابدّ من حملها على البيانيّة أو على معنى الباء مثلاً، حتّى ينسجم مع المورد، فكأنّه يقول (فأتوه، أو فأتوا به ما استطعتم)، وحملها على معنيين غير صريح.

وأجاب المحقّق الاصفهاني (قدس سره)عن ذلك بأنّنا لا نسلّم كون ( من ) موضوعة للتبعيض بالمعنى الذي لا يناسب الفرد بالنسبة للكلّي، بل معنى كونها دالّة على التبعيض أنّها دالّة على الاقتطاع والاستخراج والإفراز بنحو من الأنحاء، وهو كما يناسب اقتطاع الجزء من المركّب كذلك يناسب اقتطاع الفرد من الكلّي بحسب النظر العرفي باعتبار أنّ الكلّي له نحو إحاطة وشمول على الأفراد، فيكون إخراج الفرد منه نحو اقتطاع له منه(1). وهذا الذي أفاده (قدس سره) في غاية الوجاهة.


(1) الشيخ الإصفهاني(رحمه الله) ليس بصدد تصحيح دلالة الرواية على المقصود بهذا البيان، بل بصدد بيان أنّ كلمة (مِن) التبعيضيّة لا توجب اختصاص مفاد الرواية بالمقصود من وجوب الإتيان بالمقدار الممكن من المركّب لدى تعذّر بعض الأجزاء؛ وذلك لأنّ كلمة (مِن) هنا لا تحمل على التبعيض بعنوانه بالمعنى الذي ينسجم مع الكلّ والبعض، ولا ينسجم من الكلّي والفرد؛ إذ لو حملت على هذا المعنى لما أمكن تطبيق النصّ على مورده وهو الكلّي والفرد، بل هي لمجرّد اقتطاع مدخولها عن متعلّقه، وهذا وإن كان يوافق التبعيض في المركّب ولكنّه في نفس الوقت يناسب الكلّي والفرد أيضاً؛ لأنّ الفرد منشعب من الكلّي ويصحّ اقتطاع الفرد المستطاع من الكلّي، فلا تتعيّن إرادة المركّب من الحديث، والمتيقّن بحسب مورد الحديث هو الكلّي دون المركّب. راجع نهاية الدراية: ج 2، ص 299.

وكأنّه (رحمه الله) يقصد إبطال دلالة الحديث على المدّعى على أساس مسلك كون وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب يضرّ بالإطلاق، وبما أنّ القدر المتيقّن بلحاظ مورد الحديث هو الكلّي والفرد، فلا يمكن إثبات المقصود بإطلاق الحديث.

417

إلّا أنـّه لابدّ بعد هذا من التكلّم في فقه الرواية، باعتبار أنّ الرواية لا تخلو من إشكالات قد تؤدّي إلى الالتزام بإجمالها، أو بوقوع سقط فيها، او تفسير للرواية يوجب سقوطها عن الاستدلال بها، والإشكالات التي قد تخطر بالبال هي اُمور:

الأوّل: أنـّه يبدو من الحديث أنّ السؤال كان بنفسه قوّة محرّكة للتشريع، فكان من المحتمل أن يتحرّك التشريع الإسلامي بمنبّهيّة السؤال فيوجب الحجّ في كلّ عام.

وهذا عجيب، فإنّ الأحكام تتبع المصالح والمفاسد الواقعيّة، فلو كان ملاك الحكم تامّاً فلابدّ من تشريعه سواء سأل السائل وألحّ على السؤال أوْ لا، وإلّا فلا معنى لتشريعه سواء سأل أو لم يسأل.

الثاني: أنـّه (صلى الله عليه وآله)قال: «لو قلت: نعم، لوجب الحجّ في كلّ عام، ولو وجب لما استطعتم ولكفرتم ...»، فلو أنّهم لم يستطيعوا فكيف يجب؟! وكيف يكلّفون بما لا يُستطاع؟! ثمّ كيف يُعقل أن يفرضهم كفاراً لأنّهم لم يأتوا بما لا يستطيعون؟!

الثالث: أنّ هذه القاعدة ـ المستفادة من قوله (صلى الله عليه وآله): إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطتعم ـ لو خصّصناها بمورد الكلّ والجزء لم يناسب مورد الحديث، ولو طبّقت على باب الكلّي والفرد، فتصوير تطبيقها عليه يكون بأحد أنحاء ثلاثة:

1 ـ أن تحمل على الأمر بالكلّي بنحو صرف الوجوب، فيصير المعنى: إذا أمرتكم بشيء بنحو صرف الوجود، فأتوا من أفراده بمقدار استطاعتكم، وهذا كما ترى تناقض واضح، فإنّ الأمر المتعلّق بصرف الوجود لايقتضي أزيد من الإتيان بصرف الوجود.

2 ـ أن تحمل على الأمر المتعلّق بالكلّي بنحو مطلق الوجود، فيقول: إذا أمرتكم بكلّي بنحو مطلق الوجود من قبيل: أكرم العالم مثلاً، فأتوا من أفراده ما استطعتم.

وهذا أوّلاً: لا يناسب المورد؛ لأنّ الحجّ لم يؤمر به بنحو مطلق الوجود.

وثانياً: أنّ هذا هو المحذور الذي كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بصدد تخليص عكاشة والمسلمين منه، فإنّ عكاشة وبقية المسلمين لم يكونوا يحتملون أكثر من هذا المقدار، وهو وجوب الحجّ قدر المستطاع، وظاهر سياق الحديث أنـّه في مقام صيانتهم عن هذا المحذور.

3 ـ أن يكون المقصود ضرب قاعدة في مقام الاستفادة من الأدلّة: وهي أنـّه

418

متى أمرتكم بكلّيٍّ فاحملوا هذا الأمر على مطلق الوجود لا صرف الوجود.

وهذا أيضاً غريب، فإنّه أوّلاً: لا ينطبق على مورد الكلام؛ لأنّ الأمر بالحجّ لا يراد منه مطلق الوجود.

وثانياً: أنّ مثل هذه القاعدة غريبة عن لسان الشارع في مجموع خطاباته؛ لأنّ أغلب الأوامر الشرعيّة مبنيّة على صرف الوجود لا على مطلق الوجود، فتأسيس قاعدة تقتضي حمل كلّ أمر وارد في لسان الشرع على مطلق الوجود غريب.

هذه هي الإشكالات الثلاثة في المقام.

والجواب عن الإشكال الثالث يكون بالحمل على معنى معقول في المقام: وهو أنّ هذه القاعدة مضروبة للحدّ الأقصى للتكاليف الشرعيّة لا للحدّ الأدنى، أي: أنّ كلّ أمر يصدر منّي لا يلزم امتثاله بأكثر من المقدار المستطاع، وأمـّا أنـّه ما هو حدّه الأدنى؟ فهذا يتبع دليله، فقد يكون بنحو صرف الوجود وقد يكون بنحو مطلق الوجود مثلاً، والمقصود من المقدار المستطاع الذي جعل حدّاً أقصى للتكاليف الشرعيّة ليس هو الاستطاعة العقليّة، بل الاستطاعة التي تقابل الحرج والمشقّة، فإنّ بعض مراتب الحرج والمشقّة يوجب بالمسامحة العرفيّة صدق عنوان غير المستطاع، فالمقصود هو أنّ الحدّ الأقصى هو المقدار المستطاع بحسب النظر العرفي الخالي من تلك المرتبة العالية من الصعوبة والمشقّة التي قد تُزيل عنوان الاستطاعة عرفاً.

والقرينة على حمل الاستطاعة على هذا المعنى قوله: «لو قلت نعم لوجب الحجّ في كلّ عام، ولو وجب لما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم ...» فإنّ الاستطاعة هنا تكون بالمعنى الذي قلناه؛ لوضوح استحالة التكليف بغير المقدور، وعدم الكفر بترك غير المقدور، وبما أنّ الوضوح يكون كالقرينة المتّصلة بالكلام، فالاستطاعة في هذه الفقرة تكون ظاهرة في إرادة المشقّة الشديدة، فيكون هذا قرينة على أنّ الاستطاعة فى القاعدة ـ أيضاً ـ تكون بهذا المعنى، فيكون هذا الكلام جواباً لعكاشة بحسب الحقيقة، ولا يرد عليه الإشكال الثالث.

