534

الاحتمالات تواطؤ كلّ من الجماعتين على الكذب خصوصاً أنّ هناك طريقاً آخر إلى الكلينيّ، وهو طريق الصدوق عن محمّد بن محمّد بن عصام الذي لم يثبت توثيقه عن الكلينيّ، فهذا يدعم الطريق الأوّل، فيكون صدور هذه الرواية من الكلينيّ مورداً للاطمئنان الشخصيّ. والكلينيّ يروي هذه الرواية عن الإمام(عليه السلام)بواسطة واحدة، وهذا يوجب قوّة هذه الرواية، إلّا أنّ نقطة الضعف فيها هي أنّ تلك الواسطة وهو إسحاق بن يعقوب لم يشهد بوثاقته. نعم، هو شخص حدّث الكلينيّ بورود توقيع إليه من صاحب الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف، ولا أقلّ من أنّ الكلينيّ احتمل صدقه. ومن المعلوم أنّنا لو ضممنا هذا إلى ما نقلناه عن الشيخ الطوسيّ(قدس سره)(1): من أنّ التوقيعات من قبل صاحب الزمان(عليه السلام)كانت لا ترد إلّا إلى المتّقين الورعين لربما حصل الظنّ بأنّ إسحاق بن يعقوب صادق؛ إذ كان بنحو احتمل الكلينيّ ـ على الأقلّ ـ صدقه مع عدم ورود التوقيع إلّا إلى الممتازين، فلا يحتمل صدق ذلك في حقّ كلّ أحد، وهذه على أيّ حال أمارة ظنّيّة(2)، وهي تفيد


(1) قد مضى منّا التعليق على هذا الكلام.

(2) أفاد (رضوان الله عليه) في وقت آخر بعد ذلك عند ما أراد إثبات ولاية الفقيه: أنّ إسحاق بن يعقوب نقطع بوثاقته؛ لأنّ افتراء توقيع على الإمام في ظرف غيبة الإمام، وفي ظرف تكون للتوقيع قيمته الخاصّة بحيث لا يرد إلّا لثقات الخواصّ، وقدسيّته في النفوس، افتراء توقيع على الإمام في ظرف من هذا القبيل لا يحتمل صدوره عادةً إلّا من خبيث رذل. إذن فهذا الشخص أمره دائر بين أن يكون في منتهى درجات الوثاقة، أو أن يكون من الخبثاء والسفلة، ولا يحتمل عادةً كونه متوسّطاً بين الأمرين. ولو كان الثاني هو الواقع لما أمكن عادةً خفاء ذلك على الكلينيّ ـ مع ما هو عليه من ضبط ودقّة ـ بحيث يحتمل صدقه في نقل ورود التوقيع.

535

في حساب الاحتمالات وتأييد الرواية الاُولى. فإذا ضممنا إلى هذه المؤيّدات المؤيّد الآخر، وهو سائر الروايات الدالّة على حجّيّة خبر الثقة التي ليست فيها نكتة خاصّة، كانت دعوى الاطمئنان الشخصيّ في المقام دعوى واضحة، وتحصل لنا السنّة القطعيّة لا من الناحية العدديّة، بل من الناحية الكيفيّة.

ومنها: ما عن الكشّي، عن محمّد بن قولويه، عن سعد بن عبدالله، عن محمّد بن عيسى، عن أحمد بن الوليد، عن عليّ بن المسيّب قال: «قلت للرضا(عليه السلام): شقّتي بعيدة، ولست أصل إليك في كلّ وقت، فعمّن آخذ معالم ديني؟ فقال: من زكريّا بن آدم المأمون على الدين والدنيا»(1). وظاهره أنّ أمانته هي ملاك الأخذ منه. وسند الحديث يشتمل على ستّ وسائط خمسة منهم ثقات(2).

ومنها: ما عن الكشّي، عن العيّاشي، عن محمّد بن نصير، عن محمّد بن عيسى، عن عبد العزيز بن المهتدي، والحسن بن عليّ بن يقطين جميعاً، عن الرضا(عليه السلام)


أقول: إنّ هذا الكلام تامّ حتّى مع عدم شهادة الشيخ في الغيبة باختصاص ورود التوقيع على ثقات كبار، فإنّ طبع الغيبة وتكتّم الإمام(عليه السلام) يقتضي هذا الاختصاص سواء ذكره الشيخ الطوسيّ في كتاب الغيبة أو لا.

وبهذا يتّضح أنّ احتمال الكذب في إسحاق بن يعقوب غير موجود، أو يطمأنّ بعدمه. واحتمال الخطأ منه خصوصاً في التوقيع الخطّي بعيد أيضاً.

فهذا الحديث يشبه الحديث الأوّل في القطعيّة أو الاطمئنانيّة.

وبهذا تمّت لنا أحاديث أربعة ذات امتيازات خاصّة تدلّ على حجّيّة خبر الواحد، واثنان منها يقربان من القطعيّ.

(1) الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 27، ص 106.

(2) يقصد(رحمه الله) ما عدا أحمد بن الوليد.

536

قال(1): «قلت: لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما احتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: نعم»(2). فكأنّ حجّيّة خبر الثقة كانت مفروغاً عنها، والسائل يسأل عن المصداق. وسند الحديث يشتمل على خمس وسائط ثلاثة منهم ثقات، والرابع ثقة تعبّداً(3)، والخامس(4) محتمل الانطباق على غير الثقة.

ومنها: ما عن غيبة الشيخ الطوسيّ قال أبو الحسين ابن تمام: «حدّثني عبدالله الكوفيّ خادم الشيخ الحسين بن روح ـ رضي الله عنه ـ قال: سئل الشيخ ـ يعنيأبا القاسم رضي الله عنه ـ عن كتب ابن أبي العزاقر بعد ما ذمّ وخرجت فيه اللعنة، فقيل له: فكيف نعمل بكتبه وبيوتنا منها ملاء؟ فقال: أقول فيها ما قاله أبو محمّد الحسن بن عليّ ـ صلوات الله عليهما ـ وقد سئل عن كتب بني فضّال فقالوا: كيف نعمل بكتبهم وبيوتنا منها ملاء؟ فقال صلوات الله عليه: خذوا بما رووا وذروا ما


(1) يعني عبد العزيز بن المهتدي.

(2) الوسائل، ج 18، ب 11 من صفات القاضي، ح 33، ص 107.

(3) يقصد به محمّد بن عيسى.

(4) يقصد به محمّد بن نصير. ولكن السيّد الخوئيّ(رحمه الله) أثبت في معجم الرجال كون المقصود به الثقة، وذلك بقرينتين، ونحن نوافق على الاُولى منهما، فنقول: إنّ محمّد بن نصير الذي يروي عنه الكشّي مباشرة لا شكّ أنّه هو محمّد بن نصير الكشّي لا النميريّ، أمّا من يروي عنه الكشّي بواسطة العيّاشي فالظاهر أنّه هو أيضاً محمّد بن نصير الكشّي الذي يروي عنه الكشّي مباشرة، والقرينة التي تدلّ على ذلك ما ذكره الكشّي في أوائل كتابه في فضل الرواية والحديث، قال: «محمّد بن مسعود العيّاشي وأبو عمرو ابن عبد العزيز الكشّي قالا: حدّثنا محمّد بن نصير قال: حدّثنا محمّد بن عيسى...»، فإنّ هذا الكلام نصّ في أنّ مَن يروي عنه محمّد بن مسعود العيّاشي هو الذي يروي عنه الكشّي بنفسه.

537

رأوا»(1). ولا يعدّ هذا شهادة بصحّة كلّ ما في كتبهم: من روايات، فإنّ الشهادة بمثل ذلك في حقّ بني فضّال الذين آل أمرهم إلى الضلال يحتاج إلى إعمال الغيب، وأبو الحسين ابن تمام، وعبدالله الكوفيّ خادم الشيخ كلاهما مجهولان.

