492

الوجه الثالث: ما أفاده الشيخ الأعظم(قدس سره) من اختصاص مفاد الآية الشريفة بقول الفقيه، وهذا له تقريبان:

التقريب الأوّل: هو التمسّك بقوله: ﴿ليَتَفَقَّهُوا﴾ بأن يقال: إنّ معنى التفقّه هو الاجتهاد، فالآية إنّما تدلّ على حجّيّة رواية الفقيه دون غيره.

ويمكن الجواب على ذلك بما في الكفاية من عدم القول بالفصل، والقطع بعدم الفرق بين الفقيه وغيره بحجّيّة رواية الفقيه دون غيره. ومنظور الشيخ الأعظم(رحمه الله)ليس هو هذا التقريب، بل هو التقريب الثاني.

التقريب الثاني: هو التمسّك بقوله: ﴿لِيُنذِرُوا﴾ بتقريب أنّ مجرّد الرواية ليست إنذاراً للسامع، فإنّ السامع قد لا يسلّم ظهورها في الحكم الفلانيّ، أو عدم ابتلائها بالمعارض، أو المخصّص، ونحو ذلك. وإنّما المستفاد من الإنذار هو أن يعمل المتكلّم نظره في المقام، ويعيّن الحكم بالاجتهاد بمرتبة من مراتبه البسيطة، أو المعقّدة، ويسجّله على السامع.

وهذا أحسن ما أفاده في المقام، ولا يرد عليه ما ورد على التقريب الأوّل؛ إذ ليس هو تفصيلاً بين رواية ورواية، بل تفصيل بين الفتوى والرواية، ولا نقطع بعدم الفرق بينهما.

 

3 ـ آية الكتمان:

الآية الثالثة: آية الكتمان، وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُون﴾(1).


(1) سورة البقرة، الآية: 159.

493

وتقريب الاستدلال بهذه الآية هو كالوجه الثاني من وجوه تقريب الاستدلالبآية النفر، بأن يقال: إنّ آية الكتمان دلّت بإطلاقها على حرمة الكتمان، أي: وجوب الإظهار حتّى مع فرض عدم إيجابه للعلم، وهذا يدلّ بدلالة الاقتضاء على وجوب القبول عند الإظهار وحجّيّة كلامه، وإلّا للغى الإطلاق في كلام الحكيم.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ الكتمان ليس بمعنى عدم الإظهار، بل اُخذ في معناه التعمّد في الإخفاء، وعدم الإظهار، فلا يستفاد من الآية الشريفة وجوب الإظهار بما هو إظهار، كي تستنتج منها حجّيّة الإظهار ولو لم يفد العلم. ولعلّها بصدد بيان الحرمة النفسيّة لإخفاء الأحكام من الناس، وتبعيدهم عن الدين وشرائعه.

وثانياً: أنّه لا يبعد أن يكون المقصود ـ بقرينة قوله: ﴿مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾ ـ تحريم الكتمان بملاك تكذيب ما بيّنه الله تعالى، وذلك بأن يكون المقصود ـ بناءً على أنّ المراد بالكتاب هو القرآن ـ: أنّنا أنزلنا في القرآن أنّ هذه الرسالة مذكورة في التوراة والإنجيل، ويكون كتمان علماء اليهود والنصارى المدّعين للاطّلاع على التوراة والإنجيل الواقعيّين لذلك وإنكارهم للعلم به تكذيباً لكلامنا ورسالتنا، وذلك حرام عليهم بما هو تكذيب للرسالة الإلهيّة وكلام الله تعالى، بالإضافة إلى أنّ هذا التكذيب يوجب الوهن والضعف في دعوة الرسول(صلى الله عليه وآله)بالنسبة لبعض ضعفاء النفوس، ولا أقلّ من كون قوله: ﴿مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾محتمل القرينيّة على المعنى الذي ذكرناه، فيوجب الإجمال.

وثالثاً: أنّ الظاهر من عنوان البيّنات والهدى هو ما يكون في ذاته بوضوحه وجلائه مقتضياً للعلم والهداية إلى دين الحقّ، وهو التبشير بهذه الرسالة بتلك العلامات الخاصّة المتواجدة في الكتب السابقة، والكتمان أثره إيجاد المانع عن تأثير هذا المقتضي الواضح بالنسبة لبعض ضعفاء النفوس، وتحريم الكتمان المانع عن تأثير المقتضي للعلم لا يدلّ على حجّيّة الإظهار كما لا يخفى.

494

ورابعاً: أنّ المذكور في الآية الشريفة هو البيّنات والهدى لا الأحكام، والظاهر من البيّنات والهدى الأدلّة الواضحة، فلا يبعد أن يكون اللام في ذلك إشارة إلى أدلّة واضحة معيّنة معهودة، وهي التبشيرات الثابتة في الكتب السابقة، وهي من أدلّة النبوّة التي هي من اُصول الدين، فليس في الآية إطلاق يشمل الأحكام، كي يثبت بذلك حجّيّة الخبر بلحاظها، ومن المعلوم عدم حجّيّة خبر الواحد في اُصول الدين، ولو فرض احتمال حجّيّته في اُصول الدين في الجملة لا تحتمل حجّيّته في مثل المورد، فإنّ مَن لا يعترف بنبوّة الرسول لا يعقل اعترافه بحجّيّة خبر الواحد ببيان الرسول المثبت لنبوّته؛ للزوم الدور. هذا، مضافاً إلى أنّ نبوّته(صلى الله عليه وآله) كانت منجّزة عليهم، أي: أنّ المقتضي لحصول العلم كان تامّاً وإنّما المانع عنه كان هو ابتلاؤهم بشبهات التقليد واتّباع الآباء ونحو ذلك، فكان عدم حصول العلم باختيارهم، ومع تنجيز النبوّة سابقاً لا مورد لمنجّزيّة السؤال والجواب، ومن المعلوم أنّ إظهار التبشيرات به في الكتب السابقة يؤكّد هذا المقتضي ويشدّد تنجّز النبوّة، أي: يوجب كون الحجّيّة عليهم أتمّ وألزم، وهذا يكفي في عدم لغويّة وجوب الإظهار.

وهذا الوجه الرابع يحتاج فهمه من الآية إلى مزيد ذوق، وقد يحصل القطع به لمن له هذا المزيد من الذوق.

وخامساً: أنّ تقريب الاستدلال بهذه الآية كان كالوجه الثاني من الوجوه الثلاثة للاستدلال بآية النفر، فيرد عليه ما أوردناه على ذاك الوجه: من احتمال تعميم الحكم بالإظهار لفرض عدم إيجابه للعلم تحفّظاً على الإظهار الموجب للعلم، حيث إنّ المكلّف قد يخطأ في تشخيصه لذلك، وليست هناك علامة يجعلها المولى للعبد مانعة عن الخطأ والاشتباه.

ثُمّ إنّ الشيخ الأعظم(قدس سره) أورد على الاستدلال بآية الكتمان بمثل ما مرّ منه في آية النفر: من أنّ الواجب إنّما هو إظهار الحقّ، وهو الموضوع لوجوب القبول، ومع

495

الشكّ في كونه إظهاراً للحقّ ومطابقاً للواقع لم يحرز موضوع القبول. والجواب على ذلك ما مضى منّا في آية النفر: من أنّ وجوب قبول الخبر المطابق للواقع عند الشكّ في مطابقته يكشف عن حجّيّة مطلق الخبر؛ لعدم معقوليّته بدونها.

