9

المقدّمة الثالثة: أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ، وهذا ما يأتي بحثه في البحث الثاني.

 

الكلام في إثبات الاقتضاء عن طريق المقدّميّة:

المسلك الثاني ـ وهو المسلك المهمّ في المقام ـ: مسلك المقدّميّة، بأن يقال: إنّ ترك الضدّ الخاصّ مقدّمة للإتيان بالضدّ العامّ، ومقدّمة الواجب واجبة، فترك الضدّ الخاصّ واجب، وإذا وجب ترك الضدّ الخاصّ حرم الضدّ الخاصّ؛ لأنّه ضدّ عامّ لتركه، والأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ.

وهذا أيضاً مركّب من ثلاث مقدّمات:

1 ـ إنّ ترك الضدّ مقدّمة لفعل الضدّ الآخر.

2 ـ إنّ مقدّمة الواجب واجبة.

3 ـ إنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ.

والمقدّمة الثالثة يأتي تحقيقها في البحث الثاني، والمقدّمة الثانية مضى تحقيقها في بحث مقدّمة الواجب. يبقى الكلام في المقدّمة الاُولى، وهي مقدّميّة ترك الضدّ للضدّ الآخر، ولإثبات ذلك عدّة بيانات:

البيان الأوّل: أنّ الضدّين متعاندان في الوجود، ولو وجد أحدهما لما أمكن وجود الآخر معه، كما هو واضح، فلا محالة يتوقّف أحدهما على عدم الآخر.

وهذا المقدار من البيان يرد عليه ما أورده في الكفاية(1) من النقض بالنقيضين، حيث إنّ النقيضين أيضاً متعاندان، ولكن ليس أحدهما موقوفاً على عدم الآخر؛ إذ هو عين عدم الآخر.

ولكن يمكن أن يفترض صاحب هذا البيان أنّ التعاند يوجب توقّف أحد


(1) ج 1، ص 307 بحسب الطبعة المشتملة في حاشيتها على تعليقات المشكينيّ.

10

المتعاندين على عدم الآخر في صورة المغايرة وعدم العينيّة، وعندئذ فهذا النقض غير وارد. نعم، يبقى عليه أنّ فرض مساوقة التعاند في الوجود لتوقّف أحدهما على عدم الآخر مجرّد دعوى ليس على طبقه وجدان، ولا دُلِّل على ذلك في هذا البيان ببرهان، ومن هنا ننتقل إلى البيان الثاني ليكون برهاناً على ذلك.

البيان الثاني: أنّه لو لم يكن عدم أحد الضدّين مقدّمة للضدّ الآخر، قلنا:لو فرض وجود أحد الضدّين، وفي نفس الوقت وجدت العلّة التامّة للضدّ الآخر، فهل يوجد ذلك الضدّ الآخر أو لا؟ فإن قيل: نعم، يوجد ذلك الضدّ، لزم اجتماع الضدّين، وإن قيل: لا يوجد، لزم انفكاك المعلول عن العلّة التامّة، وكلا الأمرين محال، بينما لو قلنا بأنّ عدم أحد الضدّين هو بنفسه أحد أجزاء علّة وجود الضدّ الآخر، فمع وجود أحد الضدّين لا معنى لفرض تحقّق العلّة التامّة للضدّ الآخر.

وهذا البيان أيضاً غير صحيح؛ إذ بالإمكان أن يفرض أنّ عدم أحد الضدّين ملازم لشيء هو جزء العلّة للضدّ الآخر، فعند وجوده لا تتمّ علّة الضدّ الآخر؛ لفقدان ذلك الملازم.

البيان الثالث: أنّه لا إشكال في أنّ عدم أحد الضدّين مقدّم على الضدّ الآخر تقدّماً بالطبع؛ فإنّ التقدّم تارةً يكون بالوجود(1)، واُخرى يكون بالطبع، فالمتقدّم بالوجود هو ما يجعل وجود الشيء واجباً، وهو العلّة التامّة بالنسبة لمعلوله، والمتقدّم بالطبع هو ما يكون فرض وجود الشيء الآخر مستلزماً لفرض وجوده دون العكس، كما هو الحال في عدم أحد الضدّين مع الضدّ الآخر؛ فإنّ وجود الضدّ لا يعقل إلاّ مع فرض عدم الضدّ الآخر دون العكس.


(1) وهو الذي يعبّر عنه في الحكمة بالتقدّم بالعلّيّة.

11

والتقدّم بالطبع على ثلاثة أقسام:

1 ـ تقدّم جزء الماهيّة على الماهيّة.

2 ـ تقدّم المقتضي على المقتضى.

3 ـ تقدّم الشرط على المشروط.

وعدم الضدّ ليس جزءاً لماهيّة ضدّه، ولا مقتضياً له ـ كما هو واضح ـ فبقي أن يكون شرطاً له، فيكون الضدّ متوقفاً على عدم ضدّه توقّف المشروط على الشرط، وهو المطلوب.

والجواب: أنّ تقدّم عدم أحد الضدّين على الضدّ الآخر بالطبع يمكن أن يفرض بشكل آخر خارج عن الأقسام الثلاثة، وذلك بأن يكون عدم أحد الضدّين ملازماً للمقتضي، أو الشرط للضدّ الآخر، فلا محالة لا يعقل وجود الضدّ الآخر إلاّ مع تحقّق هذا العدم، بخلاف العكس، فحصر التقدّم الطبعيّ في تلك الأقسام الثلاثة باطل. ومجرّد كون عدم أحد الضدّين مقدّماً على الضدّ الآخر بالطبع لا يوجب انحصار الأمر في فرضيّة كونه شرطاً له. نعم، لو خلطنا بين التقدّم بمعنى المقدّميّة والتوقّف، والتقدّم بالطبع بمعنى عدم إمكان فرض وجود الشيء من دون وجوده، جاء تخيّل كون عدم أحد الضدّين مقدّمة للضدّ الآخر؛ لكونه متقدّماً عليه بالطبع، ولكن هذا الخلط ممّا لا ينبغي.

ثُمّ إنّ ما ذكرناه من المسلكين قد عرفت أنّهما معاً مشتركان في افتراض الفراغ عن أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه العامّ، فلا يمكن دعوى: اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه الخاصّ في عرض دعوى: اقتضائه للنهي عن الضدّ العامّ.

نعم، لو فرض أنّنا ادّعينا ابتداءً وجدانيّة كبرى: أنّ كلّ شيئين يوجد بينهما تضادّ في عالم الوجود، يوجد أيضاً بينهما في عالم الحكم والتشريع تضادّ بالنحو المناسب لذلك التضادّ، أي: كما أنّ في عالم الخارج حينما يتمّ اقتضاء لأحد الضدّين، يتمّ بنفس تلك الدرجة من الاقتضاء اقتضاء لعدم الضدّ الآخر، كذلك في

12

عالم التشريع إذا تمّ اقتضاء لأحد الضدّين، تمّ الاقتضاء بنفس الدرجة لعدم الضدّ الآخر، إذن فلو كان حكم أحدهما هو الوجوب، كان حكم الآخر هو الحرمة وبالعكس، ولو كان حكم أحدهما هو الاستحباب كان حكم الآخر هو الكراهة وبالعكس، فهذا معناه الالتزام باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه الخاصّ. في عرض الالتزام باقتضائه للنهي عن الضدّ العامّ، إلاّ أنّهم لم يدّعوا مثل هذه الدعوى فيمن أعلم، وإنّما مدّعاهم في مقام إثبات كون الأمر بالشيء مقتضياً للنهي عن ضدّه، هو أحد المسلكين الماضيين.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من المسلكين ـ أعني: مسلك التلازم ومسلك المقدّميّة ـ قد بيّنّا فيهما علاقة التلازم في الحكم، أو المقدّميّة بين الإزالة التي هي الواجب وترك الصلاة الذي هو ترك الضدّ، ويمكن أيضاً بيان علاقة التلازم في الحكم أو المقدّميّة بين عدم الإزالة الذي هو الضدّ العامّ للواجب والصلاة التي هي ضدّ الواجب.

