396


ولكنّ المحقّق العراقيّ(رحمه الله) عمّق الإشكال على ذلك باستلزامه لنكارة العلم الشخصيّ عند تثنيته، مع أنّهم يرتّبون آثار المعرفة على ذلك (راجع المقالات، المقالة 11، ص 167 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ بقم). ونسب ما يشبه ذلك أيضاً السيّد الهاشميّ ـ حفظه الله ـ إلى اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) (راجع تقريره، ج 1، ص 157).

ولكن المركوز في ذهني خلاف ذلك، أي: أنّ العلم المثنّى يدخل عليه لام التعريف، وأيضاً يوصَف بالنكرة لا المعرفة وعليك بمراجعة الكتب النحويّة، والأدب المنقول عن العرب.

أمّا ما وجدته أنا في بعض الكتب، فقد ورد في كتاب النحو الوافي (ج 1، ص 118 ـ 119 بحسب طبعة دار المعارف بمصر) في باب المثنّى قوله: «أمّا العلم فلا يُثنّى؛ لأنّ الأصل فيه أن يكون مسمّاه شخصاً واحداً معيّناً، ولا يثنّى إلاّ عند اشتراك عدّة أفراد في اسم واحد. وهذا معنى قول النحويين: «لا يثنّى العلم إلاّ بعد قصد تنكيره» وحينئذ تزاد عليه: (ال) التثنية لتعيد له التعريف، أو يسبقه حرف من حروف النداء مثل: (يا) لإفادة التعيين والتخصيص أيضاً بسبب القصد المتّجه لشخصين معيّنين نحو: يا محمّدان، أو إضافتة إلى معرفة مثل: حضر محمّداك ...».

وقال أيضاً في الصفحة 265 في باب أقسام العَلَم تحت الخطّ: «... فكلمة مثل محمّد هي علم، فهي معرفة، فإذا ثنّي أو جمع قيل: محمّدان، محمّدون وكلاهما نكرة طبقاً لشروط التثنية والجمع، فإذا أردنا تعيينه وتعريفه زيدت عليه (أل) مثلاً كي تجعله معرفة».

هذا، ولو كان النقض مخصوصاً بباب الأعلام لعلّه كان يسهل حلّه بدعوى التنكير والتأويل بالمسمّى.

ولكن قد يعمّق النقض بالنظر إلى باب الإشارة والضمير، حيث لا إشكال في عدم تنكير الضمير المثنّى أو اسم الإشارة المثنّى؛ لوضوح توغّلهما في التعريف حتّى في حالة التثنية والجمع.

397


وقد نقل الشيخ العراقيّ(رحمه الله) عن الفصول: أنّه عجز عن حلّ الإشكال في تثنية الإشارات، فذهب إلى كون الوضع في تثنية الإشارات لمجموع المادّة والهيئة، وعدم وجود وضع نوعيّ لهيئة التثنية بلحاظ الإشارات، وعدم مراعاة قواعد التثنية فيها من كونها من باب الدالّين والمدلولين.

وأورد عليه المحقّق العراقيّ بأنّه لا يساعده الوجدان والذوق السليم.

وأفاد المحقّق العراقيّ في حلّ الإشكال وجهين:

أحدهما: مخصوص بباب الإشارة والضمير، وهو دعوى: أنّ التثنية تفيد فيها تكرار تجسّد المعنى المبهم الذي دلّت عليه المادّة من المفرد المذكّر مثلاً، والمعروض للإشارة التي بها أصبح معرفة، فيكون المتكرّر متعلّق التعيّن بالإشارة؛ ولذا يكون معرفة، وليس المتعيّن بالإشارة متكرّراً كي لا يقبل التكرّر، أو يخرج عن التعريف والتعيّن بسبب التكرّر (راجع المقالات 1، المقالة 11، ص 168 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ).

وأورد عليه اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) (على ما نقله السيّد الهاشميّ حفظه الله في تقريره، ج 1، ص 157) بأنّ الإشارة إن فرض انفهامها من المادّة أصبح التكرّر في طول الإشارة؛ لأنّ التثنية تكرّر مفاد المادّة حسب الفرض، في حين أنّ المتعيّن لا يقبل التكرّر. وإن فرض انفهامها من الهيئة، فهذا يعني: أنّ هيئة التثنية خرجت في باب اسم الإشارة عن مفادها المألوف والموضوع لها نوعاً، وهو مجرّد الدلالة على التعدّد أو التكرار، فلم ينجح العلاج فيما هو المقصود من تفسير هيئة التثنية هنا بما هو المألوف في سائر الموارد.

أقول: لعلّ مقصود الشيخ العراقيّ(رحمه الله) هو: أنّ هيئة التثنية موضوعة للمقدار الممكن من تعديد تجسّد ما يكون داخلاً في مفاد المادّة. أمّا أنّها هل تفيد تعديد كلّ مفادها، أو تفيد تعديد جزء تحليليّ منها، فهذا يختلف باختلاف ما يمكن في المورد، ففي مثل اسم الجنس الذي لا توجد فيه إشارة تكون هيئة التثنية مفيدة لتعديد تجسّد الطبيعة المفهومة من المادّة في فردين، وفي مثل اسم الإشارة الذي لا يمكن تعديد تجسّد المتعيّن ←

398


بالإشارة فيه تكون الهيئة مفيدة لتعديد تجسّد ما يشار إليه، وتعرض الإشارة المستفادة من المادّة على المتكرّر في طول التكرار لا قبله.

وثانيهما: الالتزام بنظريّة صاحب المعالم من كون التثنية في العلم في حكم تكرار اللفظ، بفرق: أنّ صاحب المعالم كان يلتزم بكون مفاد التثنية عبارة عن حكم تكرار اللفظ مطلقاً، ولكن الشيخ العراقيّ(رحمه الله) يقول (كما ورد في المقالات، المقالة 11، ص 167 ـ 168): إنّ علامة التثنية تدلّ على تكرّر طبيعة مدخوله لفظاً أو معنىً، وبما أنّه في باب اسم الجنس لم يمكن تكرار اللفظ للزوم محذور المجاز من إرادة الفرد من الموضوع للطبيعة، فانصرف الأمر إلى تكرار المعنى، أيّ: تجسّد معنى الطبيعة في فردين. أما في باب العلم، فالأمر على العكس؛ إذ لا يمكن تكرار المعنى إلاّ بتنكير العلم، فانصرف الأمر إلى تكرار اللفظ، فبذلك تحلّ مشكلة تثنية العلم، بل ومشكلة تثنية أسماء الإشارة أيضاً المتوغّلة في التعريف، والتي لا معنى فيها للتأويل بالمسمّى أصلاً.

وأورد عليه الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) في نهاية الدراية (ج 1، ص 92 ـ 93) بما مضى من أنّ الهيئة قد طرأت على المادّة، ومفاد الهيئة طرأ على مفاد المادّة، وأدخل تعديلاً على مفاد المادّة. ولا معنى لفرض طروء مفاد الهيئة على لفظ المادّة وتأثير مفادها في تعديل لفظ المادّة وتكريره؛ لأنّ اللفظ والمفاد مقولتان متباينتان.