 

4 ـ آية السؤال:

الآية الرابعة: آية السؤال، وهي قوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون﴾(1).

وتقريب الاستدلال: أنّ الآية دلّت على وجوب السؤال مطلقاً، أي: وإن لم يستلزم الجواب العلم، وذلك دليل على وجوب القبول مطلقاً، وإلّا للغى إطلاق وجوب السؤال.

واُورد عليه بأنّ المقصود من أهل الذكر أهل العلم، وهذا يعني رجوع العامي للعالم، أي: يدلّ على حجّيّة فتوى المجتهد للعامي دون خبر الراوي.

واُجيب على ذلك: بأنّ عنوان أهل العلم والخبرة يختلف بالنسبة للأشخاص، فالمجتهد يكون من أهل العلم والخبرة بالنسبة للعامي الذي يرجع إليه في الفتاوى التي يجهلها، وراوي كلام الإمام يكون من أهل العلم والخبرة بالنسبة للمجتهدالمحتاج إلى كلام الإمام، والإمام يكون بالنسبة للاُمّة من أهل العلم والذكر،


(1) وردت هذه الآية المباركة في موردين: أحدهما: سورة النحل، قال تعالى ـ في الآية: 43 و44 ـ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إلّاَ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَ لُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون﴾. والثاني: سورة الأنبياء، قال الله تعالى ـ في الآية 7 و8 ـ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إلّاَ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَ لُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِين﴾.

496

والرسول(صلى الله عليه وآله)يكون بالنسبة للأئمّة(عليهم السلام) من أهل العلم والخبرة، فأهل العلم والذكر بالنسبة لكلّ شخص وفي كلّ شيء بحسبه، وقد دلّت الآية على حجّيّة قول أهل الذكر على الإطلاق.

أقول: إنّ الاستدلال بالآية الشريفة على حجّيّة خبر الواحد غير صحيح؛ إذ يرد عليه:

أوّلاً: أنّ مقتضى سياق الآية، وملاحظة مقطعها الواقع فيه هذه الآية هو أنّها في مقام الاحتجاج مع الخصم الجاهل باُصول النبوّة، المنكر لنبوّة الرسول(صلى الله عليه وآله)، المتخيّل أنّ الرسول ينبغي أن يكون من جنس آخر غير الإنسان، فهذا الأمر ليس صادراً من المولى بما هو مولى ومتقمّصاً قميص المولويّة، كي يحمل على الأمر المولويّ، وإنّما هو صادر منه بما هو مباحث ومحاجّ مع الخصم المنكر لرسالة الرسول(صلى الله عليه وآله)، فلا يدلّ على إيجاب السؤال كي يدلّ على إيجاب القبول صوناً للإطلاق عن اللغويّة، والذي يحتجّ مع الخصم قد يستعين بجملة خبريّة، وقد يستعين بجملة إنشائيّة وبالأمر.

وثانياً: أنّ متعلّق السؤال في الآية المحذوف إنّما يمكن أن يقال بكونه عامّاً بدعوى أنّ حذف المتعلّق يفيد العموم ـ مثلاً ـ لولا وجود قرينة تعيّن ذاك المحذوف، وعندئذ بالإمكان أن يقال: إنّ كون مورد الآية من اُصول الدين لا يمنع عن الأخذ بدلالة إطلاقها على حجّيّة خبر الواحد في الأحكام؛ إذ لا يلزم من ذلك إخراج المورد كي لا يصحّ، وإنّما الثابت هو تقييد إطلاق المورد بأن يقيّد السؤال والقبول في المورد بخصوص فرض حصول العلم، وتبقى الآية في باب الأحكام على إطلاقها، فتثبت بذلك حجّيّة خبر الواحد في الأحكام.

ولكن الواقع أنّ هناك قرينة تعيّن المحذوف في المقام، وهي سياق الآية وتفريعها بالفاء على قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم﴾، فهذه قرينة على أنّ السؤال يكون عن هذا المطلب، وهو كون الرسل السابقين من جنس البشر وعدمه، دفعاً لكلام الخصم المنكر لرسالة الرسول(صلى الله عليه وآله) بحجّة كونه بشراً،

497

وبالنسبة لمثل هذا المورد لا مجال لحجّيّة خبر الواحد لنفس النكات الثلاث الماضية في الإشكال الرابع من إشكالات آية الكتمان.

وثالثاً: أنّ الظاهر أنّ المقصود بالذكر هو الرسالة والدين لا العلم، فإنّه كثيراً مّا يطلق في القرآن الكريم على الرسالة باعتبار كونها مذكّرة للإنسان نحو الطبائع الفطريّة الصحيحة التي اُجبل الإنسان عليها ونسيها بسبب البعد عن المنبّهات وعن عالم الإنسانيّة، وعلى الكتاب باعتبار تمثّل الرسالة فيه، وعلى الرسول باعتبار كونه حاملاً للرسالة، ولو تصفّحت في القرآن الكريم لوجدت موارد كثيرة ممّا استعمل فيها كلمة الذكر تناسب هذا المعنى الذي ذكرناه لا معنى العلم، كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون﴾(1). وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الاَْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُون﴾(2). ولعلّ المقصود بقوله: ﴿مِن بَعْدِ الذِّكْر﴾ يعني من بعد التوراة باعتبار كون الزبور فرعاً لها. وقال تعالى: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾(3). وقال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾(4).

فإذا فسّرنا الذكر في آية السؤال بمعنى الرسالة كانت هذه قرينة اُخرى غير ما مضى في الإشكال الثاني على كون الآية واردة في أصل من اُصول الرسالة، وأنّه لا إطلاق فيها للأحكام، فإنّ المقصود بالخطاب مَن لا يعرف اُصول الرسالة ودلالته على السؤال عن أهل الذكر، أي: أهل الرسالة والكتاب العارفين باُصول الرسالة.

ولا أقلّ من أنّ ما ذكرناه: من المعنى للذكر، ليس بأبعد من تفسيره بالعلم، فإنّ


(1) سورة الحجر، الآية: 9.

(2) سورة الأنبياء، الآية: 105.

(3) سورة الأنبياء، الآية: 10.

(4) سورة النحل، الآية: 44.

498

تفسيره بالعلم لم يكن على أساس المعنى اللغويّ، وإنّما كان على أساس التوجيه بأنّ الذكر من التذكّر المستلزم للعلم، فاستعمل في العلم.

ورابعاً: أنّ المحتملات في قوله في ذيل الآية: ﴿إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون﴾عديدة:

الأوّل: أن يكون المقصود به مجرّد التعليق من قبيل: إن استطعت فحجّ، وعليه يتمّ الاستدلال بالآية بغضّ النظر عن باقي الإشكالات.

والثاني: أن يكون المقصود به ذكر أمد الحكم، أي: فاسألوا أهل الذكر إلى أن تعلموا، نظير قولك: إن لم تكن مجتهداً فادرس، أي: ادرس إلى أن تصبح مجتهداً. وعليه لا تدلّ الآية على المقصود كما هو واضح.