وبهذا البيان يظهر اندفاع الإشكال الثاني وهو أنـّه كيف يعقل إيجاب ما لا يستطاع وتكفير من ترك ما لا يستطيع؟ فإنّك عرفت حمل الاستطاعة على ما يقابل المشقّة الشديدة.

وأمـّا الإشكال الأوّل: وهو أنـّه كيف يمكن أن يكون السؤال منبّهاً للتشريع؟

419

فنقول: من المعقول افتراض جملة من الأحكام واجدة للملاك اللزومي في الواقع، مع فرض وجود محذور عن إبداء ذاك الحكم ومصلحة في إخفائه فيقع التزاحم بين ملاك الحكم ومصلحة الإخفاء، وقد تغلّبت مصلحة الإخفاء على ملاك الحكم، والإخفاء له مراتب، فقد تكون المصلحة في بعض مراتبه بالخصوص، ولا توجد في بعضها الآخر مصلحة، فمثلاً يكون شخص عطشاناً لكنّه يخفي عطشه عن أصدقائه لكي لا يكلّفهم بإتيان الماء، ولكن هذه مصلحة في بعض مراتب الإخفاء: وهي أن لا يتصدّى ابتداءً للبيان، أمـّا لو سُئل عن عطشه أو ألحّ عليه لبيّنه، هذا مثال للتقريب إلى الذهن، والمقصود أنـّه يمكن افتراض أنّ وجوب الحجِّ في كلّ عام مثلاً فيه ملاك لزومي، لكن توجد مصلحة في بعض مراتب الإخفاء، فقد يكون السؤال أو الإلحاح ببعض درجاته يوجب البيان؛ لعدم مصلحة في الإخفاء بتلك المرتبة بأن يسكت، أو يجيب بما يُفهم منه العدم عند الإصرار في السؤال بتلك المرتبة، فالسؤال يحقّق موضوع هذه المرتبة من الإخفاء التي ليس فيها مصلحة، ولعلّ هذا هو المشار إليه في الآية الكريمة في سورة المائدة﴿يا أيّها الّذينَ آمَنوا لا تَسألوا عن أشياءَ إن تُبدَ لكم تَسؤكم وإن تَسألوا عنها حينَ يُنزّل القرآن تُبدَ لكم عَفا الله عنها واللّه غَفورٌ حَليم﴾(1) وهذه الآية الكريمة لا تخلو عن إجمال، إلّا أنّ أظهر ما فيها هو حملها على ما ذكرناه من كون السؤال موجباً لإظهار الحكم.

ويوجد في الآية الكريمة احتمال أن يكون المراد من تلك الأشياء المعاجز كما حَمَلَه على ذلك جملة من المفسّرين، فكأنّهم كانوا يقترحون معاجز ويشتهونها، ومن السنن الإلهيّة أنـّه إذا أُبديت المعجزة الاشتهائيّة والمقترحة ولم يؤمنوا؛ ترتّب على ذلك العقاب على المقترحين والمشتهين؛ ولذا تقول الآية: ﴿ لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم﴾ .

هكذا يفسّر بعض المفسّرين، لكنّ هذا خلاف الظاهر؛ فإنّ الخطاب في لسان الآية متوجّه إلى المؤمنين، وتعدية السؤال بـ( عن ) والتعبير بــ (الإبداء) وربط المطلب بحال تنزّل القرآن كلّ هذه تبعّد هذا الاحتمال، وتقرّب كون تلك الأشياء أشياء يستخبرون عنها، لا أنـّه يطلبون إيجادها، وتلك الأشياء هي أحد أمرين: إمـّا هي الأحكام فهذا هو المقصود، وإمـّا هي اُمور واقعيّة تكوينيّة كانوا يستخبرون عنها


(1) سورة 5، المائدة، الآية 101.

420

كما يوجد في بعض الروايات: أنّ أحدهم سأل النبيّ (صلى الله عليه وآله) مَن أبي؟ وكان أبوه بحسب الظاهر شخصاً وعيّن النبي (صلى الله عليه وآله)شخصاً آخر غيره(1). وهكذا توجد بعض الحقائق التكوينيّة التي لو تبد لهم تسؤهم، إلّا أنّ حمل الآية على هذا أيضاً خلاف الظاهر؛ وذلك بقرينة ربط المطلب بتنزيل القرآن، وليس من عادة القرآن أن يبيّن مثل هذه المطالب، فلابدّ أن تكون الأشياء سنخ أشياء تبيّن في القرآن.

وعلى أيّ حال فلا إشكال في أنّ أقرب المحتملات بالنسبة إلى الآية: هو حملها على السؤال عن الأحكام، وهذه الأقربيّة تكون مؤيّدة ومعزّزة للتغلّب على المشكلة الاُولى في الحديث.

وبذلك نكون قد تغلّبنا على الإشكالات الواردة على الرواية. ولكن سقط الحديث عن الاحتجاج به في المقام؛ إذ غاية ما يستفاد منه بعد هذا هو بيان قاعدة عامّة للحدّ الأقصى للامتثال، وأنّ الامتثال لا يترقّب إلّا بمقدار لا يلزم منه الحرج، فتكون الرواية خارجة عن محل الكلام.

 

الدوران بين (الشرطيّة أو الجزئيّة) و(المانعيّة)

التنبيه الثامن: إذا دار أمر شيء بين كونه شرطاً او جزءاً وكونه مانعاً، فقد ذكر الشيخ الأعظم (قدس سره) أنّه ينفى كلاهما بالأصل، ولا يتعارض الأصلان لعدم لزوم المخالفة القطعيّة، فإنّه إمّا أن يأتي في هذه الصلاة التي يصليها بهذا الجزء أو يتركه، نظير دوران أمر شيء بين الوجوب والحرمة(2).

وأورد عليه المحقّق ا لنائيني (رحمه الله) والسيّد الاُستاذ بأنّ المخالفة القطعيّة للجزئيّة، أو المانعيّة في المقام تكون بترك الصلاة رأساً، إذن فيتساقط الأصلان، وعليه الاحتياط بتكرار الفعل إن وسع الوقت(3).

أقول:إنّ هذاالكلام غير صحيح؛لأنّه لو ترك أصل العمل فقدخالف شخص الأمر


(1) راجع تفسير علي بن إبراهيم: ج 1، ص 888 في ذيل الآية 101 من سورة المائدة.

(2) راجع الرسائل: ص 297 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة رحمة اللّه.

(3) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 90 بحسب طبعة مكتبة المصطفوي، وراجع أجود التقريرات: ج 2، ص 316، وراجع مصباح الاُصول: ج 2، ص 487.

421

المعلوم إجمالاً مخالفة قطعيّة تفصيليّة بتركه للأجزاء الاُخرى المعلومة، والأمر المتعلّق بالجميع واحد، والأجزاء ارتباطيّة حسب الفرض، والأصل لا يرخّص في المخالفة التفصيليّة، ولا تلزم من الجمع بين الأصلين مخالفة قطعيّة إجماليّة؛ لأنّه لو لم يصلِّ كانت المخالفة تفصيليّة، ولو صلّى لم تكن المخالفة قطعيّة.

نعم، بما أنّنا لا نشترط في تساقط الاُصول لزوم المخالفة القطعيّة، نبني هنا على التساقط ولزوم الاحتياط بتكرار الفعل مع سعة الوقت.

ثمّ إنّ السيّد الاُستاذ أورد نقضاً على الشيخ الأعظم (رحمه الله)، فقال: العجيب من الشيخ أنّه ذهب الى ذلك! مع أنّه في موارد دوران أمر الصلاة بين القصر والتمام يفتي بوجوب الاحتياط في حين أنّه بالدقّة داخلٌ تحت هذه المسألة؛ إذ قد دار أمر السلام بعد تشهّد الركعة الثانية بين الجزئيّة والمانعيّة(1).

