711

في هذه الليلة، ونتيجة ذلك أن يكون الشهر القمريّ الشرعي الأول مكوّناً من ثمانية وعشرين يوماً؛ لأنّه تأخّر عن الشهر القمريّ الطبيعي الناقص يوماً وانتهى بنهايته.

والجواب: أنّ في حالة من هذا القبيل تعتبر بداية الشهر القمريّ الشرعي الأول من ليلة السبت على الرغم من عدم رؤية الهلال؛ لكي لا ينقص الشهر الشرعي عن تسعة وعشرين يوماً(1).

وبهذا أمكن القول: إنّ الشهر القمريّ الشرعي يبدأ في الليلة التي يمكن أن يُرى في غروبها الهلال لأوّل مرّة بعد خروجه من المَحاق، أو في الليلة التي لم يُرَ فيها الهلال كذلك ولكن رُئي هلال الشهر اللاحق في ليلة الثلاثين من تلك الليلة(2).

(65) وإمكان الرؤية هو المقياس، لا الرؤية نفسها، فقد لا تتحقّق الرؤية؛ لعدم ممارسة الاستهلال، أو لوجود غيم ونحو ذلك، غير أنّ الهلال موجود بنحو يمكن رؤيته لولا هذه الظروف الطارئة، فيبدأ الشهر الشرعي بذلك.

وبكلمة: إنّ وجود حاجب يحول دون الرؤية ـ كالغيم والضباب ـ لا يضرّ بالمقياس؛ لأنّ المقياس إمكان الرؤية في حالة عدم وجود حاجب من هذا القبيل.

 


(1) هذه الظاهرة كانت فيما سبق نتيجة عدم تسلّح العيون، فهذا الحكم يؤيّد ما قلناه من كفاية الرؤية بالعين المسلّحة.
(2) وكذلك في الليلة التي لم يُرَ فيها الهلال كذلك ولكن رُئي هلال الشهر الذي بعد اللاحق بعد مضي (57) يوماً مع افتراض الشهر اللاحق (29) يوماً، وهكذا، فمثلا إذا ثبت أنّ رجب ثلاثون يوماً بموجب إكمال العدّة، ثمّ ثبت أنّ شعبان (29) يوماً، ثمّ رُئي الهلال بعد مضي (28) يوماً من رمضان فلابدّ أن نأخذ يوماً من شعبان فيقع (28) يوماً، فنأخذ له يوماً من رجب فيثبت أنّه كان ناقصاً.(منه (رحمه الله)).
712

ولا وزن للرؤية المجهرية وبالأدوات والوسائل العلمية المكبّرة(1)، وإنّما المقياس إمكان الرؤية بالعين الاعتيادية المجرّدة، وتلك الوسائل العلمية يحسن استخدامها كعامل مساعد على الرؤية المجرّدة وممهّد لتركيزها.

(66) وقد تختلف البلاد في رؤية الهلال، فيرى في بلد ولا يُرى في بلد آخر، فما هو الحكم الشرعي ؟

والجواب: أنّ هذا الاختلاف يشتمل على حالتين:

الاُولى: أن يختلف البَلَدانِ لسبب طارئ، كوجود غيم أو ضباب ونحو ذلك، وفي هذه الحالة لا شكّ في أنّ الرؤية في أحد البلدين تكفي بالنسبة إلى البلد الآخر؛ لأنّ المقياس ـ كما تقدم ـ هو إمكان الرؤية، لا الرؤية نفسها، وإمكان الرؤية هكذا ثابت في البلدين معاً؛ ولا يضرّ به وجود حاجب في أحد البلدين يمنع عن الرؤية فعلا، كغيم ونحوه، كما تقدم.

الثانية: أن يختلف البَلَدانِ اختلافاً أساسياً؛ لتغايرهما في خطوط الطول، أو تغايرهما في خطوط العرض على نحو يجعل الرؤية في أحدهما ممكنة، وفي الآخر غير ممكنة بذاتها، وحتى بدون غيم وضباب، وذلك يمكن افتراضه في صورتين:

إحداهما: أن يكون هذا التفاوت بسبب اختلاف البلدين في خطوط الطول؛ على نحو يكون الغروب في أحد البلدين قبل الغروب في البلد الآخر بمدّة طويلة.

وبيان ذلك: أنّنا عرفنا سابقاً أنّ القمر بعد خروجه من المَحاق ومواجهة جزء من نصفه النَيّر للأرض يظلّ هذا الجزء النيّر يزداد، وكلّما ابتعد عن المحاق اتّسع وازداد.

ونُضيف إلى ذلك: أنّ الليلة ـ أيّ ليلة ـ تسير تدريجياً بحكم كروية الأرض



(1) قلنا: لا يبعد كفاية إمكانيّة الرؤية بالعين المسلّحة.

713

من المشرق إلى الغرب، فتغرب الشمس في بلد بعد غروبها في بلد آخر بدقائق أو ساعات حسب موقع البلدين في خطوط الطول، والغروب في كلّ خطٍّ يسبق الغروب في الخطّ الواقع في غربه، ويتأخّر عن الغروب في الخطّ الواقع في شرقه، فقد تغرب الشمس في بلد ـ كالعراق مثلا ـ ويكون القمر قد خرج من المحاق، ولكنّ الهلال لا يمكن رؤيته؛ لضآلته مثلا، غير أنّه يصبح بعد ساعات ممكن الرؤية؛ لأنّ الجزء النيّر من القمر يزداد كلّما بعد عن المحاق، فحين تغرب الشمس في بلد يقع في غرب العراق بعد ساعات عديدة يكون بالإمكان رؤية الهلال.