والثالث: أن يكون المقصود بيان غرض الحكم، وعندئذ تارةً يفسّر ذلك بالمعنى المصدريّ، أي: فاسألوا أهل الذكر لكي تعلموا، فلا تدلّ أيضاً على المقصود، واُخرى يفسّر ذلك بمعنى اسم المصدر، أي: فاسألوا لكي تكونوا عالمين، وعندئذ يمكن دعوى ظهور ذلك في أنّ مجرّد سماع الجواب يجعلكم عالمين ولو تعبّداً. وعليه تدلّ على المقصود.

وتعدّد الاحتمالات بعد أن لم يكن ما يساعد منها على المقصود أظهر من الباقي يكفي في سقوط الاستدلال بها.

وخامساً: ما عرفته في آيتي الكتمان والنفر من أنّ المحتمل الإيجاب مطلقاً حتّى مع عدم حصول العلم تحفّظاً على فروض حصول العلم؛ لأنّه قد يخطأ العبد ويتخيّل أنّ المورد ليس مورد حصول العلم، ولا توجد علامة تُعطى له لدفع هذا الخطأ والاشتباه(1).

 


(1) الآية الخامسة: آية الاُذن، وهي قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْر لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم﴾ سورة التوبة، الآية: 61.

499


وجه الاستدلال: أنّ الله تعالى مدح نبيّه(صلى الله عليه وآله) بإيمانه للمؤمنين، وهو بمعنى قبوله لنقلهم وتصديقه لهم، ولا مورد للمدح لولا الحجّيّة.

وقد أجاب السيّد الخوئيّ على الاستدلال بهذه الآية ـ بحسب ما جاء في مصباح الاُصول ـ بأنّه لا ملازمة بين تصديق المخبر والعمل بإخباره وترتيب الأثر عليه؛ إذ قد يراد من تصديقه عدم المبادرة إلى تكذيبه، وعدم نسبة الكذب إليه بالمواجهة، وهذا أمر أخلاقيّ دلّ عليه بعض الروايات ...

أقول: قد يعترض على هذا الكلام بأنّ الإيمان ظاهر في التصديق الحقيقيّ لا التصديق الأخلاقيّ، وللتخلّص من ذلك لابدّ من سلوك أحد طريقين: الأوّل: أن يدّعى أنّ التصديق الحقيقيّ غير محتمل في المقام، وإنّما المدّعى للمستدلّ هو التصديق التعبّديّ، ولم يعلم كونه أظهر من التصديق الأخلاقيّ. والثاني: إبراز القرينة من الآية على كون المقصود هو التصديق الأخلاقيّ، وهذا ما فعله الشيخ الأنصاريّ(رحمه الله)، فقد أبرز الشيخ الأنصاريّ(رحمه الله)قرينتين من الآية على ذلك:

إحداهما: قوله: ﴿أُذُنُ خَيْر لَّكُمْ﴾؛ إذ لو كان المقصود بذلك التصديق بمعنى ترتيب الآثار لما كان اُذن خير للجميع؛ إذ لو أخبره أحد بزنا أحد، أو شربه، أو قذفه، أو ارتداده، فقتله النبيّ(صلى الله عليه وآله)، أو جلده لم يكن في سماعه ذلك الخبر خير للمخبَر عنه، بل كان محض الشرّ له خصوصاً مع عدم صدور الفعل منه في الواقع. انتهى ما أوردنا نقله عن الشيخ(رحمه الله).

وقد يقول قائل: إنّ قوله: ﴿أُذُنُ خَيْر لَّكُمْ﴾ إنّما يدلّ على كونه اُذن خير للذينيسمعهم لا على كونه اُذن خير للجميع.

ولكن الواقع أنّ لسان الآية الظاهر في إبراز رحمة النبيّ وعطفه وحنانه لا يناسب فرض تصديق المخبر بالشكل الذي يوجب إنزال الغضب والعذاب على المخبَر عنه،

500

هذا تمام ما ينبغي أن يذكر في المقام: من الآيات التي استدلّ بها على حجّيّة خبر الواحد.

وقد ظهر بهذا العرض أنّه لا يوجد في القرآن الكريم في حدود فهمنا ما يدلّ على حجّيّة خبر الواحد.

 


وإنّما يناسب التصديق بمعناه الأخلاقيّ، ولعلّ هذا هو مقصود الشيخ الأعظم(رحمه الله)، بل إنّ لسان إبراز الرحمة والعطف لا علاقة له بالحجّيّة التعبّديّة.

والثانية: تكرار كلمة يؤمن، والاختلاف في حرف التعدية، حيث عدّاها إلى اسم الجلالة بالباء، وإلى المؤمنين باللام، فالتكرار، وكذا الاختلاف في حرف التعدية قرينة على اختلاف معنى الإيمان في الموردين.

ويرد عليه: أنّ هذا التكرار والاختلاف إنّما هو لأجل أنّ المقصود من الإيمان بالله هو الإيمان بذاته، والمقصود من الإيمان للمؤمنين هو تصديق كلامهم.

وممّا يؤيّد كون المقصود بالإيمان هو التصديق الأخلاقيّ ما قيل عن مورد نزول الآية: من أنّ الله تعالى أخبر نبيّه(صلى الله عليه وآله)بنميمة عبدالله بن نفيل على النبيّ، فعاتبه الرسول(صلى الله عليه وآله)، فحلف أنّه لم يفعل، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): قد قبلت منك. فاتّهم النبيّ(صلى الله عليه وآله)بأنّه اُذن.

وللشيخ الأعظم(رحمه الله) جواب آخر عن الاستدلال بالآية، وهو: أنّ الاُذن يعني سريع التصديق والاعتقاد بالصدق، لا القبول التعبّديّ.

ولعلّ مقصوده(رحمه الله) بهذا: أنّ الله تعالى مدح نبيّه(صلى الله عليه وآله) بتقمّصه ظاهراً قميص مَن هو سريع الاعتقاد، ويكفي في ذلك التصديق الأخلاقيّ، ولا علاقة للحجّيّة التعبّديّة بذلك، فهذا يرجع بروحه إلى قرينة اُخرى على كون المراد بالإيمان التصديق الأخلاقيّ. أمّا لو أردنا أن نأخذ بظاهر كلام الشيخ كي يصلح وجهاً مستقلاًّ للجواب في مقابل الحمل على التصديق الأخلاقيّ فهو واضح البطلان؛ إذ لا يعقل أن يكون النبيّ(صلى الله عليه وآله) سريع التصديق والاعتقاد بما يسمعه، ولا يعقل مدح الله تعالى إيّاه بذلك.

501

 

دلالة السنّة على حجّيّة الخبر

الثاني: السنّة. وقد ذكروا أنّه لابدّ في مقام الاستدلال على حجّيّة خبر الواحد بالسنّة من التمسّك بالتواتر لا بخبر الواحد؛ إذ الاستدلال بخبر الواحد على حجّيّة خبر الواحد مصادرة.

