7

کلمة المکتب

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين وأفضل الصلوات علی أفضل الخلق محمد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد، إنّ کتاب «العروة الوثقی» للفقيه الحجة السيد اليزدي؟ق؟ أصبح منذ تأليفه مداراً للبحث الاجتهادي والرأي الفتوائي، فقام بشرحه جمع لفيف من فقهائنا العظام وفقاً لمبانيهم وآرائهم. کما وعلّق کثيرون علی الآراء والفتاوی المطروحة فيه علی ضوء استنتاجاتهم الفقهية.

وقد بادر سماحة المرجع آية الله العظمی السيد کاظم الحائري(دام ظله) بالشرح والتعليق علی مسائل الاجتهاد والتقليد من هذا الکتاب وبدأ بکتابته قبل ما يقارب ثلاثة عقود، وقد خاض غمار هذا البحث وأتحفنا بأثمار لقاحاته الفکرية الممتازة بالشمول لکل ما يتطلبه البحث الاجتهادي

8

والدقة الفائقة في الانتهاء إلی النتائج.

لکن سماحة السید المؤلف(دام ظله) لم يواصل البحث إلی نهاية مسائل الاجتهاد والتقليد فکان آخر ما جاد به قلمه في هذا المجال هو الکلام عن شروط المرجع المقلَّد.

وقد أورد بعض التعدیلات علی البحث فيما بعد وفي بحوثه المتعاقبة، فمن الطبيعي أن لا يکون کل ما قدّمه في هذا الکتاب _ وبعد مضيّ هذه الفترة الطويلة _ مما يتبنّاه فعلاً. وفي الختام نودّ الإشارة إلی أنّ العناوين التي وضعت لبحوث الکتاب کلها من عمل لجنة التحقيق.

وإذ نقدّم هذه الدراسة القيّمة إلی أرباب الفضل والعلم نبتهل إلی الله عزّ وجلّ شأنه أن يتقبل العمل بلطفه ومنّه وأن يجعله ذخراً لکاتبه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتی الله بقلب سليم. إنّه خير مجيب والحمد لله ربّ العالمين.

قم المقدسة

شعبان المعظّم سنة 1442هـ

9

بحوث في الاجتهاد والتقليد

بسم الله الرحمن الرحيم(*)

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمدخير خلقه وآله الطاهرين.

وبعد فيقول المعترف بذنبه المفتقر إلى رحمة ربّه محمد كاظم الطباطبائي: هذه جملة مسائل ممّا تعمّ به البلوى وعليها الفتوى جمعت شتاتها وأحصيت متفرّقاتها عسى أن ينتفع بها إخواننا المؤمنون وتكون ذخراً ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون والله وليّ التوفيق.


* بدأت به في اليوم 21 من جمادى الأُولى من سنة 1414 الهجرية القمرية المصادف لليوم 15 من شهر آبان من سنة 1372 الهجرية الشمسية. أسأل الله تعالى أن ينفع به المؤمنين وأن يكون ذخراً لي ليوم الدين إنّه سميع مجيب. 

10

مسألة 1: يجب على كلّ مكلّف في عباداته ومعاملاته أن يكون مجتهداً أو مقلّداً أو محتاطاً (1).


وجوب التقليد أو الاجتهاد أو الاحتیاط

(1) هذا الوجوب منحلّ في واقعه إلى مجموع أمرين:

الأوّل: التنجّز العقلي الثابت سابقاً للأحكام وعدم كون مجرّد البراءة العقلية معذّرة عن كل حكم قبل الفحص عنه، أو قل: عدم جريان البراءة العقلية قبل الفحص.

والثاني: كفاية التعذير عمّا تنجّز بالعمل بالاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط.

أمّا الأمر الأوّل: فدليله إمّا هو العلم الإجمالي بالتكاليف، أو إنكار البراءة العقلية في ذاتها إما مطلقاً أو قبل الفحص أو أخبار وجوب التعلم.