وإذا كان مفاد هيئة التثنية هو التعديد ـ وهو راجع إلى المعنى ـ فلا محالة نقع في مشكلة: أنّ معنى العلَم بما أنّه غير قابل للتعديد فلابدّ في تفسير تثنية العلم من مثل التأويل إلى المسمّى ممّا يقبل التكثير والتعديد.

ثُمّ ذكر الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) حلاًّ آخر لإمكان تفسير تثنية الأعلام من دون رجوعه إلى التأويل بالمسمّى، وهو أن يفترض: أنّ المادّة في مثل «زيدان» لم تستعمل في المعنى الموضوع له، وهو الشخص المسمّى، بل استعملت في نوع هذا اللفظ، لكن بما له من معنىً، أي: أنّ شخص اللفظ الذي صدر من المتكلّم هو لفظٌ، ونوع ذلك اللفظ هو المعنى،

399


ولكن لا بما هو لفظ خاو عن المعنى كما في قولنا مثلاً: «ضرب صوت معتمد على مقاطع الفم»، بل بما هو لفظ حاك عن المعنى كما في قولنا مثلاً: «ضرب فعل مشتمل على النسبة»، فلفظة «ضرب» استعملت هنا في نوع ضرب لا في معنى الضرب الموضوع له، ولكن لم تستعمل في نوع هذا اللفظ غير المشير إلى المعنى، فإنّ نوع هذا اللفظ ليس فعلاً مشتملاً على النسبة، بل استعملت في نوع ضرب بما هو مشير إلى ذاك المعنى المشتمل على النسبة. وهذا أمر بين أمرين، أي: بين أن يكون شخص هذا اللفظ مستعملاً في نوعه الخاوي عن المعنى وبين أن يكون مستعملاً في معناه الموضوع له، فهو مستعمل في نوعه الحاكي عن ذاك المعنى، فإذا فرض أنّ شخص لفظة زيد في قولنا «زيدان» مستعمل في نوع هذا اللفظ بما هو حاك عن المعنى، فمن المعلوم أنّ هذا النوع له أفراد عديدة بعدد المسمّين بزيد، فقد ثنّي حتّى يقصد بذلك فردان من هذا المعنى الكلّيّ من دون أن ننتهي إلى استعمال اللفظ في المسمّى، أو نثنّي معنىً جزئيّاً لا يقبل التثنية.

وقد أورد على ذلك اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) (بحسب ما ورد في تقرير السيّد الهاشميّ حفظه الله، ج 1، ص 159) بأنّ ما جُعل قيداً لمفهوم نوع اللفظ الذي فرض هو المعنى المقصود بكلمة «زيد» هل هو مفهوم الدلالة على المعنى، أو حقيقة الدلالة على المعنى وواقعها؟

إن فرض الأوّل ورد عليه: أوّلاً: أنّه لا يتبادر إلى الذهن من جملة «جاءني زيدان» مثلاً مفهوم الدلالة إطلاقاً.

وثانياً: لا نعلم كيف صار الذهن ينسبق إلى واقع معنى اللفظ، وهو الشخص الذي جعل «زيد» عَلَماً له من كلمة استعملت في نوع اللفظ، المقيّد بمفهوم الدلالة لا حقيقة الدلالة؛ إذ لا شكّ في أنّه يفهم من قوله «جاءني زيدان» مجيء شخصين واقعيّين، لا مجرّد لفظين دالّين على شخصين.

وإن فرض الثاني، وهو تقيّد نوع اللفظ الذي هو مفهوم كلمة «زيد» بواقع الدلالة، فمن الواضح: أنّ المفهوم لا يعقل تقييده إلاّ بمفهوم لا بالواقع، والانتقال التصوّريّ إنّما يكون

400

 

 


بين مفهومين لا بين مفهوم وواقع.

أقول: ويمكن بيان الإشكال بصياغة اُخرى، وذلك ببيان: أنّ قياس ذلك بمثل (ضرب فعل مشتمل على النسبة) قياس مع الفارق؛ فإنّ كلمة «ضرب» في هذه الجملة تشير إلى ما هو بالنظر التصوّريّ الاستعماليّ واقع نوع هذه الكلمة بما هي دالّة على معنىً نسبيّ، وبالنظر التصديقيّ تشير إلى هذا المفهوم، ولا تشير ـ بأيّ وجه من الوجوه ـ إلى معنى الفعل الدالّ على صدور الضرب لا بما هو مفهوم في النظر التصديقيّ، ولا بما هو فان في واقع هذا المفهوم في النظر التصوّريّ، وأمّا مادّة زيد في كلمة «زيدان» في قولنا مثلاً: «جاءني زيدان» فحقّاً يقصد بها ما هو بالنظر التصديقيّ مفهوم شخص ما، وبالنظر الفنائيّ الاستعماليّ، أو التصوّريّ واقع شخص ما. وأمّا هذا المفهوم الوسط، وهو نوع لفظة زيد الحاكية عن المعنى، فلا يتبادر إلى الذهن من هذه الجملة أبداً. ولو تبادر إلى الذهن فلا ندري كيف يفنى في واقع الشخصين؟! إذ لا يوجد إلاّ فناء استعماليّ واحد، فلا معنى لفرض فناء استعماليّ في فناء استعماليّ.

401

المقدّمة

11

 

 

 

المشتقّ

 

 

○ مقدّمات.

○ مقتضى الأصل العمليّ في المشتقّات.

○ أدلّة القولين في وضع المشتقّ.

○ خاتمة.

 

 

 

403

 

 

 

 

 

 

الأمر الحادي عشر: في المشتقّ.

لا إشكال في صحّة استعمال المشتقّ في المتلبّس بالمبدأ فعلاً، وفيما انقضى عنه المبدأ، وفيما يتلبّس به في المستقبل، كما أنّه لا إشكال في كونه حقيقة في الأوّل ومجازاً في الثالث، وإنّما الكلام في أنّه: هل هو حقيقة في الثاني أيضاً، أي: حقيقة في الأعمّ من المتلبّس بالمبدأ بالفعل وممّا انقضى عنه المبدأ، أو حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدأ بالفعل؟ فمنهم من يقول بالأوّل، ومنهم من يقول بالثاني، ومنهم من يفصّل بين بعض المشتقّات وبعض. وتحقيق الكلام يتوقّف على مقدّمات:

 

مقدّمات

 

تحرير محلّ النزاع:

المقدّمة الاُولى: في تحرير محلّ النزاع.

لا يخفى: أنّه توجد لدينا ثلاث دوائر من الأسماء بعضها أعمّ من بعض:

1 ـ دائرة الأوصاف الاشتقاقيّة.

404

2 ـ دائرة مطلق الأسماء الاشتقاقيّة، فتشمل المصادر مثلاً، مع أنّه لا توصف الذات بها إلاّ بنحو المسامحة.

3 ـ مطلق الأسماء ولو كان جامداً، كالإنسان والحيوان.

ولابدّ أن نعرف أنّ كلّ دائرة من هذه الدوائر بأيّ مقدار تدخل في محلّ النزاع؟ فهل النزاع يشمل هذه الدوائر بكاملها أو بعضها، أو يشمل قسماً خاصّاً ممّا يدخل في هذه الدوائر؟

ولكي نعرف ذلك يجب أن نرى ما هو الملاك والميزان الفنّيّ في تعقّل النزاع حتّى نطبّقه بعد ذلك على هذه الدوائر.