ومنها: مقبولة عمر بن حنظلة قال: «قلت: في رجلين اختار كلّ واحد منهما رجلاً من أصحابنا، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما، فاختلفا فيما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم [ حديثنا ]؟ قال: الحكم ما حكم به أعدلهما، وأفقههما، وأصدقهما في الحديث، وأورعهما ...»(2). فإنّ الظاهر من ذلك أنّ مناط تقدّم حكم أحدهما هو تقدّم خبره على الآخر، وأنّ خبر أحدهما يتقدّم على الآخر بأقوائيّة مناط حجّيّة الخبر فيه بأعدليّته وأوثقيّته، والقدر المتيقّن من هذا الحديث هو حجّيّة خبر الثقة العدل.

ومنها: مرفوعة عوالي اللآلي إلى زرارة قال: «سألت الباقر(عليه السلام)فقلت: جعلت فداك، يأتي عنكم الخبران، أو الحديثان المتعارضان ...» إلى أن قال: «خذ بقول أعدلهما عندك، وأوثقهما في نفسك ...»(3). فإنّه أيضاً ظاهر في ترجيح الخبر بأعدليّته وأوثقيّته، والقدر المتيقّن منه أيضاً حجّيّة خبر الثقة العدل.

ومنها: ما عن عبد الرحمن بن أبي عبدالله قال: «قال الصادق(عليه السلام): إذا ورد عليكم حديثان فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردّوه ...»(4).


(1) جامع أحاديث الشيعة، ب 5 المقدّمات، ح 36، ص 229. ومحلّ الشاهد منه ـ وهو كلام الإمام العسكريّ(عليه السلام) ـ وارد في الوسائل، ج 18، ب 8 من صفات القاضي،ح 79، ص 72.

(2) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 1، ص 75.

(3) مستدرك الوسائل، ج 3، ب 9 من صفات القاضي، ح 2، ص 185 وص 186.

(4) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 29، ص 84. والسند تامّ.

538

والظاهر منه هو الترجيح بالكتاب من باب كونه قطعيّاً لا من باب كونه معجزاً مثلاً. وبكلمة اُخرى: إنّ هذا ترجيح بعنوان تحكيم القطعيّ في الظنّيّ، ولو كان الخبران قطعيّين لما كان فرق بينهما وبين الكتاب حتّى يحكّم الكتاب فيهما، فلا يمكن حمل هذا الحديث على الخبرين القطعيّين، أي: أنّ الإشكال الذي أوردناه على الاستدلال بالطائفة الخامسة عشرة من الطوائف غير التامّة دلالة لا يرد هنا.

ومنها: ما عن محمّد بن مسلم عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «قلت له: ما بال أقوام يروون عن فلان عن فلان عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) لا يتّهمون بالكذب، فيجيء منكم خلافه؟! قال: إنّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن»(1). فإنّ ظاهر هذا هو الفراغ عن حجّيّة خبر مَن لا يتّهم بالكذب؛ إذ الظاهر أنّ خبر مَن لا يتّهم بالكذب لو كان كالقياس لما سأله عن وجه المخالفة، ولكن بما أنّ خبر الثقة يكون في نظر هذا السائل حجّة وطريقاً إلى الواقع ممضى من قبل الشارع انتقل ذهن هذا الرجل إلى


(1) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 4، ص 77. والسند تمام. وممّا يدلّ على حجّيّة خبر الثقة مرسلة الاحتجاج للطبرسيّ عن الحسن بن الجهم، عن الرضا(عليه السلام)قال: «قلت له: تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة؟ فقال: ما جاءك عنّا فقس على كتاب الله عزّ وجلّ وأحاديثنا، فإن كان يشبههما فهو منّا، وإن لم يكن يشبههما فليس منّا. قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين، ولا نعلم أ يّهما الحقّ؟ قال: فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأ يّهما أخذت»(1). ومرسلته أيضاً عن الحارث بن المغيرة عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال: «إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسّع عليك حتّى ترى القائم(عليه السلام) فتردّ إليه»(2).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الوسائل، ج 18، ب 9 من صفات القاضي، ح 40.

(2) المصدر السابق، ح 41.

539

هذا السؤال، والإمام(عليه السلام) قد أقرّه على تصوّره هذا.

ثمّ لو تنزّلنا عمّا ذكرنا حتّى الآن: من أنّ مفاد الحديث الأوّل، وهو حجّيّة خبر الثقة مقطوع الصدور عن الإمام أو مطمأنّ به ولو بمعونة باقي الروايات، فيثبت نفي احتمال الكذب واحتمال الخطأ عن خبر الثقة تعبّداً، فلا أقلّ من الجزم أو الاطمئنان بصدور التعبّد بنفي احتمال الخطأ عنه؛ لأنّ بعض الطوائف الماضية غير الدالّة على حجّيّة خبر الثقة قد عرفت دلالتها على نفي احتمال الخطأ تعبّداً، فتنضمّ تلك الروايات إلى هذه الروايات، ويحصل الجزم أو الاطمئنان بالقدر المشترك بينها، وهو نفي احتمال الخطأ، وبذلك يتمّ لنا التمسّك بالحديث الأوّل؛ لأنّنا لا نحتمل فيه الكذب، وإن كان هناك مجال لاحتمال ينافي الاطمئنان فإنّما هو احتمال الخطأ، وقد تعبّدنا بعدمه، فإذا صار الحديث الأوّل حجّة تمسّكنا به لإثبات التعبّد بنفي احتمال الكذب في خبر الثقة.

ولو تنزّلنا عن هذا الكلام أيضاً فما سوف يأتي ـ إن شاء الله ـ: من الاستدلال بالسيرة تامّ، ومن أوضح مصاديق ما ثبت حجّيّته بها هو هذا الحديث الأوّل، وعندئذ يفيدنا هذا الحديث في مقام توسعة حدود الحجّيّة إن وقع الشكّ فيها، فلو احتملنا ـ مثلاً ـ اختصاص السيرة بخبر الثقة المفيد للظنّ الشخصيّ، أو غير المظنون خلافه، أو نحو ذلك من التفصيلات، فهذا الحديث الذي هو جامع لكلّ ما يحتمل دخله في تماميّة السيرة يثبت لنا حجّيّة خبر الثقة على الإطلاق، ولا يُبقي مجالاً للشكّ في الحجّيّة من ناحية تلك التفصيلات.

 

540

 

دلالة الإجماع (أو السيرة) على حجّيّة الخبر

الثالث: الإجماع. وروح الإجماع في المقام بعد تصفيته يرجع إلى الاستدلال بالسيرة، والكلام في السيرة تارةً يكون بحسب مقام الثبوت والصور المتصوّرة للسيرة العقلائيّة كبرويّاً في أمثال المقام، وكيفيّة اقتناص الحجّيّة منها. واُخرى يكون بحسب مقام الإثبات، وأنّه هل انعقدت في زمن الأئمّة(عليهم السلام)سيرة على حجّيّة خبر الثقة سواء كانت نابعة من رأي المعصوم، أو كانت معتمدة على أساس السيرة العقلائيّة بأحد أوجهها الثبوتيّة، أو لا؟

 

السيرة بحسب مقام الثبوت:

أمّا المقام الأوّل: وهو مقام الثبوت، أعني: الصور المتصوّرة للسيرة العقلائيّة في مثل المقام، فقد مرّ تفصيل الكلام فيه فيما سبق، ونقتصر هنا على البيان الإجماليّ لذلك فنقول:

إنّ السيرة العقلائيّة في أمثال المقام تتصوّر بأنحاء ثلاثة:

الأوّل: حكم العقلاء بما لهم من عقل لا بما هم عقلاء بالحجّيّة، بمعنى إدراك العقل العمليّ لكفاية العمل بالظواهر أو بخبر الثقة ـ مثلاً ـ في مقام الإطاعة والامتثال. وهذا ما يظهر بالتدقيق في كلام المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله)، إلّا أنّه لمّا كان شيئاً بعيداً عن الأذهان علّق عليه المحقّق الإصفهانيّ(قدس سره)(1) بأنّ هذا الحكم من قِبَل العقل إنّما يكون بعد مقدّمات الانسداد، بأن يثبت ـ مثلاً ـ أنّ الامتثال القطعيّ غير ممكن، وأنّ الاحتياط غير واجب، فيحكم العقل بحجّيّة خبر الثقة مثلاً.


