559

الحجّيّة مجرّد احتمال الصدق على تقدير الحجّيّة، فإنّ ما يوجب استحالة جعل الحكم الظاهريّ من استحالة اجتماعه مع الحكم الواقعيّ في فرض العلم بالخلاف لا يقتضي أزيد من اشتراط ذلك. وأمّا بحسب عالم الإثبات فكلّ منهما معقول، أي: أنّه يعقل فرض قيام الدليل على اشتراط احتمال الصدق على تقدير الحجّيّة، كما يعقل فرض قيام الدليل على اشتراط احتمال الصدق حتّى على تقدير عدم الحجّيّة. والصحيح هو الأوّل، فإنّه الذي يبني عليه العقلاء في أعمالهم. فمثلاً لو ورد عامّ كقوله: (أكرم كلّ عالم) وعلمنا ببركة إخبار المعصوم بأنّ كلّ مقدار من مدلول هذا العامّ لم تقم على خلافه حجّة فهو مطابق للواقع، وورد ما يكون ظاهراً في إخراج العالم الفاسق بالتخصيص عن هذا العموم، فلا إشكال في حجّيّة هذا الظهور مع أنّ حجّيّته هي التي تُفني العلم بكذبه؛ إذ لولا حجّيّته لقطعنا بكذبه؛ لإخبار المعصوم بصدق العموم في كلّ ما لم تقم حجّة على خلافه.

 

موقف الأصحاب تجاه الدورين:

وأمّا المقام الثاني: فقد مضى أنّ للأصحاب ـ قدّس الله أسرارهم ـ في المقام اتّجاهين:

 

تقديم جانب السيرة:

الاتّجاه الأوّل: هو الاتّجاه القائل بتقديم السيرة حقيقة أو نتيجة. وله وجوه:

الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): من أنّ رادعيّة الآيات وإن كانت موقوفة على عدم مخصّصيّة السيرة وبالعكس، لكن مخصّصيّة السيرة ليست موقوفة على عدم الردع واقعاً، بل يكفي فيها عدم العلم بالردع، وهو ثابت، فتكون

560

السيرة مخصّصة. وهذا ما يمكن أن يكون مقصوداً لما أفاده(قدس سره)في المقام من الكلام(1).

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ ذهابه إلى توقّف رادعيّة الآيات على عدم مخصّصيّة السيرة في غير محلّه، وإنّما هي متوقّفة على عدم العلم بكذب ظهورها بالبيان الذي عرفت.

وثانياً: أنّه هل المقصود بحجّيّة الخبر المثبتة بالسيرة هي الحجّيّة المولويّة، أو الحجّيّة الذاتيّة بمعنى عدم ثبوت حقّ الطاعة للمولى فيما يعارض دائرة أخبار الثقات؟ فإن كان المقصود هو الأوّل، فدعوى كفاية الشكّ في الردع في حجّيّة السيرة ـ بناءً على حمل كلامه(قدس سره) على ذلك ـ في غير محلّها، فإنّ الشكّ في الردع مساوق للشكّ في الإمضاء، فكيف يحرز الإمضاء؟ ولا دليل على جعل الشارع


(1) وهذا ما فسّر به الشيخ المشكينيّ(رحمه الله) كلام اُستاذه صاحب الكفاية. وهناك احتمال آخر في كلام صاحب الكفاية احتمله المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره) في تفسير عبارة اُستاذه في الكفاية، وهو أن يكون المقصود: إذا كانت رادعيّة الآيات تستلزم الدور فاستحالت، ومخصّصيّة السيرة تستلزم الدور أيضاً فاستحالت، فالسيرة قد أصبحت حجّة؛ لأنّها فقدت رادعها؛ لأنّ المفروض استحالة رادعيّة الآيات، وبالتالي أصبحت السيرة مخصّصة بلا دور؛ إذ عدم الردع لم يكن على أساس التخصيص كي يلزم الدور، بل كان على أساس الاستحالة.

وأورد عليه المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله): أنّ هذا الكلام ليس بأولى من العكس، بأن يقال: إذا كانت الرادعيّة والمخصّصيّة دائرتين فاستحالتا، فإطلاق الآيات قد أصبح حجّة؛ لأنّها فقدت مخصّصها؛ لأنّ المفروض استحالة مخصّصيّة السيرة. وبالتالي أصبحت الآيات رادعة بلا دور؛ إذ عدم التخصيص لم يكن على أساس الردع كي يلزم الدور، بل كان على أساس الاستحالة. نهاية الدراية، ج 2، ص 91.

561

لنفس السيرة أمارة شرعيّة على الإمضاء ما لم نحرز الردع كي يثبت بذلك الإمضاء تعبّداً. وإن كان المقصود هو الثاني، قلنا: إنّه وإن كان من الممكن دعوى أنّ المولى ليس له أزيد من حقّ الطاعة وفق أخبار الثقات ما لم يصلنا الردع، ولكن مفاد السيرة عندئذ ليس إلّا عبارة عن هذه القضيّة التعليقيّة، وهي: أنّه لو لم يصلنا الردع لكان خبر الثقة حجّة ذاتيّة، ولا معنى لتخصيص الآية بالقضيّة التعليقيّة، ولابدّ من تخصيصها بما يدلّ على الحجّيّة الفعليّة، وهذه السيرة إنّما تدلّ على الحجّيّة التعليقيّة، والمعلّق عليه ـ وهو عدم وصول الردع ـ منتف بنفس الآية؛ لما مضى من تماميّة حجّيّة الآية ورادعيّتها بقطع النظر عن السيرة.

وثالثاً: أنّنا لو سلّمنا أنّ مخصّصيّة السيرة موقوفة على عدم وصول الردع، لكن هذا لا يدفع المحذور العقليّ، بل يكون محذور الدور أو ما يشبهه ثابتاً على حاله. وتوضيح ذلك: أنّ عدم وصول الردع لا منشأ له عدا أحد اُمور ثلاثة:

1 ـ عدم الظهور. والمفروض خلافه.

2 ـ عدم تسليم كبرى حجّيّة الظهور. والمتسالم عليه بيننا خلافه.

3 ـ ثبوت مخصّصيّة السيرة، أو الشكّ في مخصّصيّتها من ناحية تزاحم مخصّصيّة السيرة ورادعيّة الآيات ودائريّتها والتساقط. وأنت ترى أنّ إثبات مخصّصيّة السيرة بالشكّ في الردع الناشئ من هذا السبب غير معقول(1).

 


(1) لعلّ مقصوده(رحمه الله) أنّه لو فرض نشوء الشكّ في الردع من مخصّصيّة السيرة لزم الدور، ولو فرض نشوؤه من تساقطهما، ففرض حجّيّة السيرة خلف فرض سقوطها، أو يقال: إنّ الشكّ في الردع إن نشأ من مخصّصيّة السيرة فهذا دور، وإن نشأ من احتمالها والتردّد فيها فانتهاء ذلك إلى العلم بالتخصيص خلف فرض التخصيص.

أقول: بإمكان المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) أن يقول: إنّ عدم وصول الردع أو قل: احتمال

562

الوجه الثاني: ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) أيضاً من أنّه بعد تساقط الآيات والسيرة نرجع إلى استصحاب الحجّيّة الثابتة بالسيرة قبل نزول الآيات(1).