أمّا العامّي فهو إمّا يدرك هذا الوجوب العقلي ولو ببعض وجوهه، أو يأخذه من العلماء ثقةً واعتماداً لا تقليداً بمعنى التعبّد بكلامهم من دون أن يورث له كلامهم الاطمئنان والوثوق، أو أنّه يبقى حائراً ولا يدرك الوجوب العقلي، وينحصر دافعه العملي في دفع العقاب المحتمل. وهذا غير الوجوب العقلي بمعنى الكلمة.

وأمّا الأمر الثاني: وهو كفاية الاجتهاد أو التقليد أو الاحتياط في التعذير

11

عمّا تنجّز، فكفاية الاحتياط أمر واضح باعتبار اشتماله على الامتثال القطعي، اللّهم إلّا بلحاظ شبهة عدم إمكان الاحتياط باعتبار فقدان قصد الوجه أو التمييز، وهذا ما نقّح بطلانه في بعض الأبحاث الأُصولية.

وكفاية الاجتهاد أيضاً أمر مفروغ عنه؛ لأنّ المقصود بالاجتهاد هنا هو الوصول إلى ما يقطع بمعذّرية العمل به من العلم بالحكم الواقعي، أو العلم بحكم ظاهري معذَّر عن الواقع، اللّهم إلّا حديث وقع حول كفاية اجتهاد المتجزّي، وحديث آخر وقع حول كفاية اجتهاد غير الأعلم، ونتعرّض لهما _ إن شاء الله _ ضمن بحث كفاية التقليد.

کفاية التقليد

والمهمّ في المقام هو البحث عن كفاية التقليد. ويقع البحث في ذلك في عدّة أُمور:

الأوّل: دليل جواز التقليد.

والثاني: هل يشمل دليل التقليد من له ملكة الاستنباط، لكنّه لا يستنبط فعلاً بل يلتجئ في عمله إلى التقليد؟

والثالث: هل المتجزّي يرجع في التقليد إلى المجتهد المطلق أويحتاط أو يجوز له العمل برأي نفسه؟

12

والرابع: هل غير الأعلم يرجع في التقليد إلى الأعلم أو يحتاط أو يجوز له العمل برأي نفسه؟

والخامس: في تحليل وفلسفة عمليّة الإفتاء والتقليد.

والسادس: لو تبدّل المرجع بموت أو الحصول على من هو أعلم منه أو نحو ذلك، أو تبدّل رأيه بعد عمل المقلَّد بفتواه، أو أصبح المقلّد فقيهاً ورأى بطلان رأي من كان يقلّده، فهل ذاك العمل مجزٍ له باعتباره مطابقاً لما كان حجّة له في وقت العمل، أو ليس مجزياً له عن الواقع، ولابدّ له من الإعادة وفق الفتوى الجديدة؛ لأنّ التقليد لم يكن إلا طريقاً محضاً للوصول إلى الواقع وقد انكشف الخلاف؟ وكذلك نفس الفقيه هل يجزيه عمله السابق بعد أن يفرض تبدّل رأيه أو لا؟ فنقول:

أدلّة جواز التقليد

الأمر الأوّل: في أصل الدليل على جواز التقليد.

والعمدة في ذلك وجهان:

الأوّل: السيرة والارتكاز العقلائيّان والمتشرّعيّان على الرجوع إلى أهل الخبرة، أو رجوع الجاهل إلى العالم.

والارتكاز العقلائي تارةً يفسّر بما تعارف بينهم في قضاياهم المعاشيّة

13

والحياتيّة، وأُخرى يفسّر بأنّه لو تقمّص أحدهم قميص المولويّة لجعل كلام أهل الخبرة حجّة على رعيّته في الأُمور الراجعة بينه وبينهم بما هو مولى وبما هم عبيد.

وقد يورد على التفسير الأوّل أنّ العقلاء في الأُمور الهامّة الحياتيّة والمصيريّة، كدوران الأمر بين موت ولده بالدواء الذي أعطاه الطبيب أو شفائه، لا يلتجئون لدى الإمكان إلى التقليد، وأحكام الشريعة تكون من الأُمور التي هي فوق القضايا الحياتيّة والمصيريّة؛ لأنّه تتبعها الجنّة والنار، والاهتمام بهما أشدّ من الاهتمام بحياة الولد وموته.