(1) راجع نهاية الدراية، ج 2، ص 92.

541

أقول: إنّ المقصود من هذا الوجه ليس ما يرتبط بمقدّمات من قبيل مقدّمات الانسداد، وإنّما روح هذا الوجه وجوهره دعوى القصور الذاتيّ ابتداءً في دائرة حقّ المولويّة، وأنّ المولى من أوّل الأمر ليس له حقّ الطاعة في دائرة ما يخالف الظواهر وأخبار الثقات مثلاً.

الثاني: حكم العقلاء بالحجّيّة التعبّديّة الجعليّة، وهذا الحكم من قِبَلهم يكون بما هم موالي لا بما هم عقلاء، فإنّ العقلاء بما هم عقلاء ليس لهم جعل وتشريع، وإنّما يكون الجعل والتشريع لهم بما هم موالي. وروح هذا الوجه وجوهره هو: أنّ كلّ فرد من أفراد العقلاء تكون فيه دواع ودوافع لو تقمّص بقميص المولويّة لدفعته تلك الدوافع نحو جعل حجّيّة خبر الثقة أو الظواهر ـ مثلاً ـ لعبيده.

الثالث: جري العقلاء بما لهم من مصالح تكوينيّة وعلاقات وأغراض على العمل بخبر الثقة، فالتاجر يعتمد في تجارته على قول من هو ثقة بحسب عالم التجارة، والعامل يعتمد في عمله على قول من هو ثقة بحسب عمله، ومن ينتظر مجيء صديق له من السفر، ويقصد زيارته لدى الرجوع يعتمد على إخبار الثقة بمجيئه و ... ما إلى ذلك(1). هذه هي الصور المتصوّرة للسيرة العقلائيّة في المقام.

وأمّا ارتباطها بمسألة الحجّيّة واقتناصها منها فكالتالي:

أمّا الصورة الاُولى: فارتباطها بالحجّيّة في غاية الوضوح، فإنّ المفروض فيها قصر دائرة حقّ المولويّة ذاتاً فيما يستفاد من الظهور وخبر الثقة مثلاً، فيصبح لا محالة الظهور أو خبر الثقة حجّة ذاتاً على حدّ ذاتيّة حجّيّة القطع بفرق أنّ حجّيّة القطع تنجيزيّة فلا يمكن الردع عنها، وحجّيّتها معلّقة على عدم الردع فتنتهي


(1) وهناك صورة رابعة للسيرة العقلائيّة، وهي افتراض أنّ المولويّات المجعولة عقلائيّاً مجعولة في دائرة الظهور، أو خبر الثقة، ولا تمتدّ إلى ما يخالف الظهور أو خبر الثقة مثلاً.

542

بالردع؛ إذ ليس من المحتمل في المقام علميّاً صحّة دعوى أنّ حقّ المولى عبارة عن العمل بخبر الثقة ـ مثلاً ـ حتّى مع ردعه عنه.

وهذا الوجه في الحقيقة ليس تمسّكاً بالسيرة، وإنّما هو تمسّك بالعقل العمليّ.

هذا. وقد مضى في بحث السيرة أنّ الحجّيّة بهذا النحو لا تفي بتمام الآثار المترتّبة فقهيّاً على الحجّيّة المجعولة من قِبَل الشارع(1) فراجع.

وأمّا الصورة الثانية: فملاحظة حال كلّ واحد من العقلاء وإن كانت تكشف عن أمر مشترك بينهم من دوافع نفسيّة نحو جعل الحجّيّة لخبر الثقة ـ مثلاً ـ لو تقمّصوا قميص المولويّة، لكن يقال في المقام: إنّنا كيف نعرف أنّ الشارع أيضاً كباقي العقلاء، وصنع مثل ما يصنعه العقلاء لو تقمّصوا قميص المولويّة: من جعل الحجّيّة لخبر الثقة؟

ولإثبات ذلك وجوه:

الأوّل: الاستدلال بنفس الاستقراء والتجربة، ودعوى أنّنا جرّبنا واستقرأنا جملة من العقلاء فرأيناهم هكذا، فعرفنا أنّ جميع العقلاء بما فيهم الشارع هكذا.

وفيه: أنّه لا يمكن قياس الشارع بباقي العقلاء بعد إذ كانت أحكامه الإلهيّة غير مسانخة لأحكام باقي العقلاء. وجوهر السيرة بهذا المعنى يتقوّم بنكتتين: ارتكاز كشف خبر الثقة بدرجة مخصوصة عن الواقع في نظرهم، وعدم اهتمامهم بأغراضهم أزيد من تلك الدرجة، ولا سبيل لنا إلى فهم درجة أهمّـيّة أغراض الشارع ومساواتها مع اهتمام باقي العقلاء بأغراضهم.

الثاني: الاستدلال بالإطلاق المقاميّ، وذلك أنّه إذا ثبت أنّ المولى كان في مقام بيان الحجج والأمارات الكاشفة عن مقاصده، وأنّه لم يذكر شيئاً، فنقول عندئذ: إنّه إن كانت الحجّة عنده شيئاً آخر غير ما عليه سيرة العقلاء ومع ذلك


(1) ومضى منّا التعليق على ذلك.

543

سكت عن بيانها فهذا نقض للغرض؛ إذ المفروض أنّه كان في مقام البيان. وإن كانت الحجّة عنده نفس ما عليه سيرة العقلاء وسكت اعتماداً على السيرة فهذا ليس نقضاً للغرض، فسكوته دليل على الإمضاء بحسب الإطلاق المقاميّ.

ويرد عليه: أنّ الإطلاق المقاميّ إنّما يكون شأنه نفي الزائد لا إثبات الأقلّ، مثلاً لو كان المولى في مقام بيان تمام ما يترتّب من الآثار على ارتماس الصائم في الماء، ولم يبيّن إلّا وجوب القضاء ثبت نفي الكفّارة بالإطلاق المقاميّ؛ لأنّه بصدد بيانها لو كانت ولم يبيّنها. ولو دار أمر العالم بين الاستقلاليّة والمجموعيّة مثلاً، فرغم أنّ الاستقلاليّة والمجموعيّة أمران متباينان، ولكن بما أنّ استقلال الأفراد كأنّه لا يزيد على أصل عموم الأفراد بخلاف الترابط والجزئيّة فيما بينها، فكأنّ دوران الأمر بين الاستقلال والمجموعيّة يعدّ عرفاً دوراناً بين الأقلّ والأكثر، وكأنّ الأقلّ قد بيّن بنفس العامّ، والزائد ـ وهو المجموعيّة ـ ينفى عندئذ بالإطلاق المقاميّ؛ إذ لو كان مقصوداً لبيّن أيضاً؛ لأنّه في مقام بيانه لو كان.

أمّا في المقام فلسنا نحن بصدد نفي حجّيّة أمر زائد كي نقول: إنّ سكوته دليل على عدم حجّيّته لأنّه بصدد بيان الحجّيّة لو كانت، وإنّما نحن بصدد إثبات حجّيّة خبر الثقة، فإن كانت السيرة كافية بقطع النظر عن الإطلاق المقاميّ لإثبات حجّيّته لم نحتج إلى الإطلاق المقاميّ، وإن لم تكن كافية لإثبات حجّيّته فقد كان عليه بيان حجّيّته، وسكوته نقض لغرضه.