أقول: إنّ هذا النقض غير وارد على الشيخ الأعظم (قدس سره) بمعنى أنّه يوجد فرق ظاهري بين المثال والمقام يمكن أن يوجب لمن يلتفت إليه التفصيل بينهما، والشيخ الأعظم (رحمه الله) فرّق بين فتوييه على هذا الأساس؛ وذلك لأنّه وإن دار الأمر في هذا المثال بين وجوب فعل السلام بعد الركعتين ووجوب تركه، لكنّه ليس الترك المحتمل الوجوب مطلق الترك، بل ترك تعقبه ركعتان اُخريان، فهنا يتصوّر شقّ ثالث، وهو أن يترك السلام ولا يأتي بركعتين اُخريين، فهو قد أتى بالأجزاء المعلومة تفصيلاً ولم تصدر منه إلّا مخالفة قطعيّة إجماليّة. فهذا هو الفرق الموجود في المقام الذي يجعلنا نقول: إنّ الشيخ (رحمه الله) لم يقع في تهافت وتناقض في كلامه كما كان يقصده السيّد الاُستاذ.

نعم، الصحيح عندنا أنّ هذا الفرق ليس فارقاً سواءٌ فرض العمل عباديّاً أم توصّليّاً؛ لأنّ المخالفة الإجماليّة في ذلك مقترنة بالمخالفة القطعيّة التفصيليّة دائماً.

فأمّا في فرض العباديّة فلأنّه لا يتمشّى منه قصد القربة فيما يأتي بها من أجزاء؛ لقطعه بأنّها لا تحقّق غرض المولى، إذن فقد ترك الواجب الضمني المعلوم تفصيلاً أيضاً.

وأمّا في فرض التوصّليّة فقد يقال فيه: إنّه لم تلزم مخالفة قطعيّة؛ لأنّه قد أتى بذات الأجزاء المعلوم وجوبها تفصيلاً، ولايشترط قصد القربة حسب الفرض، وإنّما


(1) راجع مصباح الاُصول: ج 2، ص 487.

422

خالف علمه الإجمالي بأنّه إمّا يجب عليه السلام، أو يجب عليه ترك السلام مع الإتيان بركعتين اُخريين.

إلّا أنّ هذا الكلام غير صحيح؛ لأنّه يعلم تفصيلاً بأنّ ما أتى به ليس مسقطاً للواجبات الضمنيّة المعلومة تفصيلاً؛ ومن هنا يعتبر عاصياً للتكليف المعلوم تفصيلاً بالحصّة المعلومة؛ لأنّ مجرّد الإتيان بعمل مع القطع بأنّه لا يُسقط ذلك المعلوم تفصيلاً لا يكون مخرجاً للمكلّف عن عهدة ذلك التكليف المعلوم تفصيلاً عقلاً؛ ولا يكون محقّقاً لقيامه بحق المولويّة.

وعليه فهذا يعتبر مخالفة وعصياناً للتكليف المعلوم تفصيلاً، فأيضاً أصبحت المخالفة العمليّة الإجماليّة مقترنة بالمخالفة التفصيليّة.

والعمدة ما قلناه من أنا لا نشترط في تعارض الاُصول لزوم المخالفة القطعيّة، فنقول بالتنجيز في كلّ هذه الموارد.

 

423

 

 

خاتمة

 

في شرائط الاُصول

 

 

 

1 ـ شرط الفحص

2 ـ شرط انتفاء الضرر

3 ـ قاعدة لا ضرر

 

 

425

 

 

 

 

 

 

شرائط الاُصول

 

وعمدة المطلب في هذا البحث هو شرط الفحص في الاُصول المؤمّنة، فنحن نتكلّم أوّلاً في هذا الشرط الذي هو المقصود الأصلي في المقام، ثمّ ننتقل الى كلام الفاضل التوني(رحمه الله) الذي جعل من شرائط جريان البراءة عدم استلزامها للضرر على مسلم آخر، ومنه ننتقل تبعاً للشيخ الأعظم (قدس سره)الى بحث قاعدة (لا ضرر).

 

 

426

 

 

 

شرط الفحص

 

والآن نبدأ ببحث شرط الفحص.

فنقول: تارة نتكلّم في وجوب الفحص في الشبهات الحكميّة، واُخرى في وجوب الفحص في الشبهات الموضوعيّة، فإن ثبت في الشبهات الحكميّة عدم الوجوب لم يجب أيضاً الفحص في الشبهات الموضوعيّة، ولا تصل النوبة الى البحث عن ذلك، وإن ثبت الوجوب تكلّمنا ـ عندئذ ـ في المقام الثاني وهو وجوب الفحص في الشبهات الموضوعيّة وعدمه، ونحن ننظر فعلاً الى خصوص أصالة البراءة، ويأتي الكلام عن اُصول اُخرى في أحد التنبيهات فنقول:

 

الفحص في الشبهات الحكميّة

أمّا المقام الأوّل: وهو وجوب الفحص في الشبهات الحكميّة وعدمه، فقد تكلّم الأصحاب في ذلك تارة في البراءة العقليّة ايماناً منهم بها، واُخرى في البراءة الشرعيّة .

 

بلحاظ البراءة العقليّة

أمّا البراءة العقليّة: فالمشهور بين المحقّقين اختصاصها بما بعد الفحص، واختار بعض عدم اختصاصها بذلك، ونحن قد مضى منّا إنكار البراءة العقليّة رأساً، وهنا نعيد إجمالاً ما مضى؛ لأنّه يفيدنا لدى البحث عن حال البراءة الشرعيّة في مقام بيان بعض الاُمور التي نريد أن نبيّنها في هذا الباب، فنقول: إنّ اُبّهة ما اشتهر من دعوى بداهة هذا الأصل تنكسر بمراجعة تاريخ مباحث هذا الأصل وتطوّراته في خلال تطوّرات العلم، فلم تكن لهذه القاعدة بصيغتها المعروفة الآن ـ أعني قبح العقاب بلا بيان ـ عين ولا أثر قديماً الى ما قبل مدرسة الوحيد البهبهاني (قدس سره)تقريباً

427

بحسب ما وَصَلَنا من كلماتهم، فكانت البراءة العقليّة في أزمنة الشيخ الطوسي الى المحقّق والعلاّمة تفسّر باستصحاب حال العقل الحاكم بعدم التكليف قبل الشريعة، وبعد هذا جعلت البراءة العقليّة أمارة من الأمارات من باب أنّ عدم وجود دليل على الحكم دليل على العدم، وبعد هذا اُرجِعت البراءة العقليّة الى قانون استحالة التكليف بغير المقدور خلطاً بين الجهل بالحكم بمعنى الإبهام المطلق والشكّ في وجود حكم معيّن وعدمه.

وواقع المطلب: هو أنّ هذه القاعدة ـ أعني قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ قاعدة عقلائيّة لا عقليّة كما تخيّلوا، حيث مضى تقسيم المولويّة، الى المولويّة الذاتيّة والمولويّات المجعولة، وقلنا: إنّ معنى قبح العقاب بلا بيان: هو أنّ المولى ليس من حقّه أن يعاقب على مخالفة حكمه عند عدم العلم به، وهذا يعني أنّه ليس من حقّه وجوب الامتثال في أحكامه المشكوكة، ومعنى ذلك: أنّ مولويّته تختصّ بالأحكام المعلومة ولا مولويّة له في دائرة الأحكام المشكوكة، إذن ففي مقام تشخيص صحّة البراءة العقليّة وعدمها يجب الرجوع الى مدرك المولويّة لنرى سعة المولويّة وضيقها. وفي المولويّات المجعولة من قبل العقلاء نرجع الى الجعل ونرى أنّه غير ثابت في دائرة التكاليف المشكوكة، وأنّ العقلاء بحسب جعولهم وارتكازاتهم يخصّون المولويّة بالتكاليف الواصلة. وهذا معنى قولنا: إنّ هذه قاعدة عقلائيّة.