والصورة الاُخرى التي يكون الهلال بموجبها ممكن الرؤية في أحد البلدين دون الآخر: أن نفترض البلدين واقعين على خطّ طول واحد، بمعنى أنّ الغروب فيهما يحدث في وقت واحد ولكنّهما مختلفان في خطوط العرض، فأحدهما أبعد عن الآخر عن خطّ الاستواء، ونحن نعلم أنّ طول النهار وقصره يتأ ثّر بخطوط العرض، فالنهار الواحد والليل الواحد يكون في بعض المناطق أطول منه في بعضها تبعاً لما تقع عليه من خطوط العرض، ويختلف بسبب ذلك أيضاً ـ في الغالب ـ طول مكث الهلال في تلك المناطق، إذ يمكث في بعضها أطول ممّا يمكث في بعضها الآخر، فإذا افترضنا أنّ مكثه في أحد هذين البلدين كان قصيراً جدّاً على نحو لا يمكن رؤيته، ومكثه في البلد الآخر كان طويلا نسبيّاً نتج عن ذلك اختلاف البلدين في إمكان الرؤية.

وقد يتميّز بلد عن بلد آخر في إمكان الرؤية على أساس كلا الاعتبارين السابقين، بأن نفترض أنّه واقع في خط طول غربيّ بالنسبة إلى البلد الآخر، وواقع أيضاً على خطّ عرض آخر يُتيح للهلال مكثاً أطول.

وهكذا نلاحظ أنّ البلاد قد تختلف في إمكان الرؤية وعدم إمكانها، فهل

714

يكون الشهر القمريّ في كلّ منطقة من الأرض مرتبطاً بإمكان الرؤية فيها بالذات، فيكون لكلّ اُفق شهره القمريّ الخاصّ، فيبدأ في هذا الاُفق الغربي في ليلة متقدّمة وفي اُفق شرقيّ في ليلة متأخّرة، أو أنّ الشهر القمريّ له بداية واحدة بالنسبة إلى الجميع، فاذا رُئي الهلال في جزء من العالم كفى ذلك للآخرين ؟

وبكلمة اُخرى: هل حلول الشهر القمريّ الشرعي أمر نسبي يختلف فيه اُفق عن اُفق فيكون من قبيل طلوع الشمس، فكما أنّ الشمس قد تطلع في سماء بغدادَ ولا تطلع في سماء دمشق، فيكون الطلوع بالنسبة إلى بغداد ثابتاً والطلوع بالنسبة إلى دمشق غير متحقّق كذلك بداية الشهر القمريّ الشرعي، أو أنّ حلول الشهر القمريّ الشرعي أمر مطلق وظاهرة كونية مستقلّة لا يمكن أن يختلف باختلاف البلاد ؟

وتوجد لدى الجواب على هذا السؤال في مجال البحث الفقهي نظرية تؤكّد على الافتراض الثاني، وتقول: بأنّ حلول الشهر لا يمكن أن يكون نسبياً وأن يكون لكلّ منطقة شهرها القمري الخاصّ، وأنّ من الخطأ قياس ذلك على نسبيّة الطلوع التي تجعل لكلّ منطقة طلوعها الخاصّ؛ وذلك لأنّ طلوع الشمس عبارة عن مواجهة هذا الجزء من الأرض أو ذلك للشمس، ولمّا كانت الشمس تواجه أجزاء الأرض بالتدريج بحكم كرويتها وحركتها ـ أي الأرض ـ حول نفسها فمن الطبيعي أن يكون الطلوع نسبياً، فتطلع الشمس على هذا الجزء من الأرض قبل ذاك.

وأمّا بداية الشهر القمريّ فهي بخروج القمر من المحاق، أي ابتدائه بالتحرّك بعد أن يتوسّط بين الشمس والأرض، وهذه ظاهرة كونية محدّدة تعبّر عن موقع جرم القمر من جرمَي الشمس والأرض، ولا تتأ ثّر بهذا الجزء من الأرض أو ذاك، فلا معنى لافتراض النسبية هنا وللقول بأنّ الشهر يبدأ بالنسبة إلى هذا الجزء من

715

الأرض في ليلة السبت وبالنسبة إلى ذلك الجزء في ليلة الأحد.

وهذه النظرية ليست صحيحةً من الناحية المنهجية؛ لأنّها تقوم على أساس عدم التمييز بين الشهر القمريّ الطبيعي والشهر القمريّ الشرعي، فإنّ الشهر القمريّ الطبيعي يبدأ بخروج القمر من المَحاق، ولا يتأ ثّر بأيّ عامل آخر، ولمّا كان خروج القمر من المَحاق قد يؤخذ كظاهرة كونية محدّدة لا تتأ ثّر بهذا الموقع أو ذاك، فلا معنى حينئذ لافتراض النسبية فيه(1).

وأمّا الشهر القمريّ الشرعي فبدايته تتوقّف على مجموع عاملين: أحدهما كوني، وهو الخروج من المحاق. والآخر أن يكون الجزء النيّر المواجه للأرض ممكن الرؤية، وإمكان الرؤية يمكن أن نأخذه كأمر نسبيّ يتأ ثّر باختلاف المواقع في الأرض، ويمكن أن نأخذه كأمر مطلق محدّد لا يتأ ثّر بذلك؛ وذلك لأنّنا إذا قصدنا بإمكان الرؤية إمكان رؤية الإنسان في هذا الجزء من الأرض، وفي ذاك كان أمراً نسبياً وترتّب على ذلك أنّ الشهر القمري الشرعي يبدأ بالنسبة إلى كلّ جزء من الأرض إذا كانت رؤية هلاله ممكنةً في ذلك الجزء من الأرض فقد يبدأ بالنسبة إلى جزء دون جزء.