وببالي ـ وإن لم اُراجع قريباً ـ إنّه(قدس سره) ناقش في هذا الوجه بأنّه لم يثبت مضيّ زمان من أوّل التشريع أمكن فيه الردع ولم يردع(2).

أقول ـ بقطع النظر عن هذا الإشكال ـ: إنّ التمسّك بالاستصحاب في مثل المقام لا معنى له، وهذه غفلة غريبة منه، فإنّ دليل الاستصحاب إنّما هو خبر الواحد، والكلام بعد في حجّيّته.

 


عدم الردع، نشأ من احتمال مخصّصيّة السيرة، واحتمال مخصّصيّة السيرة نشأ من عدم برهان على نفي التخصيص لا من الدائريّة والتساقط، ففي الحقيقة كان احتمال التخصيص برهاناً ـ ببركة أدائه إلى عدم وصول الردع ـ على التخصيص من دون أن يلزم دور ولا خلف، وليس معنى أداء احتمال التخصيص إلى العلم بالتخصيص أداء التردّد إلى العلم كي يقال: إنّ فرض العلم هو خلف فرض التردّد، وإنّما معناه أداء درجة ناقصة من الكشف إلى الدرجة الكاملة ببركة أداء تلك الدرجة الناقصة إلى عدم وصول الردع، والدرجة الناقصة اندكّت في الكاملة.

ثمّ إنّ الإيراد الثاني والثالث من الإيرادات الثلاثة التي أوردها اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)على كلام المحقّق الخراسانيّ(قدس سره)يختصّان بالتفسير الذي احتمله هو لكلام المحقّق الخراسانيّ، دون التفسير الذي احتمله المحقّق الإصفهانيّ لكلام اُستاذه، بينما الإيراد الأوّل من هذه الإيرادات الثلاثة مشترك الورود على كلا التفسيرين.

(1) هذا ما نقله الشيخ المشكينيّ(رحمه الله) عن الدورة الأخيرة لبحث المحقّق الخراسانيّ. راجع حاشية المشكينيّ على الكفاية في المجلّد الثاني من الكفاية، ص 101.

(2) هذا ليس هو إشكالاً للمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)، بل هو إشكال للشيخ المشكينيّ(قدس سره)على المحقّق الخراسانيّ.

563

الوجه الثالث: ما أفاده المحقّق الخراسانيّ أيضاً من أنّ الأمر دائر بين ناسخيّة الآيات، ومخصّصيّة السيرة. ومهما دار الأمر بين ناسخيّة أحد الدليلين للآخر ومخصّصيّة الآخر له قدّم التخصيص على النسخ(1).

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ هذا إنّما يتمّ في الدليل اللفظيّ، فيقال: إنّ الأمر دائر بين رفع اليد عن ظهور الخاصّ في الإطلاق الأزمانيّ، وظهور العامّ في الشمول الأفراديّ، ولمّا كان النسخ نادراً، والتخصيص شيئاً متعارفاً كان ظهور الخاصّ في الإطلاق الأزمانيّ أقوى من ظهور العامّ في الشمول الأفراديّ، فيقدّم عليه. ولا مجال لمثل هذا الكلام فيما نحن فيه، فإنّ دليل السيرة لا إطلاق له حتّى يقدّم إطلاقه على


(1) هذا ما نقله الشيخ المشكينيّ(رحمه الله) عن المحقّق الخراسانيّ(قدس سره) حين قراءته للكفاية عليه. ولو كان هذا جواباً مستقلاًّ على إشكال معارضة الدور في الرادعيّة بالدور في التخصيص، فقد يقال: إنّ هذا لا يصلح جواباً على ذلك، فإنّ هذا غاية ما يثبت أنّ التخصيص مقدّم على النسخ عند الدوران بينهما، ولكن مشكلتنا هنا هي: أنّ النسخ والتخصيص كلاهما دائريّان ومستحيلان، لا أنّه دار الأمر بينهما، كي يقدّم التخصيص على النسخ. وهذه المشكلة كما ترى لم تعالج، إلّا أنّ الشيخ المشكينيّ(رحمه الله) لم ينقل هذا الكلام عن المحقّق الخراسانيّ بعنوان العلاج لإشكال الدور. وعلى أيّ حال، فأنا أحتمل: أنّ هذا الكلام من المحقّق الخراسانيّ كان تفسيراً لنفس الجواب الموجود في الكفاية عن دائريّة التخصيص، أو كان جواباً آخر مقارباً لهذا الجواب. وحاصله: أنّه يكفي في التخصيص عدم العلم بالردع، فلا دور، والسبب في كفاية ذلك في التخصيص أنّ إمضاء السيرة قد تمّ سابقاً قبل نزول الآيات، فدار الأمر عند نزول الآيات بين نسخ الخاصّ وتخصيص العامّ، والثاني أولى. إذن مع الشكّ في الردع المساوق للدوران بين النسخ والتخصيص يتمّ التخصيص.

564

إطلاق الآيات، وإنّما السيرة تكشف عن الإمضاء في زمان عدم ورود الردع بمقدار ذلك الزمان.

وثانياً: أنّ تقديم التخصيص على النسخ إنّما يتمّ في غير عصر التشريع، وأمّا في عصر التشريع فلا ـ ويأتي تحقيق تفصيل ذلك في محلّه إن شاء الله ـ خاصّةً أنّ المنسوخ هو مجرّد السيرة والإمضاء لا النصّ الخاصّ.

الوجه الرابع: ما أفاده المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره)(1) من أنّه مع فرض قيام السيرة على العمل بخبر الثقة لا مقتضي لحجّيّة ظهور الآيات في المقام أصلاً؛ إذ لا دليل على حجّيّة هذا الظهور، فإنّ الدليل على حجّيّة الظهور إنّما هو السيرة، ولا معنى لقيام السيرة على العمل بالظهور الدالّ على المنع عن العمل بخبر الثقة؛ إذ لو قامت السيرة على ذلك لكان هذا يعني قيام السيرة على عدم العمل بخبر الثقة، والمفروض قيامها على العمل به، فلزم تحقّق السيرة على كلّ واحد من النقيضين، وهو غير معقول.

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ معنى قيام السيرة على العلم بخبر الثقة هو أنّ عملهم بخبر الثقة في اُمور معاشهم، أو في الأوامر المولويّة العرفيّة يقتضي جريهم ـ لو خلّوا وطبعهم ـ على نفس المنهج في أوامر المولى سبحانه وتعالى، ولا تنافي بين هذا الاقتضاء وبين فعليّة العمل بظهور الردع، فليس معنى اجتماع السيرتين قيام السيرة على النقيضين، فإنّ مقتضى السيرة الاُولى ليس بأكثر من أنّهم لو خلّوا وطبعهم لعملوا بخبر الثقة في الشرعيّات، فلو فرض أنّ السيرة الثانية وصلت إلى مرتبة العمل بالفعل بالظهور مثلاً، وذلك بالارتداع عن العمل بخبر الثقة لم يكن أيّ تناف بين الأمرين.


(1) في نهاية الدراية، ج 2، ص 93.