الثالث: أنّ العقلاء إذا رأوا أنّ جعل الحجّيّة لخبر الثقة هو شغل جميع الموالي بالنسبة لعبيدهم، وإنّ كون المدار على خبر الثقة هي الطريقة الدائرة لديهم بين الموالي والعبيد، فلا محالة يمشون بحسب سجيّتهم وعادتهم حتّى في أوامر مولاهم الحقيقيّ ولو غفلة، فلو لم يكن هذا مرضيّاً للشارع لردع عنه؛ لأنّه يشكّل خطراً على أغراض المولى.

544

وهذا الوجه الثالث هو الوجه المرضيّ عندنا، وقد ذكرنا جملة من النكات المرتبطة به في بحث حجّيّة الظواهر.

وأمّا الصورة الثالثة: فكيفيّة اقتناص الحجّيّة منها هي نفس الوجه الثالث في الصورة الثانية؛ لأنّ العقلاء البانين على العمل بخبر الثقة في اُمورهم التكوينيّة يمشون لا محالة بحسب سجيّتهم وعادتهم على هذه الطريقة في أوامر الشارع ما لم ينبّهوا على خلاف ذلك من قبل الشارع(1).

وقد تقدّم تفصيل الكلام في السيرة ثبوتاً في موضعين: أحدهما: بحث حجّيّة الظواهر، والآخر: البحث الذي خصّصناه لتحقيق السيرة.

 

السيرة بحسب مقام الإثبات:

وأمّا المقام الثاني: وهو مقام إثبات السيرة على العمل بخبر الثقة في زمان الإمام(عليه السلام)، فإثبات ذلك لا يحتاج إلى مزيد مؤونة بعد ما مضى في بحث السيرة من تحقيق طرق إثبات السيرة في زمان الإمام(عليه السلام)، فإنّنا نعمل نفس تلك الأساليب في المقام، ونستخلص النتيجة من ذلك، ونوضّح ذلك ببيان مجموع اُمور ثلاثة:

الأمر الأوّل: أنّه لا ينبغي التشكيك في أنّه في زمن الأئمّة(عليهم السلام)كان يوجد هناك عدد كبير من الأخبار ظنّيّة الصدور، ويتطرّق فيها احتمال الخلاف من ناحية احتمال الكذب فضلاً عن احتمال الخطأ، ولم تكن الأكثريّة القريبة من الشمول قطعيّة الصدور. وتوضيح ذلك: أنّ النقّادين من علمائنا المتقدّمين كالشيخ


(1) والصورة الرابعة التي أضفناها كالصورة الثالثة في كيفيّة اقتناص الحجّيّة الشرعيّة منها.

545

النجاشيّ وشيخ الطائفة وغيرهم من السابقين عليهم والمتأخّرين عنهم كثيراً مّا يصرّحون باتّهام كثير من الرواة بأنّه كذّاب، وضّاع، منحرف، مشكوك فيه، حديثه يعرف وينكر، لا يؤمن في الحديث، يتحرّج عن النقل عنه، ونحو ذلك من العبائر التي توجد في كلماتهم بالنسبة لعدد كبير من الرواة المعاصرين للأئمّة(عليهم السلام)، ومعنى هذا أنّ الرواة أيّام الأئمّة(عليهم السلام) لم يكن حالهم كما يتخيّل: من أنّ مجرّد كون الشخص راوية للإمام يعني أنّه أصبح إنساناً متديّناً كاملاً، كما قد يتخيّله العامّة في الصحابة: من أنّ مجرّد كون الشخص صحابيّاً يوجب الوثوق به، فالأمر في أصحاب أئمّتنا كالأمر في أصحاب جدّهم رسول الله(صلى الله عليه وآله) يوجد فيهم مَن هو بمنزلة أبي ذرّ وسلمان ومَن يتلوهما، ويوجد فيهم اُناس مشاغبون منحرفون، ومحبّو الشهرة والجاه، كما يشير إليه نفس الإمام(عليه السلام) في كثير من رواياته معرّضاً تارةً، ومصرّحاً اُخرى، وملفتاً للنظر على وجه الإجمال والإلغاز ثالثة، والقرائن التأريخيّة ـ أيضاً ـ تدلّ على ذلك، فوجود العداوات والتناقضات ما بين أصحاب الأئمّة شاهد على ذلك، فبعض أصحاب الأئمّة كان يلعن البعض، وبعضهم كان يروي روايات في لعن البعض، والأشخاص الذين لا يشكّ في ورعهم وعدالتهم كما لا يشكّ في الشمس تنقل روايات من قبل نفس أصحاب الأئمّة في لعنهم وسبّهم والتبرّء منهم، وهذا ممّا يدلّ على ما أشرنا إليه: من استكشاف اتّجاهات متعدّدة في أصحاب الأئمّة(عليهم السلام)، فهناك اتّجاه فيهم هو الاتّجاه الذي يحمل لواء الإسلام، والذي قال عنه الصادق(عليه السلام): لولا فلان وفلان لانطمست معالم الشريعة وضاع الإسلام، وهذا الاتّجاه كان يتمثّل في زرارة، ومحمّد بن مسلم وأمثالهما، وقد أورثوا هذا الاتّجاه لمن بعدهم جيلاً بعد جيل من العلماء الصالحين والرواة المجتهدين الغيورين على الدين وعلى الأئمّة(عليهم السلام) حتّى وصل إلى أمثال الشيخ المفيد، والسيّد المرتضى، وشيخ الطائفة، وبعد ذلك تسلسل في علمائنا. وكان

546

هناك اتّجاه آخر غير مأمون الأهداف والأغراض، وهذا الاتّجاه هو الذي يتمثّل في هؤلاء الأشخاص الذين يتّهمهم الشيخ الطوسيّ، والنجاشيّ، وغيرهم من الأكابر بالوضع والانحراف وغير ذلك.

ومن شواهد المقصود: الأخبار التي جاءت من قبل الأئمّة(عليهم السلام) في النهي عن الكذب عليهم، والتضجّر من هذه الناحية، والابتئاس من وجود اُناس يحرّفون عليهم ما يسمعون منهم، ويروون طلباً للجاه والسلطان.

ومن شواهد المقصود: الجرح والتعديل الذي ينقل من نفس أخيار أصحاب الأئمّة(عليهم السلام)، حيث كانوا يجرّحون في بعض معاصريهم بالكذب، وأنّه لا يؤمن على الحديث، ونحو ذلك من العبائر المنقولة عنهم، فإنّ هذا يدلّ على وجود التفات عامّ عند أصحاب الأئمّة الثقات الأخيار إلى وجود مثل هذه القضايا.

ومن شواهد المقصود: الروايات الواردة في باب الأخبار المخالفة للكتاب، والروايات الواردة في مقام علاج اختلاف الأخبار، وأنّه كيف اختلفت الأخبار الواردة عنهم إلى غير ذلك من الطوائف، فإنّ كلّ ذلك يشير إلى أنّ وجود اُناس غير مأمونين في خبرهم كانت واضحة وشائعة ومقرّرة من قبل نفس الأئمّة للأصحاب، ومقرّرة بين الأصحاب أنفسهم ومسجّلة في شهادات الثقات من علمائنا المتقدّمين.

وإذا ظهر أنّه كان هناك أشخاص كثيرون يكون إخبارهم مظنون الكذب ومشكوكة، كما كان يوجد أشخاص ثقات، ظهر لا محالة أنّه كان هناك أشخاص يكون إخبارهم مظنون الصدق على اختلاف درجات الظنّ، وأنّ أصحاب الأئمّة(عليهم السلام) كانوا مختلفين في درجة الوثوق ممّن يقطع بصدق خبره إلى من يظنّ بكذبه، وبينهما درجات متفاوتة.