وقد قالوا: إنّ الضابط الفنّيّ في جريان النزاع وتعقّله مركّب من ركنين:

الأوّل: أن يكون جارياً على الذات، أي: ممّا يحمل على الذات ويوصف به، كاسم الفاعل والمفعول دون المصدر، فلا يقال: «زيد ضربٌ» إلاّ بنحو من المجاز مثلاً والمسامحة، فما لا يحمل على الذات لا معنى لأن يقال: هل هو حقيقة في خصوص المتلبّس بالفعل، أو الأعمّ؟

الثاني: أن تكون الحيثيّة المصحّحة للحمل المسمّاة بالمبدأ ممكنة الانفكاك عن الذات مع بقاء الذات. أمّا إذا ارتفعت الذات بارتفاعها، فما معنى كون المشتقّ حقيقة فيها أو مجازاً؟! ففي مثل «العالم» و«الضارب» يعقل النزاع؛ إذ يمكن ارتفاع العلم والضرب مع بقاء الذات. وهذا بخلاف ما إذا كانت الحيثيّة ذاتيّة بمعنى الذاتيّ في كتاب الكلّيّات، كما في النوع والجنس والفصل.

وقد أرادوا هم بهذا الضابط أن يخرجوا بالركن الأوّل المصادر، وبالركن الثاني مثل الشجر والحجر والحيوان ممّا يكون مبدؤه ذاتيّاً، وهو الحالّ في النوع والجنس والفصل، إلاّ أنّهم وقعوا في مشكلة، وهي: أنّ الركن الثاني يخرج

405

الصفات العرضيّة التي هي لازم للذات، وذلك كالواجب والممكن والممتنع والسبب والمولِّد والمولَّد ونحو ذلك، فإنّه لا يعقل زوال هذا العرضيّ مع بقاء الذات.

ومن هنا اضطرّ السيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ لدفع هذا الإشكال أن يقول: إنّنا نتكلّم في وضع الهيئات الاشتقاقيّة، ووضعها نوعيّ، فهيئة (واجب) مثلاً بشخصها لم توضع حتّى يقع هذا الإشكال، ويقال: إنّه لا يعقل زوال المبدأ وبقاء الذات، وإنّما الموضوع هو طبيعة هيئة فاعل، ولا إشكال في أنّ هذه الهيئة قابلة لزوال المبدأ فيها عن الذات ولو بلحاظ بعض الأفراد(1).

إلاّ أنّ التحقيق: أنّ هذه البلبلة نشأت من عدم تحديد الركن الثاني، فوقع خلط بين الاستحالة الفلسفيّة والاستحالة المنطقيّة. ونقصد بالاستحالة المنطقيّة: الاستحالة على أساس التناقض، كانفكاك الإنسان عن الإنسانيّة بأن تبقى الذات بالرغم من زوال المبدأ، فإنّ هذا معناه اجتماع النقيضين، وبالاستحالة الفلسفيّة: كلّ استحالة لا ترجع إلى التناقض، كانفكاك النار عن الحرارة، وذات الواجب عن الوجوب، أو ذات الممكن عن الإمكان ونحو ذلك، فإذا فرض: أنّ الركن الثاني يجب أن يكون هو عدم استحالة زوال المبدأ مع بقاء الذات استحالة منطقيّة لا فلسفيّة ارتفع الإشكال، فإنّ هذه الاستحالة إنّما هي في الذاتيّات، حيث إنّ زوالها مع بقاء الذات تناقض؛ إذ هي عين الذات أو جزؤها. وأمّا في العرضيّات اللازمة، فلا تناقض في فرض زوالها مع بقاء الذات، وإنّما الاستحالة في ذلك فلسفيّة. وبناء على هذا الفرض يكون الأولى أن نعبّر عن الركن الثاني بأن يكون


(1) راجع المحاضرات، ج 1، ص 228 بحسب طبعة مطبعة النجف.

406

المبدأ غير الذات؛ إذ متى ما كان عينه كان الارتفاع مع بقاء الذات مستحيلاً على أساس التناقض، ومتى ما كان غيره فليس في فرض ارتفاع المبدأ مع بقاء الذات تناقض، فالركن الثاني لو عبّر عنه بالصياغة المشهورة، وهي: عدم استحالة انفكاك المبدأ عن الذات، جاء هذا الإشكال، ولو عبّر عنه بهذه الصياغة، وهي: أن يكون المبدأ غير الذات، لم يكن موضوع لهذا الإشكال.

يبقى الكلام في أنّ أيّ الصياغتين أحقّ بالركنيّة؟

فنقول: إنّ النزاع في المقام إنّما هو في الوضع، وإنّه هل وضع للأعمّ أو لا؟ ومن المعلوم أنّ الغرض من توسعة دائرة الوضع بنحو يشمل الذات المنقضية عنها المبدأ ليس هو توسعة دائرة الوجود الخارجيّ بأن يصحّ أن يقال: هذا موجود، وإنّما الغرض توسعة دائرة الاستعمال بحيث يمكن الاستعمال في المنقضي عنه المبدأ. ومن المعلوم أنّ الاستعمال موقوف على التصوّر، لا على الوجود الخارجيّ، فضابط إمكان الاستعمال إمكان التصوّر، لا إمكان الوجود الخارجيّ. وفي موارد مغايرة المبدأ للذات يمكن تصوّر الذات المنفكّة عن المبدأ، وإن كان المبدأ من الأوصاف اللازمة للذات، فبالإمكان تصوّر ذات انقضى عنها الوجوب، أو الإمكان، أو العلّيّة، أو غير ذلك من الصفات اللازمة للذات، فإذا أمكن التصوّر تعقّل الاستعمال، وإذا تعقّل الاستعمال تعقّل الوضع، وإذا تعقّل الوضع تعقّل النزاع. وأمّا في موارد كون المبدأ عين الذات تماماً أو جزءها، من قبيل: الإنسان والإنسانيّة، أو الإنسان والحيوانيّة فلا يمكن تصوير الوضع للأعمّ، فإنّه إذا اُريد بالقول بالوضع للأعمّ: أنّ كلمة «الإنسان» موضوعة مثلاً للأعمّ من الإنسان المتلبّس بالإنسانيّة بالفعل والمنقضية عنه الإنسانيّة، فهذا غير متصوّر، فإنّنا بمجرّد أن فرضنا الذات فرضنا فعليّة التلبّس؛ لأنّ المبدأ محتوىً في الذات، والجمع بين

407

فرض الإنسان وعدم فرضه مستحيل، فهذا الذي تصوّرناه يكون في اُفق التصوّر متلبّساً بالمبدأ، وإن اُريد الجمع بين تصوّر الإنسان وتصوّر اللاإنسانيّة بحيث اُخذ النفي في المتصوّر لا في التصوّر فهذا معقول، لكنّ التلبّس هنا موجود؛ فإنّ فرض الذات هو فرض فعليّة التلبّس.

فتحصّل: أنّه ينبغي أن يكون مقصودهم بالاستحالة هنا الاستحالة المنطقيّة لا الاستحالة الفلسفيّة.