والجواب: أنّ الجنّة والنار نتيجة التنجيز والتعذير الثابتين على جواز التقليد وعدمه، فهما لا يؤثّران على جواز التقليد وعدمه، والعقلاء بطبعهم يتعاملون مع أهداف الشارع _ وهي الملاكات لا الجنّة والنار _ كتعاملهم مع أهدافهم الاعتياديّة في حياتهم، أي يفترضون صحّة التقليد فيها مثلاً، فلو لم يرض الشارع بذلك كان عليه الردع.

وسيرة المتشرّعة تكشف في المقام عن طريق أنّه لولا سيرتهم على التقليد في الأُمور الشرعية _ وإن کانت نابعةً عن الارتكاز العقلائي _ لكان لديهم طريق آخر للعمل بالأحكام، من التزامهم جميعاً بالاحتياط أو مراجعة الإمام مباشرةً أو الاستنباط أو غيرذلك، ولو كان كذلك لبان.

14

والثاني: الروايات الدالّة على ذلك من قبيل:

1_ ما في مرسلة الاحتجاج وفي التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري؟ع؟: «فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً على هواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه، وذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة لا كلّهم».

2_ صحيحة أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن(علیه السلام): «قال: سألته وقلت: من أُعامل، وعمّن آخذ، وقول من أقبل؟ فقال: العمري ثقتي، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع، فإنّه الثقة المأمون. قال: وسألت أبا محمد(علیه السلام) عن مثل ذلك فقال: العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنّهما الثقتان المأمونان...».

3_ رواية إسحاق بن يعقوب التي تنقل التوقيع عن الإمام صاحب الزمان(عجل الله تعالى فرجه الشريف) وفيها: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة


(1) وسائل الشيعة، ج27، ص131، الباب 10 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح20.

(2) المصدر السابق، ص138، الباب 11 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح4.

15

حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله» . وفي السند إسحاق بن يعقوب، وقد تحدّثنا عنه في كتاب أساس الحكومة الإسلاميّة وكتاب ولاية الأمر في عصر الغيبة.

4_ صحيحة عبدالله بن يعفور قال: «قلت لأبي عبدالله(علیه السلام): إنّه ليس كلّ ساعة ألقاك، ولا يمكن القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كلّ ما يسألني عنه، فقال: ما يمنعك من محمد ابن مسلم الثقفي، فإنّه سمع من أبي وكان عنده وجيهاً».

5_ صحيحة يونس بن يعقوب قال: «كنّا عند أبي عبدالله(علیه السلام) فقال: أما لكم من مفزع؟! أما لكم من مستراح تستريحون إليه؟! ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النضري؟!».

6_ رواية علي بن المسيّب الهمداني قال: «قلت للرضا(علیه السلام): شقّتي بعيدة، ولست أصل إليك في كلّ وقت، فممّن آخذ معالم ديني؟ قال: من زكريّا بن آدم القمّي المأمون على الدين والدنيا. قال عليّ بن المسيّب: فلمّا انصرفت قدمنا على زكريّا بن آدم فسألته عمّا احتجت


(1) المصدر السابق، ص140، ح9.

(2) المصدر السابق، ص144، ح23.

(3) المصدر السابق، ح24.

16

إليه» . وفي السند أحمد بن الوليد.

7_ ما عن عبد العزيز بن المهتدي والحسن بن عليّ بن يقطين جميعاً عن الرضا(علیه السلام) قال: «قلت: لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما أحتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبدالرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني؟ فقال: نعم» . والسند تام بغضّ النظر عن وجود محمد بن نصير فيه.

أمّا محمد بن نصير فهو مشترك بين الكشّي الثقة والنميري الخبيث الملعون على لسان محمد بن عثمان العمري(رحمه الله).