565

وثانياً: أنّنا لو فرضنا أنّ السيرة العقلائيّة على العمل بخبر الثقة انتهت بالفعل إلى العمل بخبر الثقة في الشرعيّات خلافاً لظهور الآيات في الردع، فهذا لا ينافي دعوى السيرة في جانب الظهور، وكأنّ الاشتباه نشأ من التعبير بالسيرة على العمل بالظهور، بينما المقصود بالسيرة في جانب حجّيّة ظهور كلام الشارع ليس هو العمل بالفعل بظهور كلام الشارع، فقد يعصي العقلاء الظواهر والنصوص معاً، وإنّما المقصود هو بناء العقلاء على كشف المراد بالظهور، ولا تنافي بين كشفهم لمراد كلام المولى تعالى بظهوره في الردع عن العمل بخبر الثقة، وفرض عملهم فعلاً بخبر الثقة، بأن يكون هذا عصياناً للمولى سبحانه.

 

تقديم جانب الردع:

الاتّجاه الثاني: تقديم جانب الردع. وقد ذكر لذلك وجوه ثلاثة، أو أزيد لا يهمّنا التعرّض إلّا لما هو أهمّها، وهو وجهان:

الوجه الأوّل:(1) أنّ مخصّصيّة السيرة وإن كانت دائريّة لكن رادعيّة الآيات ليست دائريّة، وذلك على عكس ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله): من دائريّة الردع دون التخصيص. والوجه في عدم دائريّة الردع أنّ رادعيّة الآيات لا تتوقّف على عدم التخصيص بالسيرة، وإنّما يكفي فيها عدم العلم بالتخصيص، فإنّ العموم حجّة ما لم يعلم بتخصيصه.

ويرد عليه: أنّ التفكيك بين التخصيص والعلم به إنّما يتمّ في المخصّص اللفظيّ، فيفرض أنّ هناك مخصّصاً يكون حجّة من قبل الشارع بالحجّيّة التعبّديّة في عالم


(1) وهذا ما ذكره الشيخ المشكينيّ(رحمه الله) في تعليقته على الكفاية. راجع الجزء الثاني من الكفاية التي عليها تعليقة المشكينيّ، ص 101.

566

الثبوت ولم نعلم بذلك بحسب مقام الإثبات، وهذا التفكيك لا يعقل في باب السيرة، فإنّ قوام مخصّصيّتها بحجّيّتها، وقوام حجّيّتها بكشفها عن الإمضاء، وقوام كشفها عن الإمضاء بحصول العلم بالإمضاء، والعلم ليس له مقامان: مقام الثبوت ومقام الإثبات، ولا يعقل فرض ثبوت العلم واقعاً وعدم وصوله إلينا إثباتاً، ولا فرق بين أن نعبّر بأنّ رادعيّة الآيات موقوفة على عدم التخصيص بالسيرة، أو نعبّر بأنّها موقوفة على عدم العلم بالتخصيص بها. نعم، الصحيح أنّ حجّيّة ظهور الآيات موقوفة على عدم العلم بكذبه كما أنّ حجّيّة السيرة موقوفة على عدم الردع عنها، فإن قلنا: إنّ العدم الموقوف عليه في كلتا الحجّيتين هو مطلق العدم ولو العدم الجائي من قبل تلك الحجّيّة لزم الدور، ويتساقط ظهور الآيات مع السيرة؛ لأنّ نسبة الدور إليهما على حدّ سواء، فلا هذه تكون حجّة ولا تلك، وإلّا لم يلزم الدور، فتنقيح لزوم الدور وعدمه موقوف على النكات التي مضى ذكرها منّا، لا على ما ذكر هنا.

الوجه الثاني: ما أفاده المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره)(1)، وهو: أنّ المقتضي لحجّيّة الظهور تنجيزيّ، وإنّما الكلام في مانعيّة حجّيّة السيرة (وذاك المقتضي هو نفس الظهور على ما يبدو من عبارة المحقّق الإصفهانيّ)، والمقتضي لحجّيّة السيرة تعليقيّ؛ إذ كشف السيرة عن الإمضاء معلّق على عدم الردع، ومهما كان هناك مقتضيان أحدهما مقتض تنجيزيّ لأثره، وإنّما الكلام في مانعيّة تأثير الآخر، والآخر يكون اقتضاؤه تعليقيّاً، فلا محالة يؤثّر الأوّل دون الثاني؛ إذ لا يحتاج تأثير الأوّل إلّا إلى وجود المقتضي وعدم المانع، ووجود المقتضي هو المفروض، والمانع لا يصلح للمنع؛ لكونه تعليقيّاً.


(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 91.

567

وأورد المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) على ذلك(1) بأنّ مجرّد تعليقيّة الاقتضاء في أحد الجانبين وتنجيزيّته في الجانب الآخر لا توجبان الفرق في قضيّة الدور مادام المعلّق عليه عبارة عن عدم تأثير ما هو تامّ الاقتضاء، فكما أنّ تأثير المقتضي التعليقيّ موجب للدور كذلك تأثير المقتضي التنجيزيّ موجب له، فإنّ تأثيره متوقّف على عدم المانع، وعدم المانع متوقّف على عدم خروج المقتضي التعليقيّ من التعليق إلى التنجيز، وعدم خروجه من التعليق إلى التنجيز متوقّف على تأثير المقتضي التنجيزيّ؛ إذ المفروض كونه معلّقاً على عدم تأثيره، فلزم الدور.

أقول: هذا الاشتباه منه(قدس سره) قائم على أساس الاشتباه الرئيس منهم في أصل تصوير استحالة الدور الذي مضى ذكره، حيث إنّه كأنّهم رأوا أنّ الدوران في عالم التوقّف ليس محالاً، وإنّما المحال وقوع الأمر الدائر بحسب الخارج، والصحيح كما مضى هو استحالة الدوران، وتوقّف الشيء على نفسه.

وتأثير المقتضي التنجيزيّ ليس دائريّاً، فإنّه لا يتوقّف إلّا على عدم المانع. وتأثير المقتضي التعليقيّ بنفسه غير صالح للمانعيّة؛ إذ في أيّ وقت يصلح مانعاً عن تأثير المقتضي التنجيزيّ وعاملاً لنفيه؟ هل في وقت عدمه، أو في وقت وجوده؟

أمّا في وقت عدمه فغير معقول؛ إذ العدم لا يصلح مانعاً عن شيء ومؤثّراً في إسقاط مقتض عن التأثير، وأمّا في وقت وجوده فأيضاً لا يعقل اقتضاؤه لعدم تأثير المقتضي التنجيزيّ؛ إذ وجوده في طول عدم التأثير فعلاً للمقتضي؛ لأنّ المفروض كونه معلّقاً عليه، فقد اتّضح أنّ تأثير هذا المقتضي التعليقيّ بنفسه قاصر عن اقتضاء المانعيّة؛ إذ المتأخّر ليس فيه اقتضاء للمتقدّم لا أنّ عدم المانع متوقّف على عدم خروج المقتضي التعليقيّ إلى التنجيزيّ، فلا دور في المقام.


(1) راجع المصدر السابق، ص 92.

568

ولو كان هناك ماء عند شخصين أحدهما يريد شربه، ويكون مقتضي الشرب فيه تنجيزيّاً وإنّما الكلام في مانعيّة شرب الآخر عنه؛ إذ لو شربه الآخر لم يتمكّن هذا من الشرب لانتفاء الموضوع، والآخر تكون إرادته للشرب واقتضاؤه له معلّقاً على عدم شرب الأوّل، فلا محالة يشرب الأوّل ولا يشرب الثاني، لفعليّة الاقتضاء وتنجّزه في الأوّل دون الثاني.