وبعد أن تحقّق ما هو ملاك النزاع نأتي إلى الدوائر الثلاث لنرى مدى جريان النزاع فيها:

ولنبدأ بالدائرة الأوسع، وهي دائرة مطلق الأسماء وإن كانت من الجوامد، فنقول: قد فصّلوا في الأسماء الجوامد بين قسمين، فقالوا: إنّ ما يكون موضوعاً لما هو منتزع من مرتبة الذات، كالماء والنار والشجر والحجر ومثل هذا لا يجري فيه النزاع؛ لعدم معقوليّة انفكاك المبدأ عن الذات، وما يكون موضوعاً لعناوين عرضيّة منتزعة بلحاظ أمر خارج عن الذات، كالزوج والزوجة والسيف والمنشار والسرير ونحو ذلك يجري فيه النزاع؛ لتعقّل انفكاك المبدأ عن الذات.

أقول: أمّا القسم الثاني، فدخوله في محلّ النزاع صحيح؛ لأنّ كلا الركنين موجود فيه، فالعنوان جار على الذات، والمبدأ مغاير للذات. وأمّا القسم الأوّل فيجب أن نتساءل: أنّهم ماذا يريدون بالذات التي قالوا: إنّها غير محفوظة بعد زوال الشجريّة أو الحجريّة؟ هل المراد: المركّب النوعيّ أو الجسم؟

ولنوضّح ذلك في مثال، وهو السيف، فلنشرح تصوّرات الفلاسفة حتّى نعرف كلمات علماء الاُصول. فقد قال: الفلاسفة: إنّ السيف مثلاً مركّب من قوّة صرف ـ سمّيت بالهيولى ـ وصورة جسميّة، وتوجد فوق الصورة الجسميّة صورة اُخرى

408

تسمّى بالصورة النوعيّة، وهي كونه حديداً، فالصورة الجسميّة مشتركة بين الماء والحديد وسائر الأجسام، والمائز هي الصورة الحديديّة، ويوجد هنا أمر رابع وهي الحالة المخصوصة المائزة بين السيف وسائر القطع الحديديّة كالمنشار.

أمّا الأمر الأوّل، وهو المادّة الصرف والقوّة الصرف، فلا إشكال عندهم في جوهريّته، وأنّ وجود المادّة محفوظ بإحدى الصور الجسميّة على البدل.

وأمّا الأمر الثاني، وهو الصورة الجسميّة، فأيضاً لا إشكال عندهم في جوهريّته. واختلفوا في أنّها: هل تتبدّل بتبدّل الصورة النوعيّة، فالخشب مثلاً حينما يصبح فحماً، أو النبات يصبح خشباً بالقطع، فصورته الجسميّة أيضاً تبدّلت بصورة جسميّة اُخرى؛ لتقوّمها وتحصّلها بالصورة النوعيّة على حدّ تحصّل الجنس بالفصل، أو أنّ صورة جسميّة واحدة تنحفظ عبر الصور النوعيّة المختلفة، وأنّها متقوّمة ومتحصّلة بأحدها، لا بشخص صورة نوعيّة حتّى تتبدّل بتبدّلها؟

وأمّا الأمر الثالث، وهو الصورة النوعيّة، فالمشهور بينهم أنّه جوهر، وهناك قول بالعرضيّة.

وأمّا الأمر الرابع، وهو التمايز الصنفيّ بين السيف والمنشار مثلاً، فيرونه عرضيّاً. هذا.

وعنوان الحديد لا إشكال في أنّه منتزع عن السيف، ومحمول عليه بلحاظ الأمر الثالث، وهو الصورة النوعيّة، فالصورة النوعيّة بمثابة مبدأ الاشتقاق لاسم الحديد، فيقال: إنّ هذا المبدأ ذاتيّ وبزواله تزول الذات، فلا يبقى مجال للبحث عن الانطباق بعد الانقضاء.

وهنا يجب أن نعرف ماذا يقصدون بالذات التي يقولون: إنّها ترتفع بارتفاع المبدأ؟

409

فان أرادوا بالذات المركّب الثلاثي الذي هو نوع حقيقيّ، أي: المركّب من الأوّل والثاني والثالث، فصحيح ما يقال من أنّ الذات ترتفع بارتفاع المبدأ؛ لأنّ المبدأ جزء من أجزاء هذا المركّب الثلاثي، ولكن لا مُلزِم لقصر النظر على هذه الذات المصاغة من المركّب الثلاثي حتّى يقال: لا تبقى بعد ارتفاع الجزء الثالث، بل هناك ذات اُخرى يمكن تصوّرها، وهي المركّب الثنائيّ، أي: المركّب من الأوّل والثاني، وهو القدر المشترك بين جميع الأجسام، فإنّه ذات، ولا إشكال في أنّه يحمل عليه عنوان الحديد، فيقال: «هذا الجسم حديد»، أو يقال: «الجسم تارةً يكون حديداً واُخرى خشباً» فلنبحث عن أنّ ارتفاع الحديديّة هل يوجب ارتفاع هذا المركّب الثنائيّ، أو لا؟ فنقول:

أمّا على ما بيّنّاه من أنّ الركن الثاني عبارة عن مغايرة المبدأ للذات، فمن الواضح: أنّ هذا الركن ثابت؛ لأنّ الحديديّة مغايرة للمركب الثنائيّ، كما أنّ الركن الأوّل ـ وهو الجري على الذات ـ ثابت؛ إذ لا إشكال في أنّ عنوان الحديد يحمل على الجسم.

وأمّا إذا سلكنا في الركن الثاني مسلكهم، وعبّرنا بإمكان الانفكاك بين المبدأ والذات، وأخذنا هذه العبارة على إطلاقها، ولم نميّز بين الإمكان المنطقيّ والإمكان الفلسفيّ، أو بين الاستحالة المنطقيّة والاستحالة الفلسفيّة، فعندئذ يقع الكلام في أنّه: هل يمكن الانفكاك في المقام، أو لا؟ فنقول:

أمّا بحسب النظر الدقّيّ والفلسفيّ، فهناك بحث بين الفلاسفة، فمن ذهب إلى أنّ الصورة الجسميّة متقوّمة وجوداً بأشخاص الصور النوعيّة قال بعدم إمكان الانفكاك، وأنّ الجسم يتبدّل بتبدّل الصورة النوعيّة؛ ولذا التزموا بتبدّل الصورة الجسميّة في النخلة بقطعها؛ إذ بعد القطع تصبح خشباً. ومن ذهب إلى أنّ الصورة

410

الجسميّة تتقوّم بإحدى الصور النوعيّة على البدل قال بإمكان الانفكاك، وأنّ الصورة الجسميّة محفوظة على كلّ حال ولو تبدّلت الصورة النوعيّة؛ لأنّ المقوّم لها هو الجامع، أو قل: إحداها وهو محفوظ، وهناك من ذهب من الفلاسفة إلى أنّ الصورة الجسميّة غير متقوّمة بالصور النوعيّة لا بأشخاصها ولا بإحداها على البدل، وهو مذهب من يقول بعرَضيّة الصورة النوعيّة، وعليه فأيضاً يمكن الانفكاك. هذا كُلّه بحسب تخيّلات الفلاسفة.