وقد تمركزت هذه القاعدة العقلائيّة في أذهان العقلاء، وتعمّقت في نفوسهم الى درجة وقع الاشتباه بينها وبين القاعدة العقليّة، وتخيّل أنّ هذه قاعدة عقليّة نابعة من صميم العقل. وإذا رجعنا الى المولويّة الذاتيّة فلا بدّ أن نرجع الى مدرك مولويّته تعالى، وهو بداهة العقل، فمولويّته أمر واقعي ثابت يدركه العقل كإدراكه لأصل وجوده تعالى، ولا يمكن البرهنة على سعة هذه المولويّة أو ضيقها. ونحن يحكم عقلنا بالبداهة: أنّ مولويّة المولى تعالى تشمل التكاليف المعلومة والمظنونة والمشكوكة والموهومة، وأنّه لا أساس لقاعدة البراءة العقليّة.

هذا. وإذا راجعنا المرتكز العقلائي والقاعدة العقلائيّة، نرى أنّ حكمهم بعدم المولويّة وعدم حقّ الامتثال على العبد وحقّ العقاب لدى مخالفته إنّما يختصّ بما بعد الفحص، ولا تجري القاعدة بمجرّد عدم تصدّي العبد للفحص عن حكم مولاه وبقائه شاكّاً في الحكم، هذا في أحكام المولويّات الاجتماعيّة.

428

وأمّا في أحكامه تعالى فحيث عرفت أنّ البراءة عقلائيّة لا عقليّة فلا موضوع للبراءة العقليّة فيها حتّى يقال: هل تختصّ بما بعد الفحص، أو تشمل ما قبل الفحص؟ والمشهور لدى القائلين بالبراءة العقليّة هو اختصاصها بما بعد الفحص(1).


(1) والمحقّق الإصفهاني (قدس سره) ذهب الى أنّه بعد فرض انحلال العلم الإجمالي لا تختصّ البراءة العقليّة بما بعد الفحص، فإذا انحلّ العلم الإجمالي بالأحكام لدى العبد بحصوله على المقدار المعلوم بالإجمال مثلاً، ثمّ شكّ في حكم ما جرت بشأنه البراءة العقليّة حسب ما يراه المحقّق الاصفهاني(رحمه الله)(1).

وكان المقرَّر أن يبحث اُستاذنا الشهيد (رحمه الله) كلام المحقّق الاصفهاني في المقام، ولكنّه أخيراً أضرب صفحاً عن ذلك ولم يبحثه.

وحاصل ما ذكره المحقّق الاصفهاني (رحمه الله) ـ بعد تنقيح وتحسين منّا مع إسقاط التشويشات الموجودة في كلامه ومع حمل كلامه على أفضل محتملاته ـ هو أن يقال:

إنّ اختصاص قاعدة (قبح العقاب بلا بيان) بما بعد الفحص ينشأ من أحد وجهين:

الأوّل: دعوى أنّ البيان القابل للوصول بيان قاطع للعذر ومنجّز للتكليف، فاحتماله يؤدّي الى احتمال التكليف المنجّز، واحتمال التكليف المنجِّز منجّز عقلاً.

والجواب عن ذلك: أنّ محرّكيّة البيان إنّما تكون بالوصول الفعلي، وليس البيان بوجوده الواقعي قابلاً للتحريك ورافعاً لموضوع قاعدة (قبح العقاب بلا بيان).

والثاني: أنّ التكليف وإن لم يتنجّز بمجرّد البيان القابل للوصول ما لم يصل فعلاً فيقبح العقاب عليه، لكنّ العقاب يكون على ترك الفحص عن حكم عمل ارتكبه، فَتَرْكُ العبد للفحص عن حكم ما يرتكبه رغم علمه بأنّ بيان المولى عادة لا يصله إلّا بالفحص خروجٌ عن زيّ العبوديّة وظلم للمولى وقبيح عقلاً.

والجواب عن ذلك: أنّه بعد فرض عدم تنجّز التكليف الواقعي المحتمل قبل الفحص كما مضى في الجواب عن الوجه الأوّل لا نحسّ بقبح في عدم الفحص عنه، أو في الإقدام على مخالفته بلا فحص.

أقول: واقع المطلب هو ما يقوله اُستاذنا الشهيد (رحمه الله): من أنّ المهمّ هو معرفة مدى سعة دائرة مولويّة المولى تعالى، فإن فرضنا أنّ مولويّته تشمل مطلق الحكم ـ الثابت في الواقع ـ المحتمل لدى العبد، أو مطلق احتمال الحكم، ثبت العقاب على الحكم المحتمل، أو احتمال الحكم لدى المخالفة، ولا يبقى مورد لقاعدة (قبح العقاب بلا بيان).

وإن فرضنا أنّ مولويّته لا تشمل غير الحكم الواصل وصولاً فعليّا، أو غير العلم بالحكم


(1) راجع نهاية الدراية ج 2، ص 305 - 306.

429

بلحاظ البراءة الشرعيّة

وأمّا البراءة الشرعيّة: فالمشهور فيها أنّ دليلها له إطلاق لما قبل الفحص، إلّا أنّه يوجد مانع عقلي، أو شرعي عن التمسّك بهذا الإطلاق، لكنّ الصحيح عندنا قصور المقتضي في نفسه.

وعلى أيّ حال، فهنا وجوه عديدة لإثبات اختصاص البراءة بما بعد الفحص، بعضها يرجع الى إثبات قصور المقتضي، وبعضها يرجع الى إثبات وجود المانع العقلي، وبعضها يرجع الى إثبات وجود المانع الشرعي كما يظهر ذلك ببياننا لتلك الوجوه:

الوجه الأوّل: ما هو المختار من عدم تماميّة المقتضي وعدم الإطلاق في جميع أدلّة البراءة. ويظهر ذلك بذكر مقدّمتين:

الاُولى: ما تقدّم آنفاً عند إنكار البراءة العقليّة رأساً من أنّ ما يحسّ به من كون الأصل الأوّلي هو البراءة إنّما هو أصل عقلائيّ بنى عليه جميع المجتمعات البشريّة في المولويّات المجعولة لهم، فأصبح أصلاً أوّليّاً مرتكزاً في أذهانهم.

الثانية: أنّه مهما وجد ارتكاز عقلائيّ بنكتة عامّة في موارد، وورد من الشارع نصّ يطابق ذاك القانون العقلائيّ انعقد ظهور عرفي لذلك الكلام في إمضاء نفس ذلك القانون ونكتته، فيتبعها في السعة والضيق، وإن فرض أنّ نصوص العبارة كانت تختلف بحسب المداليل اللغويّة عن ذلك. وهذا نظير ما نقوله في دليل حجّيّة خبر الثقة من أنّه يعدّ إمضاء لما ارتكز في أذهان العقلاء من حجّيّة خبر الثقة بنكتة معيّنة، ويتبع ذلك سعة وضيقاً.

وعليه نقول فيما نحن فيه: إنّ دليل البراءة منصرف الى إمضاء القانون العقلائيّ ونكتته، وهو قانون المعذّريّة لدى عدم وصول الحكم، ويتبعه سعة وضيقاً،


إذن فقاعدة (قبح العقاب بلا بيان) تجري حتّى بعد الفحص.

وإن فرضنا أنّ مولويّته تشمل الحكم المحتمل، أو احتمال الحكم لدى وجود بيان قابل للوصول بالفحص، أو لدى احتمال البيان القابل للوصول بالفحص، إذن لا تجري البراءة العقليّة قبل الفحص وتجري بعد الفحص، ولا يمكن البرهنة على أيّ فرض من هذه الفروض.

والصحيح عندنا هو الفرض الأوّل.

ولو اُريد قياس المولويّة الذاتيّة بالمولويّات العقلائيّة اتّجه الفرض الثالث.

430

ومن المعلوم أنّ هذا القانون عند العقلاء ليس في فرض كون الحكم في معرض الوصول مع عدم تصدّي العبد للاطّلاع عليه(1).