أمّا بيان مسلك التلازم على هذا الأساس، فبأن يقال: إنّ الأمر بالإزالة يقتضي النهي عن ضدّه العامّ، فيحرم ترك الإزالة، فإذا حرم ترك الإزالة عرفنا حرمة الصلاة أيضاً؛ للملازمة بين ترك الإزالة والصلاة.

ونقطة الضعف الموجودة في هذا البيان لمسلك التلازم هي: أنّ ترك الإزالة لا يستلزم فعل الصلاة، إلاّ إذا كانت الإزالة والصلاة ضدّين لا ثالث لهما، وهذا البيان لمسك التلازم يختصّ بضدّين لا ثالث لهما، بخلاف البيان السابق الذي عرفت أنّه لو تمّ، يتمّ في كلّ ضدّين ولو كان لهما ثالث.

ويمكن التغلّب على هذه النقطة بأحد وجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: أن يقال: إنّ حرمة عدم الإزالة تكون بنحو مطلق الوجود والاستغراق، فتثبت لكلّ حصص عدم الإزالة التي إحداها هي الإزالة المقترنة بالصلاة، وإذا حرمت تلك الحصّة حرمت الصلاة؛ للملازمة بينهما.

13

وهذا الوجه غير صحيح؛ لأنّ شمول الحرمة وإطلاقها ليس بمعنى سريانها إلى كلّ القيود، وإنّما هو بمعنى ثبوتها للطبيعة مع رفض كلّ القيود.

وتوضيح ذلك: أنّه لو كانت الحرمة تسري إلى الحصص بما هي مقيّدة بالمقارنة للصلاة، أو أيّ شيء آخر، فمن المعلوم أنّ الحصّة المقيّدة بالمقارنة للصلاة ـ بما هي مقيّدة بذلك ـ ملازمة لقيدها لا محالة، فإنّ وجود المقيّد يستلزم وجود القيد كما هو واضح، ولكن الأمر ليس كذلك، فإنّ هذا القيد ليس تحت الحكم، وإنّما الحكم ثابت على ذات الطبيعة فحسب.

الوجه الثاني: أن يقال: إنّ عدم الإزالة وإن لم يكن مستلزماً للصلاة، لكن الصلاة مستلزمة لعدم الإزالة، فإذا كان عدم الإزالة محرّماً، عرفنا أنّ الصلاة محرّمة؛ فإنّ الصلاة: إمّا أن يفرض أن لا حكم لها، أو يفرض أنّ لها حكماً غير الحرمة، أو يفرض أنّ حكمها الحرمة. والأوّل ينافي قانون: (ما من واقعة إلاّ ولها حكم)، والثاني ينافي قانون: (أنّ الشيء إذا كان له حكم ثبت ذلك الحكم لما يستلزمه أيضاً)، فإنّ الصلاة مستلزمة لعدم الإزالة، ومع ذلك لم يثبت حكم الصلاة لعدم الإزالة؛ لأنّ حكم الصلاة هو غير الحرمة، وحكم الإزالة هو الحرمة، فتعيّن الفرض الثالث وهو حرمة الصلاة، وهو المقصود.

أمّا إذا لم نقبل قانون: (ما من واقعة إلاّ ولها حكم)، وقلنا: إنّ هذا القانون إنّما هو ثابت بمقدار تحديد مواقف العبيد، أمّا إذا كان موقف العبد محدّداً من قِبَل المولى كما في المقام، فإنّ موقفه هو لزوم الاشتغال بالإزالة، فليس على المولى أن يحدّد له موقفاً آخر بتعيين حكم الصلاة، يلجأ العبد إليه لو بنى على عصيان الموقف الأوّل، إذن فليس من اللازم على الشريعة أن تعيّن حكماً للصلاة في مثل المقام، فبهذا يبطل هذا الوجه، إلاّ إذا كان المدّعى: أنّ ما يثبت للشيء من حكم أو من عدم الحكم يسري إلى ما يلازمه، إذن فلو كانت الصلاة لا حكم لها، لكان

14

لازمها ـ وهو عدم الإزالة ـ أيضاً لا حكم له، بينما حكمه الحرمة(1).

الوجه الثالث: أن يقال: إنّ عدم الإزالة يستلزم جامع الأضداد الوجوديّة ولو فرض جامعاً انتزاعيّاً، فيحرم، فإنّ كونه مقوليّاً أو انتزاعيّاً لا يؤثّر في المقام، وإذا حرم الجامع ـ ولو كان انتزاعيّاً ـ حرمت كلّ حصصه، ومنها الصلاة. وهذا الوجه أحسن الوجوه.

وعلى أيّ حال فقد عرفت بطلان مسلك التلازم بعدم لزوم اتّحاد المتلازمين في الحكم؛ إذ لم يثبت ذلك بوجدان ولا برهان.

وأمّا بيان مسلك المقدّميّة على هذا الأساس فبأن يقال: إنّه إذا وجبت الإزالة، فقد حرم ترك الإزالة؛ لأنّه الضدّ العامّ، وإذا حرم ترك الإزالة فقد حرمت الصلاة؛ لأنّ الصلاة علّة تامّة لترك الإزالة، والعلّة التامّة للحرام حرام على حدّ كون مقدّمة الواجب واجبة. أمّا الدليل على كون الصلاة علّة تامّة لترك الإزالة، فهو عبارة عن إثبات مقدّميّة ترك الصلاة لفعل الإزالة بأحد البيانات الثلاثة الماضية، فإذا ثبت


(1) أو كان المدّعى: أنّ مصبّ الملازمة بين حكم الشيء وحكم لازمه ليس هو مرحلة الجعل والإنشاء، بل يشمل مرحلة الحبّ والبغض أيضاً، وفي هذه المرحلة يستحيل أن لا يكون للصلاة أحد المبادئ الخمسة للأحكام الخمسة. نعم، ذكر اُستاذنا الشهيد(رحمه الله): أنّه إذا كان دليل مدّعي الملازمة في الحكم بين المتلازمين من سنخ دليل وجوب المقدّمة القائل: (لو لم تجب المقدّمة لجاز تركها، ولو جاز تركها لزم التكليف بغير المقدور، أو خروج الواجب المطلق عن الإطلاق)، أمكن أن يستظهر من ذكره للشرطيّة الاُولى وعدم اقتصاره على أن يقول: (لو لم تجب المقدّمة ـ أو لم يجب اللازم ـ لزم التكليف بغير المقدور، أو خروج الواجب المطلق عن الإطلاق) أنّه يرى أنّ المحذور إنّما يلزم من الجواز الذي هو حكم من الأحكام الخمسة، لا من مجرّد كون الشيء بحسب مبادئ الحكم غير واجب.

15

ذلك ثبت أنّ فعل الصلاة علّة تامّة لعدم الإزالة؛ لأنّ عدم أيّ جزء من أجزاء علّة الوجود بنفسه علّة تامّة للعدم.

وعلى أي حال فقد عرفت أنّ البيانات الماضية لإثبات مقدّميّة ترك أحد الضدّين للضدّ الآخر كلّها غير تامّة، أي: أنّه لا برهان على مقدّميّة عدم أحد الضدّين للضدّ الآخر.