وقد قيل: إنّ محمد بن نصير هذا منصرف إلى الكشّي بقرينة أنّ العيّاشي الراوي لهذا الحديث قد روى حديثاً آخر ورد في مستهلّ رجال الكشّي، رواه أبو عمرو بن عبد العزيز الكشّي وهو _ أعني العيّاشي _ عن محمد بن نصير، ونحن نعلم أنّ محمد بن نصير الذي يروي عنه الكشّي هو محمد بن نصير الكشّي.

بل قيل: إنّ محمد بن نصير في هذه الطبقة ينصرف إلى الكشّي؛


(1) وسائل الشيعة، ج27، ص146، الباب11 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح27.

(2) المصدر السابق، ص147، ح33.

(3) راجع معجم رجال الحديث، ج17، ص299، ترجمة محمد بن نصير.

17

لاستبعاد رواية الشيعة عن النميري الذي كفر وألحد.

إلّا أنّ القرينة الثانية ضعيفة؛ لاحتمال أن يكون العيّاشي قد روى هذه الرواية عنه قبل اشتهار انحرافه، مع أنّه قد عُرف العيّاشي بنقله عن الضعفاء.

والقرينة الأُولى لا يبعد كونها تامة؛ فإنّ الرواية التي رواها الكشّي والعيّاشي معاً عن محمد بن نصير تدل من ناحية أنّهما قصدا شخصاً واحداً، ولا شكّ أنّ مقصود الكشّي هو محمد بن نصير الكشّي. ومن ناحيةٍ أُخرى نحدس أنّ مقصود العيّاشي من محمد بن نصير الذي يذكره بلا قرينة دائماً هو واحد.

8_ ما عن عبد العزيز بن المهتدي قال: قلت للرضا(علیه السلام): «إنّ شقّتي بعيدة، فلست أصل إليك في كلّ وقت، فآخذ معالم ديني عن يونس مولى آل يقطين؟ قال: نعم» . وفي السند جبرئيل بن أحمد


(1) المصدر السابق.

(2) الرواية موجودة في أوائل اختيارات الشيخ لرجال الكشّي وموجودة في معجم رجال الحديث، ج3، ص319 في ترجمة بشر أو بشير الهمداني.

(3) وسائل الشيعة، ج27، ص148، الباب 11 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح35.

18

الذي روى الكشّي هذه الرواية عنه.

9_ ما عن أحمد بن حاتم بن ماهويه قال: «كتبت إليه _ يعني أبا الحسن الثالث(علیه السلام) _ أسأله عمّن آخذ معالم ديني، وكتب أخوه أيضاً بذلك، فكتب إليهما: فهمت ما ذكرتما فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا وكلّ كثير القدم في أمرنا، فإنّهما كافوكما إن شاء الله تعالى» . والسند غير تام.

10_ ما عن الفضل بن شاذان عن عبد العزيز بن المهتدي _ وكان خير قمّي رأيته، وكان وكيل الرضا(علیه السلام) وخاصّته _ قال: سألت الرضا(علیه السلام) «فقلت: إنّي لا ألقاك في كلّ وقت، فعمّن آخذ معالم ديني؟ فقال: خذ عن يونس بن عبد الرحمن» . وفي السند علي بن محمد القتيبي الذي روى الكشّي هذه الرواية عنه.

11_ ما عن شعيب العقرقوفي قال: «قلت لأبي عبدالله(علیه السلام): ربّما احتجنا أن نسأل عن الشيء فمن نسأل؟ قال: عليك بالأسدي يعني أبا بصير» . وسند الحديث تام.


(1) وسائل الشيعة، ج27، ص151، الباب 11 من أبواب صفات القاضي وما يجوز أن يقضي به، ح45.

(2) المصدر السابق، ص148، ح34.

(3) المصدر السابق، ص142، ح15.

19

ثم إنّ نسبة الارتكاز إلى الروايات قد تختلف من مورد لآخر، وتكفينا في كلّ مورد تماميّة الإطلاق في أحدهما.