وقسّم المحقّق النائينيّ(قدس سره) التواتر بالتقسيم التقليديّ المتعارف: من أنّه إمّا لفظيّ، وإمّا معنويّ، وإمّا إجماليّ. وذكر ـ على ما نقل عنه تلميذه السيّد الاُستاذ ـ بأنّ اللفظيّ ما اتّفقت فيه الأخبار في اللفظ، والمعنويّ ما اتّفقت فيه في المعنى، والإجماليّ ما لم تتّفق فيه الأخبار لا في اللفظ ولا في المعنى.

ولا ندري أنّ مقصوده(قدس سره) ممّا فسّر به التواتر الإجماليّ ما يشمل فرض وجود قدر مشترك بين تلك الأخبار أو لا. ولعلّ ما سيأتي ـ من تعليق تلميذه الناقل عنه هذا الكلام على ما يقوله المحقّق النائينيّ من عدم إفادة التواتر الإجماليّ للقطع ـ يلقي ضوءاً على مقصود المحقّق النائينيّ، ويفيد أنّ فرض وجود قدر مشترك داخل في باب التواتر الإجماليّ(1).

 


(1) لا يخفى أنّ ما نقله السيّد الخوئيّ في أجود التقريرات عن اُستاذه المحقّق النائينيّ(رحمه الله)صريح في إدخال فرض وجود القدر المشترك بين الأخبار في التواتر المعنويّ، وتخصيص التواتر الإجماليّ بما إذا لم يكن قدر مشترك فيما بينها. وأمّا ما ورد في فوائد الاُصول للمحقّق الكاظميّ(رحمه الله) فهو يختلف تماماً عمّا في أجود التقريرات؛ إذ يدلّ على الإيمان بالتواتر الإجماليّ حيث يقول: «لا يتوهّم أنّ الأخبار الدالّة على حجّيّة خبر الواحد من أخبار الآحاد، فلا يصحّ الاستدلال بها على حجّيّته، فإنّها لو لم تكن أغلب طوائفها متواترة معنىً فلا إشكال في أنّ مجموعها متواتر إجمالاً؛ للعلم بصدور

502

وعلى أيّة حال، فالمحقّق النائينيّ(قدس سره) ذكر: أنّ التواتر اللفظيّ والتواتر المعنويّ يفيدان العلم، والتواتر الإجماليّ لا يفيد العلم، فإنّ كلّ واحد واحد من تلك الأخبار يحتمل كذبه، فكذلك الجميع.

وذكر السيّد الاُستاذ تعليقاً على ذلك: أنّ التواتر الإجماليّ أيضاً يفيد العلم بصدور بعض تلك الأخبار كاللفظيّ والمعنويّ، والاستدلال على عدم إفادته للعلم بأنّ كلّ واحد منها يحتمل كذبه لو تمّ لجرى في التواتر اللفظيّ والمعنويّ أيضاً؛ إذ يحتمل في كلّ واحد واحد من الأخبار المتواترة لفظاً أو معنىً الكذب. وتظهر ثمرة إفادة التواتر الإجماليّ للعلم فيما إذا كان بين تلك الأخبار قدر مشترك، فإنّه يثبت عندئذ ببركة التواتر الإجماليّ ذاك القدر المشترك.

أقول: إنّ حصول القطع بالتواتر قائم على أساس حساب الاحتمالات، وضعف احتمال كذب الجميع، إمّا بمضعّف كمّيّ، وهو مجرّد ضرب مخارج الاحتمالات للكذب الموجودة بعدد الأخبار، أو مع مضعّف كيفيّ، وهو اشتراك تلك الأخبار في جامع إمّا بلحاظ الإخبار، كاجتماعها في زمان واحد، أو بلحاظ المخبر به، كاجتماعها على الإخبار عن شيء واحد.

وتأثير المضعّف الكمّيّ في حصول العلم إنّما يكون فيما إذا كان احتمال الصدق في كلّ واحد منها أقوى من احتمال الكذب، كي لا يكون احتمال كذب


بعضها عنهم(عليهم السلام)». وهذا ـ كما ترى ـ يدلّ على الإيمان بالتواتر الإجماليّ، وعلى أنّه لا يضرّ وجود القدر المشترك فيما بينها بتسميتها بالمتواتر إجمالاً، فإنّ القدر المشترك في رواياتنا هو حجّيّة خبر الواحد.

503

الجميع مساوياً لاحتمال باقي أطراف العلم الإجماليّ(1)، بل يكون أضعف،فيذوب في النفس بلا مزاحم. والحاصل: أنّ وجود القدر المشترك قد يكون سبباً لحصول العلم لا ثمرة لحصوله بعد الفراغ عن حصوله في مطلق التواتر الإجماليّ.

وإذا لم يكن احتمال الصدق في كلّ واحد من تلك الأخبار أقوى من احتمال الكذب فمع عدم وجود مضعّف كيفيّ لا يحصل العلم، لا لما أفاده المحقّق النائينيّ(رحمه الله): من أنّ كلّ واحد من تلك الأخبار محتمل الكذب، بل لما ذكرناه من تساوي أطراف العلم الإجماليّ.

والواقع: أنّه لابدّ من المضعّف الكيفيّ لحصول العلم حتّى فيما إذا كان احتمال الصدق في كلّ واحد من الأخبار أقوى من احتمال الكذب؛ إذ لو فرضت كفاية المضعّف الكمّيّ في عشرة ظنون ـ مثلاً ـ لحصول العلم بصدق واحد منها، قلنا: إنّنا نضمّ إلى تلك الظنون العشرة ألف ظنّ مثلاً، فنحتمل وجود عشرة ظنون كاذبة في مجموعها، وهذا الاحتمال يصبح منبّهاً إلى احتمال كذب العشرة الاُولى التي ضممنا إليها ألف ظنّ.

ولو أخذنا تمام ظنون العالم حصل القطع بصدق جملة منها، لكن هذا ليس مصداقاً لفرض المضعّف الكمّيّ بلا مضعّف كيفيّ، فإنّ كلّ مجموعة من تلك الظنون يوجد لا محالة بينها مضعّف كيفيّ.


(1) لا يخفى أنّ التعبير الدقيق للشرط كما يستفاد من كتاب الاُسس المنطقيّة هو: أن يكون احتمال مخالفة الخبر للواقع أضأل من أطراف العلم الإجماليّ ولو بأن يكون احتمال تجمّع المصالح الشخصيّة ـ مثلاً ـ في هذا الخبر في الجميع مساوياً لباقي أطراف العلم مثلاً، فيكون احتمال مخالفة الخبر للواقع أضأل لا محالة؛ لأنّه على تقدير تجمّع المصالح نحتمل المطابقة صدفة، كما نحتمل المخالفة، بينما باقي أطراف العلم يساوق المطابقة للواقع.

504

نعم، لو فرض فرضاً خلاف الواقع: أنّ ظنون العالم ليس فيها مضعّف كيفيّ، قلنا في هذا الفرض: إنّه لو أخذنا تمام الظنون كفى المضعّف الكمّيّ لحصول القطع بعدم كذب الجميع؛ لعدم تطرّق ذاك الإشكال في عنوان تمام الظنون؛ إذ كلّ ظنّ يفترض في المقام يدخل في هذا العنوان، وليس خارجاً حتّى يأتي حساب الضمّ.