 


(1) وذلك إذا فسّرنا المَحاق بأنّه عبارة عن انطباق مركز القمر على الخطّ الواصل بين مركز الأرض ومركز الشمس على أساس أنّ هذا الانطباق هو الذي يحقّق غيبة القمر عن كلّ أهل الأرض؛ نظراً لأنّ حجم الأرض الصغير لا يُتيح في هذه الحالة حتى لمن كان في أقصى الأرض أن يواجه شيئاً من وجهه المضيء، فإذا كان المَحاق هو الانطباق المذكور صحّ ما يقال من أنّه ليس نسبياً.
وأمّا إذا فسّرنا المَحاق بأنّه مواجهة الوجه المظلم بتمامه لمنطقة ما على الأرض فهذا أمر نسبي.(منه (رحمه الله)).
716

وإذا قصدنا بإمكان الرؤية إمكان الرؤية ولو في نقطة واحدة من العالم فمهما رُئي في نقطة بدأ الشهر الشرعي بالنسبة إلى كلّ النقاط كان أمراً مطلقاً لا يختلف باختلاف المواقع على الأرض.

وهكذا يتّضح أنّ الشهر القمريّ الشرعي لمّا كان مرتبطاً ـ إضافةً إلى الخروج من المحَاق ـ بإمكان الرؤية وكانت الرؤية ممكنةً أحياناً في بعض المواضع دون بعض كان من المعقول أن تكون بداية الشهر القمريّ الشرعي نسبية.

فالمنهج الصحيح للتعرّف على أنّ بداية الشهر القمريّ هل هي نسبية أو لا؟ الرجوع إلى الشريعة نفسها التي ربطت شهرها الشرعي بإمكان الرؤية؛ لنرى أنّها هل ربطت الشهر في كلّ منطقة بإمكان الرؤية في تلك المنطقة، أو ربطت الشهر في كلّ المناطق بإمكان الرؤية في أيّ موضع كان؟

والأقرب على أساس ما نفهمه من الأدلّة الشرعية هو الثاني، وعليه فاذا رُئي الهلال في بلد ثبت الشهر في سائر البلاد (1).

كيف يثبت أوّل الشهر؟

اتّضح أنّ بداية الشهر القمريّ الشرعي تتوقّف على أمرين: خروج القمر من المحاق، وكون الهلال ممكن الرؤية بالعين الاعتيادية المجرّدة(2) في حالة


(1) هذا الكلام صحيح لو كان بمعنى أنّ الليل الذي ظهر فيه الهلال في بلد أينما حلّ ثبت أوّل الشهر في ذاك المحلّ، والنتيجة أنّه متى ما رُئي الهلال في بلد ثبت أوّل الشهر في ذاك البلد وفي كلّ بلد آخر يشترك مع هذا البلد في الليل ولو يسيراً، أمّا البلد الذي لا يصل إليه الليل إلى أن ينتهي ليل البلد الأوّل فيتأخّر أوّل الشهر عندهم لا محالة.
(2) مضى منّا أنّه لا يبعد كفاية إمكان الرؤية بالعين المسلّحة.
717

عدم وجود حاجب، والآن نريد أن نوضّح كيف يمكن إثبات هذين الأمرينوإحرازهما بطريقة صحيحة شرعاً ؟

إنّ إثبات ذلك يتمّ بأحد الطرق التالية:

(67) الأول: الرؤية المباشرة بالعين الاعتيادية المجرّدة(1) فعلا؛ لأنّ رؤية الهلال فعلا تثبت للرائي أنّ القمر قد خرج من المَحاق وأنّ بالإمكان رؤيته، وإلّا لَما رآه فعلا.

(68) الثاني: شهادة الآخرين برؤيتهم، فإذا لم يكن الشخص قد رأى الهلال مباشرةً ولكن شهد الآخرون برؤيتهم له كفاه ذلك إذا توفّرت في هذه الشهادة أحد الأمرين التاليين:

أوّلا: كثرة العدد، وتنوّع الشهود على نحو يحصل التواتر أو الشياع المفيد للعلم أو الاطمئنان، فإذا كثر العدد ولم يحصل العلم أو الاطمئنان من أجل منشاًمعقول لم يثبت الهلال، فالكثرة العددية عامل مساعد على حصول اليقين، ولكنّها ليست كلّ شيء في الحساب، بل ينبغي للفَطِن أن يدخل في الحساب كلّ ما يلقي ضوءً على مدى صدق الشهود أو كذبهم أو خطأهم، ونذكر الأمثلة التالية على سبيل التوضيح:

1 ـ إذا اُحصي أربعون شاهداً بالهلال من بلدة واحدة فقد يكون تواجدهم جميعاً في بلدة واحدة يعزّز شهادتهم، بينما إذا اُحصي أربعون شاهداً من أربعين بلدة استهلّ أبناؤها فشهد واحد من كلّ بلدة لم يكن لهم نفس تلك الدرجة من الإثبات، والسبب في ذلك: أنّ تواجد أربعين شخصاً على خطاً في مجموعة المستهلِّين من بلدة واحدة أمر بعيد نسبياً، بينما تواجد شخص واحد على خطاً في مجموعة المستهلّين من كلّ بلد أقرب احتمالا.

2 ـ وفي نفس الحالة السابقة قد يصبح الأمر على العكس؛ وذلك فيما إذا كانت تلك البلدة التي شهد من أهاليها أربعون شخصاً واقعةً تحت تأثير ظروف


(1) مضى تعليقنا على ذلك.
718

عاطفية غير موجودة في المدن الاُخرى.

3 ـ وكما ينبغي أن يلحظ الشهود بالإثبات كذلك يلحظ نوع وعدد المستهلّين الذين استهلّوا وعجزوا عن رؤية الهلال، فكلّما كان عدد هؤلاء الذين عجزوا عن الرؤية كبيراً جدّاً ومتواجداً في آفاق نقية صالحة للرؤية وقريبة من مواضع شهادات الشهود شكّل ذلك عاملا سلبياً يدخل في الحساب.