الوجه الثاني: ما هو المختار ـ أيضاً ـ من عدم تماميّة المقتضي(2)، لكن لا بمعنى عدم الإطلاق في جميع أدلّة البراءة كما ذكرناه في الوجه الأوّل، بل بلحاظ مجموع أدلّة البراءة.

وتوضيح ذلك: أنّه لم يتمّ عندنا من أخبار البراءة من حيث السند والدلالة معاً إلّا حديث الرفع، وبغضّ النظر عن الوجه الماضي والوجه الآتي يكون هذا الحديث مطلقاً شاملاً لما قبل الفحص، وتمّت عندنا من الكتاب آيتان: وهما قوله تعالى: ﴿لا يكلّف اللّه نفساً إلّا ما آتاها(3) وقوله تعالى: ﴿وما كان اللّه ليُضلّ قوماً بعد إذ هداهم حتّى يُبيّن لهم ما يتّقون(4).

وهاتان الآيتان تدلاّن بلحاظ المستثنى منه على البراءة، وبلحاظ المستثنى على عدم البراءة عند ثبوت الإيتاء والتبيين، وليس المفهوم عرفاً من الإيتاء والتبيين أن يطرق المولى باب دار كلّ واحد من عبيده ويخبره بالحكم مثلاً، بل يصدق الإيتاء والتبيين بمجرّد جعل الحكم في معرض الوصول، وهذا أعمّ من فرض الوصول فعلاً وعدمه. كما أنّ حديث الرفع أعمّ من عدم الوصول لعدم الفحص وفرض عدم الوصول بعد الفحص، فالنسبة بينهما عموم من وجه، ومتى ما وقع التعارض بين الكتاب والخبر غير القطعي بالعموم من وجه قدّم الكتاب على الخبر(5).


(1) وهذا البيان بعينه يأتي فيما لو اُريد التمسّك بأدلّة البراءة التي هي في المرتبة الثانية ـ أعني في مرتبة البراءة العقليّة ـ أي التي موضوعها الشكّ في الواقع وفي وجوب الاحتياط، فإنّها ـ أيضاً ـ منصرفة بنفس النكتة الى ما بعد الفحص عن الواقع وعن إيجاب الاحتياط لا الى خصوص ما بعد الفحص عن إيجاب الاحتياط، والمفروض أنّه لم يتمّ بعد في المقام الفحص عن الواقع، ولم يكن موضوعها الشكّ في وجوب الاحتياط فقط حتّى يفترض أنّ إطلاقها إنّما ينصرف عن فرض عدم الفحص عن وجوب الاحتياط، وأنّنا لو فحصنا عن وجوب الاحتياط ولم نحصل على دليل عليه تمسّكنا بإطلاق دليلها رغم عدم الفحص عن الواقع.

(2) ويمكن تسمية هذا الوجه ببيان وجود المانع.

(3) س 65، الطلاق، الآية 7.

(4) س 9، التوبة، الآية 115.

(5)لايقال: إنّنا ننفي احتمال الإيتاء والتبيين لدى شكّنا في ذلك قبل الفحص بالاستصحاب،

431

أمّا لو فرض عدم تقديم الكتاب فوقع في المقام التعارض والتساقط فقد يقال: إنّ النتيجة هنا ـ أيضاً ـ هي الاحتياط؛ وذلك لأنّ المرجع بعد التساقط ـ بناءً على إنكار البراءة العقليّة ـ هو الاحتياط العقلي.

إلّا أنّ الصحيح: أنّه بعد التعارض والتساقط تصل النوبة الى البراءة الشرعيّة في المرتبة الثانية، أي: البراءة عن وجوب الفحص والاحتياط(1).

الوجه الثالث: ما هو المختار ـ أيضاً ـ من قصور المقتضي ببيان آخر: وهو أنّنا نبني في موارد الشكّ في وجود القرينة المتّصلة على أنّ أصالة عدم القرينة لا تجري، وأنّ احتمال القرينة المتّصلة يوجب عدم إمكان التمسّك بالظهور كما هو الحال في الشكّ في قرينيّة الموجود، وذلك خلافاً للمشهور الذين فصّلوا بين الشكّ في وجود القرينة والشكّ في قرينيّة الموجود، فقالوا بعدم إمكان التمسّك بالظهور في الثاني وبإمكانه في الأوّل، فنحن نقول ـ على ما مضى تحقيقه ـ بأنّ الشكّ في وجود القرينة ـ أيضاً ـ موجب لعدم إمكان التمسّك بالظهور؛ لأنّ موضوع الحجّيّة هو الظهور الفعلي وهو غير محرز.

نعم، مضى أنّ احتمال القرينة منفيّ بشهادة الراوي؛ إذ يدلّ سكوت الراوي بظهور حاله على عدم وجود قرينة، إلّا أنّ هذا في القرائن المقاليّة، وما يشبهها من القرائن الحاليّة، وأمّا في قرينة الحال العمومي للنبي، أو الإمام المقتنص من مجموع حياته وحالاته، فكثيراً ما لا يلتفت إليها الراوي بالتفصيل أصلاً، وإن كان وجودها يؤثر تكويناً في فهم الراوي للظهور. وبكلمة اُخرى: لم يكن مبنى الرواة على ذكر القرائن الحاليّة التي تكون من هذا القبيل، ولذا لم تذكر في شيء من الروايات. نعم،


أو بالبراءة عنه في المرتبة الثانية.

فإنّه يقال: إنّ هذا الاستصحاب، أو البراءة بنفسه طرف للمعارضة مع المستثنى في الآيتين؛ لأنّ المستثنى يدلّ على أنّ وجود البيان في معرض الوصول كاف لاهتمام المولى بتحصيل غرضه لدى الشكّ ولو لم يصل، وهذا مساوق لعدم إمكان نفي البيان بالاستصحاب، أو البراءة حينما نحتمله.

(1) المقصود إمّا التمسّك بأدلّة البراءة التي هي في مستوى البراءة العقليّة بعد فرض سقوط دليل البراءة التي هي في عرض أصالة الاحتياط بالتعارض المفروض في المقام، أو التمسّك بنفس حديث الرفع لرفع وجوب الاحتياط بعد أن شككنا في الواقع، وفي وجوب الاحتياط.

432

قد تذكر تلك الحالات في التراجم وأحوال الأئمة (عليهم السلام).

وعلى هذا فليس سكوت الراوي شهادة على عدم قرينة حاليّة من هذا القبيل، فإذا احتملت قرينة حاليّة كذلك سقط الظهور عن الحجّيّة، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ من المحتمل وجود قرينة حاليّة صارفة لإطلاق الكلام عمّا قبل الفحص، وتلك القرينة: هي شدّة اهتمام النبي(صلى الله عليه وآله)بنشر الأحكام وتبليغها وترويجها، وحثّ الناس على تعلّمها والاهتمام الشديد الأكيد بالأحكام، فمثل هذا الحال يصرف ظهور قوله(صلى الله عليه وآله): «رفع ما لا يعلمون» عمّا قبل الفحص، بل نحن قاطعون بوجود قرينة حاليّة من هذا القبيل صارفة لظهور الكلام، إلّا أنّنا من باب التنزّل نفرض الشكّ في ذلك، ونقول: إنّه لا يمكن هنا نفي احتمال القرينة بشهادة الراوي.

الوجه الرابع: ما في الدراسات(1) من أنّ الحكم الضروري العقلي بوجوب الفحص ولزوم الاحتياط قبل الفحص دليل على عدم إرادة الإطلاق لما قبل الفحص، بل هو كالقرينة المتّصلة المانعة عن انعقاد الظهور.

ويرد عليه: أنّ هذا الحكم العقلي وإن كان ثابتاً، بل نحن نؤمن بحكم العقل بوجوب الاحتياط حتّى بعد الفحص، لكنّ هذا الحكم العقلي تعليقي، أي: أنّه معلّق على عدم ورود الترخيص من المولى كما هو واضح، فإطلاق دليل البراءة يرفع موضوع هذا الحكم العقلي، فكيف يعقل أن يكون هذا الحكم العقلي قرينة على التخصيص؟!