هذا تمام الكلام في الإشكال الذي أورده المحقّق الإصفهانيّ(رحمه الله) على الوجه الذي ذكره لترجيح جانب الردع.

وأمّا أصل الوجه الذي ذكره لترجيح جانب الردع فهو متين بعد تغيير يسير لظاهر عبارته (حيث كان ظاهرها أنّ الوجه في تنجيزيّة مقتضي حجّيّة الظهور هو نفس الظهور. والصحيح أنّ الوجه فيها هو الظهور مع عدم العلم بالكذب)، فالواقع أنّ اقتضاء السيرة للحجّيّة معلّق على عدم الردع، واقتضاء الآية للردع والحجّيّة تنجيزيّ؛ إذ الحجّيّة فيها لا تحتاج إلّا أصل ثبوت الظهور مع عدم العلم بالكذب، وكلاهما متحقّقان بالتفصيل الذي ذكره، فهذا الوجه في غاية المتانة، وهو في الحقيقة راجع إلى ما ذكرناه.

هذا تمام ما أردنا ذكره في السيرة(1)، والمقدار الذي ذكرناه فيها يكفي لفهم


(1) اعلم أنّ خلاصة ما نختاره في باب السيرة على العمل بحجّيّة خبر الثقة: أنّ السيرة المدّعاة في المقام لو قصد بها السيرة العقلائيّة ـ وهو المقصود في كلمات الأصحاب هنا ـ فقيام سيرة عقلائيّة على ذلك غير واضح عندي، فلعلّ العقلاء يكون اعتمادهم في مقام الاحتجاج فيما بينهم على البيّنة لا خبر الواحد الثقة كما هو كذلك في باب القضاء حتماً، فهم وإن كانوا في غير القضايا الاحتجاجيّة يعتمدون أحياناً على خبر الثقة لكن هذا يكون بنكتة حصول الاطمئنان تارةً، أو الاحتياط اُخرى، أو عدم الاهتمام

569


بالغرض بأكثر من ذلك ثالثة، ولم يعلم أن يكون بمستوى من العموم بحيث يؤدّي ذلك إلى جريهم بطبعهم نحو العمل بخبر الثقة في موارد الاحتجاج، فيصبح عدم الردع من الشارع دليلاً على الإمضاء.

وأمّا سيرة المتشرّعة بالمعنى العامّ المنسجم لافتراض نشوئها من طبعهم العقلائيّ ولافتراض نشوئها من رأي المعصوم(عليه السلام) فالظاهر ثبوتها بالبرهان الذي مضى في المتن عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله).

ومن الفوارق بين السيرتين: أنّ سيرة العقلاء لو تمّت لا يحتمل اختصاصها بباب الأحكام، بل تشمل الموضوعات حتماً؛ لأنّ جذور السيرة ـ وهي درجة الكشف ودرجة الاهتمام ـ لا فرق فيها بين البابين. أمّا سيرة المتشرّعة فاحتمال اختصاصها بباب الأحكام وما يلحق به كإثبات نقل الواسطة للحكم وارد، وتوضيح ذلك: أنّ البرهان الذي مضى عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله) لإثبات السيرة كان مؤتلفاً من ثلاث مقدّمات، وكانت المقدّمة الاُولى عبارة عن كثرة الابتلاء في زمن المعصومين(عليهم السلام)بالأخبار الظنّيّة، وهذه المقدّمة مختصّة بباب الأحكام، ولا تجري في الموضوعات؛ لأنّ الغالب في الموضوعات وجود طريق آخر يستغنى به بسهولة من خبر الواحد، وذلك إمّا بالاعتماد على أمارات عقلائيّة اُخرى مقطوعة الحجّيّة، كاليد، وسوق المسلمين، والإقرار، ونحو ذلك، أو بسهولة تحصيل العلم بالواقع، وهذا بخلاف باب الأحكام، حيث كان الإمام(عليه السلام)فيما عدا بلد حضوره فيه بعيداً عن متناول الشيعة، بل حتّى في بلد الحضور لم تكن نعمة التشرّف بحضوره موفورة للكلّ خصوصاً في غير زمان الإمام الصادق(عليه السلام)، وهذا ممّا يجعل الابتلاء بأخبار الآحاد عامّاً شائعاً، ويؤدّي إلى تماميّة البرهان الماضي: من أنّه لولا السيرة لكثر السؤال والجواب بالنفي. وكذلك المقدّمة الثالثة من تلك المقدّمات تتمّ في

570

حال تمام ما ذكروه في المقام.

وقد تحصّل إلى هنا دليلان صحيحان على حجّيّة خبر الثقة: السنّة، والسيرة، والدليل الصحيح منحصر في هذين؛ لعدم تماميّة ما مضى: من الاستدلال بالكتاب، وعدم تماميّة ما سيأتي: من الاستدلال بما ذكروه من الأدلّة العقليّة، كما سوف يتّضح إن شاء الله.

 


باب الأحكام، ولا تتمّ في باب الموضوعات؛ إذ وردت في باب الموضوعات روايات متفرّقة في أبواب مختلفة تدلّ على الحاجة إلى البيّنة وعدم كفاية خبر الواحد ممّا يحتمل كونها إشارة إلى عدم حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات، بينما لم يرد شيء من هذا القبيل في باب الأحكام، واحتمال الفرق وارد.

571

 

تحديد دائرة الحجّيّة

وقبل أن نشرع في بيان الأدلّة العقليّة على حجّيّة خبر الواحد وبطلانها نذكر هنا حدود الحجّيّة الثابتة لخبر الواحد، وتنقيح موضوعها على ضوء هذين الدليلين الصحيحين وهما السيرة والسنّة. والكلام في ذلك يقع في جهات:

 

حجّيّة الأخبار مع الواسطة:

الجهة الاُولى: في حجّيّة خبر الثقة مع الواسطة وعدمها، والبحث فيها تارةً يقع ثبوتاً بمعنى أنّه هل يمكن ثبوت الحجّيّة للأخبار مع الواسطة بالدليل اللفظيّ، أو لا ؟ واُخرى يقع إثباتاً بمعنى أنّه هل دلّ الدليل على حجّيّة الخبر مع الواسطة بعد فرض الإمكان، أو لا ؟

والبحث الثبوتيّ قد مضى في أعقاب آية النبأ، وظهر إمكان ثبوت الحجّيّة للخبر مع الواسطة ولو بالدليل اللفظيّ، فهنا يتمحّض الكلام في مرحلة الإثبات لكي نرى أنّ الدليلين اللذين تمّت دلالتهما على حجّيّة خبر الثقة هل يشملان خبر الثقة مع الواسطة، أو لا ؟

فنقول: أمّا السيرة فلا إشكال في شمولها لخبر الثقة مع الواسطة، فإنّ أصحاب الأئمّة كانوا يعملون بخبر الثقة مع الواسطة، وهذا ما يكون في طول استكشاف رضا الإمام(عليه السلام) بذلك، أو أنّه يستفاد رضا الإمام(عليه السلام)بذلك من عدم ردعه، وعلى أيّ حال يثبت المقصود.