وأمّا بحسب تخيّل الإنسان العرفيّ، فالإنسان العرفيّ لا يشكّ في أنّ النخلة مثلاً بالقطع لا تتبدّل صورتها الجسميّة، وأنّ الخشب إذا صار فحماً فالجسم هو الجسم السابق. والتصوّر العرفيّ هو المفيد في المقام؛ فإنّنا نبحث بحثاً لغويّاً، وهو قائم على أساس الفهم العرفيّ، لا الفلسفيّ الدقّيّ العقليّ.

فقد تحصّل: أنّ التفصيل بين العناوين الذاتيّة من قبيل: الحجر والشجر وغيرهما بدعوى عدم تعقّل النزاع في الأوّل غير صحيح، سواء سلكنا في تصوير الركن الثاني مسلكنا أو ما يُتراءى من الجمود على حاقّ عبائرهم. نعم، بحسب الخارج لم يقع نزاع في الأوّل، أعني: العناوين الذاتيّة، كالحجر والشجر والحديد وغير ذلك، فلم يدّعِ أحد أنّ لفظة «الحديد» موضوعة للجسم الذي تلبّس بالحديديّة ولو آناً ما وبعد ذلك صار ناراً مثلاً، فالقصور إثباتيّ لا ثبوتيّ(1).

 


(1) يمكن أن يقال: إنّ العرف يفرّق بين تحوّل النخلة خشباً أو الإنسان ميّتاً، فيحكم فيه بأنّ الجسم هو الجسم السابق، وتحوّل الخشب فحماً أو الكلب ملحاً، فيحكم فيه بأنّ الجسم قد تبدّل إلى جسم آخر، وبناءً على هذا، فعدم وقوع النزاع هنا في عدم صدق العنوان بعد انقضاء المبدأ ليس من باب مخالفة الفهم العرفيّ الإثباتيّ مع ما هو مقياس إمكان النزاع

411


ثبوتاً؛ وذلك لأنّه وإن كان المقياس الذي أفاده اُستاذنا(رحمه الله) في تفسير الركن الثاني من مغايرة المبدأ للذات منطبقاً على المقام، فيمكن النزاع في أنّ جسم الخشب أو الكلب إن بقي بعد تحوّل الصورة النوعيّة، فهل يصدق عليه العنوان الأوّل، أو لا ؟ ولكنّ اتّفاقهم على عدم الصدق لعلّه على ما هو الواقع خارجاً بعد التحوّل من تبدّل الجسم عرفاً، سواء فرض تبدّله فلسفيّاً، أو لا، فلعلّ محتوى اتّفاقهم هو الاتّفاق على أنّ الجسم الثاني لا يصدق عليه عنوان الخشب أو الكلب، ولا يمكن دعوى صدقه عليه ثبوتاً كما لا يحتمل ذلك إثباتاً. ولعلّ الإيمان بتبدّل الجسم ـ ولو عرفاً ـ هو الذي أوجب اشتهار القول بمطهّريّة الاستحالة حتّى للمتنجّس.

وتوضيح ذلك: أنّ مطهّريّة الاستحالة للنجس يمكن الإيمان بها حتّى لو لم نقل بتبدّل الجسم، وذلك بدعوى كفاية تبدّل العنوان؛ لأنّ النجاسة كانت حكماً ثابتاً على عنوان الكلب مثلاً وقد زال: إمّا بدعوى: عدم صدق المشتقّ حقيقة بعد انقضاء المبدأ، أو بدعوى: أنّ احتمال الصدق غير وارد في الجوامد مثلاً حتّى على تقدير بقاء الجسم، فالمرجع عندئذ هي الاُصول المؤمّنة بعد سقوط إطلاق دليل النجاسة. ولا يتوهّم جريان استصحاب النجاسة؛ وذلك لأنّه سقط أيضاً بنفس نكتة سقوط إطلاق دليل النجاسة، وهو تبدّل العنوان؛ لأنّ العنوان كان هو موضوع الحكم، فبانتفائه سقط إطلاق الدليل، وسقط الاستصحاب أيضاً؛ لتبدّل الموضوع.

أمّا في المتنجّس، فالقول بمطهّريّة الاستحالة ـ لو فرضنا عدم تبدّل الجسم عرفاً ـ يواجه إشكالاً؛ وذلك لأنّ الخشب المتنجّس لو صار فحماً، فصحيح: أنّ عنوان الخشبيّة زال عنه، ولكنّ موضوع النجاسة لم يكن هو عنوان الخشبيّة، بل كان هو عنوان: ما لاقى النجس، فبناءً على عدم تبدّل الجسم يكون هذا الجسم المحفوظ ضمن الفحم نفس الجسم الذي لاقى النجس، فإطلاق دليل النجاسة يشمله، واستصحاب النجاسة أيضاً جار؛ لأنّ الموضوع لم يتبدّل.

وينحلّ الإشكال لو آمنّا بتبدّل الجسم ولو عرفاً، فعندئذ يكون موضوع دليل النجاسة

412


منتفياً، ويكون استصحاب النجاسة أيضاً ساقطاً بتبدّل الموضوع، فتصل النوبة إلى الاُصول المؤمّنة.

وقد حاول اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في بحثه في الاستحالة البرهنة على تبدّل الجسم ولو عرفاً، وذلك بما يمكن تجزئته إلى عدّة مقدّمات:

الاُولى: لا إشكال في أنّ مثل الخشبيّة أو الفحميّة تعتبر في الإلهام العرفيّ اُموراً جوهريّة لا عرضيّة، سواء صحّ ذلك فلسفيّاً، أو لا.

والثانية: لا إشكال في أنّ الصورة الجسميّة تعتبر في الإلهام العرفيّ أمراً جوهريّاً لا عرضيّاً، سواء صحّ ذلك فلسفيّاً، أو لا.

والثالثة: لا إشكال في أنّ كلّ فرد من الخشب أو الفحم أو نحو ذلك في نظر العرف فرد واحد من الجوهر، وحقيقة فاردة، وليس جوهرين عرضيّين مستقلّين.

وإذن، فبعد فرض جوهريّة كلٍّ من الصورة الجسميّة من ناحية، والصورة النوعيّة التي هي من قبيل: الخشبيّة أو الفحميّة من ناحية اُخرى ـ ولو في نظر العرف ـ لابدّ من افتراض: أنّ كلّ فرد من تلك الصورة النوعيّة مقوّم للفرد الذي في ضمنه من الصورة الجسميّة لدى نفس من يرى أنّ هذا الفرد من الخشب أو الجسم الفلانيّ جوهر واحد، لا جوهران عَرْضيّان ومحصِّل له، وإلاّ لكانا جوهرين عرضيّين مستقلّين.

والنتيجة: أنّه إذا تبدّلت الصورة النوعيّة في نظر من يحكم بتبدّلها ولو كان هو العرف، فقد تبدّل فرد الجسم في ذاك النظر.

وعليه فيحكم بطهارة المتحوّل إليه ولو بمعنى الأخذ بالاُصول المؤمّنة، بل يمكن استنتاج طهارة المتنجّس لو رجع مرّة اُخرى بعد الاستحالة، فالماء المتنجّس إذا تحوّل بخاراً ثُمّ رجع ماءً بالتعرّق بعد التبخّر، كان هذا الماء طاهراً؛ لأنّ هذا جسم جديد غير ما حكم عليه بالنجاسة؛ وذلك لأنّه حينما تحوّل بخاراً فقد تبدّل الجسم إلى جسم آخر بالبرهان الذي نقلناه عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، فحينما يرجع مرّة اُخرى ماءً سيكون هذا فرداً ←

413


جديداً من الماء لم يلاقِ النجاسة؛ لأنّه كما أنّ الانفصال الفلسفيّ يساوق التعدّد الفلسفيّ، والمعدوم فلسفيّاً يستحيل عوده فلسفيّاً، كذلك الانفصال العرفيّ يساوق التعدّد العرفيّ، والمعدوم عرفاً لا يقبل العود في نظر العرف.