وكم فرق بين جعل حكم العقل بما هو حكم عقلي مقيّداً مع أنّه حكم تعليقي، وبين ما صنعناه من جعل الحكم العقلائي وارتكاز العقلاء صارفاً للإطلاق.

الوجه الخامس: أنّ دليل البراءة وإن فرضناه في نفسه مطلقاً لكنّه مقيّد بعدم قيام الأمارة المعتبرة على خلافها، فقبل الفحص يكون التمسّك به تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقيّة.

وهذا الوجه مبنيّ على القول بأنّ الوجود الواقعي للحجّة مانع عن جريان البراءة، وهذا يتّجه على مبنانا من أنّ الأحكام الظاهريّة كالأحكام الواقعيّة تتنافى بوجوداتها الواقعيّة، فيقع التعارض بين أدلّتها بمجرّد الوجود الواقعي؛ لأنّ الأحكام


(1) ج 3، ص 308 - 309، راجع ـ أيضاً ـ مصباح الاُصول: ج 2، ص 493.

433

الظاهريّة ناشئة من ملاكات الأحكام الواقعيّة على تفصيل مضى في محله.

وأمّا على مبنى المشهور من عدم التنافي بين الأحكام الظاهريّة بوجوداتها الواقعيّة؛ لكونها ناشئة من ملاكات في أنفسها فلا يقع التعارض بين أدلّتها، وإنّما يكون التنافي بينها بعد الوصول بلحاظ التنجيز والتعذير، فلا يتمّ هذا الوجه؛ إذ لا مانع ـ عندئذ ـ من التمسّك بدليل البراءة لعدم المنافاة بين البراءة وما يحتمل من وجود حكم ظاهري آخر على خلافها بلحاظ وجود خبر ثقة على الخلاف.

لا يقال: إنّ مقتضى ما ذكرتموه من المبنى عدم التمسّك بالأصل حتّى بعد الفحص؛ لاحتمال ورود خبر لم يصل، أو صدور كلام من الإمام (عليه السلام) ظاهر في حكم إلزامي ولم يصل ذلك الكلام.

فإنّه يقال: إنّ أدلّة حجّيّة خبر الثقة كبناء العقلاء وكقوله: «ما أدّيا إليك عني ...» لا تشمل ما ليس في معرض الوصول.

وكذلك الحال في دليل حجّيّة الظهور، فهو لا يشمل ظهوراً ليس في معرض الوصول؛ لأنّه مضى منّا فيما سبق بيان أنّ حجّيّة ظهور كلام الشارع إنّما تثبت بالنهاية بعمل أصحاب الأئمة (عليهم السلام)، وهذا لا يثبت أزيد من حجّيّة ظهور في معرض الوصول(1).

 


(1) بل الصحيح: أنّ دليل حجّيّة الأمارة لا يشمل إلّا الأمارة الواصلة بالفعل، فالارتكاز العقلائي مختصّ بالأمارة الواصلة. وقوله عليه السلام: «ما أدّيا إليك عنّي ...» لا يشمل عدا ما وصل، وقوله تعالى: ﴿إن جاءكم فاسق بنبأ﴾(1) يدلّ مثلاً على أنّه إن جاءكم عادل بنبأ، أي: إن وصلكم نبأ العادل لم يجب التبيّن، وقوله عليه السلام: «خذ عنه معالم دينك» لا يدلّ على أكثر من حجّيّة ما أخذ، وإنّما يجب الأخذ منه ـ بالرغم من أنّه قبل الأخذ لم يتمّ الوصول ـ لتماميّة تنجيز الواقع بالعلم الإجمالي، أو بالشكّ قبل الفحص، أو بمجرّد الاحتمال، فلابدّ لنا ـ تحصيلاً للأمن والفراغ ـ من الرجوع والأخذ من الثقة؛ لكي يتمّ وصول الأمن، فيصبح حجّة بالوصول، ويتحقّق بذلك لنا الأمن عمّا تنجّز علينا، وكذلك ارتكاز الفحص عن الأمارة المحتملة التي هي في معرض الوصول يكون من باب وجود منجّز سابق نفحص عن تأمين من قبله، لا من باب حجّيّة الأمارة التي هي في معرض الوصول، وسائر العناوين المأخوذة في الأدلّة


(1) س 49، الحجرات، آية 6.

434

هذا. ولكنّ الصحيح: أنّه حتّى على مبنانا من تنافي الأحكام الظاهريّة بوجوداتها الواقعيّة يمكن التمسّك بالأصل قبل الفحص بعد غضّ النظر عن الوجوه الاُخرى، وذلك إمّا بإجراء البراءة عن الواقع بعد نفي قيام الحجّة بالاستصحاب، فيحرز جزء من موضوع البراءة، وهو الشكّ بالوجدان، والجزء الآخر وهو عدم قيام الحجّة بالاستصحاب، وهذا ما يجري في كثير من موارد التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة، وذلك إذا كان عنوان المخصّص مسبوقاً بالعدم. وإمّا بإجراء البراءة عن الحجّيّة، وهذا ـ أعني استصحاب عدم الحجّيّة أو البراءة عنها ـ حكم ظاهري في طول الحكم الظاهري الثابت بحجّيّة الأمارة، ونسبته إليه كنسبة الحكم الظاهري الى الواقعي، فلا منافاة بينهما، وهذه البراءة تؤمّن عن الواقع في المرتبة الثانية.

إذن فيجب أن يكون تتميم هذا الوجه بالعلم الإجمالي بوجود أخبار ثقات المانع عن إجراء استصحاب العدم، أو البراءة عن الحجّيّة.

وهذا العلم الإجمالي يتمسّك به ـ أيضاً ـ ابتداءً للمنع عن جريان البراءة عن الواقع وسنذكره ـ إن شاء اللّه ـ في الوجه السادس، إلّا أنّه إذا جعل العلم الإجمالي تتميماً لهذا الوجه نتوصّل بذلك الى بعض مزايا ونكات غير موجودة في فرض جعله وجهاً مستقّلاً كما سيظهر ـ إن شاء اللّه ـ في الوجه السادس.

الوجه السادس: العلم الإجمالي قبل الفحص بوجود الواقعيّات الإلزاميّةضمن أخبارالثقات(1)، أو العلم الإجمالي بوجود أخبار حُجّة ضمن الأخبار، وهي


اللفظيّة من أدلّة الحجّيّة ـ أيضاً ـ لا إطلاق لها لغير الواصل بالفعل، وبذلك ينهار هذا الوجه الخامس.

نعم، يكفي الوصول بالعلم الإجمالي، وهو ثابت في الأخبار، لا أنّ هذا رجوع الى الوجه السادس، والشاهد على ما نقول من أنّ الدليل ليس له إطلاق للأمارة الواصلة: أنّه حينما يدلّ دليل خاصّ في مورد على عدم وجوب الفحص ـ ولو بأقلّ الدرجات كما في باب الطهارة والنجاسة ـ لا نحسّ بكون ذلك معارضاً ومقيّداً لدليل حجّيّة الأمارة، باعتباره يمنع عن حجّيّة أمارة في معرض الوصول غير واصلة بالفعل؛ لعدم الفحص ولو بأقلّ درجات الفحص، كما لو كان أمامنا عدلان نحتمل أنّنا لو استفسرناهما عن حال هذا الثوب لشهدا بالنجاسة.

(1) لا يخفى أنّ المناسب من الناحية الفنيّة البيانيّة الآن إنّما هو إبراز العلم الإجمالي الكبيركما هو كذلك في لسان الأصحاب، بأن يقال:إنّ العلم الإجمالي بوجودالإلزامات الواقعيّة ضمن

435

أخبار الثقات، فهذا العلم الإجمالي بأيّ واحد من تقريبيه يمنع عن إجراء الاُصول؛ لوقوع التعارض بينها.