والدليل على أنّهم كانوا يعملون بذلك هو: أنّه كما كانت تدخل في محلّ ابتلائهم عموماً الأخبار الظنّيّة بلا واسطة، كذلك لا إشكال في أنّه كانت تدخل في محلّ ابتلائهم عموماً الأخبار الظنّيّة مع الواسطة، فإنّ الأخبار المرويّة عن رسول

572

الله(صلى الله عليه وآله)، وأمير المؤمنين(عليه السلام) عن غير طريق الأئمّة كانت مع الوسائط قطعاً، بل وكذا الروايات المرويّة عن الباقر والصادق(عليهما السلام)، فإنّها كانت تنقل للأجيال المتأخّرة، كالمعاصرة للإمام الجواد، والهادي، والعسكريّ(عليهم السلام)بواسطة، أو واسطتين، أو ثلاث، أو أكثر. ومَن يطّلع بحسب الخارج على كيفيّة تلقّي أصحاب الأئمّة(عليهم السلام)للروايات، وكيفيّة اهتمامهم لجمعها من الرواة السابقين عليهم يعرف بوضوح أنّ مثل هذه الروايات كانت تتناقل جيلاً بعد جيل، وتكون داخلة في رواياتهم، والدليل المادّيّ القطعيّ الذي يكون بيدنا تلقّينا لهذه الروايات منهم، فإنّ هذه الروايات تلقّيناها بسند تكون قطعة من هذا السند مشتملة على أفراد متعدّدين واقعين في زمان الأئمّة(عليهم السلام). وخلاصة الكلام: أنّ كون الأخبار مع الواسطة داخلة في محلّ ابتلائهم عموماً من بديهيّات التأريخ.

وعليه نقول: إمّا أنّهم كانوا يعملون بهذه الروايات، أو لا ؟ أمّا الشقّ الأوّل فهو المقصود. وأمّا الشقّ الثاني فهو باطل؛ إذ لا نحتمل أنّهم كانوا يتركون العمل بهذه الأخبار بلا سؤال، فإنّ حال هذه الأخبار ليس حال الاستخارة والقرعة التي يكون الاعتماد عليها في كشف الحكم على خلاف الطبع العقلائيّ.

فخبر الثقة مع الواسطة إمّا أنّ الارتكاز العقلائيّ العامّ قائم على عدم الفرق بينه وبين خبر الثقة بلا واسطة، وإمّا أنّ هناك ميلاً لهم نحو العمل بخبر الثقة مع الواسطة بحيث يكون ذلك مستساغاً عقلائيّاً، أو لا أقلّ من أنّه لم يكن لهم ميل إلى الخلاف، أو ارتكاز على الخلاف، كما هو الحال في القرعة والاستخارة، فلا أقلّ من فرض التحيّر والتبلبل، فيكثر السؤال لا محالة على تقدير عدم السيرة على العمل بخبر الثقة مع الواسطة، ويكثر الجواب بالنفي؛ إذ لو كان الجواب بالإثبات لقامت السيرة على العمل به، والدواعي للسؤال والجواب والنقل متوفّرة، وكيف لا مع أنّ هذا من الابتلاءات العامّة، وممّا يتوقّف عليه أساس الشريعة وكيان الدين؛

573

لأنّ أكثر أحكام الشريعة إنّما تتلقّى بهذا الترتيب، فلو سألوا واُجيبوا بالنفي لكان يصلنا ذلك ضمن عدّة أخبار، فما ظنّك بالحال مع ما ترى: من أنّه لم ترد حتّى رواية واحدة ضعيفة تدلّ على ذلك.

إن قلت: إنّ هذا منقوض بالخبر الظنّيّ الذي يكون راويه غير ثقة، فإنّه أيضاً يأتي فيه عين هذا البيان: من أنّه كان محلّ الابتلاء، وأنّه لا أقلّ من عدم الميل العقلائيّ إلى ترك العمل به، ومع ذلك لا تقولون بحجّيّته.

قلت: نعم، هذا يأتي في كلّ أمارة عامّة الابتلاء كثيرة الوقوع في كثير من موارد الاستنباط، لكنّه قد وردت طوائف عديدة من الأخبار من الممكن كونها ناظرة إلى الردع عن خبر غير الثقة:

منها: ما ورد من النهي عن العمل بالخبر غير العلميّ(1)، فلعلّه وارد في الردع عن العمل بخبر غير الثقة.

ومنها: الأخبار الواردة في أنّه لابدّ من التثبّت في الدين، وعدم أخذ الدين إلّا من مقام أمين، ونحو ذلك من العناوين الكلّيّة(2)، فلعلّها واردة أيضاً في الردع عن ذلك.

 


(1) لعلّه ينظر(رحمه الله) إلى الخبرين اللذين مضى نقلهما في أوّل البحث عن السنّة التي قد يدّعى دلالتها على عدم حجّيّة خبر الواحد: رواية محمّد بن عليّ بن عيسى(1)، ورواية محمّد بن عيسى(2).

(2) لعلّه(رحمه الله) ينظر إلى مثل حديث زيد الشحّام عن أبي جعفر(عليه السلام) في قول الله عزّ وجلّ:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 36، ص 86.

(2) مستدرك الوسائل، ج 3، ب 9 من صفات القاضي، ح 10، ص 186. وكذلك البحار،ج 2، ب 29 من كتاب العلم، ح 33، ص 241.

574

ومنها: الأخبار الواردة في النهي عن العمل بأخبار المخالفين معلّلة ذلك بعلّة عامّة: من أنّهم لا يؤمنون على الدين، وأنّهم خانوا الله وخانوا رسول الله، وأنّه إن أخذت دينك منهم فقد أخذته من الخائنين، ونحو ذلك(1). فهذه الطائفة لعلّها تردع بالتعليل الوارد فيها عن العمل بأخبار الشيعة إذا كانوا خائنين لله ورسوله.

ومنها: ما ورد في النهي عن العمل بخبر إلّا تحت شروط وقيود، كقوله: (لاتأخذ أحكامك إلّا من كلّ قديم العهد في أمرنا مسنّ في حبّنا)(2).

 


﴿فَلْيَنظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِه﴾، قال: قلت: ما طعامه ؟ قال: «علمه الذي يأخذه عمّن يأخذه»(1)، وروايات الأخذ من الصادق(2)، ورواية أبي البختريّ عن أبي عبدالله(عليه السلام): «...فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه»(3)، ورواية أبي حمزة الثماليّ عن أبي عبدالله(عليه السلام): «...إيّاك أن تنصب رجلاً دون الحجّة، فتصدّقه في كلّ ما قال»(4).

(1) لعلّه(رحمه الله) ينظر إلى الحديث 42 من الباب 11 من صفات القاضي من الجزء 18 من الوسائل، ص 109. ولعلّه ينظر أيضاً إلى مثل مقبولة عمر بن حنظلة المانعة من التحاكم لدى قضاة الجور. نفس الباب، الحديث 1، ص 99.

(2) لعلّه(رحمه الله) ينظر إلى رواية أحمد بن حاتم بن ماهويه قال: كتبت إليه يعني

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل، ج 18، الباب 7 من صفات القاضي، الحديث 10، ص 43.