4 ـ ونوعية الشهود لها أثر كبير إيجاباً وسلباً على تقرير النتيجة، ففرق بين أربعين شاهداً يعرف مسبقاً أنّهم لا يتورّعون عن الكذب وأربعين شاهداً مجهولي الحال وأربعين شاهداً يعلم بوثاقتهم بدرجة واُخرى.

5 ـ قد تتّحد مجموعة من الشهادات في المكان؛ بأن يقف عدد المستهلّين في مكان مشرف على الاُفق، فيرى أحدهم الهلال، ثمّ يهدي الآخر إلى موضعه فيراه، ثمّ يهتدي الثالث إليه، وهكذا، وفي مثل ذلك تتعزّز هذه الشهادات؛ لأنّ وقوعها كلّها فريسةَ خطاً واحد في نقطة معيّنة من الاُفق بعيدٌ جدّاً، وقدرة المشاهد الأول على إراءة ما رآه تعزّز الثقة بشهادته.

6 ـ التطابق العفويّ في النقاط التفصيلية بين الشهود؛ بأن يشهد عدد من الأشخاص المتفرّقين من بلدة واحدة ويعطي كلّ منهم نقاطاً تطابق النقاط التي يعطيها الآخر، من قبيل أن يتّفقوا على زمان رؤية الهلال وزمان غروبه عن أعينهم، فإنّ ذلك عامل مساعد على حصول اليقين.

7 ـ ينبغي أن يلحظ أيضاً مدى ما يمكن استفادته من استخدام الوسائل العلمية الحديثة من الأدوات المقرّبة والرصد المركز، فإنّ رؤية الهلال بهذه الوسائل وإن لم تكن كافيةً(1) لإثبات الشهر ولكن إذا افترضنا أنّ التطلّع إلى الاُفق رصدياً لم يُتِح رؤية الهلال فهذا عامل سلبي يزيل من نفس الإنسان الوثوق


(1) مضى تعليقنا على ذلك.
719

بالشهادات ولو كثرت، إذ كيف يرى الناس بعيونهم المجرّدة ما عجز الرصد العلمي عن رؤيته ؟ !

8 ـ بل يدخل في الحساب أيضاً التنبّؤ العلمي المسبق بوقت خروج القمر من المحاق، فإنّه إذا حدّد وقتاً وادّعى الشهود الرؤية قبل ذلك الوقت كان التحديد العلمي المسبق عاملا سلبياً يضعف من تلك الشهادات، فإنّ احتمال الخطأ في حسابات النبوءة العلمية وإن كان موجوداً ولكنّه قد لا يكون أبعد أحياناً عن احتمال الخطأ في مجموع تلك الشهادات، أو على الأقلّ لا يسمح بسرعة حصول اليقين بصواب الشهود في شهادتهم.

(69) ثانياً: تواجد البينة في الشهود.

والبينة على الهلال تكتمل إذا توفّر ما يلي:

1 ـ أن يشهد شاهدان رجلان عدلان برؤية الهلال، فلا تكفي شهادة الرجل الواحد، ولا النساء وإن كُنّ عادلات.

2 ـ أن لا يقع اختلاف بين الشاهدَين في شهادتهما على نحو يعني أنّ ما يفترض أحد الشاهدين أنّه رآه غير ما رآه الآخر.

3 ـ أن لا تتجمّع قرائن قوية تدلّ على كذب البينة أو وقوعها في خطأ، ومن هذه القرائن: أن ينفرد اثنانِ بالشهادة من بين جمع كبير من المستهلّين لم يستطيعوا أن يروه مع اتّجاههم جميعاً إلى نفس النقطة التي اتّجه إليها الشاهدان في الاُفق، وتقاربهم في القدرة البصرية، ونقاء الاُفق وصلاحيته العامّة للرؤية، وهذا معنى قولهم (عليهم السلام) « إذا رآه واحد رآه مائة »(1).

(70) الثالث: مضي ثلاثين يوماً من هلال الشهر السابق؛ لأنّ الشهر القمريّ الشرعي لا يكون أكثر من ثلاثين يوماً، فإذا مضى ثلاثون يوماً ولم يُرَ الهلال


(1) وسائل الشيعة 7: 209، الباب 11 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 10.
720

الجديد اعتبر الهلال موجوداً، ويبدأ بذلك شهر قمريّ جديد.

(71) الرابع: حكم الحاكم الشرعي فإنّه نافذ وواجب الاتّباع، حتى على من لم يطّلع بصورة مباشرة على وجاهة الأدلّة التي استند إليها في حكمه؛ وذلك ضمن التفصيل التالي:

أ ـ أن لا تكون لدى المكلّف أيّ فكرة عن صواب الحكم الذي أصدرهالحاكم الشرعي وخطئه، وفي هذه الحالة يجب عليه الاتّباع.

ب ـ أن تكون لدى المكلّف فكرة تبعث في نفسه الظنّ بأنّ الحاكم على خطاً في موقفه على الرغم من اجتهاده وعدالته، وفي هذه الحالة يجب عليه الاتّباع أيضاً.

ج ـ أن تكون لدى المكلّف فكرة تأكّد على أساسها من عدم كفاية الأدلّة التي استند إليها الحاكم الشرعي، كما إذا كان قد استند إلى شهود وثق بعدالتهم، ولكنّ المكلّف يعرف أنّهم ليسوا عدولا، فهو يرى أن شهادتهم غير كافية ما داموا غير عدول، ولكنّه لا يعلم بأنّهم قد كذبوا في شهادتهم هذه بالذات، وفي هذه الحالة يجب عليه الاتّباع(1) أيضاً ما دام لا يعلم بأنّ الشهر لم يبدأ فعلا على الرغم من علمه بفسق الشهود.