وخلاصة الكلام: أنّه يوجد عدد كبير من الرواة يظنّ بصدقهم، وتشكّل

547

أخبارهم كثرة كاثره من الأخبار، وهؤلاء الرواة رواة شائعون وليسوا منعزلين، ولهم روايات كثيرة، فإنّ الكذّابين لهم روايات كثيرة فضلاً عمّن تكون مرتبته مرتبة الظنّ بصدقة مثلاً، والأصحاب ينقلون عن المتّهمين بالكذب، والغلوّ، والانحراف، ونحو ذلك رواياتهم فضلاً عن مظنوني الصدق.

وقد تحصّل بهذا القطع والاطمئنان ـ على الأقلّ ـ بأنّ عدداً كبيراً من الروايات المتداولة بين أصحاب الأئمّة(عليهم السلام) كانت مظنونة الصدق ولم تكن اطمئنانيّة.

الأمر الثاني: أنّه لا شكّ في أنّ العمل بخبر الثقة ليس في نظر العقلاء كالعمل بمثل الاستخارة والتفاؤل ـ مثلاً ـ ممّا يكون على خلاف الطبع العقلائيّ، ولا اُريد أن أدّعي الآن اقتضاء السيرة العقلائيّة للعمل بخبر الثقة وحجّيّته، بل اُريد أن أكتفي بدعوى الجامع بين اُمور ثلاثة:

1 ـ اقتضاء طبعهم للبناء على الحجّيّة.

2 ـ الميل إليها.

3 ـ التحيّر والبلبلة في ذلك، وعدم رفضهم لها كرفض حجّيّة التفاؤل والاستخارة.

الأمر الثالث: أنّه بعد ما عرفت في الأمر الأوّل من أنّ عدداً كبيراً من الروايات المتداولة بين أصحاب الأئمّة كانت مظنونة الصدق لا قطعيّة أو اطمئنانيّة نقول: إنّه لا يخلو الأمر من أنّ هؤلاء الأصحاب الأخيار كانوا يعملون بهذه الأخبار، ويرتّبون عليها آثار الحجّيّة، ويعتمدون على خبر الثقة الذي لا يورث القطع والاطمئنان، أو لا:

والشقّ الأوّل يعني: أنّه قد تمّت سيرتهم على العمل بخبر الثقة، وهي إمّا كانت في طول تلقّي الحكم بالحجّيّة عن الشارع، فهي عبارة عن سيرة المتشرّعة التي هي معلولة لحكم الشارع، أو كانت جرياً على مقتضى الطبع ولو من باب الغفلة، فهي سيرة العقلاء، وعدم الردع عنها دليل الإمضاء. وعلى كلا الفرضين يثبت المقصود.

548

والشقّ الثاني يعني: عدم قيام سيرة أصحاب الأئمّة على حجّيّة خبر الثقة. وهذا باطل، فإنّ عدم السيرة على العمل بخبر الثقة إن كان جرياً على الطبع العقلائيّ من قبيل عدم العمل بالاستخارة والتفاؤل، لم يكن من المستغرب عدم تكثّر السؤال والجواب عنه بالنفي بحيث يصل إلينا بشكل واضح؛ وذلك لأنّ ترك العمل بخبر الثقة كان ـ بحسب الفرض ـ أمراً طبيعيّاً ومجبولاً عليه العقلاء، ولم يكن شيئاً يوجب إلفات النظر، ولم يكن هناك أصل شرعيّ يقتضي الحجّيّة كي يوجب ذلك التفات الدقيقين من أصحاب الأئمّة، وتوجيههم السؤال إلى الإمام، بل الأصل هو عدم الحجّيّة. ولكنّنا قد فرغنا في الأمر الثاني عن أنّ العمل بخبر الثقة ليس عند العقلاء كالعمل بالتفاؤل والاستخارة، فطبع العقلاء يقتضي أو يميل أو لا يمتنع من حجّيّة خبر الثقة، والأصل وإن كان هو عدم الحجّيّة ولكن هذا الطبع يوجب على الأقلّ كثرة السؤال والجواب إن لم تتمّ السيرة على الحجّيّة، وليست المسألة قليلة الابتلاء يبتلي بها واحد من الأصحاب مثلاً، بل هي مسألة عامّة الابتلاء يحتاج إليها جميع الأصحاب والشيعة في الأقطار، ولا يتمكّنون دائماً من تحصيل الاطمئنان بالحكم والوصول إلى خدمة الإمام(عليه السلام) وأخذ الحكم منه، خصوصاً في الأجيال التي جاءت بعد الإمام الصادق(عليه السلام)، فإنّ من بعده من الأئمّة لم يتمكّنوا من نشر الأحكام والروايات بمقدار ما تمكّن الإمام الصادق(عليه السلام)من ذلك، وكانت الشيعة محرومين عن هذا الفيض العظيم، ومجموع ما يُروى عنهم جميعاً لا يساوي نصف ما يُروى عن الصادق(عليه السلام)وحده. وعلى هذا فلا محالة يكثر السؤال عن هذا الحكم والجواب بنحو يناسب شدّة الاهتمام بهذا المطلب الهامّ، وتتوسّع دائرة الانتشار بسؤال رواة اُخرى عن الراوي الأوّل، فإنّ هذا أهمّ بكثير من مسألة الأخبار العلاجيّة، وتعارض الروايتين، وكثير من القواعد الاُصوليّة كالبراءة ونحوها التي نقلت عنهم(عليهم السلام)والجواب لا محالة يكون بالنفي؛ إذ لو كان بالإثبات

549

لما استمرّوا على ترك العمل بخبر الثقة. وعلى هذا فيجب أن ننتظر وصول كمّيّة كبيرة من الأخبار إلينا تدلّ على عدم حجّيّة خبر الثقة، بينما لم تصل إلينا رواية واحدة ولو ضعيفة تامّة الدلالة بل وغير التامّة تقريباً على عدم حجّيّة خبر الثقة، بل أصبح الأمر بالعكس، أي: أنّه وصلتنا أخبار تدلّ على الحجّيّة أو تشير إليها أو قابلة للحمل عليها، وهذا كلّه ممّا يبعّد الشقّ الثاني، ويوجب القطع أو الاطمئنان بالشقّ الأوّل، وهو انعقاد سيرتهم على العمل بخبر الثقة.

وحاصل الكلام: أنّ مقتضى الطبع العقلائيّ الذي ليس واضحاً ـ على الأقلّ ـ في رفض خبر الثقة كما في التفاؤل والاستخارة إن لم يكن هو حجّيّة خبر الثقة، أو لم يكن أصحاب الأئمّة قد مشوا وفق الطبع، فالمتوقّع أن يكثر السؤال والجواب عن الحجّيّة، ويصلنا الجواب إمّا بالنفي كما وصلنا في بعض الأحاديث بالنسبة لخبر غير الثقة بألسنة مختلفة، ولذا لا نقول بحجّيّة خبر غير الثقة الظنّيّ، وإمّا بالإثبات كما هو الواقع بالنسبة لخبر الثقة، ولو لم يصلنا خبر يدلّ على حجّيّة خبر الثقة ولا على نفيها جعلنا ذلك دليلاً على أنّ سيرة العقلاء تكون بنحو يقتضي البناء على الحجّيّة، وهو الأمر الأوّل من الاُمور الثلاثة التي ادّعينا القطع بالجامع بينها، ولم نقطع بعدم الأوّل بل نحتمله على الأقلّ، فيتعيّن في هذا الفرض؛ إذ لولاه لكثر السؤال والجواب.