 

الاستدلال على عدم مقدّميّة ترك أحد الضدّين للضدّ الآخر:

بقي الكلام فيما قد تقام من براهين على عدم مقدّميّة ترك أحد الضدّين للضدّ الآخر، فهناك عدّة براهين على ذلك:

البرهان الأوّل: يتأ لّف من أمرين:

الأمر الأوّل: أنّ مقتضي أحد الضدّين حينما يكون أقوى من مقتضي الآخر يكون مانعاً عن وجود الضدّ الآخر، وعن تأثير مقتضي الآخر في مقتضاه. ويمكن إثبات ذلك بأحد بيانين:

البيان الأوّل: أن يقال: إنّه إذا اجتمع مقتضيا الضدّين، وكانا متساويين في القوّة ـ وليس اجتماع مقتضيي الضدّين محالا، بل هو واقع خارجاً ـ فإذا اتّفق ذلك، فهل يوجد كلا الضدّين، أو يوجد أحدهما، أو لا يوجد شيء منهما؟

الأوّل باطل؛ للزوم اجتماع الضدّين، والثاني أيضاً باطل؛ للزوم الترجيح بلا مرجّح، وهو محال؛ لأنّه يساوق تحقّق المعلول بلا علّة؛ لأنّ ترجّح أحدهما على الآخر لا علّة له، فلو جاز ذلك لجاز أن يوجد أحدهما بلا علّة ابتداءً، فتعيّن الثالث، وهو: أنّه لا يوجد شيء من الضدّين.

وحينئذ نقول: إنّ عدم وجود كلّ واحد من هذين الضدّين هل هو مستند إلى عدم المقتضي، أو مستند إلى وجود المانع؟ الأوّل خلاف الواقع؛ لأنّنا فرضنا

16

وجود المقتضيين، فتعيّن الثاني، وهو استناده إلى وجود المانع، فنقول: هل المانع ـ الذي على أساسه لم يوجد هذا الضدّ ـ هو الضدّ الآخر، أو مقتضي الضدّ الآخر؟ لا سبيل إلى الأوّل؛ لأنّ الضدّ الآخر لم يوجد حتّى يمنع، وفعليّة منع الشيء عن شيء آخر فرع وجوده، فتعيّن الثاني، وهو: أنّ مقتضي أحد الضدّين المساوي لمقتضي الآخر مانع عن الآخر، فإذا كان المقتضي المساوي مانعاً عن وجود الضدّ، فالمقتضي الأقوى أيضاً مانع حتماً؛ إذ لا يحتمل كون المقتضي المساوي مانعاً، ولكن حينما تزداد قوّته يسقط عن المانعيّة، فتحصّل: أنّ المقتضي الأقوى لأحد الضدّين مانع عن الضدّ الآخر، وهو المطلوب.

البيان الثاني: أن يقال: إنّ المقتضي الأقوى لأحد الضدّين ـ وهو السواد مثلا ـ لا يخلو أمره في كيفيّة اقتضائه للضدّ من أحد فروض ثلاثة:

1 ـ أن يقتضي السواد اقتضاءً مطلقاً من ناحية وجود البياض وعدمه، أي: أنّه يقتضي تحقّق السواد حتّى على تقدير وجود البياض.

2 ـ أن يقتضي السواد اقتضاءً مقيّداً بعدم وجود البياض، أي: أنّه على تقدير وجود البياض لا اقتضاء له للسواد.

3 ـ أن يقتضي سواداً لا بياض معه، أي: أنّه يقتضي السواد وعدم البياض، فيكون عدم البياض داخلا في مقتضاه، فلا معنى لافتراض كون اقتضائه مطلقاً بالنسبة إليه أو مقيّداً، كما لا معنى لافتراض كون اقتضائه للسواد مطلقاً بالنسبة إلى وجود السواد أو مقيّداً. والثالث هو المطلوب؛ فإنّه يعني: أنّ المقتضي الأقوى لأحد الضدّين مانع عن الضدّ الآخر. والأوّل والثاني باطلان:

أمّا الأوّل، فلأنّ معناه: أنّ مقتضي السواد يقتضي سواد الأبيض بما هو أبيض؛ لأنّ اقتضاءه للسواد فرض مطلقاً من ناحية وجود البياض وعدمه، وهذا معناه:

17

اقتضاء المحال، ومقتضي المحال محال(1).

وأمّا الثاني، وهو أن يكون اقتضاؤه للسواد مقيّداً بعدم البياض، فهو أيضاً باطل لأحد أمرين:

الأوّل: دعوى وجدانيّة هذا البطلان؛ فإنّ الوجدان حاكم بأنّ مجرّد التضادّ والتمانع بين شيئين لا يقتضي تقيّد اقتضاء المقتضي لأحدهما بعدم الآخر، وإن كان قد يتّفق ـ كصدفة خارجيّة ـ أن يكون اقتضاء أحدهما مقيّداً بعدم الآخر، كما لو فرض أنّ زيداً وعمرواً لا يمكن دخولهما في غرفة معيّنة؛ لتضيّق الغرفة عن


(1) لا يخفى: أنّ الإطلاق المفترض لاقتضاء السواد من ناحية وجود البياض وعدمه ليس بمعنى جمع القيود، كي ينتج اقتضاء سواد الأبيض بما هو أبيض، وإنّما هو بمعنى اقتضاء ذات السواد على كلا تقديري وجود البياض وعدمه.

ويمكن تعديل عبارة تقريب الاستحالة بأن يقال: إذا كان اقتضاء المقتضي للسواد مطلقاً وشاملا لكلا التقديرين، كان معنى ذلك اقتضاءه للسواد حتّى على تقدير البياض، وهذا اقتضاء للمحال؛ لأنّ السواد على تقدير البياض محال، واقتضاء المحال محال.

إلاّ أنّ هذا البيان أيضاً لا يتمّ إلاّ بإرجاعه إلى ما يأتي من البرهان الثالث المشتمل على توضيح كون استحالة اجتماع الضدّين استحالةٌ ذاتيّة لا غيريّة، وإلاّ فبالإمكان أن يدّعي الخصم في المقام: أنّ اقتضاء المقتضي للسواد مطلق وشامل لكلا تقديري وجود البياض وعدمه، أمّا ما ترونه من استحالة السواد على تقدير البياض فهي استحالة غيريّة، على أساس مانعيّة الضدّ ـ وهو البياض ـ عن ضدّه وهو السواد، ولا استحالة في اقتضاء المقتضي المستحيل بالاستحالة الغيريّة.

وكأنّ هذا الإشكال هو المقصود بما سيأتي من اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في آخر بحث الضدّ الخاصّ من أنّ البرهان الأوّل لا يكفي للبرهنة على عدم مانعيّة السواد للبياض التوأم مع السواد.

18

قبول شخصين، وكان زيد بانياً على إيثار عمرو على نفسه لو أراد عمرو الدخول.

فإن قلت: إنّ دعوى هذا الوجدان ـ أعني: وجدان عدم كون اقتضاء المقتضي لأحد الضدّين مقيّداً بعدم الضدّ الآخر ـ أشبه شيء بأن يدّعى ابتداءً وجدانيّة أنّ أحد الضدّين لا يمنع عن وجود الضدّ الآخر، والذي معناه تكذيب الخصم ابتداءً بالوجدان.