د ـ أن يعلم المكلّف بأنّ الشهر لم يبدأ فعلا، وأنّ الحاكم الشرعي وقع فريسةَ خطاً فأثبت الشهر قبل وقته المحدود، وفي هذه الحالة لا يجب الاتّباع، بل يعمل المكلّف على أساس علمه.

ونريد بحكم الحاكم الشرعي: اتّخاذه قراراً بثبوت الشهر، أو أمره


(1) وجوب الاتّباع في هذا الفرض لا يخلو من إشكال.
721

للمسلمين بالعمل على هذا الأساس. وأمّا إذا حصلت لديه قناعة بثبوت الشهر ولكن لم يتّخذ قراراً بذلك ولم يصدر أمراً للمسلمين بتحديد موقفهم العملي على هذا الأساس فلا تكون هذه القناعة ملزمةً إلّا لمن اقتنع على أساسها وحصل لديه الاطمئنان الشخصي بسببها.

وفي حالة إصدار الحاكم الشرعي للحكم يجب اتّباعه حتى على غير مقلّديه ممّن يؤمن بتوفّر شروط الحاكم الشرعي فيه.

(72) الخامس: كلّ جهد علميّ يؤديّ إلى اليقين أو الاطمئنان بأنّ القمر قد خرج من المَحاق؛ وأنّ الجزء النيّر منه الذي يواجه الأرض (الهلال) موجود في الاُفق بصورة يمكن رؤيته فلا يكفي لإثبات الشهر القمريّ الشرعي أن يؤكّد العلم بوسائله الحديثة خروج القمر من المَحاق ما لم يؤكّد إلى جانب ذلك إمكان رؤية الهلال وتحصل للإنسان القناعة بذلك على مستوى اليقين أو الأطمئنان.

(73) وهناك حالات تلاحظ في الهلال عندما يُرى لأوّل مرّة كثيراً ما يتّخذها الناس قرينةً لإثبات أنّه في ليلته الثانية، وأنّ الشهر القمريّ كان قد بدأ في الليلة السابقة على الرغم من عدم رؤيته، من قبيل أن يكون الهلال على شكل دائرة، وهو ما يسمّى بتطوّق الهلال، أو سمك الجزء المنير منه وسعته، أو استمرار ظهوره قرابة ساعة من الزمان وعدم غيابه إلّا بعد الشفق مثلا، إذ يقال حينئذ عادةً: إنّ الهلال لو كان جديد الولادة ولم يكن ابن ليلة سابقة لَما كان بهذه الكيفية أو بهذه المدّة.

ولكنّ الصحيح: أنّ هذه الحالات لا يمكن اتّخاذها دليلا لإثبات بداية الشهر القمريّ الشرعي في الليلة السابقة؛ لأنّ أقصى ما يمكن أن تثبته هو أنّ القمر كان قد خرج من المَحاق قبل فترة طويلة؛ ولهذا أصبح بهذه الكيفية أو بهذه المدة،

722

لكنّه لا يدلّل على أنّه كان بالإمكان رؤيته في غروب الليلة السابقة، فلو كان القمر ـ مثلا ـ قد خرج من المَحاق قبل اثنتي عشرة ساعةً من الغروب الذي رُئي فيه لأول مرّة فسوف يبدو أوضح وأشمل نوراً وأطول مدّة ممّا لو كان قد خرج من المَحاق قبل دقائق من الغروب، على الرغم من أنّه ليس ابن الليلة السابقة في كلتا الحالتين.

وعلى العموم لا يجوز الاعتماد على الظنّ في إثبات هلال شهر رمضان وإثبات هلال شوّال، ولا على حسابات المنجّمين الذين لا يعوَّل على أقوالهم في هذا المجال عادةً.

أحكام مترتّبة:

(74) فإذا ثبت هلال شهر رمضان بصورة شرعية وجب الصيام، وإذا ثبت هلال شوّال كذلك وجب الإفطار، وإذا لم يثبت هلال شهر رمضان بأحد الطرق التالية ـ كما إذا حلّت ليلة الثلاثين من شعبان ولم يمكن إثبات هلال شهر رمضان ـ لم يجب صيام النهار التالي، بل لا يسوغ صيامه بنية أنّه من رمضان ما دام رمضان غير ثابت شرعاً، فله أن يفطر في ذلك النهار، وله أن يصومه بنية أنّه من شعبان استحباباً، أو قضاءً لصيام واجب في عهدته، وله أن يصومه قائلا في نفسه: إن كان من شعبان فأصومه على هذا الأساس وإن كان من رمضان فأصومه على أنّه من رمضان، فيعقد النية على هذا النحو من التأرجح فيصحّ منه الصيام. ومتى صام على هذه الأوجه التي ذكرناها ثمّ انكشف له بعد ذلك أنّ اليوم الذي صامه كان من رمضان أجزأه وكفاه.

(75) وإذا حلّت ليلة الثلاثين من شهر رمضان ولم يثبت هلال شوّال بطريقة

723

شرعية وجب صيام النهار التالي، وإذا صامه وانكشف له بعد ذلك أنّه كان من شوّال، وأنّه يوم العيد الذي يحرم صيامه فلا حرج عليه في صيامه ما دام قد صامه وهو لا يعلم بدخول شهر شوّال.

وإذا حصل لدى المكلّف ما يشبه القناعة بأنّ غداً أول شوّال، ولكنه لا يسمح لنفسه بأن يفطره؛ لعدم وجود طريق شرعيّ واضح، كما يعزّ عليه أن يصومه خوفاً من أن يكون يوم العيد فبإمكانه أن يحتاط بالسفر الشرعي، فإن سافر ليلا فقد تخلّص، وإن أجّل سفره إلى النهار وجب عليه أن ينوي الصيام ويمسك إلى حين خروجه من بلده وتجاوزه لحدّ الترخّص بالمعنى المتقدم في الفقرة (20).