وعلى أيّة حال، فقد اُفيد في المقام: أنّ السنّة المتواترة إنّما يمكن الاستدلال بها على أضيق المداليل، وهو حجّيّة خبر الثقة العدل الإماميّ، وقد دلّ خبر صحيح داخل في هذا القدر المتيقّن على حجّيّة مطلق خبر الثقة، فنأخذ بذلك.

أقول: لم يعيّن من قبلهم هذا الخبر الداخل في القدر المتيقّن(1)، ويحتمل أنّ هذه الفكرة كانت أوّلاً على أساس الفرضيّة، ثمّ اطمأنّ المفترض بأنّه توجد لا محالة في هذه الأخبار الكثيرة ما ينطبق على هذه الفرضيّة، ثمّ تبعه الآخرون، فإنّهم لو كانوا حقّقوا، أو دقّقوا النظر حقّاً في أخبار الباب، كتدقيقهم في آية النبأ والنفر لعرفوا أنّه لا تواتر أصلاً في المقام، فإنّ ما يدلّ منها على حجّيّة خبر الواحد معدود جدّاً، ويوجد في كتاب جامع الأحاديث للسيّد البروجرديّ(رحمه الله) ما يكون حوالي (170) حديثاً ممّا يستدلّ به على حجّيّة خبر الواحد، بينما الواقع: أنّ حوالي مئة وخمسين منها غير دالّ على المقصود أبداً.

 

الأخبار غير التامّة دلالة:

ويمكن تقسيم تلك الأخبار غير التامّة دلالة على طوائف:

الطائفة الاُولى: ما يكون ظاهراً في الشهادة على صحّة بعض الأحاديث بمعنى


(1) جاء في مصباح الاُصول احتمال أن يكون مراد صاحب الكفاية بالخبر الصحيح الدالّ على حجّيّة خبر الثقة قوله(عليه السلام): «نعم» بعد ما قال السائل: (أفيونس بن عبد الرحمن ثقة نأخذ معالم ديننا عنه؟).

505

مطابقتها للواقع لا الحجّيّة التعبّديّة، أو يحتمل فيه ذلك إلى حدّ يوجب الإجمال، وذلك من قبيل:

1 ـ ما ورد عن إسحاق بن يعقوب: قال: «سألت محمّد بن عثمان العمريّ ـ رضوان الله عليه ـ أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ، فوردالتوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان عجّل الله فرجه» إلى أن قال: «وأمّا محمّد بن عثمان العمريّ ـ رضي الله عنه وعن أبيه من قبل ـ فإنّه ثقتي، وكتابه كتابي»(1). وقوله: «كتابه كتابي» إن لم يكن ظاهراً في الشهادة بصحّة كتاب محمّد بن عثمان الذي هو وكيله الخاصّ فلا أقلّ من احتمال ذلك فيه، وعدم ظهوره في الحجّيّة التعبّديّة. وأمّا قوله: «فإنّه ثقتي»، فهو داخل في طائفة اُخرى سيأتي الكلام عنها إن شاء الله.

2 ـ ما عن داود بن القاسم: أنّ أبا جعفر الجعفريّ قال: «أدخلت كتاب يوم وليلة الذي ألّفه يونس بن عبد الرحمن على أبي الحسن العسكريّ(عليه السلام)فنظر فيه، وتصفّحه كلّه، ثمّ قال: هذا ديني ودين آبائي، وهو الحقّ كلّه»(2). فهذا شهادة من قبل المعصوم بصحّة هذا الكتاب لا بيان لجعل الحجّيّة.

3 ـ ما عن محمّد بن إبراهيم الورّاق عن بورق البوسنجانيّ ـ وقد وصفه بالصدق، والصلاح، والورع، والخير ـ قال: «خرجت إلى سرّ من رأى ومعي كتاب يوم وليلة، فدخلت على أبي محمّد(عليه السلام) وأريته ذلك الكتاب، وقلت له: إن رأيت أن تنظر فيه، وتصفّحه ورقة ورقة، فقال: هذا صحيح ينبغي أن تعمل به»(3).


(1) الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 9، ص 101.

(2) الوسائل، ج 18، ب 8 من صفات القاضي، ح 75، ص 71.

(3) المصدر السابق، ح 76.

506

4 ـ ما عن الملقّب بقوراء: أنّ الفضل بن شاذان كان وجّهه إلى العراق إلى حيث به أبو محمّد الحسن بن عليّ(عليه السلام)، فذكر: أنّه دخل على أبي محمّد(عليه السلام)، فلمّا أراد أن يخرج سقط منه كتاب في حضنه ملفوف في رداء له، فتناوله أبو محمّد(عليه السلام)ونظر فيه، وكان الكتاب من تصنيف الفضل، فترحّم عليه، وذكر أنّه قال: «أغبط أهل خراسان لمكان الفضل بن شاذان، وكونه بين أظهرهم»(1).

5 ـ ما عن أبان ابن أبي عيّاش قال: «هذه نسخة كتاب سليم بن قيس العامريّ ثُمّ الهلاليّ دفعه إلى أبان ابن أبي عيّاش وقرأه، وزعم أبان أنّه قرأه على عليّ بن الحسين(عليه السلام)، فقال: صدق سليم، هذا حديث نعرفه»(2).

6 ـ ما عن سعد بن عبد الله الأشعريّ قال: «عرض أحمد بن عبد الله بن خانية كتابه على مولانا أبي محمّد الحسن بن عليّ بن محمّد صاحب العسكر(عليه السلام) فقرأه وقال: صحيح فاعملوا به»(3).

7 ـ ما عن محمّد بن الحسن ابن أبي خالد شينولة قال: «قلت لأبي جعفر الثاني(عليه السلام): جعلت فداك، إنّ مشايخنا رووا عن أبي جعفر، وأبي عبدالله(عليهما السلام)، وكانت التقيّة شديدة فكتموا كتبهم، فلم ترو عنهم، فلمّا ماتوا صارت تلك الكتب إلينا، فقال: حدّثوا بها فإنّها حقّ»(4).


(1) الوسائل، ج 18، ب 8 من صفات القاضي، ح 77، ص 72.

(2) المصدر السابق، ح 78، ص 72.

(3) مستدرك الوسائل نقلاً عن فلاح السائل، ج 3، ب 8 من صفات القاضي، ح 32، ص 183.

(4) الوسائل، ج 18، ب 8 من صفات القاضي، ح 27، ص 58.

507

الطائفة الثانية: ما اُخذ فيها عنوان الورود عنهم، من قبيل ما ورد عن الحسن بن الجهم قال: «قلت للعبد الصالح(عليه السلام): هل يسعنا فيما ورد علينا منكم إلّا التسليم لكم، فقال: لا والله لا يسعكم إلّا التسليم لنا ...»(1)، ونحوه غيره من الأخبار، فإنّ الحديث المشكوك صدقه يكون وروده منهم مشكوكاً، ففرق بين عنوان الورود منهم، وعنوان الورود عنهم، فالثاني لا يبعد صدقه بمجرّد النقل عنهم ولو لم يعلم كونه منهم حقيقة، بخلاف الأوّل، ولو وجد حديث بهذا المضمون اختلف النسّاخ في نقل متنه، هل هو بكلمة (من) أو بكلمة (عن)، كفى ذلك في الإجمال، وعدم صحّة الاستدلال به.