قلت: إنّ عدم مانعيّة أحد الضدَّين عن ضدّه، أو عدم مقدّميّة ترك أحدهما للآخر وإن كان وجدانيّاً أيضاً ـ وفق وجداننا المعمّق ـ لكنّنا لا نريد أن نقتصر على مجرّد أن نقول: إنّ مدّعى الخصم باطل وجداناً، بل نريد أن نستشهد على هذا الأمر بوجدان آخر أوضح من هذا الوجدان، فإنّ وجدان عدم مانعيّة أحد الضدّين للآخر قد يغفل عنه الخصم؛ لوجود وجدان آخر موهِمٌ للمانعيّة، وهو وجدان التضادّ والتنافي، وعدم إمكان الجمع بينهما، ولكن مثل هذا الموهِم غير موجود بالنسبة إلى اقتضاء مقتضي أحد الضدّين مع الضدّ الآخر؛ إذ ليس بين اقتضاء مقتضي أحد الضدّين والضدّ الآخر تناف، وإنّما التنافي بين فعليّة تأثير ذاك الاقتضاء بإيجاده للضدّ والضدّ الآخر، فالوجدان الحاكم بعدم تقيّد اقتضاء مقتضي أحد الضدّين بعدم الضدّ الآخر غير مبتلى بوجدان آخر يوهم خلافه، فيكون أوضح من وجدان عدم مانعيّة أحد الضدّين للضدّ الآخر، وينبغي للخصم أيضاً أن يعترف به.

الثاني: أن يقال: إنّ المقتضي الأقوى لأحد الضدّين لو كان اقتضاؤه لذلك الضدّ مقيّداً بعدم الضدّ الآخر، إذن لما كانت أقوائيّته تشفع له في تقدّمه على مقتضي الضدّ الآخر في التأثير وإيجاده لمقتضاه؛ إذ لو أثّر المقتضي الآخر لارتفع موضوع هذا الاقتضاء مهما فرض قويّاً، مع أنّنا نشاهد ـ بحسب الخارج ـ أنّه حينما يتزاحم مقتضيا ضدّين في عالمنا هذا يغلب المقتضي الأقوى المقتضي الأضعف.

19

فالمتعيّن هو الفرض الثالث، وهو: أنّ المقتضي الأقوى لأحد الضدّين يكون اقتضاؤه مانعاً عن الضدّ الآخر، لا مطلقاً من ناحيته ولا مقيّداً بعدمه.

الأمر الثاني: أن يقال: إنّ الضدّ هل يمنع حين وجوده الضدّ الآخر عن الوجود، أو حين عدمه؟ طبعاً منعه حين عدمه غير معقول، فلابدّ أن يكون منعه حين وجوده، إلاّ أنّ هذا أيضاً غير معقول؛ إذ لا يعقل أن يوجد إلاّ عند وجود مقتض أقوى من مقتضي ضدّه؛ فإنّه لا يعقل أن يوجد بلا مقتض أو بمقتض مغلوب أو مساو لمقتضي الآخر كما هو واضح، وقد فرغنا في الأمر الأوّل عن أنّ المقتضي الأقوى مانع عن وجود الضدّ الآخر، إذن فهذا الضدّ إنّما يوجد في طول المانع عن الضدّ الآخر، فلا يعقل أن يكون هو بدوره مانعاً عن ذلك الضدّ، فإنّ ذلك الضدّ ممنوع بمقتضى هذا الضدّ بحسب الفرض.

فإن قلت: إنّ كون مقتضي هذا الضدّ الذي وجد مانعاً عن الضدّ الآخر ليس دليلا على أنّ هذا الضدّ ليس مانعاً عنه أيضاً؛ إذ من المحتمل كون هذا أيضاً مانعاً، فيكون من باب اجتماع مانعين على ممنوع واحد، سنخ اجتماع علّتين تامّتين على معلول واحد، فإنّ هذا ليس بمستحيل، غاية ما هناك أنّه تصبح حينئذ كلّ واحدة من العلّتين جزء المؤثّر.

قلت: قياس ذلك باجتماع مانعين عرضيّين على ممنوع واحد، أو علّتين تامّتين عرضيّتين على معلول واحد قياس مع الفارق.

وتوضيح ذلك: أنّ منع هذا الضدّ إنّما هو في طول وجوده كما هو واضح، ووجوده في طول أقوائيّة مقتضيه كما هو واضح أيضاً، فقد أصبح منعه في طول أقوائيّة مقتضيه، أو قل: في طول ضعف مقتضي ضدّه بالقياس إلى مقتضيه، وكون منعه عن ضدّه في طول ضعف مقتضي الضدّ عبارة اُخرى عن كون ممنوعيّة ضدّه به في طول ضعف مقتضيه، وهذا معناه: أنّ الممنوع بهذا الضدّ إنّما هو ضدّه المقيّد

20

بأن يكون مقتضيه ضعيفاً بما هو مقيّد بذلك، بينما الضدّ المقيّد بهذا القيد هو ممتنع بالغير، وليست فيه جهة إمكان حتّى تفرض لعدمه علّة اُخرى، فإنّ العلّة إنّما يعقل كونها علّة لشيء حينما ينسب ذلك الشيء إلى وجوده، فتكون نسبته إلى وجوده وإلى عدمه على حدّ سواء، فالعلّة تقرّبه نحو الوجود، أمّا إذا نسب ذلك الشيء إلى علّة اُخرى له، فذلك الشيء بما هو منسوب إلى علّة اُخرى له لم تبقَ فيه جهة إمكان وتساو بالنسبة للوجود والعدم حتّى تكون هذه علّة مقرّبة له نحو الوجود، وهذا بخلاف العلّتين التامّتين العرضيّتين، فإنّهما بمجموعهما تؤثّران في الشيء المُقاس إلى وجود نفسه، والذي تكون نسبته إلى وجوده وعدمه على حدّ سواء فتقرّبانه نحو الوجود(1).

بقي في المقام شيء، وهو: أنّ مقدّميّة عدم أحد الضدّين للضدّ الآخر تتصوّر بشكلين:

1 ـ أن يكون ذلك من باب تأثير الوجود في الوجود تأثيراً معاكساً، أي: من باب أنّ وجود أحد الضدّين مانع عن وجود الآخر، فيصبح ـ لا محالة ـ عدمه مقدّمة للضدّ الآخر.

2 ـ أن يكون ذلك من باب تأثير العدم في الوجود، بأن يكون عدم أحد


(1) وبكلمة اُخرى: إذا كانت إحدى العلّتين في طول الاُخرى، كان معنى فرض تأثير العلّة الثانية ـ ولو بعنوان جزء العلّة ـ الفراغ عن العلّة الاُولى؛ لأنّه لولاها لم تكن الثانية موجودة حتّى تؤثّر، ومع فرض الفراغ عن العلّة الاُولى يكون المعلول واجباً، ولم تبقَ فيه جهة إمكان حتّى تفترض العلّة الثانية مؤثّرة ولو بعنوان جزء العلّة، وهذا بخلاف العلّتين العرضيّتين، فإنّ فرض تأثير إحداهما لا يساوق فرض الفراغ عن الاُخرى.

وهذا التعبير أوسع من إبداء التضايف بين أقوائيّة المقتضي الأوّل وأضعفيّة المقتضي الثاني؛ لأنّه يشمل جميع موارد العلّتين الطوليّتين أو المانعين الطوليّين.

21

الضدّين جزءاً(1) من أجزاء المؤثّر في وجود الضدّ الآخر، بناءً على إنكار ما يقال: من أنّ تأثير العدم في الوجود مستحيل.

وهذا البرهان الذي قد أوضحناه متكفّل لإبطال الشقّ الأوّل كما هو واضح؛ حيث يقال: إنّ وجود الضدّ الذي وجد في طول ضعف مقتضي ضدّه لا يمكن أن يكون مانعاً عن ضدّه؛ لأنّ ضدّه ممنوع بما هو أسبق رتبة منه، بلا فرق في ذلك بين افتراض كون ممنوعيّة الضدّ بتأثير مقتضي ضدّه من باب تأثير الوجود في الوجود تأثيراً معاكساً، أو بكون عدم مقتضي ضدّه جزء المؤثّر أو شرطه في وجوده، فإنّه على أيّ حال قد امتنع الضدّ بما هو أسبق رتبة من ضدّه، فلا يمكن أن يمتنع به.