وقد تقول: إذن قد وقع في ما كان يخشاه وهو صيام ذلك اليوم الذي يظنّ بأنّه يوم العيد، وصيام يوم العيد حرام.

والجواب: أنّ الحرام هو صيام نهار يوم العيد بكامله، وأمّا صيام جزء منه فلا يحرم.

725

الصّيام

2

الصّيام في غير شهر رمضان

 

 

○   صيام قضاء شهر رمضان.

○   صيام التكفير والتعويض.

○   الصيام المستحبّ.

○   الصيام المحرّم.

○   جدول للمقارنة.

 

 

727

صِيام قضاءِ شهرِ رمضان

 

تقدّم أنّ أهمّ صيام جاءت به الشريعة هو صيام شهر رمضان، وهناك أنواع اُخرى من الصيام الواجب، منها: صيام قضاء شهر رمضان، وفي ما يلي نذكر أحكامه:

على من يجب القضاء؟

(1) كلّ مَن لم يؤدّ فريضة الصيام في شهر رمضان وجب عليه القضاء، وذلك بأن يصوم من الأيّام بعد شهر رمضان بعدد ما فاته، سواء كان عدم أدائه لفريضة الصيام لعصيان، أو لغفلة ونسيان، أو لجهل بأنّ هذا شهر رمضان، أو لنوم، أو لسفر، أو لمرض، أو لما يصيب المرأة من حيض أو نفاس، أو لغير ذلك من الأسباب. ويستثنى من ذلك الحالات التالية:

(2) أولا: مَن ترك الصيام لصغر سنّه وعدم بلوغه فلا يجب عليه القضاء.

(3) ثانياً: مَن ترك الصيام في حالة الجنون فلا يجب عليه القضاء.

(4) ثالثاً: مَن كان كافراً أصيلا في كفره وترك الصيام فلا يجب عليه القضاء بعد أن أسلم، وأمّا إذا كان مسلماً وارتدّ عن الإسلام وترك الصيام ثمّ عاد

728

إلى الإسلام وجب عليه القضاء.

(5) رابعاً: من داهمه الإغماء قبل أن ينوي الصيام ففاته الصيام بسبب ذلك فلا يجب عليه القضاء.

(6) خامساً: من ترك الصيام على أساس الشيخوخة، أو كونه مصاباً بداء العطاش ـ على ما تقدّم في الفقرة (21) و (22) من الفصل السابق ـ فلا يجب عليه القضاء.

(7) سادساً: من ترك صيام شهر رمضان لمرض واستمرّ به المرض طيلة السنة إلى أن أدركه رمضان الثاني فلا يجب عليه القضاء، ولكن تجب الفدية بالقدر المتقدّم في الفقرة (21) من الفصل السابق.

وأمّا إذا صحّ وعُوفي في أثناء السنة فيجب عليه القضاء.

أحكام القضاء:

(8) وكلّ من وجب عليه القضاء فلا يجب عليه الإسراع به، وله أن يؤخّره شهراً أو شهوراً، بل سنة أو أكثر ما لم يؤدّ إلى الإهمال والتفريط، ولكن في حالة التأخّر إلى حلول رمضان الثاني يجب عليه القضاء والفدية بالقدر المتقدم في الفقرة(21) من الفصل السابق.

وأمّا المريض الذي أفطر في شهر رمضان واستمرّ به المرض إلى رمضان آخر فلا قضاء عليه ـ كما تقدم ـ وعليه الفدية فقط.

ولا تزداد هذه الفدية بالتمادي في تأخير القضاء سنتين أو أكثر، بل تظّل كما وجبت أوّلا.

وما ذكرناه من وجوب الفدية على من أخّر قضاء رمضان إلى رمضان آخر

729

كما يشمل الإنسان الذي كان مصمّماً على التأخير كذلك يشمل الإنسان الذي لم يصمّم في الأشهر الاُولى من السنة، اعتماداً على أن يصوم في رجب وشعبان ولكنّه داهمه في الفترة الأخيرة مرض منعه من الصيام حتى حلّ رمضان، فإنّ عليه الفدية إضافةً إلى القضاء.

(9) وكما لا يجب الإسراع في قضاء شهر رمضان كذلك لا يجب التتابع فمن كان عليه أن يقضي يومين فبامكانه أن يقضي أحدهما في شهر والثاني في شهر آخر.

(10) ومن كان عليه قضاء رمضانين سابقين فله أن يبدأ بقضاء أيّ واحد منهما، فلو قضى رمضان الأسبق ولم يقض رمضان الثاني حتى انتهت السنة ترتبت عليه الفدية لرمضان الثاني إضافة إلى القضاء، ولو صام شهراً قضاء بدون تعيين أنّه عن أيّ من الرمضانين صحّ، وفي هذه الحالة يعتبر نفسه عملياً أنّه قد قضى رمضان الأسبق (وهذا يعني أنّه إذا اقتصر على شهر واحد من القضاء ترتّبت عليه الفدية من أجل رمضان الثاني).

(11) ومن كان عليه قضاء وصيام آخر واجب ـ كصيام الكفّارة ـ فله أن يبدأ بأيّهما شاء.

صورة صيام القضاء:

(12) وصورة صيام قضاء شهر رمضان هي صورة صيام الشهر أداءً تماماً مع عدد من الفوارق، وهي كما يلي:

(13) أوّلا: أنّ النية في صيام القضاء يمكن تأجيلها بعد طلوع الفجر، فإذا أصبح الإنسان وهو لا ينوي الصيام، ثمّ وقع في نفسه قبل الظهر أن يصوم قضاءً

730

ولم يكن قد مارس شيئاً من المفطرات منذ الفجر ساغ له ذلك. وأمّا إذا حلّ الظهرولم يكن قد نوى بعد فلا مجال للنية عندئذ.