والاعتراض على هذا يكون باُمور:

الأمر الأوّل: هو الاعتراض المشهور: وهو أنّ التمسّك بتنجيز العلم الإجمالي إن تمّ فكما يُبطل التمسّك بالأصل قبل الفحص كذلك يبطل التمسّك به بعد الفحص؛ لأنّ العلم الإجمالي ليس بلحاظ ما هو في معرض الوصول من أخبار الثقات فحسب حتّى لا يبقى مانع عن الرجوع الى البراءة في غير موارد أخبار الثقات بعد الفحص عن تلك الموارد، بل لدينا ـ أيضاً ـ علم إجمالي بإلزامات واقعيّة ضمن دائرة مطلق الشبهات، أو على الأقلّ ضمن دائرة مطلق الأمارات الحجّة وغير الحجّة، وهذا لا يعالجه تحصيل أخبار الثقات، ففرض التمسّك بالأصل بعد الفحص يساوق فرض دفع إشكال تنجيز العلوم الإجماليّة في المقام بوجه من الوجوه، فالاُصوليّ الذي حلّ مشكلة العلم الإجمالي في بحثه مع الأخباريين في البراءة والاحتياط كيف يتمسّك في المقام بالعلم الإجمالي لنفي البراءة قبل الفحص؟!

أمّا الجواب عن ذلك: بأنّ العلم الإجمالي الكبير ينحلّ بالظفر بأخبار الثقات فيمكن الإيراد عليه: بأنّ هذا عبارة عن وجدان منجّز لبعض أطراف العلم الإجمالي بعد تكوّنه وتساقط الاُصول بالتعارض، وهذا لا يوجب انحلال العلم الإجمالي ورجوع الأصل بعد سقوطه بالتعارض.

وخلاصة الكلام: أنّ موقف الاُصوليّ في مقابل الأخباري في مسألة البراءة والاحتياط بعد الفحص يبدو غير منسجم مع موقف الاُصولي فيما نحن فيه، أعني مسألة الاحتياط قبل الفحص.

 

 


دائرة الشبهات، أو الأخبار الحجّة ضمن تلك الدائرة، هو الذي أوجب الاحتياط قبل الفحص دون إبراز العلم الإجمالي الصغير، فإنّ هذا العلم الإجمالي الصغير وهو العلم بالألزاميّات الواقعيّة ضمن أخبار الثقات، أو بالأخبار الحجّة ضمن الأخبار إنّما يسقط الاُصول حتّى في غير موارد أخبار الثقات، أو في غير موارد الأخبار، من باب أنّ أخبار الثقات، أو الأخبار الحجّة غير متعيّنة المورد قبل الفحص وتكون مواردها مردّدة ضمن موارد كل الشبهات، وهذا يعني في الحقيقة التحوّل الى التمسّك بالعلم الكبير، وإنّما ينبغي إبراز العلم الصغير في مقام بيان انحلال العلم الكبير الموجب لجريان البراءة بعد الفحص.

436

ولحلّ هذا التهافت نستعرض عدّة مواقف للاُصوليّ في مقام إبطال شبهة الاحتياط بعد الفحص؛ لكي يتّضح انسجامها مع موقفه في مسألة الاحتياط قبل الفحص.

الموقف الأوّل: هو أنّنا لا ندّعي انحلال العلم الإجمالي الكبير بما نظفر به من أخبار الثقات، بل ندّعي انحلاله بالعلم الإجمالي الصغير بالتكاليف الواقعيّة في ضمن أخبار الثقات، أو بالعلم الإجمالي بوجود أخبار حُجّة، وهي أخبار الثقات ضمن مطلق الأخبار، وهذا العلم الإجمالي مقارن زماناً للعلم الإجمالى الكبير(1).

وهذا الموقف ينسجم تمام الانسجام مع موقف الاُصولي هنا؛ لأنّه أجاب هناك عن العلم الكبير المقتضي للاحتياط حتّى بعد الفحص: بانحلاله بالعلم الصغير، وهنا تمسّك بالعلم الصغير لإيجاب الاحتياط قبل الفحص.

إلّا أنّ هذا الموقف في نفسه لم يكن موقفاً صحيحاً.

فإنّه إن اُريد حلّ العلم الكبير انحلالاً حقيقياً بالعلم الصغير في دائرة أخبار الثقات، فهنا علم صغير ـ أيضاً ـ في دائرة الشهرات مثلاً، وكذا في دوائر اُخرى، ولا وجه لانحلال العلم الكبير ببعضها دون بعض، أو قل: إنّنا نعلم إجمالاً بتكاليف مائة في مادّة الاجتماع بين الشهرات وأخبار الثقات، أو مائتين في مادّتي الافتراق مثلاً على ما مضى شرحه وتنقيحه في محله.

وإن اُريد حلّ العلم الكبير بفرض علم صغير بالحجّة في دائرة الأخبار؛ لإيقاع التعارض بين الأصل في بعض موارد الخبر بالأصل في البعض الآخر، فكون الأصل في مورد الخبر الذي هو مورد للشهرة ـ أيضاً ـ معارضاً بالأصل في مورد الخبر الذي


(1) والعلم الإجمالي بالتكاليف الواقعيّة ضمن ما في معرض الوصول من أخبار الثقات يحلّ الإشكال حتّى لو لم يفرض مقارناً للعلم الإجمالي الكبير؛ وذلك لأنّه يوجب الانحلال الحقيقي، لا الانحلال بملاك تعلّق المنجّز التعبّدي ببعض أطراف العلم الإجمالي، ولا أثر لتقارنه للعلم الإجمالي الكبير في المقام؛ لأنّه رغم التقارن لا يتصوّر الانحلال، إلّا في فترة متأخّرة، أي: بعد تعارض الاُصول في أطراف العلم الكبير وتساقطها؛ لأنّ العلم الصغير ما دامت أطرافه مردّدة ضمن أطراف العلم الكبير يستحيل إفناؤه للعلم الكبير، وإنّما يفنيه بعد الفحص بمقدار تمتاز أطرافه عن سائر أطراف العلم الكبير. وسوف نوضّح ذلك أكثر في تعليقنا في التنبيه الرابع من التنبيهات الآتية في نهاية هذا البحث.

437

هو مادّة الافتراق للخبر عن الشهرة ليس بأولى من كونه معارضاً بالأصل في مورد الافتراق من الشهرة، فيتساقط الجميع في عرض واحد(1).


(1) لا يخفى أنّه لو فرض التعارض بين الاُصول في مورد الأخبار للعلم الإجمالي بكون بعضها أخبار ثقات، والتساقط بعد تحصيل موارد تلك الأخبار، وقبل معرفة ما يكون منها من الثقات، فهذه الحالة متأخّرة عن العلم الإجمالي الكبير، وتكون ملحقة بفرض تأخّر المنجّز لبعض الأطراف عن العلم الإجمالي، ولو كانت كافية لحلّ العلم الكبير رغم تأخّرها عن العلم الكبير فلِمَ لا نقول: إنّ العثور على أخبار الثقات بعد الفحص الكامل يحلّ العلم الإجمالي الكبير؟! ولا يرد عليه ـ عندئذ ـ إشكال النقض بالمعارضة بالأصل في مورد الافتراق من الشهرة.

وبكلمة اُخرى: أنّ المفروض في شبهة التنافي بين موقفي الاُصولي أنّ المنجّز المتأخّر إن لم يكن ممّا يحلّ العلم الإجمالي حلاًّ حقيقيّاً فهو لا يحلّه حلاًّ حكميّاً، فكيف يأتي توهّم الانحلال هنا حتّى يجاب عنه بما في المتن؟!

ولو فرض التعارض بين تلك الاُصول قبل العثور على موارد تلك الأخبار، فالتعارض ـ آنئذ ـ لا يختصّ بالاُصول التي هي في موارد تلك الأخبار، بل يشمل كلّ أطراف العلم الكبير التي نحتمل ورود الخبر فيها.