وقد يُقابل هذا البرهان ببيان ينتج خلاف نتيجته، وهو: أنّه لو صحّ أنّ جسم الخشب قد تبدّل لدى العرف بتحوّله إلى الفحم بجسم آخر، لَما كان العرف يعبّر عن هذه العمليّة بقوله: «تحوّل الخشب فحماً»، بل كان يعبّر بتعبير: «أنّ الخشب قد انعدم ووجد الفحم»، في حين أنّه لا شكّ في أنّ هذه العمليّة تعتبر في نظر العرف تحوّلاً للخشب إلى الفحم، لا فناء شيء ووجود شيء آخر مستقلّ عن الأوّل.

وأجاب اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) عن ذلك بأنّ هذا التعبير لا يدلّ على أكثر من وجود خيط ممتدّ بين الحالتين، وقاسم مشترك متّصل يحسّ به العرف ـ ولو إجمالاً ـ بين الخشب والفحم، وقد تبادلت عليه صورتا الخشب والفحم، فليست الصورتان منفصلة أحداهما عن الاُخرى تماماً. أمّا أنّ ذاك القاسم المشترك عبارة عن الجسم، فغير معلوم، فليكن ذاك القاسم المشترك المحسوس إجمالاً عبارة عمّا أسماه الفلاسفة بالهيولى، والتي لا تقبل عرفاً أن تكون هي المعروضة للنجاسة؛ ولهذا ترى أنّه لدى تحويل المادّة إلى الطاقة يقول العرف أيضاً: «تحوّلت المادّة إلى طاقة»، ولا يقول: «انعدمت المادّة ووجدت طاقة مستقلّة عن تلك المادّة»، مع أنّ الجسم في هذا الفرض غير منحفظ(1) لدى تحوّلها إلى الطاقة.

ثُمّ إنّنا إذا لم نسلّم تبدّل الجسم عرفاً في المقام لدى تحوّل الخشب فحماً أو رماداً فقد يستدلّ على مطهّريّة الاستحالة بوجوه اُخرى نذكر بعضها:

الأوّل: أنّ دليل تنجّس ملاقي النجاسة بالسراية ليس عبارة عن دليل لفظيّ له إطلاق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وحتّى لو فرضت وحدة الجسم والطاقة بالدقّة، فلا إشكال في أنّ الجسم غير منحفظ عرفاً لدى التحوّل إلى الطاقة.

414


أو عموم، بل هو منتزع عن روايات متفرّقة في موارد متفرّقة، كالثوب والبدن والفراش ونحو ذلك، وهذه الروايات كما تنسجم مع فرضيّة كون موضوع النجاسة الجسم بما هو ذو صورة جسميّة محفوظة ـ حسب الفرض ـ حتّى بعد الاستحالة كذلك تنسجم مع فرضيّة كون موضوع النجاسة هو الجسم بما هو ذو صورة نوعيّة تبدّلت بالاستحالة، ومع عدم تعيّن الاحتمال الأوّل لا يمكن التعدّي من موارد تلك الروايات إلى ما بعد الاستحالة، كما أنّ استصحاب النجاسة أيضاً لا مورد له؛ لاحتمال تبدّل الموضوع. أمّا إذا رجعت العين الاُولى كما في الماء المتنجّس الذي تبخّر ثُمّ عاد ماءً، فمقتضى هذا الوجه لمطهّريّة الاستحالة أيضاً عدم تماميّة الإطلاق لدليل النجاسة بالنسبة لما بعد رجوع العين؛ وذلك لأنّ مورد النصوص هو ما قبل الاستحالة، واحتمال الفرق موجود. وأمّا استصحاب النجاسة: فإن قلنا بعدم عود المعدوم عرفاً، فهذا ماء آخر لا يجري فيه استصحاب النجاسة، وإن قلنا بعوده فبالإمكان أن يقال: إنّ استصحاب النجاسة جار؛ لأنّ موضوع النجاسة حتّى لو كان هو الجسم بما له من صورة نوعيّة فالموضوع قد عاد. نعم، يحتمل كون الحكم مقيّداً بما قبل الاستحالة والعود، لكن هذا لا يعدّ عرفاً من مقوّمات الموضوع التي بفقدها يبطل الاستصحاب، وانقطاع الحكم في فترة الاستحالة لا يمنع عن هذا الاستصحاب؛ لأنّه لم يكن انقطاعاً للحكم عن الموضوع، وانّما كان انقطاعاً بزوال الموضوع، وهذا النحو من انقطاع لا يضرّ بصدق عنوان نقض اليقين بالشكّ على عدم ترتيب الحكم على موضوعه بعد العود.

وعلى أيّ حال، فهذا الوجه يمكن أن يجاب عليه بما أفاده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) من وجود إطلاق في المقام، وهو قوله في موثّقة عمّار (الوسائل، ج 1، باب 4 من أبواب الماء المطلق، ح 1، ص 142 بحسب طبعة آل البيت): «يغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء»، فهنا إذا أصاب الخشب ذلك الماء ثُمّ صار فحماً وقد فرضنا انحفاظ الجسم السابق، فهذا الجسم يصدق عليه: أنّه أصابه ذلك الماء، فيكون محكوماً بالنجاسة.

415

وأمّا الدائرة الثانية وهي المشتقّات، فهل تدخل بتمامها في محلّ النزاع، أو أنّ بعضها خارج عن محلّ النزاع؟ من الواضح: أنّ بعض المشتقّات لا يدخل في محلّ


الثاني: أن يقال: إنّنا لئن بنينا على مطهّريّة الاستحالة في عين النجس، ففي المتنجّس بطريق اُولى، فإنّ المتنجّس إنّما تنجّس بالسراية من عين النجس، فهل يحتمل أنّ الكلب حينما يُحرَق فيصبح فحماً أو رماداً يطهر، لكن الخشب الذي تنجّس بملاقاة الكلب حينما يحرق فيصبح فحماً أو رماداً لا يطهر؟! وهذا الوجه ـ كما ترى ـ لا يبطل إطلاق دليل النجاسة في مورد عود العين كما لو رجع بخار الماء المتنجّس ماءً، ولا استصحابها؟!

والجواب: ما أفاده اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) في المقام من أنّ مطهّريّة الاستحالة لعين النجس لو كانت ثابتة بالدليل اللفظيّ، لأمكن التعدّي من عين النجس إلى المتنجّس بالأولويّة العرفيّة مثلاً، وبالملازمة العرفيّة، وذلك عملاً بلوازم الأمارات، ولكن الواقع: أنّ مطهّريّة الاستحالة لعين النجس لم تكن بدليل لفظيّ، بل كانت بقاعدة الطهارة أو بالاُصول المؤمّنة، ولوازمها غير حجّة، بل يمكن أن يعكس الأمر، وذلك بأن يتمسّك أوّلاً لإثبات عدم مطهّريّة الاستحالة للمتنجّس بإطلاق قوله في موثّقة عمّار: «يغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء» ثُمّ يتعدّى من ذلك إلى عين النجس بالأولويّة، فيقال: لئن كانت الاستحالة لا تطهّر المتنجّس، فهي لا تطهّر عين النجس بطريق أولى.