(2) من قبيل ما في الوسائل، ج 18، الباب 7 من صفات القاضي، الحديث 37، والباب 8 منها، الحديث 67 إلى 70، والباب 10 منها، الحديث 12.

(3) الوسائل، ج 18، الباب 8 من صفات القاضي، الحديث 2، ص 53.

(4) الوسائل، ج 18، الباب 10 من صفات القاضي، الحديث 6، ص 91، ونحوه الحديث 15، ص 93.

575

ومنها: الأخبار التي جعلت الوثاقة مناطاً للحجّيّة إمّا بظهورها، أو بمنطوقها، أو بمفهومها من قبيل قوله: «العمريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان»، ونحو ذلك من الروايات(1).

فإنّ مجموع هذه الأخبار كلاًّ، أو جلاًّ، أو بعضاً، لا أقلّ من أنّه يحتمل وروده في مقام بيان عدم العمل برواية غير الثقة.

وخلاصة الكلام: أنّ أصحاب الأئمّة لو تركوا العمل بخبر الثقة مع الواسطة لكانوا سألوا ثُمّ تركوا على أساس ردع الإمام لهم عن العمل به، ولو كان كذلك لوصلنا الردع.

وهناك مؤيّدات للمقصود تؤثّر جدّاً في حصول الاطمئنان والقطع بالمقصود وتأكيده:

منها: أنّه لو فرض أنّ الأصحاب لم يكونوا يعملون بالخبر مع الواسطة فلا إشكال في أنّ هناك مراتب للخبر مع الواسطة، فقد تكون الوسائط سبعاً، وقد تكون خمساً، أو اثنتين، أو أقلّ، أو أكثر، كما أنّ الوسائط مختلفون في الحال ودرجة الوثاقة، أفلم تكن هناك مرتبة توجب الشكّ والتبلبل في جواز الأخذ بها وحجّيّتها، وعدمه ؟! وبكلمة اُخرى: لو فرض أنّهم كانوا بسجيّتهم العقلائيّة يتركون


أبا الحسن الثالث(عليه السلام) أسأله عمّن آخذ معالم ديني، وكتب أخوه أيضاً بذلك، فكتب إليهما: «فهمت ما ذكرتما فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا وكلّ كثير القدم في أمرنا، فإنّهما كافوكما إن شاء الله»(1).

(1) ممّا مضى تحت عنوان الأخبار الدالّة على حجّيّة خبر الثقة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل، ج 18، الباب 11 من صفات القاضي، الحديث 45، ص 110.

576

العمل بالخبر مع الواسطة فهذه السجيّة لها قدر متيقّن لا محالة، ولها موارد للشكّ،فكيف لم يسألوا عن ذلك، أو سألوا ولم يصلنا ؟!

ومنها: أنّه لو كان هناك بناءٌ من قبل أصحاب الأئمّة وفقهاء الشيعة في أيّام الإمام العسكريّ، والجواد، والهادي(عليهم السلام) على التفصيل بين العمل بالخبر مع الواسطة والخبر بلا واسطة، وقد كثر في تلك الأيّام الفقهاء في الكوفة وفي قم، لكان يخلّف هذا البناء ـ على الأقلّ ـ ذكراً في كتب الاُصول والفقه ولو بعنوان قول من الأقوال، مع أنّه لم يذكر ذلك، ونحن عندنا من كتب الاُصول ما يرجع تأريخه إلى القرن الرابع، أي: ما بعد هذا التأريخ بمئة سنة أو أكثر بقليل، ككتاب السيّد المرتضى والشيخ الطوسيّ في الاُصول.

ومنها: أنّ هناك طريقاً للاستدلال على ثبوت السيرة في زمان الإمام بالسيرة المتأخّرة، وهي: أنّه لو فرض انقلاب السيرة ـ بأن كان عمل الشيعة مثلاً في ظهر الجمعة على الجهر، وفي زماننا قامت السيرة على الإخفات ـ لكان هذا الانقلاب من العجائب، ولكان ينقل ذلك في الكتب. وهذا البيان في مثل قراءة ظهر الجمعة غير صحيح؛ إذ لو فرض الانقلاب فهو ليس انقلاباً بين عشيّة وضحاها، بل حصل هذا الانقلاب بالتدريج في خلال أمد بعيد، فوجد أوّلاً مخالف واحد، وبعد مدّة لاحظ شخص آخر الأخبار فرأى أنّ الصحيح هو ما ذهب إليه هذا المخالف، وهكذا إلى أن حصل الانقلاب بالتدريج، على أنّه ليس من اللازم كون الانقلاب من وجوب الجهر إلى حرمته ابتداءً حتّى يبدو الاختلاف بنحو فاحش، بل المخالف الأوّل لعلّه أظهر الاستحباب إلى أن جاء شخص آخر فناقش في دليل الاستحباب وقرّب التخيير إلى أن جاء مَن قرّب الكراهة، ثُمّ بعد ذلك قيل بالحرمة مثلاً.

577

ولكن هذا البيان تامّ فيما نحن فيه من دون أن يرد عليه هذا الإشكال، فإنّ الأمر دائر بين الوجوب والحرمة، فإنّ الخبر مع الواسطة لو كان حجّة فالعمل به واجب، وإلّا فالعمل به غير جائز، والفترة التي يفرض حصول الانقلاب فيها يسيرة، فإنّ المفروض أنّهم في زمان الأئمّة ـ أي: إلى أواخر المئة الثانية وأوائل المئة الثالثة ـ كانوا يتركون العمل بالخبر مع الواسطة، بينما الكلينيّ الذي هو قريب من زمان الأئمّة وولد في زمان الإمام، وعاصر النوّاب، ومات بعد الغيبة الصغرى بقليل يذكر في أوّل كتابه: أنّي أجمع هذه الروايات لكي تكون مداراً لاستنباط الأحكام الشرعيّة. وجاء بعده الصدوق فذكر في مقدّمة كتابه مثل ذلك، فكيف يفترض انقلاب السيرة في فترة قصيرة كهذه، وبحيث يذكر الشيخ الطوسيّ الذي جاء بعد هذه الفترة في كتاب العدّة ناظراً إلى هذه الفترة وفترة زمان الحضور ضمن الزمان الطويل الذي ينظر إليه: إنّ الأصحاب إلى يومنا هذا عصراً بعد عصر مطبقون على العمل بهذه الأخبار.

ومنها: أنّه لو كان الخبر مع الواسطة غير حجّة لكان يجعل هذا إشكالاً من قِبَل الأئمّة وأصحابهم على العامّة الذين قام أساس مذهبهم على الأخبار المرويّة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، بينما لم يشكل أحد عليهم بأنّ الأخبار التي تعملون بها هي أخبار مع الواسطة، وإنّما كان الإشكال عليهم أنّه يجب عليهم الرجوع إلى الأئمّة في هذه الأخبار لمعرفة الناسخ والمنسوخ، والمخصّص، ونحو ذلك مضافاً إلى الإشكال في أمانة ووثاقة رواة تلك الروايات.

وأمّا السنّة: فالأخبار الدالّة على حجّيّة خبر الثقة على ثلاثة أقسام:

الأوّل: ما لا يدلّ إلّا على حجّيّة الخبر بلا واسطة كقوله: «ما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفيّ، فإنّه سمع من أبي، وكان عنده مرضيّاً». فقوله: «سمع من أبي»

578

يشمل الخبر بلا واسطة فحسب(1)، وكالأخبار العلاجيّة، فإنّها إنّما كانت تدلّ في الجملة على وجود خبر حجّة ولم يكن فيها إطلاق، فالقدر المتيقّن منها هو الخبر بلا واسطة.