والأولى من الناحية الفنيّة في بيان مواقف الاُصولي في مسألة البراءة بعد الفحص: هو أن يقتصر في بيان الموقف الأوّل على دعوى الانحلال الحقيقي للعلم الكبير بالإلزاميّات في الواقع بالعلم الإجمالي الصغير بوجود إلزامات واقعيّة ضمن أخبار الثقات، والانحلال الحقيقي للعلم الكبير بوجود أخبار حُجّة ضمن الشبهات بالعلم بوجود أخبار حُجّة ضمن الأخبار، ويقال: إنّ هذا الموقف منسجم تماماً مع الموقف في مسألة الاحتياط قبل الفحص، فإنّ العلم الصغير يوجب من ناحية الفحص عن تلك الأخبار والاحتياط قبل الفحص، ومن ناحية اُخرى انحلال العلم الكبير، وهذا الانحلال يتمّ حتّى لو فرض هذا العلم الصغير غير مقارن للعلم الكبير ومتأخّراً عنه؛ لأنّ الانحلال الحقيقي للعلم الكبير بالعلم الصغير غير مشروط بالتقارن. ثمّ يذكر موقف آخر للاُصولي في مسألة البراءة بعد الفحص: وهو دعوى الانحلال الحكمي للعلم الكبير بنفس أخبار الثقات الحجّة؛ لأنّها تمنع عن جريان الأصل في موردها منذ البدء حتّى على القول بعدم تعارض الأحكام الظاهريّة قبل الوصول، وعدم حكومة أخبار الثقات على الأصل قبل وصولها؛ وذلك لأنّ أخبار الثقات قد وصلتنا مقارنةً للعلم الكبير ولو وصولاً إجماليّاً، والوصول بالعلم الإجمالي كاف فى التنجيز الموجب لوقوع المعارضة بين الأحكام الظاهريّة المتنافية، فهذا الموقف يبرّر رأي الاُصولي في باب البراءة بعد الفحص، ولا ينافي في نفس الوقت رأيه بالاحتياط قبل الفحص.

438

الموقف الثاني: ما سلكه المحقّق العراقي (قدس سره)(1) والسيّدالاُستاذ (2)، وهو أنّ الاُصول لم تكن متساقطة بالتعارض، بل كانت غير جارية بنفسها لمنجّزيّة الاحتمال قبل الفحص على فرق بين كلام المحقّق العراقي والسيّد الاُستاذ، فالمحقّق العراقي ذكر احتمال وجود خبر الثقة وقال: إنّ هذا منجّز قبل الفحص. والسيّد الاُستاذ ذكر احتمال الواقع، وقال: إنّه منجّز قبل الفحص. وروح المطلب واحد، وهو أنّ الاحتمال قبل الفحص ليس مجرىً للبراءة، بل هو منجّز، وفي كلّ مورد فحصنا ولم نجد خبر ثقة نجري في خصوص ذلك المورد البراءة، ولا معارض لها الى أن نفحص عن تمام الموارد، فنجري البراءة عن التكليف في خصوص الموارد التي ليس فيها خبر ثقة، ولا معارض لهذه البراءة.

وهذا الكلام متين، إلّا أنّ معنى ذلك: هو الاعتماد في إبطال البراءة قبل الفحص على وجه آخر غير العلم الإجمالي.

فالمحقّق العراقي (قدس سره) الذي لم يذكر في المقام أيّ وجه لعدم جريان البراءة قبل الفحص عدا العلم الإجمالي، لا ينسجم موقفه في المسألة الاُولى في مقابل الأخباري مع موقفه فيمانحن فيه؛ لاقتصاره في نفي البراءة قبل الفحص على مسألة العلم الإجمالي، وهذا يعني أنّه بغض النظر عن العلم الإجمالي لا مانع عن إجراء البراءة قبل الفحص، وعليه فيرجع إشكال الأخباري في مبحث البراءة والاشتغال


وبالإمكان أن يدمج هذا الموقف مع ما سيأتي في المتن من الموقف الثالث، فيقال: إنّ الاُصول المؤمّنة في مورد أخبار الثقات غير جارية ابتداءً إمّا للقول بأنّ التنافي بين الأحكام الظاهريّة ثابت قبل الوصول، أو لأنّ أخبار الثقات الحجّة واصلة منذ البدء وصولاً إجماليّاً.

أمّا لو قلنا بأنّ الأخبار الحجّة غير واصلة إلينا في أوّل أزمان العلم الكبير؛ لأنّ العلم الكبير ثابت في بدء بلوغ المكلّف، وفي بدء البلوغ قد لا يعلم المكلّف بوجود أخبار حجّة، بل يحتمل الانسداد مثلاً، فالأولى ـ عندئذ ـ أن يحذف هذا المقطع، ويقتصر في الموقف الأوّل على ذكر الانحلال الحقيقي، وفي الموقف الثالث على ذكر أنّ أخبار الثقات منعت عن جريان الاُصول في موردها منذ البدء؛ لأنّ الأحكام الظاهريّة تتعارض فيما بينها حتّى قبل الوصول.

(1) لم أرَ ذلك في كلمات المحقّق العراقي (رحمه الله)، بل هو يرى أنّ دليل البراءة الشرعيّة يشمل ما قبل الفحص ما لم يمنع عنه مانع كالعلم الإجمالي. راجع المقالات: ج 2، ص 108، ونهاية الأفكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 469.

(2) راجع مصباح الاُصول: ج 2، ص 493.

439

الى حاله؛ لأنّ الاُصول تجري وتتعارض وتتساقط، فيقال: إنّها لا ترجع بعد الظفر بمنجِّز في بعض الأطراف.

الموقف الثالث: هو أنّ الاُصول المؤمّنة عن الواقع ابتداءً ليست متعارضة؛ وذلك بناءً على مبنانا من وقوع التنافي بين الأحكام الظاهريّة حتّى قبل وصولها، فخبر الثقة الذي هو في معرض الوصول مقدّم في مورده على الأصل، فالاُصول في غير مورد أخبار الثقات ليست مبتلاة بالمعارض. نعم، لا يمكن الأخذ بها من باب اشتباه الحجّة باللاحجّة، ولا يمكن الرجوع الى استصحاب عدم خبر الثقة، أو البراءة عن الحجّية؛ لوقوع التعارض بين هذه الاُصول التي هي في طول الحكم الظاهري بحجّيّة خبر الثقة بالعلم الإجمالي بوجود أخبار ثقات، وبعد الفحص والظفر بموارد أخبار الثقات، وموارد عدم ورود خبر ثقة نتمسّك في المورد الذي لم يرد خبر ثقة بالأصل المؤمّن عن الواقع ابتداءً، ولم يكن هذا الأصل ساقطاً من أوّل الأمر، إلّا أنّنا لم نكن نعرف مورده ثمّ عرفناه، فينسجم موقفنا هناك مع موقفنا هنا تمام الانسجام.

وما ذكرناه هنا إحدى نتائج مبنانا من المنافاة بين الحكمين الظاهريين قبل الوصول(1).

الأمر الثاني: هو الاعتراض المشهور ـ أيضاً ـ المذكور في الكفاية(2): وهو أنّ الاستدلال بالعلم الإجمالي لا يفي بإثبات تمام المدّعى؛ لأنّه ينحلّ بالظفر بمقدار المعلوم بالإجمال، فيلزم عدم وجوب الفحص في الباقي.

وحاول المحقّق النائيني (قدس سره)(3) دفع هذا الإشكال، وإثبات عدم انحلال العلم الإجمالي، وإيجابه للفحص بالنسبة الى تمام المسائل. وبإمكانك أن تعرف تلك المحاولة بمطالعة تقرير بحثه.

وبطلانها واضح، فلا ندخل في البحث عن ذلك. ونقول: إنّ هذا الإشكال


(1) أي أنّ هذا أحد امتيازات جعل العلم الإجمالي بوجود الأمارات المعتبرة متمّماً للوجه الخامس؛ لاسقاط البراءة قبل الفحص، لا وجهاً مستقلاًّ لذلك والتي سبقت الإشارة إليها في آخر بحث الوجه الخامس معتمدين في توضيحها على بحث الوجه السادس.

(2) راجع الكفاية: ج 2، ص 256 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقة المشكيني.

(3) راجع فوائد الاُصول: ج 4، ص 279 ـ 280 بحسب طبعة جامعة المدرسين، قم، وراجع أجود التقريرات: ج 2، ص 328 ـ 329.