ولو تمّ إطلاق الارتكاز في مورد ولم يتمّ إطلاق الروايات في ذاتها فقد يقال: إنّ إطلاق الارتكاز يحقّق إطلاقاً للروايات؛ لأنّها بعد أن كانت منصرفة إلى إمضاء الارتكاز لا التعبّد البحت يتكوّن لها ظهور في إمضاء الارتكاز بعرضه العريض.

أمّا لو انعكس الأمر في مورد ما، بأن تمّ إطلاق الروايات في ذاتها ولم يتمّ إطلاق الارتكاز، فإن كان للارتكاز جانب سلبي بأن كان يرى أنّه لا ينبغي للمتقمّص قميص المولويّة تشريع التقليد في المورد الفلاني فلا محالة يؤثّر على إطلاق اللفظ ويصرفه عن ذاك المورد، أمّا لو كان العقلاء يرون أنّه من المعقول أن يشرّع المتقمّص قميص المولويّة التقليد في المورد الفلاني مثلاً وإن لم يكن لديهم ارتكاز جواز التقليد في ذاك المورد فهذا لا يبطل إطلاق اللفظ.

أدلّة عدم جواز التقليد

ثم إنّ هناك طائفتين من الأدلّة اللفظية قد تعارض بها الروايات الدالّة على جواز التقليد أو تجعل رادعة عن السيرة والارتكاز العقلائيّين:

الأُولى: ما ورد من النهي عن العمل بالظنّ أو بغير العلم من قبيل

20

الآيتين المباركتين: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ ، و﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقَّ شَيْئاً﴾.

وقد يجاب عليها بأخصّية روايات التقليد عنها، وبعدم كفاية الإطلاق للردع عن تلك السيرة أو الارتكاز المحكمين.

والواقع أنّ مفاد تلك الأدلّة هو النهي عن كون المُعتمَد ورأس الخيط الذي يكون بيد الإنسان غير العلم، وهذا أمر بديهي لا يشكّ فيه عاقل، ومن يدّعي جواز التقليد يدّعي اعتماده على العلم بجوازه، فهذا لا يُردع عنه بأدلّة النهي عن العمل بغير العلم.

الثانية: ما دلّ على النهي عن التقليد من قبيل:

قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيْلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أََنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ .

وقوله تعالی: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ﴾.


(1) الإسراء: 36.

(2) يونس: 36.

(3) المائدة: 104.

(4) البقرة: 170.

21

وأُجيب على ذلك بكونها واردة في أُصول الدين.

ولكن بالإمكان أن يقال: إنّ التعليل في الآيتين علامة الإطلاق.

والواقع أنّ هذه الآيات قد وضّحت عدم تماميّة موضوع التقليد المرتكز الذي هو عبارة عن رجوع الجاهل إلى العالم؛ لأنّ آباءهم لا يعلمون شيئاً أو لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون.

ثم العامّي الذي يلتجأ إلى التقليد إمّا أن يعتمد على بعض المطالب الماضية، كالارتكاز العقلائي ممّا يورث له العلم ولو لأجل الغفلة عن المناقشات التي يمكن أن تكون فيها أو عن احتمال الردع، أو يعتمد على كلمات الفقهاء الذين أفتوا بجواز التقليد من باب إيراثها للعلم والاطمئنان له لا من باب التعبّد.

تقليد من له ملكة الاستنباط

الأمر الثاني: في تقليد من له ملكة الاستنباط، أي: أنّه هل يجوز له ترك الاستنباط واستبدال ذلك بتقليد من استنبط فعلاً أو لا؟

لو لاحظنا الروايات مع غضّ النظر عن فرض تأثير الارتكاز عليها سلباً أو إيجاباً فثبوت الإطلاق في أكثرها لفرض تقليد من له ملكة الاستنباط


(1) راجع التنقيح، ج1، بحث الاجتهاد والتقليد، ص 90 - 91.