الثالث: أن يقال: إنّ دليل تنجّس المتنجّس المحمول عرفاً على سراية بعض آثار وخصوصيّات النجس إليه ليس له إطلاق في نظر العرف لفرض الاستحالة التي هي في فهم العرف استحالة لتلك الآثار والخصوصيّات أيضاً، فلا يمكن التمسّك بعد تحوّل الخشب فحماً أو رماداً بإطلاق قوله: «يغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء»، كما أنّ السراية مقوّمة عرفاً لموضوع التنجّس، فباحتراق كلّ الآثار السارية ينقطع استصحاب النجاسة أيضاً.

وأمّا إذا عادت العين بعد الاستحالة كما في الماء المتنجّس الذي تحوّل بخاراً ثُمّ تحوّل مرّة اُخرى ماءً، وافترضنا موافقة العرف على عود المعدوم، فشمول هذا الوجه للعين المعادة لإثبات الطهارة وعدمه مبنيّ على معرفة أنّ ما يعود هل هو الماء الزلال المصفّى عن كلّ الآثار التي سرى إليها بملاقاة النجاسة، أو أنّه يعود بما كان معه من التلوّثات؟

416

النزاع، كالمصادر وأسماء المصادر والأفعال؛ لفقدان الركن الاُوّل، وهو الجري على الذات، فيختصّ النزاع بخصوص الأوصاف الاشتقاقيّة، كأسماء الفاعلين والمفعولين والزمان والمكان والآلة والصفة المشبّهة.

وأمّا الدائرة الثالثة وهي الأوصاف الاشتقاقيّة، فقد ادّعي خروج بعضها عن محلّ النزاع، فمثلاً ادّعي في بعض كلمات المحقّق النائينيّ(رحمه الله)(1) أنّ اسم الآلة خارج عن محلّ النزاع؛ إذ لا إشكال في عدم اشتراط بقاء التلبّس؛ بدليل: أنّه يصحّ الإطلاق حقيقة حتّى قبل التلبّس، فما ظنّك به بعد التلبّس، فالمفتاح قبل الفتح به يسمّى مفتاحاً.

وهذا الكلام جوابه واضح؛ وذلك لأنّ التلبّس إنّما هو باعتبار مبدئه، ومبدأ المفتاح إن كان هو الفتح لم نقبل صدق المفتاح حقيقة قبل الفتح، ولا نقبل خروجه عن محلّ النزاع. وإن كان هو شأنيّة الفتح، فأيضاً يكون داخلاً في محلّ النزاع؛ إذ قد يخرج المفتاح عن الشأنيّة كما إذا حصل تآكلٌ فيه، وتناقص في أسنانه بحيث خرج عن شأنيّة الفتح.

ومن جملة ما توهّم خروجه: أسماء الزمان؛ إذ بانقضاء المبدأ ينقضي الزمان، فلا معنى للتكلّم في أنّه بعد الانقضاء يصدق العنوان، أو لا؟

وقد تُخلِّص عن الإشكال بوجوه:

الوجه الأوّل: ما ذكره في الكفاية(2) من أ نّا نسلّم أنّ الذات يستحيل بقاؤها بعد


(1) راجع أجود التقريرات، ج 1، ص 83 ـ 84 بحسب الطبعة التي عليها تعليق السيّد الخوئيّ(رحمه الله).

(2) ج 1، ص 60 بحسب طبعة المشكينيّ.



417

انقضاء المبدأ، لكن مع هذا لا بأس بالوضع للأعمّ، غاية ما هناك: أنّ أحد فردي هذا المعنى الأعمّ مستحيل، وأيّ مانع للوضع للجامع بين الممكن والمستحيل؟! بل لا مانع للوضع لخصوص المستحيل، فإنّ المقصود من وراء وضع اللفظ لمعنىً ما ليس وجوده، بل تصوّره، وتصوّر المستحيل ممكن. فكأنّ صاحب الجواب يريد أن يبيّن بياناً قريباً للبيان الذي بيّنّاه من أنّ الاستحالة الفلسفيّة لا تمنع عن الوضع للأعمّ، فيقول: إنّ المقصود من الوضع: الاستعمال لا الإيجاد خارجاً، والاستعمال يتوقّف على التصوّر وهو ثابت.

ولكن هذا الكلام غير صحيح؛ لأنّ الاستحالة هنا بالدقّة ليست استحالة فلسفيّة


وقد ذكر الشيخ الإصفهانيّ(رحمه الله) تعليقاً على هذا الجواب: أنّ هذا وإن كان يحلّ الإشكال، إلاّ أنّ تحرير النزاع في الزمان لا تترتّب عليه ثمرة البحث؛ لأنّ ثمرة البحث تظهر فيما انقضى عنه المبدأ، والمفروض أنّه لا مصداق لذلك في اسم الزمان. نعم، إذا قلنا: إنّ اسم الزمان واسم المكان واحد، وإنّ المقتل مثلاً يدلّ على وعاء القتل من دون ملاحظة خصوصيّة الزمان أو المكان، فعدم المصداق بلحاظ الزمان لا يوجب لغويّة النزاع؛ لكفاية المصداق بلحاظ المكان (راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 100 بحسب طبعة مطبعة الطباطبائي بقم).

أقول: إن كان المقصود بهذا الكلام بطلان النزاع، وعدم إمكانه في اسم الزمان (لو لم نقل باتّحاده مع اسم المكان) لانحصار المصداق عندئذ في المتلبّس، فمن الواضح: أنّ فقدان الثمرة لا يوجب بطلان النزاع وعدم إمكانه. وإن كان المقصود الاعتراض على تعميم النزاع بنكتة لغويّته، وأنّ مجرّد إمكانه لا يبرّر تعميم النزاع بعد أن كان ذلك لغواً وبلا فائدة، فمن الواضح: أنّ النزاع لا يجعل في خصوص اسم الزمان كي يرد عليه اللغويّة، وإنّما يكون النزاع في المشتقّ، وأنّه: هل هو حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ، أو لا؟ ويكفي في صحّة هذا النزاع وعدم لغويّته ثبوت الثمرة في بعض أقسامه، ولا يضرّ بإطلاق النزاع انعدام الثمرة في بعض الأقسام؛ فإنّ الإطلاق لم يكن مشتملاً على مؤونة زائدة حتّى يجب الفحص لها عن الثمرة.

418

فحسب، بل ترجع إلى الاستحالة المنطقيّة؛ للاشتمال على التناقض؛ إذ إنّ انقضاء المبدأ يشتمل على التجدّد الذي هو الزمان، وانقضاء الزمانيّ إنّما هو بانقضاء الزمان، فالانقضاء أوّلاً وبالذات للزمان، وثانياً وبالعرض للزمانيّ، فانقضاء المبدأ هو عبارة عن تجدّد زمان آخر، وانتهاء زمانه، وإلاّ ففي لوح غير زمانيّ الحوادث غير منقضية، وبنظرة لا زمانيّة الحوادث كلّها موجودة، فإذا كان انقضاء المبدأ هو عين انقضاء الزمان، ففرض انقضاء المبدأ مع بقاء الزمان تناقض.