وأمّا الشقّ الثاني، وهو افتراض كون عدم أحد الضدّين جزء المؤثّر أو شرطاً، فيمكن إبطاله بغضّ النظر عمّا يأتي في ضمن برهان آخر: من دعوى استحالة تأثير العدم في الوجود، بأن يقال: إنّنا قد فرغنا عن أنّ مقتضي الضدّ الموجود كاف في التسبّب إلى عدم وجود الضدّ الآخر، وعليه نقول: إنّه تارةً يفرض: أنّ مقتضي الضدّ هو الذي أثّر في منع ضدّه، واُخرى يفرض: أنّ عدم مقتضي الضدّ هو المؤثّر أو الشرط في وجود ضدّه، فعدم تحقّق الضدّ عند وجود مقتضي الضدّ الآخر يكون من باب فقدانه لمؤثّره أو شرطه، لا من باب وجدان المانع:

أمّا الفرض الأوّل، فيستحيل أن يجتمع مع افتراض كون عدم الضدّ مؤثّراً أو شرط التأثير للضدّ الآخر؛ لأنّه إذا كان عدم الضدّ مؤثّراً أو شرطاً لضدّه، لم يعقل مانعيّة مقتضي ذلك الضدّ؛ لأنّ المانعيّة في طول تماميّة المقتضي والشرط، بينما هنا يكون هذا المانع الذي هو مقتض للضدّ بنفسه مفنياً للمقتضي أو الشرط؛ إذ هو مفن لعدم الضدّ الذي هو مقتض أو شرط لتحقّق ضدّه بحسب الفرض.


(1) ولو بمعنى الشرطيّة.

22

وأمّا الفرض الثاني، وهو أن يفرض: أنّ عدم مقتضي الضدّ هو جزء المؤثّر فيوجود ضدّه، لا أنّ مقتضيه هو المانع عنه، فهذا يمكن نفيه بحساب الاحتمالات؛ وذلك لأنّنا قد شاهدنا بحسب الخارج دائماً أنّه متى ما تمّ اقتضاء المقتضي لأحد الضدّين، بلا ابتلاء بأيّ مزاحم غير مقتضي ضدّه، وأصبح أقوى من مقتضي الآخر، أو مساوياً له، امتنع الضدّ الآخر، ومتى ما لم يكن كذلك لم يمتنع الضدّ الآخر من هذه الناحية، فإذا كان هذا مستنداً إلى اقتضائه للضدّ من باب امتناع اجتماع ذاك الضدّ مع هذا الضدّ ـ فما يكون مقتضياً لهذا الضدّ يكون قهراً مانعاً عن الضدّ الآخر بقدر اقتضائه لهذا الضدّ ـ لم يلزم منه تجمّع صدف كثيرة، وأمّا إذا كان مستنداً إلى أنّ عدم تماميّة اقتضاء هذا المقتضي جزء المؤثّر في وجود ذلك الضدّ، لزم من ذلك تجمّع صدف كثيرة؛ إذ متى ما ينعدم هذا الاقتضاء أو يبتلى بموانع عن التأثير، يبطل امتناع الضدّ الآخر، بينما هذا الانعدام له أقسام شتّى، فقد يكون انعداماً للجزء الفلانيّ من المقتضي، واُخرى انعداماً لجزئه الآخر، وثالثة انعداماً لجزئه الثالث، ورابعة ابتلاءً بالمانع الفلانيّ، وخامسة ابتلاءً بالمانع الآخر، وهكذا. فإذا كانت معاصرة هذه الأعدام جميعاً لزوال امتناع الضدّ ـ الآتي من قِبَل وجود مقتضي ضدّه ـ على أساس كون مقتضي الضدّ مانعاً قهريّاً عن الضدّ الآخر، لما بين الضدّين من تعاند في الوجود، كان ذلك نكتة واحدة مشتركة بين كلّ هذه الأعدام، مفسّرة لهذه التعاصرات على كثرتها في شتّى أنحاء العالم والأضداد بتفسير واحد، وأمّا إذا كانت على أساس تأثير نفس هذه الأعدام، فهذه صدف كثيرة مجتمعة بلا توصّل إلى نكتة مشتركة، وهذا منفيّ بحساب الاحتمالات(1).

 


(1) يمكن أن يورد على هذا البرهان الذي أفاده(رحمه الله) لإبطال اقتضاء عدم الضدّ للضدّ

23

البرهان الثاني: أنّ عدم أحد الضدّين لو كان مقدّمة للضدّ الآخر، فمقدّميّته له: إمّا تكون من باب تأثير العدم في الوجود، أو من باب تأثير الوجود في الوجود تأثيراً معاكساً كما مضى هذا التشقيق آنفاً. وكلا الشقّين باطل:

أمّا الشقّ الأوّل، فلوضوح استحالة تأثير العدم في الوجود، وبذلك يبرهن في الفلسفة على وجود الله، حيث إنّه لا يعقل افتراض أن يكون المؤثّر في وجود هذا



الآخر بأن يقال: إنّ ما مضى لإثبات كون مقتضي السواد مثلا مقتضياً لعدم البياض، بعد حمله ـ بما عرفته من حساب الاحتمالات، أو بوجدانيّة عدم تأثير العدم في الوجود ـ على أنّ مقتضي السواد مانع عن البياض، لا أنّ عدمه شرط أو مقتض له، لم يكن يثبت فعليّة المانعيّة التي لا تكون إلاّ مع تماميّة المقتضي والشرط، وإنّما كان يثبت قوّة المانعيّة، أي: اقتضاء المنع في نفسه بغضّ النظر عن أنّه لو لم يتمّ المقتضي لم تصل النوبة إلى المنع. وهذه القوّة ثابتة حتّى مع فقد المقتضي، كيف وقد يتّفق بلا إشكال أنّ مقتضي البياض مثلا غير موجود، فهل مقتضي السواد حينئذ يسقط عن اقتضاء عدم البياض نهائيّاً؟ ولو كان كذلك، قلنا مثلا: إنّ اقتضاءه للسواد هل هو مطلق من ناحية البياض، أو مقيّد بعدمه؟ وكلاهما باطل كما مضى، إذن فلا محيص عن أن يقال في مثل ذلك بالاقتضاء الشأنيّ لعدم البياض، والمانعيّة الشأنيّة للبياض بمعنى قوّة المنع. وإن شئت فقل: إنّ مقتضي السواد الأقوى من مقتضي البياض والمؤثّر فعلا إنّما يقتضي بالفعل سواداً لا بياض معه، لكي لا يلزم مثلا كون الاقتضاء بالقياس إلى البياض مطلقاً أو مقيّداً بالعدم، وهذا لا يعني اقتضاءه لعدم البياض، بمعنى منعه الفعليّ للبياض، بمعنى ضرورة تماميّة مقتضي البياض وشرائطه، إذن فأيّ مانع من افتراض: أنّ عدم السواد شرط، أو جزء المقتضي للبياض؟ فإنّ غاية ما يلزم من ذلك هو رفع اليد عن فعليّة منع مقتضي السواد عن البياض؛ لأنّ البياض منتف بانتفاء شرطه أو مقتضيه، فلا معنى للمانعيّة الفعليّة لمقتضي السواد عن البياض، لكن هذا لا ينافي المانعيّة الشأنيّة بمعنى قوّة المنع ذاتاً.

24

العالم عدم عالم آخر مثلا.