والحاصل: أنّ ظاهر هذا الحديث أنّه لا يجوز إعمال الرأي والاستحسان في قبالهم(عليهم السلام)، كما كان ذلك دأب علماء الضلال وقتئذ، بل يجب التسليم لهم فيما يصدر منهم، فلا يدلّ على التعبّد بعدم الكذب عند احتمال الكذب.

نعم، مقتضى العادة أنّ ما ينقل عنهم ويقطع بعدم كذب النقل يكون احتمال وقوع الخطأ فيه موجوداً غالباً، ويصدق عرفاً على مثل ذلك عنوان الورود منهم، فيدلّ هذا الحديث بالملازمة العرفيّة على التعبّد بإلغاء احتمال الخطأ(2).

الطائفة الثالثة: ما حثّ على تحمّل الحديث، من قبيل:

1 ـ ما ورد عن جابر عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: «سارعوا في طلب العلم. فوالذي نفسي بيده لحديث واحد في حلال وحرام تأخذه عن صادق خير من الدنيا وما


(1) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 31، ص 85، وذيل الحديث يبيّن الترجيح بمخالفة العامّة، وهو خارج عن هذه الطائفة، وداخل في الطائفة الخامسة عشرة.

(2) لعلّ المقصود بالملازمة العرفيّة في المقام: أنّ التلازم العرفيّ بين النقل عنهم واحتمال الخطأ أوجب إطلاق عنوان الورود منهم في المقام لذلك.

508

حملت من ذهب وفضّة، وذلك أنّ الله يقول: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾»(1).

2 ـ ما عن أنس قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): من حفظ من اُمّتي أربعين حديثاً في أمر دينه يريد به وجه الله عزّ وجلّ والدار الآخرة بعثه الله يوم القيامة فقيهاً عالماً»(2). وما بمضمون هذا الحديث الثاني لا يبعد كونه مستفيضاً أو أكثر من ذلك، ولهذا كان العلماء السابقون يتبرّكون بكتابة أربعين حديثاً بخطّهم لأجل أن يكونوا مشمولين لهذه الأحاديث بناءً على الفهم العرفيّ من هذه العبارة.

وعلى أيّة حال، فهذه الأخبار لا تدلّ على المقصود، فإنّ حمل الأحاديث موجب للتثقّف بالتثقيف الإسلاميّ، والتنوّر في آرائه ومخطّطاته العامّة والخاصّة، والعثور على ذوق الإسلام ومعارفه، ولا شكّ أنّ هذا مطلوب لدى الشارع، ومن أهمّ المستحبّات، بل من أهمّ الواجبات الكفائيّة التي بها تحفظ الشريعة، وأفكار الإسلام، وأحكامه، ويقدّم عند التزاحم على أكثر الواجبات الاُخرى، وهذا غير مرتبط بحجّيّة خبر الواحد.

وأمّا قوله في الحديث الأوّل: «تأخذه من صادق» فإن جمدنا على حاقّ العبارة فمعناه تأخذه من شخص صادق لا يكذب بحسب الخارج لا من شخص يحتمل كذبه. ولكن من المحتمل قويّاً أن يكون المقصود من الصادق هنا


(1) الوسائل، ج 18، الباب 8 من صفات القاضي، الحديث 68، ص 70، ونحوه الحديث 69 و70 من نفس الباب ونفس الصفحة وفيهما: «من صادق».

(2) الوسائل، ج 18، الباب 8 من صفات القاضي، الحديث 59، ص 67، وفيه «من حفظ عنّي من اُمّتي» بينما كلمة «عنّي» ساقطة في جامع أحاديث الشيعة. ونحوه الحديث 58 و60 و61 و62 و64 و71 و72، ص 65 إلى ص 68، وص 70، إلّا أنّ في بعضها: «على اُمّتي».

509

الإمام(عليه السلام)الذي هو الصادق المطلق بقرينة استشهاده بالآية: ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ...﴾ .

الطائفة الرابعة: ما دلّ على التحويل على أشخاص معيّنين، من قبيل:

1 ـ ما عن أبي حمّاد الرازيّ يقول: «دخلت على عليّ بن محمّد(عليه السلام) بسرّ من رأى، فسألته عن أشياء من الحلال والحرام، فأجابني فيها، فلمّا ودّعته قال: يا حمّاد، إذا أشكل عليك شيء من أمر دينك بناحيتك فسل عنه عبد العظيم بن عبدالله الحسنيّ وأقرئه منّي السلام»(1).

2 ـ ما رواه الصدوق(رحمه الله) من كلام الصادق(عليه السلام)لأبان بن عثمان أنّ أبان بن تغلب قد روى عنّي رواية كثيرة، فما رواه لك عنّي فاروه عنّي(2).

3 ـ ما عن المفضّل بن عمران أنّ أبا عبد الله(عليه السلام) قال للفيض بن المختار في حديث: «فإذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس، وأومأ إلى رجل من أصحابه، فسألت أصحابنا عنه، فقالوا: زرارة بن أعين»(3).

4 ـ وما عن عليّ بن محمّد القتيبيّ عن الفضل بن شاذان، عن عبد العزيز بن المهتدي، وكان خير قمّيّ رأيته، وكان وكيل الرضا(عليه السلام)وخاصّته. قال: «سألت الرضا(عليه السلام) فقلت: إنّي لا ألقاك في كلّ وقت فعمّن آخذ معالم ديني؟ فقال: خذ عن يونس بن عبد الرحمن»(4).

وهذه الطائفة أيضاً لا تدلّ على التعبّد بإلغاء احتمال الكذب في خبر الثقة؛ إذ


(1) مستدرك الوسائل، ج 3، ب 8 من صفات القاضي، ح 32، ص 189.

(2) الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 8، ص 101.

(3) المصدر السابق، ح 19، ص 104.

(4) المصدر السابق، ح 34، ص 107.

510

من المحتمل أنّه(عليه السلام) إنّما أحال على أشخاص معيّنين باعتبار علمه(عليه السلام)بأنّهم لا يكذبون، ولا تزيد هذه الأخبار على بيان القضيّة الشخصيّة، وهذا لا يعني اعتماد الإمام (عليه السلام) في علمه بانتفاء الكذب على علم الغيب كي يقال: إنّ هذا خلاف الظاهر؛ إذ تكفي في حصول العلم بذلك المعاشرة التامّة للشخص باعتباره من خواصّه وصفوته مثلاً.

نعم، هؤلاء الأشخاص من المحتمل عادةً صدور الخطأ منهم، ولا يمكن عادةً أن يعلم الإمام(عليه السلام) بعدم صدور الخطأ منهم إلّا بعلم الغيب، وليس المبنى في مثل المقام على إعمال العلم بالغيب، فتدلّ هذه الأخبار على إلغاء احتمال الخطأ والاشتباه تعبّداً.

الطائفة الخامسة: ما اُمر فيها بنقل بعض الأحاديث، من قبيل:

1 ـ ما عن أبان بن تغلب عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «يا أبان، إذا قدمت الكوفة فارو هذا الحديث: مَن شهد أن لا إله إلّا الله مخلصاً وجبت له الجنّة...»(1).