22

وعدم محاولة الاستنباط بالفعل مشكل، أو منتفٍ، ما عدا التوقيع «فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا»، وهذا التوقيع بغضّ النظر عن فرض تأثير الارتكاز عليه لا بأس بفرض إطلاقه لمن له ملكة الاستنباط.

أمّا لو لاحظنا الارتكاز فقد يقال: إنّ الارتكاز إنّما وقع على رجوع الجاهل إلى العالم، وواجد الملكة ليس جاهلاً، بل هو عالم لدى العرف، فكيف يرجع إلى عالمٍ آخر بالتقليد؟! فلو فرضنا شخصاً مستنبطاً بالفعل قد كتب رسالته العملية وكان بالفعل ناسياً لبعض فتاواه أفهل يقال: إنّ هذا الرجل جاهل، وأنّه يجوز له التقليد فيما نسيه مع ترك مراجعة رسالته العملية بلا عذر؟! أو ليس ما نحن فيه شبيهاً بهذا؟!

والواقع أنّنا لسنا أمام نصّ عبّر بتعبير رجوع الجاهل إلى العالم حتّى نبحث عن أنّ واجد الملكة غير المستنبط بالفعل هل يسمّى جاهلاً أو عالماً، وإنّما نحن أمام الارتكاز، فالمهمّ أن نرى _ بغضّ النظر عن التسميات _ أنّ الارتكاز هل يساعد على رجوع من له ملكة الاستنباط إلى من هو مستنبط بالفعل أو لا؟

ولو فرض أنّ علينا معرفة أنّ صاحب الملكة هل هو عالم أو جاهل فلعلّه من الواضح أنّ العالم اسم لمن له العلم الفعلي، وصاحب الملكة

23

الذي لم يستنبط الحكم لا يزال يكون جاهلاً بالحكم، فلا يمكن أن نثبت عن هذا الطريق عدم جواز التقليد له، وإنّما المهم كما قلنا: إنّ الارتكاز القائل بالرجوع إلى أهل الخبرة هل يشمل هذا الشخص أو لا يشمله؟

ولعلّه من نافلة القول: أنّ البحث ينبغي أن يكون على مستوى الارتكاز العقلائي دون سيرة المتشرّعة؛ إذ لا دليل يكشف لنا تفاصيل سيرة المتشرّعة المعاصرة للمعصوم.

وعلى أيّة حال فقد يقال بثبوت الارتكاز على جواز التقليد له ما دام غير مستنبط بالفعل؛ لأنّه يكون بالفعل جاهلاً فهو داخل في مصاديق كبرى رجوع الجاهل إلى العالم.

كما قد يقال العكس، أي: إنّ هذا الرجل خارج عن تحت هذه القاعدة قياساً له بالناسي الذي يمكنه أن يراجع رسالته العملية الموضوعة في الرفّ كي يتذكّر ما استنبطه لكنّه لا يراجع الرسالة ويصرّ على التقليد، أفليس هذا خلاف الارتكاز؟ أو ليس هذا مع ما نحن فيه سواء؟

ويمكن أن يذكر في المقام أحد تفصيلين:

الأوّل: أنّ المقلَّد يكون له عادةً مستوى من الركون إلى قول الفقيه، كركون المريض إلى قول الطبيب وغير ذلك من موارد الرجوع إلى أهل الخبرة. وهذا الذي حصلت له ملكة للاستنباط قد يفترض أنّه زال

24

عنه _ نتيجة لهذا المقام العلمي _ ذاك الركون إلى قول غيره من الذين استنبطوا بالفعل، فعندئذٍ لا يساعد الارتكاز على تقليده لغيره، بل عليه أن يستنبط أو يحتاط. وقد يفترض أنّه لم يزل عنه ذاك الركون فيساعد الارتكاز على تقليده.

أمّا ما شبّهنا به مورد البحث من المستنبط الفعلي الذي يجعل رسالته العملية في الرفّ ولا يراجعها فيما ينساه ويكتفي بالتقليد في مورد نسيانه، فمن الواضح أنّ هذا الشخص أقرب إلى عدم الركون ممّن هو واجد لمجرّد ملكة الاستنباط.