وأمّا الشقّ الثاني، وهو كون أحد الضدّين مانعاً عن ضدّه على حدّ تأثير الوجود في الوجود تأثيراً معاكساً، فلأنّه متى يمنع الضدّ عن ضدّه الآخر؟ هل حين عدمه، أو حين وجوده؟ أمّا حين عدمه، فهو غير معقول؛ إذ يلزم تأثير المعدوم في الموجود، وأمّا حين وجوده، فأيضاً غير معقول؛ لأنّه إذا فرض أنّ عدم أحد الضدّين مقدّمة للضدّ الآخر، إذن فوجود هذا الضدّ معناه الفراغ في المرتبة السابقة عن عدم الضدّ الآخر، إذن فما معنى دفع هذا الضدّ لذاك الضدّ وإعدامه إيّاه؟!(1).

البرهان الثالث: أنّ مقدّميّة عدم أحد الضدّين: إن فرضت بمعنى تأثير العدم في الوجود، فتأثير العدم في الوجود من المستحيلات كما هو واضح، وإن فرضت بمعنى منع الوجود عن الوجود، قلنا: إنّ وجود أحد الضدّين متى يمنع عن وجود الآخر؟ هل عند عدمه أو عند وجوده؟ أمّا عند عدمه، فيلزم تأثير المعدوم في الموجود والذي هو محال، وأمّا عند وجوده، فلا يعقل تأثيره في رفع وجود الآخر؛ لأنّ اجتماع الضدّين محال بالذات(2)، أي: أنّ ماهيّة الشيء بذاتها تضيق وتمتنع عن أن توجد عند وجود ضدّها، فلا يعقل أن يكون وجود ضدّها في هذا الحال مانعاً عن وجودها؛ لأنّ المستحيل بالذات لا يعقل أن يكون له مانع، كما لا يعقل أن يكون له مقتض؛ وذلك: إمّا بالبداهة، وإمّا ببيان(3): أنّ أجزاء العلّة


(1) وهذا البرهان يبطل حتّى المانعيّة الشأنيّة؛ إذ الشيء لا يعقل أن تكون له شأنيّة إيجاد ما فرغنا سابقاً عن وجوده، أي: شأنيّة تحصيل الحاصل.

(2) هذا البرهان أيضاً يبطل المانعيّة الشأنيّة، كما يبطل المانعيّة الفعليّة؛ لأنّ الممتنع بالذات لا مانع له ولو شأناً، وذلك لو تمسّكنا في ذلك بالبداهة.

(3) هذا البيان إنّما يبطل المانعيّة الفعليّة لا الشأنيّة، بخلاف فرض البداهة.

25

شغلها إخراج الماهيّة من عالم الإمكان إلى عالم الوجوب، فالماهيّة التي لا إمكان فيها، والتي تكون ممتنعة أو واجبة لا معنى لافتراض شيء له دخل في إخراجها من عالم الإمكان إلى وجوب الوجود، أو وجوب العدم.

يبقى الكلام في أنّه كيف عرفنا: أنّ اجتماع الضدّين مستحيل بالذات؟

فنقول: إنّ معرفتنا لذلك ترجع إلى إحدى دعاوى وجدانيّة لو أنّ أحداً لم يحسّ بها في وجدانه، لم يتمّ له هذا البرهان.

الاُولى: أن ندّعي ابتداءً وجدانيّة كون اجتماع الضدّين مستحيلا بالذات، وأنّ الماهيّة تضيق وتمتنع عن وجودها التوأم مع وجود ضدّها.

الثانية: أن ندّعي بالوجدان أنّ استحالة اجتماع الضدّين أبده وأوضح من استحالة وجود الشيء بلا علّة؛ ولذا وجد تيّارٌ فكريّ ينكر استحالة الثاني، ولا يجرأ على إنكار استحالة الأوّل.

نعم، لو تعقّلنا مانعيّة وجود عن وجود، بمعنى كونه خالقاً لفنائه وإعدامه، لا بمعنى مزاحمته لمقتضي وجوده، لم يتمّ هذا الشاهد؛ إذ بالإمكان أن يقال عندئذ: إنّ استحالة اجتماع الضدّين استحالة بالغير على أساس أنّ وجود أحد الضدّين مُفن ابتداءً للضدّ الآخر، وأوضحيّة استحالته من استحالة وجود الشيء بلا علّة تنشأ من أوضحيّة استحالة وجود الشيء مع فرض وجود مُفنيه من استحالة وجود الشيء من دون وجود موجد له.

الثالثة: أن ندّعي أنّنا نحسّ بالوجدان باستحالة اجتماع الضدّين ولو فرض الضدّان واجبين، في حين أنّه على تقدير وجوب الضدّ لا معنى لمانعيّة ضدّه عنه؛ لأنّ واجب الوجود لا يتصوّر له مانع.

البرهان الرابع: ما ذكره المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، وهو مؤتلف من مقدّمتين:

المقدّمة الاُولى: أنّ مانعيّة المانع إنّما تعقل في الرتبة المتأخّرة عن المقتضي

26

والشرط، أمّا قبلهما فلا معنى للمانعيّة؛ وذلك لأنّ المقتضي وظيفته إفاضة المعلول، والشرط وظيفته تحصيص المقتضي إلى حصّة كاملة الاقتضاء، والمانع وظيفته مزاحمة المقتضي ودفعه عن التأثير، فلو لم يوجد مقتض كامل الاقتضاء في نفسه، فالمانع يزاحم أيّ شيء؟! ويمنع أيّ شيء؟!

المقدّمة الثانية: أنّ منع أحد الضدّين للضدّ الآخر يعني افتراض وجود مقتضيي كلا الضدّين: أمّا وجود مقتضيه، فلأنّ منعه فرع وجوده، ووجوده فرع وجود مقتضيه، وأمّا وجود مقتضي ضدّه، فلما قلنا: من أنّ مانعيّة المانع إنّما هي في طول وجود المقتضي، ولكن وجود مقتضيي كلا الضدّين محال؛ لأنّ معنى ذلك وجود مقتض لاجتماع الضدّين، واجتماع الضدّين محال، ومقتضي المحال محال، إذن فالضدّ متى يمنع عن ضدّه؟ هل عند عدمه، أو عند وجوده؟ أمّا الأوّل، فغير معقول، وأمّا الثاني، فمعنى وجوده ومانعيّته: تكوّن مقتضي المحال، وهو محال، فمنع أحد الضدّين عن المحال غير معقول إطلاقاً(1).

وقد أورد السيّد الاُستاذ(رحمه الله) على ذلك بأنّ اجتماع مقتضيي كلا الضدّين ليس محالا، فإنّ ذلك لا يرجع إلى مقتضي اجتماع الضدّين الذي هو محال حتّى يقال: إنّ مقتضي المحال محال، وإنّما الواقع: أنّ هناك مقتضيين كلّ منهما يقتضي أمراً غير محال(2).


(1) راجع فوائد الاُصول، ج 1، ص 307 ـ 308 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم، وأجود التقريرات، ج 1، ص 255 ـ 256 بحسب الطبعة المشتملة على تعليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

(2) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 255 ـ 256، تحت الخطّ، بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، والمحاضرات للفيّاض، ج 3، ص 14 بحسب طبعة مطبعة النجف.

27

أقول: يمكن إصلاح برهان المحقّق النائينيّ(رحمه الله) من ناحية هذا الإشكال الذي أورده السيّد الاُستاذ دامت بركاته، وذلك بأن يقال: إنّ مقتضي أحد الضدّين: إمّا أن يقتضيه اقتضاءً مطلقاً من ناحية وجود الضدّ الآخر وعدمه، أو يقتضيه اقتضاءً مقيّداً بعدم الضدّ الآخر، أو أنّه بنفسه يقتضي عدم الضدّ الآخر.