الثاني: ما قد يقال بدلالته بالخصوص على حجّيّة الخبر مع الواسطة كحديث محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال: «قلت له: ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) لا يتّهمون بالكذب، فيجيء منكم خلافه ؟ قال: إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن». حيث إنّ مورد هذا الحديث هو الخبر مع الواسطة.

الثالث: ما يكون بإطلاقه شاملاً للخبر مع الواسطة كقوله: «أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: نعم». فإنّ الثقة الذي ينقل عن ثقة آخر عن الإمام لا عن الإمام رأساً فهو وإن لم يكن ينقل الحكم الواقعيّ لكنّه ينقل موضوع الحكم الظاهريّ، أي: أنّه ينقل نقل الثقة الأوّل الذي هو موضوع للحجّيّة، وبالتالي يدلّ على ذلك الحكم الظاهريّ، والحكم الظاهريّ ـ أيضاً ـ داخل في معالم الدين.


(1) قد يقال: إنّ ابن أبي يعفور قد سأل الإمام بقوله: «ليس كلّ ساعة ألقاك، ولا يمكن القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كلّ ما يسألني عنه، فقال: ما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفيّ، فإنّه سمع من أبي، وكان عنده وجيهاً». وهذا كما ترى ظاهر في حجّيّة نقل ابن أبي يعفور لمن يسأله مع أنّه نقل بالواسطة، وليس هذا حاله حال الأخبار الآمرة بنقل الأحاديث للناس التي مضى عدم دلالتها على حجّيّة خبر الثقة.

والجواب: أنّ من المحتمل أنّ الذي كان يراجع ابن أبي يعفور كان يراجعه كفقيه، أو كان نقل ابن أبي يعفور مورثاً لعلمه بالصدق، والإمام(عليه السلام) ليس بصدد البيان من هذه الناحية كي يتمسّك بشمول الإطلاق لغير هذين الفرضين.

579

وكقوله: «العمريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك عنّي فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنّهما الثقتان المأمونان».

وقد يقال: إنّ قوله: «ما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان» خاصّ بالخبر بلا واسطة؛ لأنّ الخبر مع الواسطة ليس أداء عنه، لكن التحقيق هو ما مضى: من أنّ الخبر مع الواسطة راجع إلى الخبر بلا واسطة، فهو لا محالة تأدية عن الإمام(عليه السلام)، فليس حال قوله: (أدّى إليك عنّي) حال قوله: «فإنّه سمع من أبي».

وإن ناقشنا في ذلك وقلنا: إنّ قوله: «أدّيا إليك عنّي» منصرف عن الأداء مع الواسطة الراجع بالتقريب السابق إلى الأداء بلا واسطة كفانا إطلاق قوله: «فاسمع لهما وأطعهما، فإنّهما الثقتان المأمونان»، فإنّ الأمر بالسماع والطاعة يشمل فرض دلالة كلامه على حجّيّة نقل من يروي هذا عنه الذي هو ينقل عن الإمام، فإنّها حكم من الأحكام يتصوّر فيها السماع والطاعة، وقد نقل هذا الشخص موضوعه(1).

إذا عرفت هذا قلنا: تارةً يفترض أنّه يكفي في حصول العلم أو الاطمئنان بحجّيّة خبر الثقة خصوص الأخبار الدالّة على حجّيّة الخبر مع الواسطة بما فيها حديث: «العمريّ وابنه ثقتان» الذي عرفت فيما سبق مزاياه الخاصّة، واُخرى


(1) لا يخفى أنّنا لو سلّمنا انصراف قوله: «ما أدّيا إليك عنّي» إلى النقل المباشر، فهذا صالح للقرينيّة على أن يكون ما فرّع عليه من قوله: «فاسمع لهما وأطعهما» أمراً بإطاعتهما في نفس دائرة النقل المباشر دون نقل موضوع الحجّيّة. وقضيّة أنّ المورد لا يخصّص الوارد لا تأتي هنا، فإنّ الوارد لو كان عامّاً وضعيّاً لا يخصّصه المورد. أمّا إذا كان مطلقاً حكميّاً، فإن كانت هناك نكتة عرفيّة توجب صرف الوارد عن اختصاصه بالمورد تمّ الإطلاق، وإلّا فأصل الإطلاق لا ينعقد؛ لأنّ المورد صالح للقرينيّة للصرف إليه. وقد مضى شرح ذلك منّا في ذيل الروايتين اللتين قد يستدلّ بهما على عدم حجّيّة خبر الواحد.

580

يفترض أنّ العلم أو الاطمئنان بحجّيّة خبر الثقة إنّما نشأ من مجموع هذه الرواياتالتي لم يشمل بعضها الخبر مع الواسطة، فإن فرضنا الأوّل فقد ثبت المقصود، وهو حجّيّة الأخبار مع الواسطة، وإن فرضنا الثاني فلابدّ من الاقتصار على أخصّ المداليل وهو حجّيّة خبر الثقة بلا واسطة، فلا تثبت حجّيّة خبر الثقة مع الواسطةإلّا بأن يقال: إنّنا نقطع بأنّه لو كان خبر الثقة بلا واسطة حجّة، ولو كان الراوي في أدنى درجات الوثاقة، فخبر الثقة بوسائط قليلة كلّهم في أعلى درجات الوثاقة حجّة أيضاً، فإنّ الكشف النوعيّ الثابت له يفوق بدرجات كثيرة على الكشف النوعيّ لخبر مَن هو في أدنى درجات الوثاقة بلا واسطة، فحديث «العمريّ وابنه ثقتان»(1) يصبح حجّة وإن كان مع الواسطة؛ لأنّه من هذا القبيل كما عرفت فيما مضى، وقد عرفت أنّه يدلّ على حجّيّة خبر الثقة مع الواسطة.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الخبر مع الواسطة حاله حال الخبر بلا واسطة، والمقصود بذلك أنّ النقص الذاتيّ في الكشف الناشئ من وجود الواسطة لا يضرّ بالحجّيّة، أي: أنّنا لو لاحظنا كلّ رواية من روايات هذا الخبر مع الواسطة فرأينا أنّها لو خلّيت ونفسها كانت حجّة فهذا الخبر حجّة، ولا فرق في ذلك بين القول بأنّ العبرة بوثاقة الراوي، والقول بأنّ العبرة بموثوقيّة الرواية، فنقول على الثاني: إنّ الرواية مع الوسائط وإن فرض سقوطها بواسطة ما لها من الوسائط عن الموثوقيّة لكن لا يضرّ ذلك بحجّيّتها، فإنّ العبرة إنّما هي بأن تكون رواية كلّ واسطة من الوسائط في نفسها موثوقاً بها. وأمّا الضعف الناشئ في النتيجة لأجل الوسائط فيغضّ النظر عنه(2).

 


(1) أو التوقيع الشريف.