 

المقارنة بين بياننا للسيرة وبيان الأصحاب:

وهذا البيان الذي ذكرناه نحن هنا للتمسّك بالسيرة يختلف جوهريّاً عن البيان المألوف بين الأصحاب، وهو التمسّك ابتداء بالسيرة العقلائيّة غير المردوعة شرعاً، ولنذكر هنا ثمرتين تترتّبان على الفرق بين التقريبين:

الاُولى: أنّه قد يقال في مقام تدقيق النظر في قيام السيرة العقلائيّة على حجّيّة خبر الثقة بأنّ عمل العقلاء بخبر الثقة لم يثبت كونه بعنوان الحجّيّة، بل لعلّه تارةً

550

يكون بملاك حصول الاطمئنان، واُخرى بملاك الاحتياط، وثالثة من باب عدمالاهتمام بالغرض أزيد من كاشفيّة خبر الثقة، ونحو ذلك ممّا قد يتصوّر في المقام. والثمرة التي تترتّب في المقام على التقريب الذي بيّنّاه: أنّ هذا الإشكال لو تمّ على تقريب القوم لا يتمّ على تقريبنا؛ إذ نحن لم ندّع ابتداء السيرة العقلائيّة، بل انطلقنا من نقطة العلم بالجامع بين الاُمور الثلاثة، وهذا يعني أنّنا نكتفي بفرض مجرّد الحيرة والتبلبل بالنسبة للعمل بخبر الثقة في الأحكام وحجّيّته، ولا إشكال في أنّ طبيعة العقلاء ـ على الأقلّ ـ تكون بنحو يوجب مثل هذه الحيرة والتبلبل لدى أصحاب الأئمّة(عليهم السلام)ممّا يكفي لكثرة السؤال والجواب.

والثانية: أنّ توهّم ردع السيرة بالآيات الناهية عن العمل بالظنّ الذي قد يورد على ما ذكره الأصحاب: من التمسّك ابتداء بالسيرة العقلائيّة، لا مجال لإيراده على التقريب الذي ذكرناه، فبغضّ النظر عمّا مضى: من عدم دلالتها على نفي حجّيّة الظنّ ولو كان ظنّاً قياسيّاً، نقول: إنّها لا تصلح للردع عن مثل هذه السيرة؛ إذ لو صلحت لذلك لحصل الارتداع بحسب الخارج ولما كانت سيرة أصحاب الأئمّة على العمل بخبر الثقة مع أنّنا قد أثبتنا أنّه كانت سيرتهم على العمل به، وليس من المحتمل قيام سيرتهم على ذلك عصياناً، وكيف يصلح مثل إطلاق آية أو آيتين مشكوكة الدلالة في نفسها للردع عن مثل هذه السيرة التي لها مبادئ مستحكمة في ارتكاز العقلاء ردعاً لا يدع مجالاً للحيرة والبلبلة الموجبة لكثرة السؤال والجواب؟!!

 

جواب الأصحاب عن رادعيّة الآيات عن السيرة:

ثمّ إنّ للأصحاب(قدس سرهم) في مقام دفع رادعيّة الآيات عن السيرة بعد تسليمهم لتماميّة رادعيّتها في نفسها جوابين: أحدهما للمحقّق النائينيّ(رحمه الله)ومدرسته، والآخر للمحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) ومدرسته:

أمّا الجواب الأوّل: فهو ما أفاده المحقّق النائينيّ من دعوى حكومة السيرة

551

على تلك الآيات؛ لأنّ جعل الحجّيّة يكون بجعل العلم، فيخرج ذلك عن موضوع الظنّوعدم العلم المنهيّ عن العمل به. وهذا في الحقيقة اقتناص من الجواب العامّ له(قدس سره)عن معارضة تلك الآيات بمطلق أدلّة حجّيّة خبر الثقة، حيث تمسّك في حلّ التعارض بدعوى الحكومة ببيان جعل العلم في دليل الحجّيّة، والسيرة فرد من أفراد تلك الأدلّة، ويأتي فيها عين ذاك الجواب.

والتحقيق: أنّ هذا الكلام لا يتمّ في أصل حلّ المعارضة بين تلك الآيات والأدلّة، وعلى فرض تماميّته في ذلك لا يتمّ في خصوص ما نحن فيه من السيرة العقلائيّة:

أمّا الأوّل: فلأنّنا بعد أن سلّمنا أنّ الحجّيّة إنّما تكون بجعل العلم والطريقيّة، وتقمّصنا كلّ تصوّرات المحقّق النائينيّ(رحمه الله) في باب الحكومة وبيان الحاكم والمحكوم نقول: إنّه كما أنّ دليل حجّيّة الظنّ يجعل الظنّ علماً كذلك الآيات لو فرض ردعها عن الظنّ تنفي كونه علماً، فهما دليلان واردان في عرض واحد على شيء واحد متخالفان في النفي والإثبات، ولا معنى لحكومة أحدهما على الآخر. فهذا في الحقيقة خلط بين الدليل الوارد في علميّة الظنّ نفياً وإثباتاً، والدليل الوارد في آثار العلم كدليل حرمة الإفتاء بغير علم، فإنّه يمكن دعوى حكومة دليل الحجّيّة على مثل دليل حرمة الإفتاء بغير علم، بدعوى: أنّ دليل الحجّيّة يجعل الظنّ علماً، والعلم موضوع لذاك الدليل، فيحكم عليه، ولا يمكن دعوى حكومته على دليل نفي علميّة الظنّ، فإنّه لم يؤخذ في موضوعه قيد عدم كونه علماً؛ إذ لا يمكن أخذ عدم العلميّة في موضوع الحكم بعدم العلميّة بأن يكون الحكم مأخوذاً في موضوع نفسه.

وأمّا الثاني: فلأنّنا نقول: هل المقصود دعوى حكومة إمضاء الشارع للسيرة على تلك الآيات، أو المقصود دعوى حكومة نفس السيرة العقلائيّة عليها؟

فإن اُريد الأوّل، فلابدّ من إحراز الإمضاء في المرتبة السابقة على الحكومة، كي

552

تدّعى حكومته عليها، وأنت ترى أنّنا لو أحرزنا الإمضاء فمعنى هذا أنّنا قد قطعنا بحجّيّة خبر الثقة، وعندئذ لا نحتاج إلى الحكومة، فحتّى لو فرضنا أنّ دليل الحجّيّة لا يجعل العلم، وإنّما يجعل الحكم المماثل، أو المنجّزيّة والمعذّريّة، أو غير ذلك نأخذ بجانب السيرة؛ للقطع بإمضائها، ولا نأخذ بإطلاق الآيات؛ للقطع بعدم مطابقة إطلاقها للواقع.

وإن اُريد الثاني، أي: أنّ السيرة العقلائيّة بنفسها حاكمة على الآيات فهي بنفسها ترفع المانع، فيثبت الإمضاء في طول الحكومة، فلا يرد عليه ما ورد على الوجه الأوّل، لكنّه يرد عليه إشكال آخر، وهو: أنّه لا مجال لتوهّم حكومة سيرة العقلاء وجعلهم للظنّ علماً بما هو جعل لهم وبقطع النظر عن إمضاء الشارع، على حكم الشارع بعدم العمل بغير العلم. وتصوير حكومة دليل على دليل لدى المحقّق النائينيّ(رحمه الله) يكون بتقريب أنّ الموضوع المأخوذ في لسان الشارع يراد منه كلّ ما صدق عليه في نظره المولويّ، فلو قال مثلاً: (يحرم الربا) فمعنى ذلك أنّه يحرم كلّ ما كان بنظري المولويّ رباً، فإذا دلّ دليل على فرض شيء رباً بنظره المولويّ، أو على نفيه لعنوان الربا عنه مولويّاً كقوله: (لا ربا بين الوالد وولده) كان حاكماً على الدليل الأوّل؛ لأنّه يوسّع دائرة موضوعه، أو يضيّقه تعبّداً ومولويّاً. وعلى ضوء هذا الكلام نقول: إنّ دليل حرمة العمل بغير علم يقول: كلّ ما لم يكن علماً في نظري المولويّ يحرم العمل به، فإن فرض أنّ خبر الثقة علم في نظره المولويّ كان ذلك حاكماً عليه، وإن فرض أنّ خبر الثقة علم في نظر العقلاء وجعلهم، فهذا ليس توسعة لدائرة موضوع ذلك الدليل وهو ما يكون علماً في نظره المولويّ، فلا معنى لحكومته عليه، ولو صحّت حكومة جعل العقلاء لشيء علماً على تحريم الشارع للعمل بغير العلم لصحّت حكومة جعل عاقل واحد أيضاً لذلك عليه، فلو قال عاقل واحد: (إنّي جعلت خبر الثقة علماً) كان ذلك حاكماً على دليل حرمة العمل بغير العلم. وإذا لم يكن جعل عاقل واحد حاكماً فضمّ فضول إلى فضول لا ينتج الحكومة.