والثالث هو الصحيح، وهو مختار المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، وقد جَعَل ذلك برهاناً آخر على استحالة مانعيّة أحد الضدّين للآخر، وهو أنّ مقتضي الضدّ مانع عن ضدّه، فلا مجال لمانعيّة الضدّ عنه(1). وهذا مرجعه إلى البرهان الأوّل الذي ذكرناه من دون الإلفات إلى مسألة الطوليّة، أي: كون الضدّ في طول مقتضيه، وقد عرفت أنّ هذه الطوليّة هي التي تكمّل البرهان، ولولاها لأمكن افتراض كون الضدّ أيضاً مانعاً من باب اجتماع مانعين على ممنوع واحد.

والخلاصة: أنّ المحقّق النائينيّ(رحمه الله)جعل الشقّ الثالث برهاناً آخر على المقصود. فلو تنزّل المحقّق النائينيّ(رحمه الله) عن برهانه الآخر ـ بتنزّله عن الشقّ الثالث ـ أمكنه أن يبرهن على استحالة المانعيّة بأن يقول ـ بعد فرض انحصار الأمر في الشقّين الأوّلين ـ: إنّ الضدّ متى يمنع عن ضدّه؟ هل عند عدمه؟ وهذا غير معقول، أو عند وجوده؟ وهذا أيضاً غير معقول؛ لأنّ هذا الضدّ الموجود هل يفرض منعه عن ضدّ ليس له مقتض، أو يفرض منعه عن ضدّ يكون اقتضاء مقتضيه مقيّداً بعدم الضدّ الآخر، أو يفرض منعه عن ضدّ يكون اقتضاء مقتضيه ثابتاً على الإطلاق؟

أمّا الأوّل، فهو خلف ما مضى: من أنّ المانعيّة إنّما تعقل بعد فرض وجود المقتضي.


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 257 ـ 258 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

28

وأمّا الثاني، فأيضاً هو خلف ما مضى: من كون المانعيّة في طول وجود المقتضي؛ إذ إنّ اقتضاء مقتضي الضدّ المعدوم مقيّد بعدم الضدّ الموجود، فعند وجود هذا الضدّ لا مقتضي لذاك الضدّ، فلا معنى للمانعيّة؛ لأنّ المانعيّة في طول وجود المقتضي.

وأمّا الثالث، فهو باطل؛ لأنّ اقتضاء مقتضي الضدّ إذا كان مطلقاً يشمل فرض وجود الضدّ الآخر، كان معنى ذلك أنّ ذاك المقتضي مقتض للمحال بإطلاق اقتضائه؛ لأنّ وجود هذا الضدّ في فرض وجود الضدّ الآخر محال.

والذي ينبغي أن يعلّق به على هذا البرهان ـ بعد إصلاحه بما عرفت ـ هو أن يقال: إنّ دعوى استحالة اجتماع مقتضي الضدّين لاستحالة مقتضي المحال تستبطن الاعتراف السابق بأنّ اجتماع الضدّين محال، وعندئذ نسأل: أنّ اجتماع الضدّين هل هو محال بالذات أو محال بالغير؟ فإن فرض كونه محالا بالغير، قلنا: لا استحالة في كون شيئاً مقتضياً لما هو المحال بالغير، وإنّما المستحيل هو اقتضاء المحال بالذات، وإن فرض كونه محالا بالذات فلا حاجة إلى هذا التطويل في المسافة، بأن يقال: إنّ المانعيّة إنّما هي في طول المقتضي، ومقتضي المحال محال، بل رأساً يقال: إنّ المانع عن المحال بالذات محال، فإنّه كما يكون مقتضي المحال بالذات محالا، كذلك المانع عنه محال بنفس نكتة استحالة المقتضي له، كما مضى بيانه في البرهان الثالث قبل صفحات.

البرهان الخامس: تلخّص من كلام السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ في مقام تفسير عبارة لصاحب الكفاية(رحمه الله) حيث جاءت في الكفاية عبارة(1) اختلف في


(1) عبارة صاحب الكفاية وردت في الجزء الأوّل، ص 206 ـ 207 بحسب الطبعة

29

تفسيرها المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) والسيّد الاُستاذ دامت بركاته، وكلّ من التفسيرين يصلح أن يكون برهاناً مستقلاًّ على عدم مقدّميّة ترك أحد الضدّين للضدّ الآخر، فنحن نغضّ النظر عن كونهما تفسيراً لكلام صاحب الكفاية، ونذكر كلّ واحد منهما كبرهان مستقلّ على المقصود، فهنا نذكر ما ذكره السيّد الاُستاذ، وهو: أنّه لو كان عدم أحد الضدّين مقدّمة للضدّ الآخر، إذن لكان عدم أحدهما في الرتبة السابقة على وجود الآخر، في حين أنّنا نبرهن على أنّ عدم أحد الضدّين يكون في رتبة الضدّ الآخر؛ وذلك لأنّ أحد الضدّين يستحيل أن يكون في مرتبة الضدّ الآخر؛ لأنّه كما يستحيل اجتماع الضدّين في زمان واحد كذلك يستحيل اجتماعهما في رتبة واحدة، فإذا لم يكن أحد الضدّين في رتبة ضدّه، إذن فعدمه يكون في رتبة ضدّه حتّى لا يلزم ارتفاع النقيضين(1).

وقد أورد السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ على هذا البرهان بأنّ التضادّ والتنافي إنّما هو من شؤون عالم الخارج، وليس من شؤون عالم الرُتَب، ولذا ليس من الوحدات المشروطة في اجتماع الضدّين وحدة الرتبة، فيستحيل أن يجتمع السواد مثلا مع البياض ولو فرض معلولا للبياض، مع أنّهما في فرض العلّيّة



المشتملة في حاشيتها على تعليقات المشكينيّ، والعبارة مايلي: «وذلك لأنّ المعاندة والمنافرة بين الشيئين لا تقتضي إلاّ عدم اجتماعهما في التحقّق، وحيث لا منافاة أصلا بين أحد العينين وما هو نقيض الآخر وبديله، بل بينهما كمال الملاءمة، كان أحد العينين مع نقيض الآخر وما هو بديله في مرتبة واحدة من دون أن يكون في البين ما يقتضي تقدّم أحدهما على الآخر...».

(1) راجع المحاضرات للشيخ الفيّاض، ج 3، ص 20 ـ 21 بحسب طبعة مطبعة النجف.

30

والمعلوليّة في رتبتين، لا في رتبة واحدة. هذا ما جاء في تقرير بحث السيّد الاُستاذ(1).

ولكن لا يمكننا المساعدة على هذا الردّ، ولا على أصل البرهان.

أمّا الردّ، فيرد عليه: أنّ عدم اشتراط وحدة الرتبة في استحالة اجتماع الضدّين غير مرتبط بمسألة استحالة اجتماع الضدّين في رتبة واحدة، فإنّ هنا مسألتين لا ينبغي خلط إحداهما بالاُخرى.

الاُولى: دعوى اشتراط وحدة الرتبة في استحالة اجتماع الضدّين، وهذا معناه تضييق دائرة الاستحالة، بدعوى: أنّ الضدّين يجتمعان في زمان واحد إذا كانا في رتبتين.

والثانية: دعوى توسعة دائرة الاستحالة بمعنى: أنّ مصبّ الاستحالة ليس هو عالم الخارج فحسب، بل عالم الرُتَب أيضاً مصبّ لاستحالة اجتماع الضدّين اللذين حفظت فيهما الوحدات المشترطة في المنطق، ومقصود المستدلّ هو الدعوى الثانية، والنقض باستحالة اجتماع السواد والبياض في زمان ومكان واحد ـ ولو في مرتبتين ـ إنّما هو نقض على الدعوى الاُولى.

يبقى: أنّ التضادّ والتنافي إنّما هو من شؤون عالم الخارج، وليس من شؤون عالم الرُتَب. وهذه الدعوى غير صحيحة، فالعلّة والمعلول مثلا يستحيل اجتماعهما في رتبة واحدة، ويوجد بينهما تناف وتضادّ راجع إلى شؤون عالم الرتب.