2 ـ ما عن جميل عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: «سمعته يقول: إنّ ممّا خصّ الله به المؤمن أن يعرّفه برّ إخوانه به وإن قلّ، وليس البرّ بالكثرة» إلى أن قال: «ثمّ قال: يا جميل، ارو هذا الحديث لإخوانك، فإنّه ترغيب في البرّ»(2).

3 ـ ما عن أبي العبّاس البقباق قال: دخلت على أبي عبدالله(عليه السلام)قال: فقال لي: «ارو عنّي أنّ من طلّق امرأته ثلاثاً في مجلس واحد فقد بانت منه»(3).

4 ـ ما رواه سليم بن قيس الهلاليّ في كتابه عن الحسين بن عليّ(عليه السلام)إلى أن


(1) الكافي، ج 2، الباب 44 من كتاب الدعاء، الحديث الوحيد في الباب، ص 520.

(2) الوسائل، ج 18، ب 8 من صفات القاضي، ح 40، ص 62.

(3) الوسائل، ج 15، ب 30 من مقدّمات الطلاق، ح 8، ص 321.

511

قال: «أنشدكم بالله إلّا حدّثتم به من تثقون به»(1).

5 ـ ما عن المفضّل بن عمر قال: «قال لي أبو عبدالله(عليه السلام): اكتب وبثّ علمك في إخوانك، فإن متّ فأورث كتبك بنيك، فإنّه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلّا بكتبهم».

وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة كالتقريب الماضي في الآيات بأن يقال: لولا الحجّيّة للغى إطلاق الأمر بالنقل لفرض عدم حصول العلم منه.

وقد عرفت الجواب عنه بأنّ من المحتمل إيجاب النقل على الإطلاق تحفّظاً على فروض ترتّب العلم عليه التي يتخيّل العبد فيها أنّه لا يترتّب العلم عليه.

الطائفة السادسة: ما دلّ على الثناء على المحدّثين، من قبيل:

1 ـ ما عن عبد الله العلويّ العمريّ عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ(عليهم السلام)قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): اللّهمّ ارحم خلفائي ثلاثاً. قيل: يا رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ومَن خلفاؤك؟ قال: الذين يبلّغون حديثي وسنّتي ثُمّ يعلّمونها اُمّتي»(2)، بناءً على كون المقصود بهم الرواة لا خصوص الأئمّة(عليهم السلام).

2 ـ ما عن معاوية بن عمّار قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): رجل رواية لحديثكم يبثّ ذلك في الناس ويسدّده في قلوبهم وقلوب شيعتكم، ولعلّ عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرواية، أ يّهما أفضل؟ قال: الرواية لحديثنا يشدّ به [ يسدّد في خ ل ]


(1) مستدرك الوسائل، ج 3، ب 8 من صفات القاضي، ح 24، ص 183.

(2) النصّ مأخوذ من جامع أحاديث الشيعة، ج 1، ب 5 من المقدّمات، ح 45، ص 234 نقلاً عن أمالي الصدوق، ص 106. ويقرب من هذا النصّ ما في الوسائل، ج 18، ب 8 من صفات القاضي، ح 50 و53، ص 65 و66. وب 1 من صفات القاضي، ح 1، ص 53.

512

قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد»(1).

3 ـ ما عن ابراهيم بن عبد الحميد وغيره قالوا: قال أبو عبد الله(عليه السلام): «رحم الله زرارة بن أعين، لولا زرارة ونظراؤه لاندرست أحاديث أبي(عليه السلام)»(2).

4 ـ ما عن أبي العبّاس الفضل بن عبد الملك قال: «سمعت أبا عبد الله(عليه السلام)يقول: أحبّ الناس إليّ أحياءً وأمواتاً أربعة: بريد بن معاوية العجليّ، وزرارة، ومحمّد بن مسلم، والأحول، وهم أحبّ الناس إليّ أحياءً وأمواتاً»(3).

ولا إشكال في أنّ بقاء الدين وانحفاظ شريعة سيّد المرسلين(صلى الله عليه وآله) كان بواسطة المحدّثين، ولولاهم لاندرست آثار النبوّة، وكفى ذلك ملاكاً للثناء عليهم، ولا يدلّ ذلك على حجّيّة خبر الواحد.

الطائفة السابعة: ما دلّ على أنّ انتفاع السامع بالرواية قد يكون أكثر من الراوي، من قبيل ما عن عوالي اللآلي عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) قال: «رحم الله امرئً سمع مقالتي فوعاها وأدّاها كما سمعها، فربّ حامل فقه ليس بفقيه». وفي رواية «فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه»(4). ولولا حجّيّة الرواية لما انتفع السامع بها.

ولكنّك ترى أنّ هذا النصّ لا ينظر إلى جهة الصدور، بل ينظر ـ بعد الفراغ عن الصدور ـ إلى الأنفعيّة للسامع في بعض الأحيان من الراوي باعتباره أفهم للحديث ونكاته.

الطائفة الثامنة: ما دلّ على ثبوت من يحمل رسالة الدين من العدول في كلّ


(1) الوسائل، ج 18، ب 8 من صفات القاضي، ح 1، ص 53.

(2) الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 20، ص 104.

(3) المصدر السابق، ح 18.

(4) مستدرك الوسائل، ج 3، ب 8 من صفات القاضي، ح 14، ص 182.

513

قرن أو زمان، من قبيل ما عن إسماعيل بن جابر عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال: «قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): يحمل هذا الدين في كلّ قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين، وتحريف الغالين، وانتحال الجاهلين كما ينفي الكير خبث الحديد»(1)، بتقريب أنّ حماية الدين بالنسبة للرواة فرع حجّيّة رواياتهم.

لكنّك ترى أنّ هذا الحديث لم ينسب حماية الدين إلى الرواة، وما فيه من نفي تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين ليس من شأن الرواة بما هم رواة ونقلة للألفاظ، وإنّما هو من شأن العارفين بمعارف الإسلام العالمين بكيفيّة حمل رسالة الإسلام وإثباته للناس، ودفع الشبهات عنه وردّ المعاندين والمشكّكين بالعلم والمنطق والبرهان والمحاجّة، وهذا لا علاقة له بالراوي بما هو راو وناقل، وإنّما المقصود منه المجتهدون في الإسلام اجتهاداً كاملاً اُصولاً وفروعاً ومن جميع جهاته.

الطائفة التاسعة: ما دلّ على حفظ الكتب والترغيب في الكتابة، من قبيل:

1 ـ ما عن عبيد بن زرارة قال: «قال أبو عبدالله(عليه السلام): احتفظوا بكتبكم، فإنّكم سوف تحتاجون إليها»(2).

2 ـ ما عن أبي بصير قال: «دخلت على أبي عبدالله(عليه السلام) فقال: ما يمنعكم من الكتاب إنّكم لن تحفظوا حتّى تكتبوا، إنّه خرج من عندي رهط من أهل البصرة سألوني عن أشياء فكتبوها»(3).


(1) الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 43، ص 109.

(2) الوسائل، ج 18، ب 8 من صفات القاضي، ح 17، ص 56.