الوجه الثاني: ما ذكره جماعة من المحقّقين، كالمحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله)(1) والسيّد الاُستاذ ـ دامت بركاته ـ(2) وغيرهما: من أنّ اسم الزمان بنفسه هو اسم المكان، أي: أنّ لفظاً واحداً وضع لظرف الفعل سواء كان زماناً أو مكاناً، ويكفي في جريان النزاع فيه تعقّل انقضاء المبدأ، وانحفاظ الذات ولو في بعض المصاديق.

وهذا الجواب ممّا لا يمكن المساعدة عليه؛ لأنّ أسماء الزمان والمكان إنّما هي متداخلة في اللفظ فقط، من دون أن يعني هذا التداخل: أنّ كلمة (مقتل) مثلاً لها معنىً واحد بوضع واحد، بل هنا معنيان. وتوضيح ذلك: أنّ كلمة «مقتل» مثلاً لابدّ أن توضع لذات ملحوظة ظرفاً للقتل، فإذا فرض أنّ المأخوذ في المعنى الموضوع له لذلك هو عنوان الظرفيّة بما هو معنىً اسمي أمكن تصوير معنىً جامع ينطبق على ظرف الزمان وظرف المكان؛ لأنّ عنوان ظرف القتل ينطبق على كليهما، ولكن من الواضح: عدم أخذ المفهوم الاسمي للظرفيّة في ذلك؛ لوضوح: أنّ مفهوم الظرفيّة كمفهوم الفاعليّة والمفعوليّة والآليّة تنتزع من الصورة التي نفهمها من المشتقّ، لا أنّها تدخل في مفهومه، فلا ينتقل


(1) راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 100 بحسب طبعة مطبعة الطباطبائيّ بقم.

(2) راجع المحاضرات، ج 1، ص 232 ـ 233 بحسب طبعة مطبعة النجف، وراجع أيضاً أجود التقريرات، ج 1، ص 56 ـ 57 تحت الخطّ.

419

ذهننا ابتداءً من كلمة «مقتل» إلى مفهوم الظرفيّة، وإنّما كلمة «مقتل» تدلّ على ذات ونسبة ومبدأ، وننتزع من صورة ذلك المفهوم الظرفيّة، كما أنّ اسم الفاعل يدلّ على ذات ونسبة ومبدأ، وبعد هذا ننتزع منه مفهوم الفاعليّة، وعندئذ فإذا كانت نسبة المكان إلى المكين مع نسبة الزمان إلى الزمانيّ من سنخ واحد، أمكن أن يقال: إنّ لفظ «مقتل» موضوع للذات الجامع بين الزمان والمكان مع نسبته إلى القتل، ولكن الصحيح: أنّهما نسبتان متباينتان فلسفيّاً وعرفاً، وليستا من سنخ واحد، أمّا فلسفيّاً فلأنّ نسبة الشيء إلى مكانه عبارة عن مقولة الأين، أو مقوّم مقولة الأين، ونسبة الشيء إلى زمانه عبارة عن مقولة المتى، أو مقوّم مقولة المتى، ومن المعلوم: أنّ هاتين المقولتين من المقولات العالية التي اعتبروها ماهيات متباينة سنخاً وذاتاً، وليس حالهما حال فردين من ماهية. وأمّا عرفاً فلأنّه لا إشكال في التباين الوجدانيّ بينهما، فحينما نتصوّر واقع احتواء يوم عاشوراء للقتل، واُخرى نتصوّر واقع احتواء كربلاء له، نرى أنّ سنخ أحد الاحتواءين غير سنخ الآخر، ولا جامع بينهما، فلابدّ من الوضع لكلتا النسبتين بأن يكون للمقتل مدلولان: أحدهما للزمان، والآخر للمكان، فيبقى الإشكال في اسم الزمان على حاله.

وصفوة القول: إنّ هنا خلطاً بين مفهوم الظرفيّة وواقعها، فلو كان اُخذ فيه مفهوم الظرفيّة، وكان موضوعاً للذات التي هي ظرف (بهذا المفهوم الاسميّ) لأمكن الوضع للجامع، لكن هذا غير صحيح، وإنّما المأخوذ واقع النسبة الظرفيّة، والنسبتان متباينتان.

الوجه الثالث: ما أفاده المحقّق العراقيّ(رحمه الله)(1) وهو: أنّ الزمان الذي ينقضي


(1) راجع المقالات، ج 1، ص 179 بحسب طبعة مجمع الفكر الإسلاميّ، وراجع نهاية الأفكار، ج 1، ص 129 بحسب طبعة جماعة المدرّسين بقم.

420

بانقضاء المبدأ إنّما هو تلك اللحظة التي وقع فيها القتل، وتلك القطعة الخاصّة من الزمان، ولكن تلك القطعة من الزمان باعتبار اتّصالها مع باقي القطعات تكون موجودة بوجود وحدانيّ؛ فإنّ الاتّصال يساوق الوحدة، وهذا الوجود الوحدانيّ الطويل له بقاء بعد انقضاء المبدأ.

وهذا لا يرد عليه ما أورده المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله)(1) من دعوى: أنّ المتّصف حقيقة بالحدث إنّما هو تلك القطعة، لا هذا الواحد الاتّصاليّ كما هو الحال أيضاً في الأجسام الخارجيّة، فلو وقعت حمرة على جزء من الفراش مثلاً، فخصوص ذلك الجزء يتّصف بالاحمرار، لا الجسم بتمامه، وكذلك الأمر في المقام.

فإنّ هذا الكلام غير صحيح؛ لأنّ هناك فرقاً بين الواحد المتّصل العرْضيّ الأجزاء والواحد المتّصل التدريجيّ الأجزاء، ففي الأوّل ليست حمرة الجزء حمرة لذلك الوجود الاتّصاليّ؛ لأنّ هذا الجزء ليس هو تمام وجوده الآن، بل جزء وجوده. وأمّا الواحد المتّصل التدريجيّ كعمود الزمان، فتمام وجوده في ذلك الحال هو ذلك الجزء، ودائماً يكون وجوده بوجود جزئه، فإذا اتّصف هذا الجزء الزمانيّ بالمقتليّة فقد اتّصف الواحد الطويل بالمقتليّة؛ لأنّ وجود هذا الواحد الطويل في هذا الحال بوجود هذا الجزء، بينما وجود الواحد العرضيّ ليس بوجود هذا الجزء، فكلام المحقّق العراقيّ(رحمه الله) باق على وجاهته.

نعم، قد تأتي هنا شبهة اُخرى، وهي: أنّه يلزم من هذا الكلام كون القائل بالأعمّ ملتزماً بصحّة إطلاق اسم الزمان على الزمان إلى يوم القيامة، فنقول عن هذا الوقت: إنّه مقتل زكريّا(عليه السلام)؛ لأنّه متّصل بزمان قتله، بينما لا يكون الأمر هكذا.


(1) راجع نهاية الدراية، ج 1، ص 98 ـ 99 بحسب طبعة مطبعة الطباطبائيّ بقم.