وعلى هذا الأساس إذا نوى المكلّف صيام قضاء شهر رمضان منذ الفجر، ثمّ بعد ذلك تردّد في نيته أو عزم على أن يفطر ولكنّه تراجع مرّةً اُخرى إلى نية الصوم صحّ صومه ما دام تردّده وتراجعه إلى نية الصوم قبل الظهر، خلافاً لما تقدم في صيام شهر رمضان من أنّه يبطل بالتردّد في أثناء النهار، فضلا عن العزم على الإفطار.

(14) ثانياً: يجب احتياطاً أن لا تتقدّم نية القضاء في كلّ يوم عن ليلته، فإذا أراد أن يصوم نهار السبت قضاءً فلا يسوغ له أن ينوي ذلك في نهار الجمعة، ويكتفي بهذه النية، بل لابدّ من تجديدها وتركيزها بعد حلول ليلة السبت، وهو في فسحة إلى ظهر يوم السبت.

(15) ثالثاً: يجب على من يقضي أن ينوي القضاء، فلا يكفيه أن ينوي صيام هذا النهار قربةً إلى الله تعالى، بل لابدّ له أن يقصد الصيام قضاءً عن شهر رمضان قربةً إلى الله تعالى، فقصد القضاء معتبر في النية، فلو صام بدون ذلك لم يخرج عن عهدة القضاء الواجب.

(16) رابعاً: إذا احتلم الإنسان في نومه وأفاق بعد طلوع الفجر فلا يسوغ له أن يصوم ذلك النهار قضاءً، خلافاً للمحتلم في شهر رمضان إذا أفاق من نومه بعد طلوع الفجر ووجد نفسه جنباً فإنّه يصحّ منه الصوم ويجب.

(17) خامساً: يسوغ لمن يصوم قضاءً أن يهدم صيامه ويمارس أيّ نوع من المفطرات ما لم يحلّ ظهر ذلك النهار، فاذا حلّ الظهر لزمه صيام ذلك النهار بالذات. وإذا تعمّد الإفطار بعد الظهر ملتفتاً إلى صيامه فعليه كفّارة، (ويأتي الحديث عنها في فصول الكفّارات). وإذا صدر منه ذلك وهو يعتقد بأنّه حلال له

731

فلا كفّارة عليه حينئذ.

ومَن كان يقضي عن غيره فله أن يهدم صيامه ويفطر حتّى بعد الظهر ولا كفّارة عليه. أجَلْ، إذا كان أجيراً للقضاء في يوم محدّد فلا يسوغ له أن يهدم صيامه في ذلك اليوم ولو قبل الظهر؛ حرصاً على ما وجب عليه بالإجارة، ولكن لو أفطر فلا كفّارة عليه.

(18) ويسوغ القضاء بعد انتهاء شهر رمضان في أيّ يوم يختاره المكلّف من أيّام السنة، سوى الأيّام التي يحرم فيها الصيام. ويأتي الكلام عنها في الفقرة (36)، (37)، (38).

ولكن لا يصحّ القضاء من المكلّف وهو مسافر سفراً يجب فيه تقصير الصلاة، أو معذور صحّيّاً من الصيام، كما إذا كان مريضاً ويضرّ به الصيام، على النحو الذي تقدّم في الفصل السابق.

وكذلك لا يصحّ القضاء من المرأة في حالة الحيض أو النفاس.

أحكام الشكّ:

(19) مَن مضى عليه شهر رمضان وشكّ في أنّه هل عليه قضاء هذا الشهر، أو قضاء بعض أيّامه، أو أنّه صامه ولا قضاء عليه؟ فلا يجب عليه القضاء.

وإذا صام ثمّ شكّ في أنّ صومه صحيح أوْ لا، فلا يجب عليه القضاء أيضاً.

وإذا علم أنّه أفطر يوماً من شهر رمضان ولكن لا يدري هل أفطر بعذر كمرض أو سفر لكي يجب عليه القضاء فقط، أو بدون عذر لكي يجب عليه القضاء والكفّارة معاً فما هو حكمه؟

والجواب: أنّه يقضي ولا كفّارة عليه.

وإذا علم أنّ أيّاماً من شهر رمضان فاتته لسفر أو مرض أو غير ذلك

732

ولم يعلم عددها فكيف يصنع؟

والجواب: أنّه يقتصر على قضاء الأيام التي يعلم بأنّه فاتته، ولا يلزم بقضاء ما زاد على ذلك، فمثلا إذا كان يشكّ في أنّه هل فاته اُسبوع أو اُسبوعان؟ قضى اُسبوعاً واحداً.

وإذا علم الإنسان بأنّه قد أفطر يوماً ـ مثلا ـ ووجب عليه أن يقضيه، ولكنّه شكّ في أنّه هل صام قضاءً عن ذلك اليوم، أوْ لا؟ فيجب عليه أن يصوم قضاءً ليكون على يقين بأنّه أدّى ما عليه.

الابن يقضي عن أبيه:

(20) وإذا أفطر الأب شهر رمضان ووجب عليه أن يقضيه ولم يقضِهِ حتى مات وجب على ولده الذكر أن يقضي عنه، وإذا تعدّد أولاده الذكور وجب ذلك على أكبرهم سنّاً، وإذا تساوى اثنانِ في السنّ كان القضاء في عهدتهما معاً بالتضامن، نظير ما تقدّم في قضاء الصلاة الفقرة (32) من فصل الأحكام العامّة من فصول الصلاة.

وإذا أفطر الإنسان شهر رمضان ولم يجب عليه قضاؤه ـ كالمريض يفطر ويستمرّ به المرض حتى يموت، أو المسافر يفطر ويموت في نفس شهر رمضان ـ فلا يجب القضاء عنه على ولده.