(3) مستدرك الوسائل، ج 3، ب 8 من صفات القاضي، ح 28، ص 183. ونظيره ما في الوسائل، ج 18، ب 8 من صفات القاضي، ح 16، ص 56.

514

وتقريب الاستدلال بذلك: أنّه لولا الحجّيّة لكان الحثّ على الكتابة وحفظ الكتاب لغواً.

وجوابه يظهر ممّا سبق، وأنت ترى أنّ ما في هذه الأحاديث هو الأمر بالكتب وحفظ الكتاب لأجل حفظ الحديث وعدم ضياعه من يده، أي: من يد نفس الراوي، ولأجل أنّه سوف يقع الاحتياج إليه ولو بالنسبة لنفس الراوي؛ لأنّ الذاكرة لها حدّ محدود، وهذا غير مربوط بحجّيّة الأخبار لغير الراوي.

الطائفة العاشرة: ما دلّ على الأمر بضبط الحديث وعدم التحريف فيه، من قبيل ما عن أبي بصير عن أحدهما(عليهما السلام) في قول الله: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَه﴾ قال: «هم المسلّمون لآل محمّد(صلى الله عليه وآله)إذا سمعوا الحديث أدّوه كما سمعوه لا يزيدون ولا ينقصون»(1).

وأنت ترى أنّ الأمر بالضبط وعدم التغيير عند النقل غير مربوط بحجّيّة ذلك النقل، فإنّه على أيّ حال لا يجوز تحريف الناقل ومسامحته.

الطائفة الحادية عشرة: ما دلّ على جواز النقل بالمعنى، من قبيل ما عن محمّد بن مسلم قال: «قلت لأبي عبدالله(عليه السلام): أسمع الحديث منك فأزيد وأنقص. قال: إن كنت تريد معانيه فلا بأس»(2).

ولكنّك ترى أنّ هذا يعيّن وظيفة الناقل جوازاً لا وظيفة السامع وجوباً.


(1) مستدرك الوسائل، ج 3، ب 8 من صفات القاضي، ح 46، ص 185. ونحوه ورد عن أبي بصير عن الصادق(عليه السلام)في الوسائل، ج 18، ب 8 من صفات القاضي، ح 8،ص 54، وح 23، ص 57.

(2) الوسائل، ج 18، الباب 8 من صفات القاضي، الحديث 9، ص 54. ونحوه الحديث 10 من نفس الباب.

515

الطائفة الثانية عشرة: ما أوجب السماع عن الصادق، من قبيل ما عن المفضّل بن عمر قال: «قال أبو عبدالله(عليه السلام): من دان الله بغير سماع عن صادق ألزمه الله التيه [ البته خ ل ] إلى الفناء [ العناء خ ل ] ...»(1).

فقد يتوهّم الاستدلال بذلك باعتبار أنّ السماع من الصادق إذا كان واجباً فمعنى هذا الأخذ به والتصديق بروايته. إلّا أنّه من المطمئنّ به أنّ المراد هنا بالصادق هو الإمام(عليه السلام) الذي هو الصادق بقول مطلق، فلا علاقة له بما نحن فيه(2).

الطائفة الثالثة عشرة: ما دلّ على حجّيّة نقل ثقة الإمام، من قبيل ما عن أحمد بن إبراهيم المراغيّ قال: «ورد على القاسم بن العلاء، وذكر توقيعاً يقول فيه: فإنّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا قد عرفوا بأنّنا نفاوضهم بسرّنا ونحملهم إيّاه إليهم ...»(3).


(1) الوسائل، ج 18، الباب 10 من صفات القاضي، الحديث 12، ص 92. وشبهه الحديث 37 من الباب 7 من تلك الأبواب، ص 51.

(2) وبخصوص هذا الحديث الذي ورد فيه كلمة «عن صادق» قد يقول قائل: إنّ السماع عن صادق يعطي معنى السماع غير المباشر ـ أي: السماع بالنقل ـ فقد دلّ الحديث على حجّيّة ذاك النقل. نعم، هذا التقريب لا يرد في الحديث 37 من الباب 7 من أبواب صفات القاضي من الوسائل؛ لأنّه ورد فيه: «من صادق». إلّا أنّ هذا أيضاً جوابه واضح، فإنّ الحديث إنّما منع عن أن يدين الله أحد بغير سماع عن صادق، وليس هذا جملة شرطيّة واجدة لشرائط المفهوم، كي تدلّ على قضيّة كلّيّة، وهي أنّه لا بأس بمن يدين الله بسماع عن صادق سواء كان سماعه يوجب العلم أو لا. ونفس الجواب أيضاً يأتي لو فرض أنّ المقصود بالصادق هو الثقة.

(3) الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 40، ص 108 و109.

516

وقد اشتهر هذا اللسان بهذه الصيغة الخاصّة، أي: (لا ينبغي التشكيك فيما يروي عنّا ثقاتنا) في تعبير الأصحاب في مقام الاستشهاد على حجّيّة خبر الثقة بالأخبار، ولم يرد إلّا في هذا الحديث. وهذا اللسان أجنبيّ عمّا نحن فيه؛ لأنّ المتكلّم لو قال: فلان ثقتي، فهذا لا يعني أنّه ثقة في قوله ـ أي: أنّه واجد لملكة الصدق ـ بل يعني: أنّه معتمدي ومحلّ وثوقي في اُموري وأسراري وتشاوري ونحو ذلك. فقوله(عليه السلام)«ثقاتنا» ليس معناه من نعتقد بكونه واجداً لملكة الصدق، وإنّما هو تعبير من سنخ تعبير الإمام الحسين(عليه السلام)بشأن ابن عمّه ونائبه مسلم بن عقيل(عليه السلام) حيث قال: «إنّي باعث إليكم ثقتي من أهل بيتي»، ومعناه أنّه معتمدي في اُموري واُفاوض معه أسراري. كما جاء في ذيل هذا الحديث الذي استدلّ به على حجّيّة خبر الواحد: «قد عرفوا بأنّنا نفاوضهم سرّنا ونحمله إيّاه إليهم»، والثقة بهذا المعنى لا إشكال في حجّيّة خبره.

الطائفة الرابعة عشرة: ما دلّ على المنع من إعمال الرأي في رفض الرواية، من قبيل ما عن أبي عبيدة الحذّاء قال: «سمعت أبا جعفر(عليه السلام)يقول: والله إنّ أحبّ أصحابي إليّ أورعهم وأفقههم وأكتمهم لحديثنا. وإنّ أسوأهم عندي حالاً، وأمقتهم الذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا ويروي عنّا فلم يقبله، اشمأزّ منه وجحده، وكفّر من دان به، وهو لا يدري لعلّ الحديث من عندنا خرج وإلينا اُسند، فيكون بذلك خارجاً من ولايتنا»(1).

وتقريب الاستدلال بذلك: أنّه لولا حجّيّة الخبر لما ردع عن رفضه.

ولكنّك ترى أنّ مفاد هذا الحديث هو الردع عن رفض الحديث بقول مطلق بمجرّد عدم موافقته للذوق والاستحسان. ولا شكّ في أنّه لا يجوز رفضه بذلك


(1) الوسائل، ج 18، ب 8 من صفات القاضي، ح 39، ص 61 و62.