والثاني: أنّ واجد الملكة قد يترك الاستنباط كسلاً، وأُخرى يتركه لانشغاله بأُمور أُخرى معاشية مثلاً، فقد يقال: إنّ الثاني واجد لنفس النكتة العقلائية الكامنة من وراء قاعدة الرجوع إلى أهل الخبرة، وتلك النكتة عبارة عن تقسيم التخصّصات تسييراً للحياة؛ إذ لو فرض أنّه كان على كلّ أحد أن يشتمل على كلّ التخصّصات المحتاج إليها لشلّت عجلة الحياة عن السير، فهذا الثاني يجوز له التقليد بخلاف الأوّل.

والقدر المتيقّن أنّ الجامع لكلا العنوانين _ أعني أوّلاً بقاء حالة الركون في نفسه إلى قول المستنبط، وثانياً حاجته إلى التقليد لانشغاله بسائر الأُمور الحياتية لا لأجل الكسل وحده _ يساعد الارتكاز على

25

تقليده للمستنبطين، وفاقد العنوانين لا يساعد الارتكاز على تقليده، وما بينهما متوسطات.

ولو وسوس أحد في مساعدة الارتكاز على تقليد واجد العنوانين فلا أقلّ من وضوح أنّ العقلاء لا يمانعون مَن تَقَمَّصَ قميص المولويّة عن جعله الحجّية لكلام أهل الخبرة بالنسبة لهذا الشخص وعندئذٍ لا مانع من التمسّك بإطلاق قوله: «فإنّهم حجّتي عليكم»، بل لعلّ أحد الأمرين أعني الركون أو الحاجة الحياتيّة كافٍ في عدم الممانعة هذه وبالتالي في الرجوع إلى الإطلاق.

وظيفة المتجزّي

الأمر الثالث: في أنّ المتجزّي هل يعمل بما استنبطه أو عليه أن يقلّد أو يحتاط؟

إنّ حديثنا عن ذلك يأتلف من أمرين:

الأوّل: إنّ الاستنباط أو الإفتاء يكون بمجموع شيئين:

أحدهما: استفراغ الوسع على مستوى القُدُرات العلميّة في الوقت الحاضر للاستنباط، فلو أُحيي اليوم الشيخ الطوسي أو السيّد المرتضى أو العلّامة وأضرابهم من الأعاظم قد يرجعون اليوم مقلّدين إلى أن يصلوا

26

إلى مستوى الاستنباط مرّةً أُخرى؛ وذلك لأنّهم قد لا يكونون منذ البدء قادرين على استفراغ الوسع بمستوى القدرات العلمية في الوقت الحاضر لتجدّد كثير من التدقيقات العلمية الدخيلة في الاستنباط.

وثانيهما: حصول اليقين أو الإطمئنان بما ينتهي إليه من النتيجة العملية من حكم واقعي أو ظاهري أو وظيفة عملية، وإلّا كان إفتاء داخلاً في كبرى الإفتاء بغير علم، وكان مشمولاً للنهي الوارد في مثل قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾.

والمتجزّي لو طوى هاتين المرحلتين فلا معنى لعدم حجّية فتواه لنفسه؛ فإنّها فتوى بالعلم.

والثاني: إنّ هناك عقبتين عظيمتين أمام إفتاء المتجزّي لا تجعلان وصوله إلى الفتوى مستحيلاً، ولكن توجبان لنا التحفّظ الكبير في الإيمان بحصولها، فنحن لا نقبل بحصول التجزّي إلّا باحتياطٍ وتحفّظٍ كبيرين:

الأُولى: التشابك العجيب الموجود في المدارك والأدلّة والروايات والدقائق العلمية فيما بين الأبواب المختلفة، فقد تجد رواية أو مدركاً أو نكتة علميّة في باب تنبّهك على أمر من باب آخر لم يكن بالحسبان


(1) الإسراء: 36.