 

صيام التكفير والتعويض

 

يجب الصيام شرعاً في حالات على أساس كونه تكفيراً عن معصية، أو تعويضاً عن واجب، ونذكر من ذلك ما يلي:

733

(21) أوّلا: صيام كفّارة الإفطار في شهر رمضان، فإنّ من تعمّد الإفطارعاصياً في هذا الشهر تجب عليه الكفّارة، كما تقدم في الفقرة (56) من فصل الصيام في شهر رمضان.

وهذه الكفّارة هي: أن يعتق مملوكاً، أو يطعم ستّين مسكيناً، أو يصوم شهرين على أن يكون شهر منهما مع يوم من الشهر الثاني على الاقلّ متصلا بعضه ببعض، ويسمّى هذا بصيام الكفّارة.

(22) ثانياً: صيام كفّارة التعجيل بالخروج من عرفات، ذلك أنّ الحاج يجب عليه أن يقف في عرفات فترةً تقع بين ظهر اليوم التاسع من ذي الحجّة وغروبه، فإذا استعجل وخرج منها قبل الغروب وجب عليه أن يكفّر بذبيحة كبيرة، على ما بيّناه في موجز أحكام الحجّ، ومع عدم تيسّر ذلك يصوم بدلا عنها ثمانية عشر يوماً ولو متفرّقة.

(23) ثالثاً: الصيام تعويضاً عن الهدي، ذلك أنّ من حجّ حجّة التمتّع وجب عليه أن يذبح ذبيحةً يوم العيد، وتسمّى بالهدي، فإن عجز عن ذلك كان عليه أن يصوم عشرة أيام.

(24) وصورة الصيام الواجب تكفيراً أو تعويضاً هي نفس صورة قضاء شهر رمضان، غير أنّه لا يضرّ به أن يفيق الإنسان من نومه صباحاً وهو محتلم، فيسوغ له أن يصوم صيام الكفّارة، بينما رأينا سابقاً أنّ مثل هذا الشخص لا يسوغ له أن يصوم قضاء شهر رمضان.

كما أنّ هناك فارقاً آخر، وهو: أنّ صيام قضاء شهر رمضان لم يكن يجوز من المسافر، وأمّا صيام الكفّارة أو التعويض فبعض أقسامه سائغة للمسافر، وهي ما يلي:

734

1 ـ صيام كفّارة التعجيل من عرفات قبل الغروب.

2 ـ إنّ صيام عشرة أيام تعويضاً عن الهدي يؤدّى على مرحلتين: ثلاثة، ثمّ سبعة، والثلاثة يؤدّيها الحاجّ في سفره قبل الرجوع إلى أهله.

وأمّا صيام التكفير عن إفطار شهر رمضان فلا يسوغ في السفر.

 

الصيام المستحبّ

 

(25) وكما يوجد صيام واجب كذلك يوجد صيام مستحبّ، فإنّ الصيام في كلّ الأيام مستحبّ؛ عدا ما يجب فيه الصيام، كأيام شهر رمضان، أو يحرم، كما يأتي في الفقرة (36) وما بعدها.

وقد جاء في الأحاديث: أنّ الصوم جُنّة من النار، وزكاة الأبدان، وبه يدخل العبد الجنّة، وأنّ نوم الصائم عبادة، ونفسه وصمته تسبيح، ودعاؤه مستجاب، وأنّ له فرحتين: فرحة عند الإفطار، وفرحة حين يلقى الله تعالى(1).

وتتفاوت درجته في الفضيلة، فصيام بعض الأيام أفضل من صيام بعضها الآخر، مثلا صيام رجب وشعبان أفضل من صيام ما قبلهما من الشهور.

من الذي يستحبّ منه الصيام؟

(26) ويستحبّ الصيام للإنسان إذا توفّرت فيه شروط:

الأول: أن لا يكون مريضاً، أو يسبّب له الصيام مرضاً.

 


(1) اُنظر وسائل الشيعة 7، الباب 1 من أبواب الصوم المندوب.
735

الثاني: أن لا يكون مسافراً، ويستثنى من ذلك الصيام ثلاثة أيام في المدينة المنورة لقضاء الحاجة في أيام: الأربعاء والخميس والجمعة على نحو التتابع.

الثالث: أن لا تكون المرأة حائضاً أو نفساء.

الرابع: أن لا يكون على المكلّف قضاء شهر رمضان، ولا صيام الكفّارة والتعويض (1)، فإذا كان عليه شيء من ذلك فلا يسوغ له الصيام المستحبّ. وأمّا إذا كان عليه صيام واجب بالنذر ونحوه فلا يمنع هذا عن الصيام المستحبّ. وكذلك أيضاً إذا استأجر نفسه للصيام عن غيره فوجب عليه أن يصوم عنه؛ فإنّه يصح منه أن يصوم صياماً مستحبّاً.

وإذا كان على المكلّف قضاء صيام رمضان، أو صيام الكفّارة أو التعويض فكما لا يسوغ له أن يصوم صياماً مستحبّاً عن نفسه كذلك لا يسوغ له أن يتبرّع بالصيام عن غيره، ولكن يجوز له أن يؤجر نفسه للصيام عن الغير، وفي هذه الحالة إذا صام عن الغير صحّ ذلك منه حتى ولو كان عليه قضاء.

وقد تقول: إذا كان على الإنسان قضاء فلا يسوغ له أن يصوم صياماً مستحبّاً ـ على ما تقدم ـ ولكن هل يسوغ له أن ينذر الصيام المستحبّ لكي يصبح واجباً فيؤدّيه قبل أن يصوم ما عليه من قضاء ؟

والجواب: أنّ هذا إذا نذر أن يأتي بالصيام المستحبّ قبل صيام القضاء فالنذر باطل من الأساس، ولا يصحّ منه ذلك الصيام المنذور إذا أتى به قبل صيام القضاء. وإذا نذر الإتيان بالصيام المستحبّ بدون تحديد بأن يكون قبل صيام


(1) هذا حكم احتياطي.