(2) والسبب في ذلك أنّ دليل حجّيّة خبر الثقة: إمّا أن يفترض شموله للإخبار عن

581


الأخبار، أو يفترض اختصاصه بالإخبار عن كلام المعصوم. فكلّ دليل من أدلّة حجّيّة خبر الثقة فرض شموله للإخبار عن الأخبار فمن الواضح أنّ إشكال ضعف الموثوقيّة الناشئ من تعدّد الوسائط محلول بلحاظه؛ لأنّ الخبر مع الوسائط منحلّ في الحقيقة إلى عدّة أخبار كلّ منها في ذاته رواية واجدة للموثوقيّة بحسب الفرض، وكلّ منها يثبت موضوع حجّيّة الخبر الذي كان قبله إلى أن نصل إلى كلام الإمام.

وكلّ دليل من أدلّة حجّيّة خبر الثقة فرض اختصاصه بالإخبار عن كلام المعصوم فأيضاً إشكال ضعف الموثوقيّة في الخبر مع الوسائط محلول بلحاظه مادمنا فرضنا شموله للخبر مع الواسطة عند عدم ضعف الموثوقيّة؛ وذلك لما عرفت فيما مضى: من أنّ الخبر مع الواسطة يرجع إلى الخبر بلا واسطة، فالوسيط الثاني ـ مثلاً ـ يقول: لو لم يكذب الوسيط الأوّل فالإمام قال كذا، وهذا خبر بلا واسطة يتمتّع بالموثوقيّة، وشرط القضيّة الشرطيّة ثابت تعبّداً.

نعم، لو فرضنا أنّ الحجّيّة ليست للخبر الموثوق وإنّما الحجّيّة لنفس تلك الدرجة من الوثوق الفعليّ برأي المعصوم، فمن الواضح أنّ تكثّر الوسائط يضرّ بذلك، إلّا أنّ هذا خلاف مفروض الكلام كما هو واضح.

يبقى الإشكال في الاستدلال بسيرة أصحاب الأئمّة(عليهم السلام) الدالّة على حجّيّة خبر الثقة مع الوسائط، حيث قد يقال: إنّ الوسائط في زمن الحضور كانت أقلّ من عدد الوسائط الموجود لدينا الآن بالنسبة لبعض الروايات، فسيرتهم على حجّيّة الخبر مع الوسائط بالعدد المألوف وقتئذ لا تدلّ على الحجّيّة فيما إذا كثرت الوسائط بأكثر من ذاك المقدار المألوف آنذاك.

والجواب: أنّه بعد فرض حلّ إشكال الموثوقيّة بالبيان الذي عرفت يكون المفهوم

582


المرتكز عندهم عدم الفرق بين قلّة الوسائط أو كثرتها مادام الخبر مهما تكثّرت وسائطه ينحلّ إلى عدّة أخبار بلا واسطة، أو يرجع إلى الإخبار عن كلام المعصوم بلا واسطة، فإنّ الفرق بعد هذا الفرض غير عرفيّ، فإذا كان المعصوم(عليه السلام) غير راض بهذا الفهم كان عليه الردع، فإنّ تكثّر الوسائط في مستقبل الزمان كان مترقّباً في ذاك الزمان، وليس ممّا حدث في الأزمنة المتأخّرة من دون ترقّب حدوثه المتأخّر منذ البدء كي يقال: إنّ السكوت عنه ليس دليل الإمضاء.

وكذلك الروايات الدالّة على حجّيّة الخبر حتّى مع الواسطة لو كان بعضها غير مطلق لفرض تكثّر الوسائط أمكن التعدّي بالفهم العرفيّ إلى فرض تكثّرها. فمثلاً قوله في حديث ابن يعفور: «يجيء الرجل من أصحابنا فيسألني، وليس عندي كلّ ما يسألني عنه، فقال: ما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفيّ، فإنّه سمع من أبي، وكان عنده وجيهاً» لو دلّ على حجّيّة خبر ابن يعفور الذي يوجد بينه وبين الإمام وسيط، وهو محمّد بن مسلم قلنا: إنّ العرف بعد أن كان يكيّف بارتكازه حجّيّة الخبر مع الواسطة بإرجاعه إلى الخبر بلا واسطة، أو بتحليله إلى عدّة أخبار بعدد الوسائط ينقل بعضهم موضوع حجّيّة الخبر السابق أقول: إنّ العرف بعد تكييفه لحجّيّة الخبر مع الوسائط بأحد هذين الشكلين يتعدّى إلى فرض تكثّر الوسائط.

وقد اتّضح حتّى الآن بما لا مزيد عليه: أنّ خبر الثقة حجّة ولو كان مع الوسائط إمّا بمعنى أنّ كلّ خبر يثبت موضوع حجّيّة سابقة، وهذا يعني حجّيّة الخبر في الموضوعات بهذا المقدار على الأقلّ، أو بمعنى أنّ كلّ خبر مع الواسطة راجع إلى الخبر بلا واسطة ببيان مضى فيما سبق عن اُستاذنا الشهيد(رحمه الله)، وهذا لا يتوقّف على حجّيّة الخبر في الموضوعات حتّى بهذا المقدار.

583


بقى الكلام في أمرين:

الأوّل: كيف تثبت وثاقة الراوي ؟ فهل هذا بحاجة إلى البيّنة؛ لعدم حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات، أو أنّ خبر الواحد حتّى لو لم يكن حجّة في الموضوعات بشكل مطلق يكون حجّة في إثبات وثاقة الراوي ؟

والثاني: هل نقول بحجّيّة خبر الواحد في الموضوعات بشكل مطلق في غير ما ثبت بدليل خاصّ احتياجه إلى البيّنة أو لا ؟

كيف تثبت وثاقة الراوي ؟

أمّا الأمر الأوّل ـ وهو أنّه كيف تثبت وثاقة الراوي ؟ ـ: فلا إشكال في ثبوت وثاقته بالبيّنة بناءً على حجّيّة البيّنة بسيرة متشرّعيّة، أو بسيرة العقلاء غير المردوع عنها، أو بدعوى أنّ الروايات المتفرّقة في الأبواب المتشتّتة أورثت القطع بحجّيّة البيّنة. إنّما الكلام في ثبوت وثاقة الراوي بخبر الثقة الواحد. ويمكن إثبات ذلك بعدّة وجوه:

الوجه الأوّل: أن يقال بأنّ كلّ ما دلّ على حجّيّة خبر الثقة مع الواسطة فقد دلّ على حجّيّة وثاقة الراوي بخبر الثقة؛ وذلك لأنّ الوثاقة وإن كانت موضوعاً وليست حكماً شرعيّاً، ولكن حجّيّة خبر الثقة مع الواسطة أيضاً تستبطن حجّيّة خبر الثقة في الموضوعات؛ لأنّ خبر الوسيط موضوع للحجّيّة وهو لم يثبت إلّا بخبر الثقة الواحد. فهب أنّ دليل حجّيّة خبر الثقة لم يدلّ على حجّيّة الخبر في الموضوعات بشكل مطلق بحيث يشمل الموضوعات التي يترتّب عليها حكم جزئيّ، ولكن معنى شمول دليل الحجّيّة للإخبار بخبر الوسيط أنّ دليل الحجّيّة شمل الموضوع الذي يقع في طريق الوصول إلى الحكم الكلّيّ الفقهيّ لصدق عنوان معالم الدين عليه في حديث: (آخذ عنه معالم ديني)