وأمّا أصل البرهان، فهو أيضاً غير صحيح. وتوضيح ذلك: أنّه إن قصد باستحالة اجتماع الضدّين في رتبة واحدة: استحالة كونهما معلولين لشيء واحد، فهذا


(1) راجع المصدر السابق، ص 25 ـ 26.

31

صحيح، ولكن عدم ثبوت أحد الضدّين في رتبة الآخر لا يعني ثبوت عدمه في رتبته بدعوى استحالة ارتفاع النقيضين؛ فإنّ نقيض ثبوت أحد الضدّين في رتبة الآخر إنّما هو عدم هذا الثبوت المقيّد بكونه في رتبة الآخر، لا عدمه المقيّد بذلك، وفرق كبير بين عدم المقيّد والعدم المقيّد.

وإن قصد باستحالة اجتماع الضدّين في رتبة واحدة: ضرورة كون أحدهما مقدّماً على الآخر، أو مؤخّراً عنه، بأن يكون أحدهما واقعاً في سلسلة علل الآخر أو معلولاته، فهو باطل؛ فإنّ صيرورة أحد الضدّين علّة للآخر محال، وليس عدم تقدّم أحدهما على الآخر أو تأخّره عنه يعني كونهما في رتبة واحدة بالمعنى الذي يكون ظرفاً تحليليّاً يستحيل اجتماع الضدّين فيه، غاية ما هناك أن يُسمّى كونهما في سلسلتين مختلفتين بأنّهما في رتبة واحدة، ولكن مجرّد التسمية لا يوجب الاستحالة.

البرهان السادس: برهان الدور وللدور. في المقام عدّة تقريبات:

التقريب الأوّل: أن يفرض: أنّ القائل بمقدّميّة ترك أحد الضدّين يدّعي مانعيّة أحد الضدّين للآخر، فيكون عدم الضدّ المانع مقدّمة للشيء، فيقال: إنّ هذه المانعيّة تستبطن الدور؛ وذلك لأنّ المانعيّة ثابتة من الطرفين، فالسواد مانع عن البياض، والبياض أيضاً مانع عن السواد، وكلتا المانعيّتين داخلتان في المدلول المطابقيّ لمدّعى الخصم، ويلزم منهما الدور؛ لأنّ السواد إنّما يمنع عن البياض حال وجوده، بينما فرض وجوده يستبطن سابقاً فرض عدم البياض؛ لمانعيّة البياض عنه، فما فرض سابقاً على السواد عدمه، كيف يفرض أنّ السواد يمنع عنه ويعدمه؟!

وهذا بيان لاستلزام المدلول المطابقيّ لمدّعى الخصم للدور، بلا حاجة إلى ضمّ مقدّمة اُخرى لازمة لمدّعى الخصم.

وهذا البيان إنّما يبطل دعوى المانعيّة، أمّا لو ادّعى الخصم: أنّ عدم أحد

32

الضدّين هو جزء المؤثّر لوجود الضدّ الآخر، فهذه الدعوى لا تستلزم دوراً ما لم تضمّ إليها مقدّمة اُخرى تدّعى كونها لازمة لكلام الخصم؛ لأنّه على هذا الفرض يكون الضدّ بعدمه مؤثّراً في الوجود، وليس بوجوده مؤثراً في المنع حتّى يقال: إنّ وجوده كيف يمنع ما فرض عدمه قبل فرض هذا الوجود. وهذا التقريب ليس هو التقريب المعروف للدور(1) في المقام، وإنّما هو عبارة عن الشقّ الثاني من برهاننا الثاني الذي أتممناه بشقّه الأوّل، وهو دعوى استحالة تأثير العدم في الوجود.

التقريب الثاني: أن يقال: إنّ القائل بمقدّميّة ترك الضدّ يقول بالمدلول المطابقيّ لمدّعاه: إنّ عدم الضدّ مكمّل لقابليّة المحلّ للضدّ الآخر، فعدم البياض مثلا مكمّل لقابليّة المحلّ للسواد، فيكون مقدّمة للسواد، ويضاف إلى هذه الدعوى مقدّمة اُخرى تفرض أنّها لازمة لهذه الدعوى، وهي: أنّ وجود الضدّ أيضاً مكمّل لقابليّة المحلّ لعدم الضدّ الآخر، فيكون عدم البياض مقدّمة للسواد، والسواد مقدّمة لعدم البياض، وهذا دور.

وأوضح ما يورد على هذا: أنّه لا دليل على الملازمة بين ما يدّعيه الخصم من مكمّليّة عدم الضدّ لقابليّة المحلّ للضدّ الآخر، وما فرض لازماً لدعواه من مكمّليّة وجود الضدّ لقابليّة المحلّ لعدم الضدّ الآخر.

التقريب الثالث: أن يقال: إنّ الخصم يدّعي: أنّ عدم الضدّ جزء العلّة لوجود الضدّ الآخر، سواء كان ذلك على أساس مؤثّريّة العدم في الوجود، أو على أساس مانعيّة الوجود عن الوجود، وتضاف إلى هذه الدعوى مقدّمة اُخرى لازمة لها،


(1) لا يخفى: أنّ الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) في تعليقته على نهاية الدراية جعل هذا التقريب هو التقريب المعروف للدور. راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 184، تحت الخطّ، بحسب طبعة مؤسّسة آل البيت.

33

وهي أنّ وجود أحد الضدّين علّة لعدم الآخر. والبرهان على الملازمة هي القاعدة المعروفة القائلة: إنّ نقيض العلّة علّة للنقيض، فإذا ضمّت دعوى الخصم إلى هذا اللازم، لزم الدور؛ إذ معنى ذلك أنّ عدم أحد الضدّين علّة للضدّ الآخر، والضدّ الآخر أيضاً علّة لعدم ذاك الضدّ.

وقد اُورد على هذا التقريب بإيرادين:

الإيراد الأوّل: ما نقل عن المحقّق الخونساريّ(رحمه الله)(1)، وهو مؤتلف من مقدّمتين:

1 ـ إنّ منع المانع إنّما يكون بعد فرض وجود المقتضي. وهذا عين المقدّمة الاُولى من برهان المحقّق النائينيّ(رحمه الله) على عدم المقدّميّة.

2 ـ إنّه عند وجود الضدّ يستحيل وجود مقتضي ضدّه. والبرهان على ذلك قد نقل في الكفاية بشكل، وفي تقريرات المحقّق النائينيّ(رحمه الله) بشكل آخر، فالمذكور في تقرير المحقّق النائينيّ(رحمه الله)البرهنة عليه بأنّ اجتماع مقتضيي الضدّين محال؛ لأنّه يقتضي اجتماع الضدّين الذي هو محال، ومقتضي المحال محال(2). وهذا عين المقدّمة الثانية من مقدّمتي برهان المحقّق النائينيّ(رحمه الله)، فما جعله المحقّق النائينيّ(رحمه الله)برهاناً على عدم المقدّميّة قد جعل هنا دفاعاً عن المقدّميّة بإبطال الدور، بدعوى: أنّ هذا يبطل فعليّة المانعيّة، فيصبح وجود الضدّ غير مؤثّر في نفي ضدّه، ولكن مع ذلك يكون الضدّ متوقّفاً على عدم ضدّه لمانعيّته الشأنيّة، فقد أمكن القول بالمقدّميّة من دون لزوم دور.

والمذكور في الكفاية هو: أنّه لعلّ وجود مقتضي الضدّ محال؛ لأجل انتهاء عدم


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 257 بحسب الطبعة المشتملة على تعليقات السيّد الخوئيّ(رحمه الله)، وفوائد الاُصول، ج 1، ص 308 ـ 310 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

(2) المصدر السابق.