553

وأمّا الجواب الثاني: فهو ما أفاده المحقّق الخراسانيّ(رحمه الله) من أنّ الآيات يستحيل رادعيّتها عن السيرة؛ إذ رادعيّتها عنها موقوفة على عدم تخصيصها بالسيرة، وعدم مخصّصيّة السيرة لها موقوف على رادعيّتها عنها، فلزم الدور.

هذا هو أصل الجواب عن إشكال رادعيّة الآيات.

 

مشكلة الدورين المتقابلين:

وقد اصطدم هذا الجواب بلزوم الدور في مخصّصيّة السيرة للآيات أيضاً؛ لأنّ مخصّصيّة السيرة للآيات موقوفة على عدم الردع عنها بالآيات، وعدم رادعيّة الآيات موقوفة على مخصّصيّتها لها.

فإذا اصطدم أحد الدورين بالآخر فقد يخطر بالبال أنّه سقط كلا الأمرين، أعني: الآيات والسيرة عن الأثر، فلا الآيات رادعة للزوم الدور، ولا السيرة مخصّصة للزوم الدور، والنتيجة بعد التساقط تكون في صالح المانعين عن الاستدلال بالسيرة على حجّيّة خبر الواحد.

وقد حصل للأصحاب(قدس سرهم) اتّجاهان في موقفهم تجاه هذين الدورين: أحدهما: تقديم جانب السيرة، والآخر: تقديم جانب الآيات، ولكلّ من الاتّجاهين وجوه. والكلام منّا يقع هنا في مقامين:

أحدهما: في تحقيق الحال في أصل هذين الدورين.

والثاني: فيما حصل للأصحاب من الاتّجاهين وتحقيق الحال فيهما.

 

تحقيق حال الدورين:

أمّا المقام الأوّل: فلا يخفى أنّ هناك ظاهرة غريبة تترتّب على ما ذكروه من الدور في المقام، وهي لزوم ارتفاع النقيضين؛ إذ لو كانت الرادعيّة مستحيلة؛

554

لتوقّفها على عدم التخصيص وبالعكس، لكان عدم الرادعيّة الذي هو نقيض الرادعيّة أيضاً مستحيلاً. والبرهان على ذلك: أنّ نقيض العلّة علّة لنقيض المعلول، فإذا كان ـ مثلاً ـ عدم التخصيص علّة للرادعيّة وبالعكس، فلا محالة يكون التخصيص علّة لعدم الرادعيّة وبالعكس، فكلا النقيضين يلزم منه الدور، والمفروض أنّ وجود ما هو دائريّ في عالم التوقّف مستحيل مثلاً، إذن فالرادعيّة مستحيلة؛ لتوقّفها على عدم التخصيص وبالعكس، وعدم الرادعيّة مستحيل؛ لتوقّفه على التخصيص وبالعكس، فلزم ارتفاع النقيضين. وكذلك الحال في طرف التخصيص، فلئن كان التخصيص مستحيلاً لتوقّفه على عدم الرادعيّة وبالعكس، لكان عدم التخصيص أيضاً مستحيلاً؛ لأنّ نقيض العلّة علّة للنقيض، فعدم التخصيص متوقّف على الرادعيّة وبالعكس.

ولو قدّمنا الاحتراز عن مشكلة ارتفاع النقيضين على مشكلة استحالة وجود ما هو دائريّ في عالم التوقّف والتزمنا بإمكان وجوده، فقلنا بوجود أحد النقيضين في المقام، اتّجه القول بأنّ نسبة الدور إلى كلّ واحد منهما على حدّ سواء، فلابدّ من وجود كليهما؛ لأنّ وجود أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجّح، فلزم عندئذ اجتماع النقيضين.

والواقع: أنّ منشأ هذه المشكلة في المقام هو تخيّلهم أنّ المستحيل هو تحقّق الرادعيّة بحسب الخارج مثلاً؛ لكونها متوقّفة على ما يتوقّف عليها، فكأنّ أصل دائريّة التوقّف ليس مستحيلاً، وإنّما المستحيل هو وجود ما دار التوقّف بالنسبة إليه وتحقّقه في الخارج، مع أنّ الأمر ليس كذلك، فإنّ أصل التوقّف الدائريّ مستحيل، فلا يعقل أن يكون (أ) متوقّفاً على (ب)، و(ب) متوقّفاً على (أ) لا أنّ بالإمكان حصول التوقّفين، فإذا حصلا لم يوجد (أ) ولا (ب) في الخارج.

وعليه فلابدّ من تحقيق حال سلسلة التوقّفات حتّى يظهر عدم دائريّة السلسلة

555

في نفسها، فالصحيح أنّه ليست هناك سلسلة دائريّة لا في جانب التخصيص، ولا في جانب الرادعيّة:

أمّا في جانب التخصيص: فما ذكر من الدور عبارة عن أنّ مخصّصيّة السيرة للآيات تتوقّف على عدم رادعيّة الآيات لها؛ إذ مخصّصيّة السيرة تساوق حجّيّتها الموقوفة على عدم الردع، وعدم رادعيّة الآيات لها تتوقّف على التخصيص الكاسر لإطلاقها الرادع.

والتحقيق: أنّ مخصّصيّة السيرة التي هي بروحها عبارة عن حجّيّتها موقوفة على عدم الردع بالآيات، ولكن عدم الردع بالآيات ليس موقوفاً على حجّيّة السيرة؛ وذلك لأنّنا إمّا أن نقول: إنّه يكفي في الردع عن السيرة ورود ظهور عن الشارع على خلافها ولو لم يكن ذاك الظهور حجّة لنا؛ لأنّ ذاك الظهور يكفي في إيجاد احتمال عدم الإمضاء، وبالتالي لا يتحقّق القطع بالإمضاء، وإمّا أن نقول: يجب أن يكون الردع بظهور حجّة لنا:

فإن قلنا بالأوّل، فعدم الدور في غاية الوضوح، فإنّ المفروض أنّ الآيات ظاهرة في الردع، والمفروض أنّ الظهور كاف في باب الردع وإن لم يكن حجّة، فما توقّفت عليه حجّيّة السيرة الذي هو عبارة عن عدم الردع ولو بظهور غير حجّة منتف في المقام، فتنتفي لا محالة حجّيّة السيرة، وليست حجّيّة السيرة علّة لعدم الردع كي يلزم الدور، وإنّما علّته عدم ورود ظهور على خلافها ولو غير حجّة، والمفروض وروده.

وإن قلنا بالثاني، فهنا يأتي مجال لتوهّم الدور، بدعوى: أنّ عدم الردع الموقوفة عليه حجّيّة السيرة موقوف على حجّيّة السيرة؛ إذ لو كانت السيرة حجّة ومخصّصة سقط ظهور الآية عن الحجّيّة، والمفروض أنّه يشترط في الرادع أن يكون حجّة.

556

ولكن التحقيق: أنّه لا يلزم الدور حتّى بناءً على هذا الفرض؛ وذلك لأنّ ما تتوقّف عليه حجّيّة السيرة إنّما هو عبارة عن عدم الردع بقطع النظر عن حجّيّة السيرة، لا عدم الردع ولو بلحاظ حجّيّة السيرة. ومن المعلوم أنّ عدم الردع عن العمل بخبر الواحد بقطع النظر عن حجّيّة السيرة منتف؛ إذ المفروض أنّ الآيات في نفسها رادعة بقطع النظر عن حجّيّة السيرة، وإنّما الكلام في أنّ حجّيّة السيرة هل تمنع عن رادعيّتها، أو لا؟ ولا معنى للقول بأنّ عدم الردع بقطع النظر عن حجّيّة السيرة موقوف على حجّيّة السيرة حتّى يلزم الدور.

وتوضيح ما ذكرناه: من أنّ حجّيّة السيرة تتوقّف على عدم الردع بقطع النظر عن حجّيّة السيرة لا على عدمه ولو بلحاظ حجّيّتها، هو: أنّ معنى حجّيّة السيرة المتوقّفة على عدم الردع هو استكشافنا لإمضاء الشارع للسيرة، واستكشافنا لإمضاء السيرة من عدم الردع يكون على أساس البرهان الإنّي، أي: كشف العلّة عن المعلول أو ما يشبهه، حيث إنّ عدم الردع معلول للإمضاء مثلاً، ومن المعلوم أنّ المعلول الذي يستكشف منه الشيء، معلول لنفس ذاك الشيء بقطع النظر عن العلم به، لا للعلم به، وإلّا لما دلّ على ذاك الشيء، فإنّ المعلول إنّما يدلّ على علّته لا على شيء أجنبي عنه. إذن فاستكشاف الإمضاء والعلم به الذي هو عبارة اُخرى عن حجّيّة السيرة موقوف على عدم الردع بقطع النظر عن هذه الحجّيّة والعلم، لا مطلق عدم الردع ولو كان العدم الناشئ من هذه الحجّيّة والعلم، وذلك لا لما يترتّب عليه من محذور الدور، بل لأنّ الإمضاء إنّما يحصل العلم به بواسطة العلم بمعلوله، ومعلوله إنّما هو العدم الناشئ منه لا العدم الناشئ من العلم به.

وقد تحصّل ممّا ذكرناه: أنّه لا دور في جانب المخصّصيّة، وأنّ الصحيح هو: أنّ السيرة ليست مخصّصة للآيات بعد تسليم صلاحيّتها للردع.

هذا تمام الكلام في توضيح عدم الدور في جانب التخصيص.

557

وأمّا في جانب الرادعيّة: فتوضيح ذلك: أنّ توقّف عدم حجّيّة السيرة (وهي روح مخصّصيّتها) على رادعيّة الآيات وإن كان صحيحاً، لكن رادعيّة الآيات ليست موقوفة على عدم حجّيّة السيرة ومخصّصيّتها. بيانه: أنّ روح رادعيّة الآيات وجوهرها عبارة عن حجّيّة ظهورها في النهي عن العمل بخبر الثقة(1)، وهذه الحجّيّة إنّما تتوقّف على ثبوت أصل الظهور وعدم ثبوت كذبه، ولا تتوقّف على شيء آخر، كما هو الحال في كلّ ظهور من قبل المولى، فإنّه يكفي في حجّيّته مضافاً إلى أصل تحقّق الموضوع والظهور عدم ثبوت كذبه.

ويقع الكلام في أنّ عدم ثبوت الكذب المشروط به حجّيّة الظهور عبارة عن عدم ثبوت الكذب على تقدير الحجّيّة، أو أنّ هذا لا يكفي بل يشترط عدم ثبوت الكذب حتّى بقطع النظر عن الحجّيّة؟

فإن قلنا بالأوّل، فهذا متحقّق في المقام. وليس المقصود من عدم ثبوت الكذب على تقدير الحجّيّة عدم الثبوت الفعليّ الناشئ من الحجّيّة (كي يلزم الدور لتوقّف الحجّيّة عليه، وتوقّفه على الحجّيّة)، بل المقصود منه قضيّة شرطيّة، وهي: أنّه لو كان هذا الظهور حجّة لما كنّا نعلم بكذبه، وهذه القضيّة الشرطيّة صادقة في المقام؛ إذ لا شكّ في أنّ ظهور الآيات على تقدير حجّيّته وعدم تخصيصها بالسيرة لا يعلم بكذبه، ولا يتوقّف صدق القضيّة الشرطيّة على صدق طرفيها. وعلى هذا فظهور الآيات يصبح حجّة ورادعاً عن السيرة من دون أن يكون ذلك متوقّفاً على عدم حجّيّة السيرة، فلا دور في المقام.


(1) بعد تسليم أنّ الرادع هو الظهور الحجّة، أمّا لو فرض أنّ الظهور ولو لم يكن حجّة كاف في الردع فعدم الدور هنا واضح كما كان واضحاً ـ بناءً عليه ـ في جانب التخصيص أيضاً.

558

وإن قلنا بالثاني، وهو: أنّ حجّيّة الظهور مشروطة بعدم ثبوت كذبه حتّى في فرض عدم الحجّيّة، فظهور الآيات ساقط عن الحجّيّة في المقام، فإنّ ظهور الآيات على تقدير عدم حجّيّته وتخصيصها بالسيرة مقطوع الكذب، ولم تكن حجّيّة الظهور ورادعيّة الآيات متوقّفة على عدم حجّيّة ومخصّصيّة السيرة كي يلزم الدور المدّعى في المقام، وإنّما كانت متوقّفة على عدم ثبوت الكذب حتّى في فرض عدم حجّيّة الظهور، وعدم ثبوت الكذب هذا ليس متوقّفاً بدوره على عدم حجّيّة ومخصّصيّة السيرة كي يعود الدور؛ إذ حتّى مع فرض عدم حجّيّة ومخصّصيّة السيرة يكون عدم ثبوت الكذب بهذا النحو منتفياً؛ للقطع بالقضيّة الشرطيّة، وهي: أنّه لو كانت السيرة مخصّصة وظهور الآية غير حجّة فالظهور كاذب. وعليه فظهور الآية حتماً ساقط في المقام لعدم توفّر شرط حجّيّته، كما أنّه تحصّل فيما سبق سقوط حجّيّة السيرة، فلا الآيات رادعة، ولا السيرة مخصّصة، بل يتساقط كلاهما، والنتيجة توافق من يقصد إسقاط السيرة في المقام(1).

بقي هنا بيان ما هو الحقّ في المقام، أي: أنّه هل يكفي في حجّيّة الظهور عدم ثبوت الكذب على تقدير الحجّيّة، أو يشترط في حجّيّته عدم ثبوت الكذب حتّى على تقدير عدم الحجّيّة، فنقول: إنّه بحسب عالم الثبوت يكفي في إمكان جعل


(1) لا يخفى أنّنا لو بنينا على عدم صلاحيّة الآيات للردع في ذاتها فقد أصبحت السيرة حجّة، أمّا ما تحصّل فيما سبق فإنّما هو سقوط حجّيّة السيرة باعتبار أنّ الآيات صالحة في ذاتها وبقطع النظر عن حجّيّة السيرة للردع، فإن بنينا هنا على عكس ذلك، وأنّ الآيات غير صالحة للردع، وأنّ عدم صلاحها هذا لم ينشأ من حجّيّة السيرة، بل نشأ من علمنا بالقضيّة الشرطيّة، وهي: أنّه (لو كانت السيرة حجّة فظهور الآية كاذب) فلا مبرّر لسقوط السيرة عن الحجّيّة، والمفروض أنّ الظهور غير الحجّة لا يردع عن السيرة.